فما راعني إلاّ منادٍ ترحَّلوا ... وقد لاحَ معروفٌ من الصّبحِ أشقرُ
ولمَّا رأتْ من قد تثوَّرَ منهمُ ... وأيقاظهمُ قالتْ أشرْ كيفَ تأمرُ
فقلتُ أباديهمْ فإمَّا أفوتُهم ... وإمَّا ينالُ السَّيفُ ثأرًا فأثأرُ
فقالتْ أتحقيقٌ لما قالَ كاشحٌ ... علينا وتصديقٌ لما كانَ يؤثرُ
فإنْ كانَ ما لا بدَّ منهُ فغيرهُ ... من الأمرِ أهدى للخفاءِ وأسترُ
أقصُّ على أُختيَّ بدءَ حديثِنا ... وما ليَ من أن تعلما متأخّرُ
لعلَّهما أنْ تجعلا لكَ مخرجًا ... وأنْ ترحُبا سربًا بما كنتُ أحصرُ
فقامتْ كئيبًا ليس في وجهها دمٌ ... من الحزنِ تُذري دمعةً تتحدَّرُ
فقالتْ لأختيْها أعِينا على فتًى ... أتى زائرًا والأمرُ للأمرِ يقدرُ
فقامتْ إليها حرَّتانِ عليهما ... كِساآنِ من خزٍّ بنفس وأخضرُ
فأقبلتا فارْتاعتا ثمَّ قالتا ... أقلِّي عليكِ اللَّومَ فالخطبُ أيسرُ
فقالتْ لها الصُّغرى سأُعطيهِ مطرَفي ... وبُردي وهذا الدِّرعُ إنْ كانَ يحذرُ
يقومُ فيمشي بيننا متنكِّرًا ... فلا سرُّنا يفشو ولا نحنُ نذكرُ
ويروى:
ونخرجهُ من بيننا ساتراتهِ ... فلا سرُّنا يبدو ولا هو يظهرُ
فكانَ من مجَنِّي دونَ من كنتُ أتَّقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانِ ومعصرُ
فلما أجزْنا ساحةَ الحيِّ قلنَ لي ... ألمْ تتَّقي الأعداءَ واللَّيلُ مقمرُ
وقلنَ أهذا دأبكَ الدَّهرَ سادرًا ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكِّرُ
إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينكَ غيرَنا ... لكي يحسَبوا أنَّ الهوى حيثُ تنظرُ
فآخرُ عهدٍ لي بها حيثُ أعرضتْ ... ولاحَ لها خدٌّ نقيٌّ ومحجرُ
سوى أنَّني قد قلتُ يا نعمُ قولةً ... لها والرِّكابُ الأرحبيَّةُ تزجرُ
هنيئًا لبعلِ العامريَّةِ نشرُها ال ... لذيذُ وريَّاها الذي أتذكَّرُ
فقمتُ إلي حرفٍ تخوَّنَ نيّها ... سُرى اللَّيلِ حتَّى لحمُها متحسِّرُ
وحبسي على الحاجاتِ حتَّى كأنَّها ... بليَّةُ لوحٍ أو شجارٌ مؤسَّرُ
وماءٍ بموماةٍ قليلٌ أنيسهُ ... بسابسَ لم يحدثْ له الصيفُ محضرُ
بهِ مُبتنى للعنكبوتِ كأنَّهُ ... على طرفِ الأرجاءِ خامٌ منشَّرُ
وردتُ وما أدري أمَا بعدَ موردي ... من اللَّيلِ أم ما قد مضى منه أكثرُ
فطافتْ بهِ مغلاةُ أرضٍ كأنَّها ... إذا التفتتْ مجنونةً حينَ تنظرُ
تنازعُني حرصًا على الماءِ رأسَها ... ومن دونِ ما تهوى قليبٌ معوَّرُ
محاولةً للوردِ لولا زمامُها ... وجذبي بهِ كادتْ مرارًا تكسَّرُ
فلمَّا رأيتُ الضُّرَّ منها وأنَّني ... ببلدةِ أرضٍ ليسَ فيها معصَّرُ
قطعتُ لها من جانبِ الحوضِ مشربًا ... صغيرًا كقيدِ الشِّبرِ أو هو أصغرُ
إذا شرعتْ فيه فليسَ لملتقى ... مشافرِها منه قِدى الشَّبرِ مشبرُ
ولا دلوَ إلاّ العقبُ كانَ رشاءهُ ... إلى الماءِ نسعٌ والجديلُ المضفَّرُ
فسافتْ وما عافتْ وما صدَّ شربَها ... عن الرِّيِّ مطروقٌ من الماءِ أكدرُ
قصيدة كثير عزة
وحدث الرواة أن كثيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي، دخل على عبد الملك بن مروان، وعنده الأخطل، فأنشده، فالتفت عبد الملك إلى الأخطل فقال: كيف ترى؟ فقال: حجازي مجدع مغرور، دعني أصفحه لك يا أمير المؤمنين، فقال كثيّر: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الأخطل، فقال له كثيّر: فهلا صفحت الذي يقول:
لا تطلبنَّ خؤولةً في تغلبٍ ... فالزّنجُ أكرمُ منهمُ أخوالا
والتغلبيُّ إذا تنحنحَ للقِرى ... حكَّ استَه وتمثَّل الأمثالا
فسكت الأخطل وما أجاب بحرف.
قالوا: إن عبد الملك ذكر الشعر يومًا، فقال: لو كان قول كثيّر بن عبد الرحمن:
فقلتُ لها يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنتْ يومًا لها النَّفسُ ذلَّتِ
في الحرب، لكان أشعر الناس، ولو أن بيت القطامي:
يمشينَ رهوًا فلا الأعجازُ خاذلةٌ
في وصف النساء لكان أشعر الناس.
1 / 63