وفي رأي مانهايم أيضا: «إن الماركسية هي أول من جمع بين التصور الجزئي والكلي للأيديولوجيا، كما كانت أول من منح التأكيد المناسب لدور مركز الطبقات واهتماماتها في تطور الفكر، ولأن جذور الماركسية موجودة في الفلسفة الهيجيلية، فقد استطاعت الماركسية أن تتجاوز المستوى السيكولوجي في التحليل وأن تضع المشكلة في سياق فلسفي أشمل.»
60
وعلى الرغم من التاريخ الطويل للفظة الأيديولوجيا ومعناها والذي يسبق الماركسية سبقا تاريخيا، إلا أنه استقر في أذهان معظم الناس المعنى الذي أضفته الماركسية على الكلمة، وهي أنها تبرير وإقرار لوضع قائم بالفعل لصالح الطبقة الحاكمة. بهذا المعنى يعد كلا المفهومين - أي اليوتوبيا والأيديولوجيا - على النقيض من الآخر. أحدهما - اليوتوبيا - ينشد الثورة على الأوضاع القائمة ويلتحم بحركة التاريخ المتغيرة وينغمس في صيرورته. والآخر - الأيديولوجيا - ينشد السكون ويقر أوضاعا ثابتة، بل ويصوغ لها منظومة من الأفكار التي تضمن استمرارها وثباتها.
ويتبنى بلوخ وجهة النظر الماركسية التي تقول إن الأيديولوجيا نشأت نتيجة لمبدأ تقسيم العمل والفصل بين العمل الذهني والعمل اليدوي مما نتج عنه الوعي الزائف (...) ولم تقم الأيديولوجيا إلا لتكون لسان حال الطبقة الحاكمة، ولتختلق من المبررات ما يخدم مصالح تلك الطبقة ويضفي الشرعية على كل ما تتمتع به من امتيازات، بل ولتبرر أيضا الظروف الاجتماعية القائمة وتتجاهل الظروف الاقتصادية التي سببت معاناة الطبقة العاملة،
61
وتلك هي العناصر التي يقوم عليها مجتمع الطبقة. ويري بلوخ أن الأيديولوجيا - بهذا المعنى - قد شوهت وحرفت الوظيفة اليوتوبية للوعي بال «ليس-بعد». فالأيديولوجيا بوصفها منظومة للأفكار والمعتقدات التي تبرر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة لمصلحة الطبقة الحاكمة تتعارض وظيفتها مع الوظيفة اليوتوبية التي هي تطلع للمستقبل، وقدرة على اكتشاف إمكانات لم توجد بعد على أرض الواقع. فاليوتوبيا عند بلوخ ليست مرادفة للواقع المعطى، وهو لا يقسم الوجود إلى قسمين: واحد فعلي واقعي، والآخر يوتوبي، وإنما الحقيقة هي تجسدهما معا، لذلك فأي نسق عنده يجب أن يظل مفتوحا ويتيح مكانا لما لم يتم ولم ينته وما يزال كامنا وهو اليوتوبي الذي يسعى دائما لتقويض وهدم ما هو زائف، وبذلك ينتج واقعا قادما مختلفا. لقد بقيت فكرة «اليوتوبيا الواقعية أو العينية» هي مركز تفكير بلوخ في فلسفة التاريخ حتى تمكن من تدعيمها على أسس أنطولوجية ومعرفية وأنثروبولوجية خالصة جعلها محور نسقه المفتوح.
وعلى الرغم من التعارض السابق بين كل من المفهومين (الأيديولوجيا واليوتوبيا)، فهناك - كما يقول مانهايم - علاقة جدلية بين اليوتوبيا والنظام الموجود: «والمقصود بهذا أن كل عصر ينجب في فئات اجتماعية مختلفة المواقع تلك الأفكار والقيم التي تحتوي بشكل مكثف على الميول غير المتحققة والرغبات غير المشبعة التي تمثل احتياجات ذلك العصر، حينذاك تصبح هذه العناصر الفكرية هي المادة المتفجرة لتحطيم حدود النظام الموجود. وهكذا ينجب النظام الموجود يوتوبيات، وهذه بدورها تحطم حدود النظام القائم وتجعله حرا في التطور باتجاه نظام الوجود التالي.»
62
أما عن علاقة الأيديولوجيا بالوظيفة اليوتوبية عند بلوخ، فقد أسفرت عن ظاهرة حقيقية وهامة، هي ما يطلق عليه اسم الفائض الثقافي،
63
صفحة غير معروفة