فقال في الخيمة هو وأصحابه حتى أبردوا، وكان يوما قائضا شديدا حره، فلما قام من مرقده(1)، دعا بماء فغسل يديه فأنقاهما، ثم مضمض فاه ومجه إلى عوسجة كانت إلى جانب خيمة خالتها، فلما كان من الغد أصبحنا وقد غلظت العوسجة حتى صارت أعظم دوحة عادية رايتها، وشذب(2) الله شوكها وساخت(3) عروقها، واخضر ساقها وورقها، ثم أثمرت بعد ذلك وأينعت(4) بثمر أعظم ما يكون من الكماة في لون الورس المسحوق ، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، والله ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا ناقة ولا شاة إلا در لبنها، ورأينا النماء والبركة في أموالنا منذ نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخصبت بلادنا وأمرعت، فكنا نسمي تلك الشجرة: المباركة، وكان من ينتابنا من حولنا من البوادي يستشفون بها ويتزودون من ورقها ويحملونها معهم في الأرض القفار، فتقوم لهم مقام الطعام والشراب.
فلم تزل كذلك وعلى ذلك، حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، وصغر ورقها، فحزنا لذلك وفزعنا له، فما كان إلا قليلا حتى جاء نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو قد قبض في ذلك اليوم، وكانت بعد ذلك اليوم تثمر دونه في الطعم والعظم والرائحة، وأقامت على ذلك ثلاثين سنة.
فلما كان ذات يوم أصبحنا فإذا بها قد أشوكت من أولها إلى آخرها، وذهبت نضارة عيدانها، وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلا يسيرا حتى وافانا مقتل أمير المؤمنين علي عليه السلام، فما أثمرت بعد ذلك قليلا ولا كثيرا وانقطع ثمرها.
ولم نزل ومن حولنا نأخذ من ورقها ونداوي به مرضانا، ونستشفي به من أسقامنا، فأقامت علي ذلك مدة وبرهة طويلة.
صفحة ٩