المقدمة
1 - حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
2 - البناء الأنثروبولوجي للأمل
3 - البناء الأنطولوجي للأمل
4 - الزمان والتاريخ والجدل
5 - تجليات الأمل في يوتوبيات التقنية والكشوف الجغرافية والفنون
6 - تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية
ملاحظات نقدية ختامية
مراجع البحث
المقدمة
1 - حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
2 - البناء الأنثروبولوجي للأمل
3 - البناء الأنطولوجي للأمل
4 - الزمان والتاريخ والجدل
5 - تجليات الأمل في يوتوبيات التقنية والكشوف الجغرافية والفنون
6 - تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية
ملاحظات نقدية ختامية
مراجع البحث
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
تأليف
عطيات أبو السعود
المقدمة
«الأمل واليوتوبيا عند إرنست بلوخ» موضوع هذا البحث. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال عن علاقة كل منهما بالآخر، أي علاقة البشر وأمانيهم باليوتوبيا التي تعطي انطباعا أوليا بأنها بناء عالم مثالي في الخيال، وكأن الأمل يرتبط بالخيال الذي قد لا يحققه على الإطلاق، وليس هذا بطبيعة الحال هو هدف البحث؛ ولذا يجب البدء بتعريف كل منهما. أما الأمل فهو تعبير عن تطلعات الجنس البشري إلى حياة أفضل في المستقبل، يسودها الإخاء والمساواة وتقوم على أساس من العدل في ظل مملكة للحرية، وأما اليوتوبيا فهي النظام الذي يحقق هذه التطلعات في مكان ما على هذه الأرض. وليس المقصود باليوتوبيا هنا هي الترجمة الحرفية للكلمة التي تعني «لا مكان» لأن اليوتوبيا موضوع هذا البحث هي يوتوبيا عينية قابلة للتحقيق وفق شروط داخلية وخارجية، أي شروط ذاتية وموضوعية تجتمع في لحظة تاريخية ملائمة توفر شروط تحققها.
وقد تم اختيار هذا الموضوع لأهميته الشديدة في عصرنا الحديث الذي اتفقت الآراء على أنه عصر أزمة كبرى. وغالبا ما تبرز فلسفة الأمل في العصور التي يغلب عليها التوتر والاضطراب وتزداد فيها الصراعات، وقد شهد القرن العشرون حربين عالميتين وحروبا أهلية لا حصر لها، وخيبة آمال في ثورات كبيرة وآمال عظيمة، فلا بد أن يكون هناك بعث لروح الأمل، ولا بد أن يكون الأمل - ونحن على مشارف الألف الثالث للميلاد - هو المطلب الأساسي والمشروع. أما لماذا «الأمل واليوتوبيا عند إرنست بلوخ» على وجه التحديد ، فلم يكن هذا أيضا من قبيل الصدفة أو العشوائية؛ إذ لا يوجد في عصرنا فيلسوف تغنى بالأمل مثلما فعل هذا الأخير، حتى لقد وضعه - أي الأمل - عنوانا لأهم كتبه على الإطلاق وهو «مبدأ الأمل»، كما أنه - أي بلوخ - يعد أكبر فيلسوف يوتوبي في القرن العشرين أهاب بالإنسان أن يمسك بهذا المبدأ الذي تحول عنده إلى مبدأ للمسئولية التي يحملها الإنسان على عاتقه ليحقق بإرادته الثورية آماله وأحلامه في يوتوبيا واقعية وعينية.
