ويؤكد بلوخ في هذا الكتاب أن السعادة البشرية والكرامة الإنسانية اللتين تتعلقان باليوتوبيات الاجتماعية من جانب، وبنظريات القانون الطبيعي من جانب آخر، قد سارا لفترة طويلة من الزمن في طريقين مفترقين، وأنه آن الأوان ليرتبط كل منهما بالآخر، فكلاهما يتوقع شيئا ما أفضل من ذلك الذي تم، وكلاهما ينطلق من الأمل. ومهمة النزعة الاشتراكية أن ترث بعضا من تراث القانون الطبيعي بعد تطهيره من السمات البرجوازية، كما أن في الماركسية قانونا طبيعيا غامضا تتضمنه عبارة ماركس «علينا أن نتجاوز الظروف التي تجعل الإنسان محتقرا ومستعبدا.» إن التزاوج بين الحق الطبيعي والماركسية ضروري من أجل مجتمع غير مغترب ومتكافل اجتماعيا، ولكي يتحقق هذا لا بد أن تقدم العوامل الإنسانية على العوامل الاقتصادية لإيجاد مجتمع يستطيع الإنسان أن يسير فيه وهو «منتصب القامة».
توالت أعمال بلوخ بعد «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» فكان «مدخل توبنجن إلى الفلسفة» عام 1964م و«الإلحاد في المسيحية» عام 1968م وفيه تمتد نظرة بلوخ النقدية من الواقع الاجتماعي والسياسي إلى المعتقدات الدينية الراسخة في الأذهان كمسلمات بديهية، وهو يتناول بالنقد ما هو مألوف ومعتاد لينتهي إلى تفكيك الفكر الديني وبنيته النظرية، مع تبني المقولة الأساسية للفكر الماركسي في نقد الدين وتطويرها. وفي عام 1972م صدر كتاب «محاضرات في عصر النهضة».
24
وجاء هذا الكتاب بمثابة إعلان للماركسية الرسمية بأن الإنسان هو الهدف والغاية المنشودة، وأن التضحية بالإنسان من أجل «أيديولوجيا» أو فكرة معينة أمر لا يغتفر؛ لذلك ربط بلوخ - بوعيه التاريخي الناضج - الفكر بأسسه الإنسانية وانتزعه من الحاضر وضآلته، إيمانا منه بأن الواقع الحاضر ليس سوى لحظة يحدد مسارها من خلال تيار الزمن الماضي بتراثه الثقافي من ناحية، والمستقبل بإمكاناته المفتوحة من ناحية أخرى. لذلك قام برحلة في التراث الثقافي الأوروبي في الماضي القريب - أي في القرن الخامس عشر والسادس عشر - لاستجلاء الحاضر واكتشاف إمكاناته. ويوضح فهمه للنهضة الأوروبية أن التطور الكمي والنوعي لهذا التراث الثقافي قد امتزج بالذات المكونة والفعالة في هذه النهضة، أي بالإنسان الذي كان هدف بلوخ على الدوام. فالنهضة ليست ولادة جديدة لما هو قديم، وإنما هي ولادة لإنسان جديد ومجتمع يحمل قيما جديدة كل الجدة. وهو في دراسته للنهضة الأوروبية يرى أن المجتمع الذي تمخض عنها كان جديدا بالمقارنة مع المجتمع البرجوازي الذي سبقه، وأن الإنسان الفرد وإبداعاته الخلاقة هما الأساس في انبثاق النهضة في مجالات عدة تشكل في مجموعها الكل الحضاري. ففي الفلسفة كان هناك جوردانو برونو وكامبانيلا وبوهمه وبيكون. وفي العلوم والمعرفة العلمية نجد جاليلو ونيوتن. وفي فلسفة التاريخ والدولة والقانون يبرز بودان وجروسيوس وهوبز وفيكو. والخلاصة أن الحضارات والنهضات الموجهة من أجل الإنسان لا يخلقها سوى الإنسان ذاته.
