21
نفس التوجه الإلهي ونفس الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية.
فيستهل البيروني - مثلا - مبحثا هندسيا خالصا بأنك إذا تحققت من ماهية الهندسة تعرف نسبة الأجناس والكمية ومقدار المزروع والمكيل والموزون، وما بين مركز العالم في أقصى المحسوس منه ... «ثم ترتقي بواسطة التدريب بها من المعالم الطبيعية إلى المعالم الإلهية.»
22
ولعل ابن الهيثم المعاصر للبيروني في ذلك القرن الباذخ العطاء - الرابع الهجري - خير من يمثل موقف العلوم الطبيعية، لنلقاه يرفض طريق المتكلمين، ويبرهن على أن دليل حدوث العالم عندهم فاسد. فالعالم قديم أزلي أبدي، لكنه يخضع للخلق المستمر، تماما كما رأى ابن رشد. ولابن الهيثم «مقالة في إبانة غلط من قضى أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل.» وأيضا ينقسم العلم معه انقساما ثلاثيا إلى رياضي وطبيعي وإلهي. وعن فضل علم الهندسة «فإن به وبالمنطلق يوصل إلى علم الأمور الطبيعية، التي هي الحكمة، ومبادئها وعللها وأسبابها، وإلى علم الأمور الإلهية، ويوقف بذلك على حكمة الله تعالى ذكره، في هيئة السماء والأرض وما بينهما فلزم بذلك الباري الإله تعالى، حكيما قادرا خبيرا.»
23
هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب، لتنصب في المتجه الإلهي، حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يعق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأن بحوثهم العلمية - كما أشار برتراند رسل - اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلا عن الأنساق العلمية؛ أي إنهم كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي.
24
كانت الطبيعة بؤرة من بؤر اهتمام المتكلمين، ووضعها الفلاسفة قبل الإلهيات، ثم ظهر الطبائعيون المتكرسون لها، ولكنها كانت في كل حال متجهة نحو الألوهية، مما جعلها قابعة في نظرية الوجود، وبعيدة عن نظرية المعرفة التي هي مجال التنامي والصيرورة والفعالية الإنسانية. لهذا لم يقدر لها تواصل تاريخي؛ ولهذا أيضا لم يعن الطبائعيون بصياغة أنساق علمية، واقتصرت جهودهم العلمية والإمبيريقية الجادة على صياغة القوانين الجزئية. ولكن - كما هو معروف - كانت هذه الجهود مقدمات ضرورية لنسق العلم الحديث، بحكم التواصل التاريخي لحركية العلم.
وأخيرا، تجمل الإشارة إلى أن المتجه الإلهي وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا، فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر الوسيط، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة، إلى آخر المدى. وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينة، أيضا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي. وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية. قد تحرمه من استقلاله، أما وجوده الموضوعي فلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلا متعينا للقدرة الإلهية. مما يوضح أن العرب أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، لكن كل هذا في إطار تصوراتهم وثوابتهم الحضارية.
صفحة غير معروفة