ومنهج البحث هو المنهج التحليلي النقدي، لأن بلورة النسق الفلسفي الكامل لفلسفة الأمل قد استلزمت التحليل والشرح والتفسير والنقد، كما أن هذا النسق لم يقدم من قبل إلى المكتبة العربية، التي لم تعرف من كتب بلوخ سوى الترجمة العربية لكتاب «فلسفة عصر النهضة». وكان من الضروري - نظرا لضخامة هذا النسق الذي ضم التراث البشري في داخله - تقديم الإطار النظري الكلي وإسقاط تفاصيل كثيرة لا تخل بالهيكل العام لفلسفة بلوخ. وقد كانت هناك صعوبة كبيرة في استخلاص البنية الفلسفية، وترجع هذه الصعوبة إلى أن بلوخ قدم مشروعا فلسفيا ضخما وطموحا لا يفتقر فقط إلى الاتساق والتماسك، بل يتسم أيضا بالغموض والإبهام بسبب صياغته في لغة معقدة يصعب فك رموزها، وأسلوب يغلب عليه المجاز ويكثر من استخدام الصور الشعرية والأسطورية والمصطلحات الصوفية، وقد زاد من هذه الصعوبة الطابع العام للفكر الألماني الذي لا يعرف في كثير من الأحيان بساطة العرض وسهولته، بل يميل دائما إلى التعقيد والتكثيف والتجريد باعتبارها - في نظر المفكرين الألمان - دليلا على عمق الفكر وأصالته؛ مما جعل بلوخ لفترة طويلة غير مقروء خارج ألمانيا، بل وغير مقروء أيضا من أبناء وطنه - باستثناء الصفوة من المتخصصين والمثقفين - ويرجع هذا إلى صعوبة فهمه من قبل المثقف العادي.
غمر بلوخ نسقه الفلسفي في تفاصيل هائلة من التراث البشري بأكمله، وعرض لكل فروع المعرفة من فلسفة وفن وأدب وموسيقى وشعر، كما عرض لحضارات العالم ودياناته القديمة بحيث يمكن القول بأنه آخر المفكرين الموسوعيين في القرن العشرين، وأفرط أيضا في استخدام المصطلحات والعبارات اليونانية واللاتينية والأقوال والمأثورات القديمة التي لم تعد تستخدم الآن؛ في محاولة لإحيائها وإضفاء معاني جديدة عليها إلى الحد الذي يمكن معه القول بأنه أوجد في اللغة الألمانية قاموسا ثقافيا خاصا لفلسفته، كما أسرف باعتباره ناقدا أدبيا في الوقت ذاته في استخدام الصور الفنية (الاستعارة والتشبيه والكناية والرمز) التي زادت من غموض لغته.
وكان من الضروري للتغلب على هذه الصعوبات إسقاط تفاصيل جزئية واستطرادات كثيرة كان من الممكن - في حالة تتبعها - أن تخرج بالبحث عن السياق المرسوم له، كما كان من الضروري استخلاص النسق الكلي لفلسفة الأمل، وتقديمه بالعرض والتحليل أولا ثم بالتعقيب النقدي على بعض التفاصيل والجزئيات التي استلزمت الوقوف عندها وتم نقدها في موضعها. وأخيرا ينتهي العرض التحليلي الكلي بتقييم عام في خاتمة نقدية للإطار العام لفلسفة الأمل واليوتوبيا.
ينقسم البحث إلى ستة فصول تتدرج في خط تصاعدي بدءا من حياة بلوخ إلى عرض البناء النظري لفلسفته في الأمل، ثم محاولة تطبيق هذا النسق النظري على التاريخ البشري المنظور إليه نظرة يوتوبية. ويتناول الفصل الأول «حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي» ويقدم تعريفا بالفيلسوف وعصره. وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: حياة بلوخ ومؤلفاته، وفيه عرض تاريخي لحياته وأسفاره وعلاقات الصداقة التي جمعته ببعض فلاسفة عصره وأدبائه، والتعريف بمؤلفاته وأعماله. ثانيا: المؤثرات الفكرية في فلسفته، وهي عديدة ومتنوعة، منها مؤثرات فلسفية كالفلسفة اليونانية وخاصة أرسطو، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية من ياكوب بوهيه وهيجل وشيلنج، والفلسفة الماركسية التي تركت بصماتها على الطابع العام لتفكير بلوخ، ومؤثرات أدبية كالحركة التعبيرية التي غلب أسلوبها الأدبي على لغة بلوخ الفلسفية، ومؤثرات دينية وخاصة التراث الصوفي المسيحي واليهودي وفكرة الخلاص. ثالثا: مدخل إلى فلسفته ومفاهيمها الأساسية وفيه تعريف بأهم المقولات التي قام عليها النسق الفلسفي للأمل واليوتوبيا، مثل مقولات ال «ليس-بعد» وما قبل الظهور و«الإمكان» و«الأمل» و«الأمام» و«الجديد» و«الأقصى».
