وللإجابة عن هذه التساؤلات قدم بلوخ مشروعا حضاريا نقديا مفعما بالأمل، مهاجما كل الأنظمة الفكرية الساكنة، ومنطلقا من نقد الواقع العيني المعيش، مقتفيا آثار الممكن الكامن فيه لتحقيق إنسانية حرة في ظل «مملكة الحرية».
ويعد «مبدأ الأمل» - في حد ذاته - من الأعمال الأدبية لفرط ازدحامه بالصور المجازية والرمزية والشعرية والتعبيرات ذات الدلالة اللونية، كاستخدام بلوخ المفرط لكلمات مثل الصباح، والأزرق البعيد، وساعة الزرقة ... إلى آخر الكلمات التي تعكس الضوء والإشراق بحيث يمكن تسميته «فيلسوف النور». وقد امتزج هذا الأسلوب الأدبي بلغة صوفية غامضة وتعبيرات لاتينية ويونانية قديمة، وأقوال شعبية ومأثورات جعلت صاحبه يستحق التسمية التي أطلقت عليه بأنه ساحر المفاهيم والتصورات والكلمات. وامتزج كل هذا بلغة ماركسية مادية جدلية لتصور حالات الوعي الفردي والجماعي وحالات الأمل والتحقق. وفي «مبدأ الأمل» اختار بلوخ أن يبحث في التراث السري والصوفي مما يعكس تفضيله للمفكرين والفلاسفة الذين ينظرون للعالم نظرة صوفية غامضة أو من وراء حجاب، كما اختار أن يبحث في القبالة أكثر من التوراة، وفي السيمياء السحرية أكثر من الكيمياء بالمعنى العلمي الحديث، وأن يهتم بنظم الفكر المتقدمة والمنفتحة على المستقبل أكثر من النظم المطلقة. وربما لكل هذه الأسباب استقبل الكاتب بالشك في الدوائر الماركسية الرسمية. كما أن كل هذه الأسباب أيضا جعلت نغمات بلوخ في «مبدأ الأمل» في تصاعد مستمر، بحيث يختتم كل قسم بشكل فيه علو ونزعة تفاؤلية، ولذلك يعد الكتاب من أكثر المشروعات الفلسفية طموحا، وفي الوقت نفسه من أكثر الكتب الفلسفية افتقارا إلى الاتساق أو النسق الواضح؛ فقد عرض في ثلاثة أجزاء كبيرة لكل ما يتعلق بالحياة الإنسانية لينتهي إلى أن للأمل جذورا في الوعي البشري وفي صيرورة العالم.
وفي عام 1961م صدر كتابه الهام «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» ويعد ثمرة جهود بلوخ لفهم إخفاقات التراث الماركسي، وقد وضعه بعد تجربته المريرة مع النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية التي خرج منها مصطحبا معه الكتاب وهو لا يزال مخطوطا ونشر في ألمانيا الغربية وكان مؤلفه قد بلغ السادسة والسبعين من العمر. ويعد الكتاب قراءة جديدة لتراث القانون أو الحق الطبيعي، ويعرض فيه لإمكان إعادة صياغة هذا التراث الذي حاول قراءته قراءة جدلية ليكشف عما هو اشتراكي فيه. ذلك أن هذا الفيلسوف ذا الحس التاريخي الأصيل قد قاوم فكرة اعتبار الماضي شيئا منتهيا، فأخذ في استعادته أو استرجاعه كأنه كيان حي، وراح ينقب فيه عن وعود الماضي غير المعلنة، وكأن وعود الماضي لها عيون تنظر للأمام. لقد فتش عن الأمل الكامن في لحظات الماضي، هذا الأمل الذي لم تتح له الظروف الموضوعية ليشهد النور، وكان دافعه للبحث في التراث هو أن يظهر للنور ما قد خفي وكمن داخله حتى يومنا الحاضر. كما يمثل القانون الطبيعي مجالا آخر للمضامين التي لم يتوصل إليها، فهو يرسم إطار العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تتحقق فيها الحرية البشرية.
وقد كانت مهمة بلوخ في هذا الكتاب هي بيان أهمية الحقوق الإنسانية بالنسبة للمجتمعات الاشتراكية. وليس الكتاب مجرد تأريخ لنظريات القانون الطبيعي، ولكنه إعادة تفكير في المبادئ الأساسية للفلسفة السياسية، وإظهار ما خفي من هذا التراث والبحث فيه عن الوعود المستقبلية غير المعلنة، وإبراز السمة اليوتوبية لنظريات القانون الطبيعي التي كانت هي السلف الحقيقي لليوتوبيات الاجتماعية ذات النزعة الاشتراكية العلمية.
21
فالأحلام المتعلقة بحياة اجتماعية أفضل في كل منها تتداخل في بعضها البعض. والواقع أن قضية الحقوق الإنسانية - التي غابت عن جدول أعمال النظم الاشتراكية - كانت هي الدافع الأساسي وراء بحث بلوخ عن مقاصد
22
الأسلاف، ولذلك استهل كتابه بسؤالين هامين: «ما هو العدل؟ وما هو الحق؟»
23
سؤالان طرحهما شخص عرف وشهد على الأشكال الجديدة للظلم القديم، وكانت الإجابة عليهما. من خلال إعادة صياغة نظريات القانون الطبيعي في التراث الغربي بأكمله لينتهي إلى أسباب إخفاق النظم الاشتراكية التي تغافلت عن ضرورة ارتباط الثورة بالحق، وأهم هذه الأسباب في تقديره هو إهمال الجانب الإنساني، وغض الطرف عن الحقوق الإنسانية للفرد، وبالتالي ضياع الكرامة الإنسانية.
صفحة غير معروفة