25
وفي النهاية كان كتاب «تجربة العالم» هو آخر أعمال بلوخ وأصدره عام 1975م قبل وفاته بسنتين. هذا بالإضافة إلى العديد من المحاضرات العامة والمقالات السياسية والأدبية التي ظهرت على صفحات الجرائد والمجلات الدورية، وهي حصيلة معاركه الفكرية مع العديد من فلاسفة عصره ونقاده وأدبائه. وما سبق ذكره ليس جل مؤلفات بلوخ بل أهمها، وقد صدرت الطبعة الكاملة لمؤلفاته في ستة عشر مجلدا، وأشرف بنفسه على مراجعتها قبل إصابته بالعمى في سنواته الأخيرة، وقبل رحيله في 4 أغسطس عام 1977م بمدينة توبنجن، ثم أضيف المجلد السابع عشر بعد وفاته.
ثانيا: المؤثرات الفكرية على فلسفة بلوخ
توقدت شعلة المخيلة الحية التي تميز بها بلوخ مع احتكاكها بالواقع البائس الحزين الذي عاشته المدينة الصناعية الكئيبة «لودفيجز هافن» التي فتح عينيه عليها، فانطلقت شرارة الحلم والثورة، وتوهجت بروق الوعد والأمل. وكيف لا يثير هذا الواقع الظالم خيال الحالم، بل أكبر الحالمين وأهمهم في القرن العشرين؟ وكيف لا يفكر في ضرورة «رفع» هذا الظلم أو تجاوزه نحو «مستقبل واقعي» أو عيني «تحتمه الرغبة» أو الشوق والأمل المتجذر في الإنسان وفي المادة؟ ثم ماذا يفعل ليجعل من حلمه فلسفة وعلما وثورة في آن واحد؟ هذا الذي نذرته الأقدار ليقتفي آثار الحلم الأكبر الذي يتخلق منذ القدم في وعي البشرية وتراثها، وفي باطن الوجود المادي وأعماقه؟
لقد كان من الضروري أن يختمر الحلم بشواهده وتجلياته اللانهائية في الوعي البشري منذ أن وجد البشر، وأن يتحد بقلب المادة وبذورها وإمكاناتها التي ما زالت تتفتح منذ أن كان العالم ووجد الوجود. أجل كان لا بد من ذلك حتى لا يبقى حلمه حلما ذاتيا أشبه بنسيج عنكبوت لا يلبث أن يتحلل أو يتبدد مع أول صدمة أو هبة ريح. إن الفتى الحالم الذي يصوب بصره لأفق الحلم الممكن البعيد قد أدرك في هذه الفترة المبكرة من حياته أن الواقع لا يفتقر إلى الحلم وإنما يطويه في أحشائه، وأن ألوانه القديمة والحديثة تتخايل أمام عينيه في قصور القياصرة والنبلاء والأشراف في مدينة «شباير» ومدينة «مانهايم» القريبة، وفي مزارع الكروم الواسعة في المنطقة، وكأن كل شيء يدعوه ألا يستسلم للواقع البرجوازي والرأسمالي السائد حوله.
وتتجمع ذرات الحلم الكبير في رحاب نفسه، وتختمر وتنمو وتتشكل فتتكون نواة تفكيره الأساسية وتستمد غذاءها المتجدد مع مرور الزمن من تجاربه وقراءاته حتى تصبح نسقا فلسفيا متكاملا يكاد يحجب معالمه عن النظرة السطحية ثراء المعرفة الموسوعية بالتراث الإنساني بكل ألوانه وظلاله ولوحاته الثرية التي راح يتتبع فيها مسرى الحلم بواقع غد أجمل وأعدل وأكمل من واقع اليوم (الحاضر) السائد، هذا الواقع الذي ظل يكافح - على مستوى الشعور - حتى يصبح وعيا، وأخذ يندفع وينمو ويتفتح - على مستوى الوجود المادي - لكي يتحول من واقع كامن «لم يتحقق بعد» إلى واقع فعال متحقق. ويمتلئ وجدانه - منذ الثانية والعشرين من عمره - بعزم الرائد الذي يقف على مفترق الطرق، يحفزه الأمل المتوثب لاكتشاف «الأرض التي لم تطأها قدم إنسان»، بل الأرض التي لم توجد أبدا من قبل، وهي الآن بحاجة للإنسان الذي يتحد في كيانه المكتشف، والبوصلة والعمق في وقت واحد.
صفحة غير معروفة