ويتناول الفصل الثاني «البناء الأنثروبولوجي للأمل» وهو الجذر الأول من فلسفة الأمل الذي يصور انعكاس الوعي بال «ليس-بعد » على الذات البشرية، وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام: أولا: نشأة الوعي، وفيه تتبع لظواهر الوعي البشري منذ بدايته الأولى عند الطفل، ويعرض لنظرية في نشأة الوعي من الدوافع، وأهمها وأولها الجوع، فهو الذي يدفعنا ويحركنا إلى الأمام. كما يتتبع آثار الحلم البشري بأبعاده المختلفة وأنواعه، وكيف تطور الوعي بال «ليس-بعد» من أحلام اليقظة. ثانيا: طبقات الوعي، ويعرض لطبقات الوعي المختلفة ومنها ما قبل الوعي، وهو اللاوعي بالمعنى الفرويدي أي المكبوت أو المنسي، والوعي بال «ليس-بعد» وهو الوعي بشيء جديد لم يأت بعد أو بشيء يرجح حدوثه بناء على شروط ذاتية وموضوعية محددة، وهو ما يسمى الوعي بالمستقبل. ثالثا: معوقات الوعي بال «ليس-بعد»، ويشمل المعوقات المختلفة التي تحول دون ظهور وعي ال «ليس-بعد» إلى النور، ومنها العائق التاريخي الذي يسلم بوجود التام والكامل منذ البداية، الأمر الذي يجهض كل محاولة للتقدم نحو الجديد، ومنها النزعة الرومانسية، إذ استعبدها الماضي حين اعتبرت أن الكمال كله كان في الماضي، ومنها اليوتوبيات الاجتماعية التي لم تكن قادرة على التطور بسبب النزعة السكونية التي سادتها، كل هذه المعوقات حالت دون ظهور الوعي بال «ليس-بعد» الذي لا يمكن اكتشافه بفعل التذكر، بل بالحدس الذي يؤدي وظيفة يوتوبية.
ويتناول الفصل الثالث «البناء الأنطولوجي للأمل»، وهو الجذر الثاني من فلسفة الأمل الذي يمثل البناء الأنطولوجي لنظرية ال «ليس-بعد» أي لنظرية الوجود الذي لم يتحقق بعد، وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: أنطولوجيا ال «ليس-بعد» ويعرض لأربعة مفاهيم أنطولوجية أساسية تدل على حركة الواقع الجدلي للمادة والتاريخ، وتكشف عن صيرورتها نحو تحقيق الأمل اليوتوبي، مفهوم «اللا» المتعلقة بمبدأ الوجود، وهي ليست نهائية ولا مطلقة وإنما تعلن عن نفسها في حالة الجوع بوصفها افتقارا أو لا تملك؛ ولذلك فهي مغروسة فينا وتسعى دائما للخروج من حالة الكمون عندما تنطلق اللا وتخترق الجوع لإشباعه. ثم تتحول «اللا» المتكررة والكائنة في «الهنا والآن» إلى ال «ليس-بعد» الكائنة بطبيعتها في المستقبل، فعندما تعبر «اللا» عن السخط على الصورة التي صار إليها الشيء المفتقد تظهر ال «ليس-بعد» اليوتوبية وتتخذ صورة السلب الذي يدفع الحركة الجدلية قدما، وبذلك تتحول «اللا» إلى ال «ليس-بعد» التي تتطلع بدورها إلى «الكل» المرتبط بعلاقة ذات هدف بكل من «اللا» وال «ليس-بعد». أما علاقة هذين الأخيرين