الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ

عطيات أبو السعود ت. 1450 هجري
77

الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ

تصانيف

43 (1853-1920م) ولكنه كان مفهوما «قبليا» خالصا ولا يتعلق إلا بماهيات الموضوعات أو خصائصها الجوهرية المستقلة تمام الاستقلال عن وجودها أو عدم وجودها في الخارج (أي مع وضع هذا الوجود «بين قوسين» كما عبر بعد ذلك هوسرل وأصحاب فلسفة الظاهريات) وقد اعتبر مينونج أن نموذج هذه المعرفة الموضوعية المتحررة من التقيد بوجود الموضوع أو عدم وجوده هي الرياضيات أو المعرفة الموضوعية المجردة بالحقائق الرياضية البعيدة كل البعد عن أي علاقة بالواقع العيني الخارجي.

44

وهكذا «تموضع» المنطق أو «تشيأ» بالمعنى الذي ذكرناه، أي أصبح «وصفا» قبليا خالصا لأفعاله، وتحليلا قبليا ومعنويا لمقولاته، مع وضع الوجود الطبيعي أو العيني للموضوعات «بين قوسين» كما سبق القول.

وإذا كان بلوخ لا يناقش هذه المسألة الهامة مناقشة تفصيلية، فمن الواضح أنه يرفض وجهة النظر «القبلية» والمعرفية المحضة عند كل من مينونج وهوسرل رفضا حاسما، وذلك اتساقا مع وجهة نظره المادية الجدلية التي تركز على البنية المادية للموضوع نفسه وانفتاحه على مختلف الإمكانات المادية أيضا؛ فهو يتمسك «بنظرية الموضوع» ولكنه يربطها بوجوده الواقعي وعلاقاته وشروطه الواقعية أكثر مما يربطها بموضوعية المعرفة به أو «بموضوعية شيئيته» في حالتها الحاضرة أو الراهنة وهو يصر في النهاية على أن هذه هي الطريقة الصحيحة التي تعبر عن بنية الواقعية والموضوعية أو تعكسها بصورة جدلية حقيقية بعيدة عن الصورة المثالية المتعالية التي انتهت إليها فلسفة الظاهريات عند مؤسسها هوسرل، وربما أوضح وجهة نظره قليلا حول «نظرية الموضوع» بقوله إن عملية الانعكاس التي تتم فيها العلاقات الموضوعية ليست مجرد عملية معرفية تتكون في الوعي، وإنما هي «نتيجة معرفية» بالموجود الواقعي أو بالموضوع الواقعي نفسه وتلائمه. وتتخذ هذه النتيجة المعرفية شكل «التعريف الواقعي» الدقيق الذي لا يكتفي بتقديم الخصائص اللغوية والتصورية للموضوع، وإنما يقدم خصائصه التكوينية أو البنائية الواقعية الكامنة في داخل الموضوع أو في داخل السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يوجد فيه. ويعطينا بلوخ مثلا على ذلك يصوغه بلغته الاشتراكية المفضلة لديه، فالتعريف الواقعي والاشتراكي في نظره لمفهوم «الأمة» هو المفهوم الذي يعكس البنية الواقعية المكونة «لموضوع» الأمة ويعرفنا بها بعيدا عن المفاهيم الفاشية أو الاشتراكية الوطنية، والنازية المتعصبة.

45

إن نظرية الموضوع التي يقدمها بلوخ على هذا النحو هي في رأيه «مقر المقولات» باعتبار أن المقولات هي أعم أشكال الوجود الواقعي العيني وأكثرها تميزا وتحددا. وفي إطار هذا المستوى الموضوعي - أو هذه الطبقة من طبقات الموضوعية - تتحدد طبيعة الإمكان الموضوعي أيضا، وتبرز أهمية التفرقة التي أشرنا إليها بين «الموضوع» (الذي اكتملت شروطه الداخلية وأصبح قابلا للمعرفة) وبين «الشيء» (كمدرك حسي) في واقعة الراهن، بين الإمكان البنائي والموضوعي المنخرط في جدل الواقع والمنفتح على وضع أو أوضاع أصيلة، وبين الحالة الحاضرة أو الراهنة التي صار إليها الشيء الواقعي أو صارت إليها إمكاناته، ومن ثم تساعد «نظرية الموضوع» على تمييز مقولة الإمكان في أبعادها الموضوعية، أي من ناحية الشروط التي تحددها بنية الموضوع ونمطه وسياقه الاجتماعي ونسق علاقاته وقوانينه الداخلية ... إلى آخر ما يقوم على أساس الموضوع نفسه ويجعل انفتاحه على الممكنات - حين نعبر عنه في شكل أحكام شرطية أو احتمالية وإشكالية - أمرا محددا ببنية الموضوع ذاته، ومبررا بشروطه. وهذه الشروط - كما ذكرنا - داخلية وخارجية، وهي متشابكة ومتفاعلة تفاعلا يحفظ لكل منها طبيعتها النوعية .

46

ويبقى الإمكان الموضوعي قائما على ما هو عليه، حتى في حالة تحقق أحد الشرطين أو إذا قارب التحقق. فقد يحتوي النبات بحكم شروطه الداخلية على إمكان نضوج الثمرة الكامنة فيه، ولكن ظروف الطقس غير المواتية - أي الشروط الخارجية - لا تساعد على ذلك النضوج. وقد تتوافر الشروط الخارجية وتغيب الشروط الداخلية أو تفتقر إلى العناصر المهمة التي تعمل على تحقيق الإمكان الموضوعي. فالبشرية تضع أمامها على الدوام أهدافا تسعى إلى تحقيقها، حتى إذا جاءت لحظة التحقق التاريخية لم تجد سوى بشر ضعاف عاجزين، ومن ثم يبقى التحقق مجرد إمكان ينتظر توافر شروطه .

47

ومن أمثلة ذلك العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية التي لم تتحقق على الوجه الأكمل من وجهة نظر التقدم والتحرر والعدل والاستنارة الجديرة بهذا الاسم، وذلك لغياب أحد الشرطين السابقين أو نقصهما، ومن أمثلته تأخر جني الثمار الناضجة بعد فترات النهوض أو عصور النهضة عند كثير من الشعوب كما هو الحال مع نهضتنا العربية الحديثة التي عوقتها غيبة كثير من الشروط أو عجزها وعدم وصولها إلى النضج. وينطبق نفس الشيء على تطور العلوم والفنون والآداب والنظم الفكرية في كثير من البلاد والعصور والحضارات.

صفحة غير معروفة