بالعدم فليست علاقة بهدف، لأن هذا العدم أبعد ما يكون عن العدم المتضمن في السلب الجدلي الذي يسلب كل ما قد صار ليبلغ به مرحلة جديدة. فالإحباط والفشل هما الخطر الدائم الذي يتهدد كل عملية جدلية، ويشير كل من العدم والكل إلى الاتجاه الذي يوجه ال «ليس-بعد» إما سلبا فيكون «العدم» وإما إيجابا فيكون «الكل». ثانيا: مقولة الإمكان التي تدور في فلكها مقولة ال «ليس-بعد»، ولها طبقات متعددة تعكس درجات المعرفة والإدراك: (1) الممكن الصوري وهي بناءات أو تركيبات لغوية ممكنة على مستوى القول لكنها بغير معنى على الإطلاق. (2) الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية، ويتمثل هذا الإمكان في الصيغ والتركيبات التي تعبر عن اعتقاد أو ترجيح يقوم على مبررات تؤيده، لكن هذا التبرير المعرفي لم يصل بعد إلى النضج الكافي لجعل الإمكان موضوعيا، أي أن الإمكان هنا مشروط بصورة جزئية، والذي يميزه عن غيره من أشكال الإمكان هو المعرفة الموضوعية الجزئية بشروطه؛ أي بالشروط التي تجعله ناضجا للتحقيق. (3) الإمكان الموضوعي من جهة الموضوع نفسه، ويتميز الإمكان في هذا المستوى بأنه ينصب على شروط الموضوع نفسه التي لم تظهر بشكل كاف، ويتم الانتقال من المعرفة بالموضوع إلى الموضوع نفسه، أي إلى الخصائص والعوامل الداخلية والخارجية التي تشارك مشاركة إيجابية في إنضاج صيرورته وتحقيق إمكاناته. (4) الإمكان الواقعي في الواقع نفسه وهو المادة التي تظهر كل الأشكال الكامنة في رحمها بفضل الصيرورة الدائبة فيها. (5) تحقيق الإمكان، وهو تلاقي العامل الذاتي مع العامل الموضوعي في إطار الشروط والقوانين التي تعين ذلك الإمكان ومدى قابليته للتحول دون مبالغة أو تغليب لأحد العاملين المتشابكين على الآخر، وبهذا يتحقق صنع التاريخ وتظهر إمكاناته في صورها المختلفة، ويتغير المجتمع والطبيعة من جذورهما. ثالثا: أنطولوجيا المادة، ويتناول مفهوم المادة عند بلوخ، فليست المادة هي الكتلة الصماء، وليست هي المادية التي ينظر إليها المثاليون ورجال الدين نظرة التعالي والازدراء ويسلبونها حق الميلاد الذي أعطي لها منذ عهد الفلاسفة قبل سقراط. بل صارت هي الأم الأزلية التي خرجت من رحمها الأزلي الأشكال المتجددة باستمرار ولم تزل تخرج منه دون أن تستنفد إمكاناته أبدا، وبذلك وضع بلوخ الأساس المادي الطبيعي ليوتوبياه الواقعية، واعتنق المفهوم الأرسطي للمادة وتتبع تطوره عند ما يسمى باليسار الأرسطي من ابن سينا وابن رشد وابن جبيرول وحتى ممثلي هذا الاتجاه في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر إلى أن اكتملت المادية الجدلية والتاريخية في الفلسفة الماركسية.
يتناول الفصل الرابع «جدل الزمان والتاريخ» ويعتبر الجدل بجانب الإمكان - كأسلوب وجود - والزمان - كشكل وجود - من أهم التحديدات أو المقومات الأنطولوجية للموجود الذي لم يوجد بعد، باعتبار أن الجدل هو منطق الزمانية ومنطق الصراع والتغير في الجوهر المادي للعالم. وينقسم الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: الجدل عند بلوخ، ويعرض باختصار لمسار الجدل في تاريخ الفلسفة، وكيف أثبت الجدل وجوده كمنهج في تاريخ الفكر الفلسفي. ومع ذلك يدلنا تاريخ الجدل على توجهه صوب الذات مرة - كما عند أفلاطون قديما وكانط حديثا - وصوب الموضوع مرة أخرى - كما عند الفلاسفة قبل سقراط قديما وأوغسطين في العصور الوسطى وبرونو في عصر النهضة وحتى اسبينوزا في العصر الحديث - إلى أن جمع هيجل بينهما عندما قدم نموذجا للمنهج الجدلي بمعناه الموسوعي والكوني الشامل، وقضى على ثنائية الفكر والوجود التي وضعها الفكر الفلسفي طوال تاريخه، وثنائية المنطق والميتافيزيقا والمعرفة والوجود. وعلى الرغم من ذلك فإن إيقاع الجدل عند هيجل - القائم على فكرة التذكر - يختلف عن الجدل المادي عند بلوخ، فهو يظل عند هذا الأخير حركة تحمل ما لم يتحقق بعد وينبغي تحقيقه في داخلها باستمرار، ولذلك فهو جدل القلق، أي عدم التحقق وعدم الامتلاء النهائي. ثانيا بنية الزمان التاريخي، ويعرض الجذور العميقة لمشكلة الزمانية في الفكر الفلسفي قديمه ووسيطه وحديثه ومعاصره. فهناك الزمان الدائري في الفكر اليوناني، والزمان المستقيم - وهو زمان الأديان - في الفلسفة الوسيطة التي عبرت عن الفكر الديني كما عند أوغسطين، والزمان المطلق في العلوم الطبيعية التي أقام صرحها إسحاق نيوتن، والزمان كبعد رابع كما عند أينشتين في النظرية النسبية، ثم الزمان الذاتي في الفكر المعاصر كما عند برجسون وهوسرل وهيدجر، حتى نصل إلى الزمان التاريخي عند بلوخ حيث تتفاوت سرعته وكثافته من ناحية الامتلاء بالمضمون وحيث التداخل العميق بين الزمن الفلكي والكوني الذي لا يخلو من التطور والصيرورة الكيفية المتجددة، وبين زمن التجربة الإنسانية التي تصنع التاريخ البشري المتجدد باستمرار. إن آنات الزمان المختلفة ليست متجانسة، وإنما هي في معظم الأحيان متفاوتة تفاوتا كيفيا عن بعضها البعض، فأشكال الماضي من ناحية تاريخ الطبيعة، وأشكاله من جهة تاريخ البشرية لا يسيران في خط واحد. بل إن التاريخ البشري نفسه توجد فيه عصور تاريخية متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بمضامين التطور ومعانيه المختلفة في الاقتصاد والفن والتنقية ... إلخ. ثالثا اللحظة الممتلئة، وفيه تتبع للحظة التي يتحد فيها الذات والموضوع والوجود والماهية ويتحقق فيها الوجود الأسمى غير المغترب. ويبدأ بلوخ في البحث عن مغزى الوجود في اللحظة الممتلئة من خلال الأعمال الأدبية وأهمها «فاوست» جوته ومقارنتها ب «دون كيشوت» سرفانتيس. وفاوست هو المثال الأسمى للرجل اليوتوبي، والرمز المجسد للقلق اليوتوبي المغامر إلى ما وراء الحدود والمخاطر للبحث عن الجديد، وهو رمز التعطش الدائم للمعرفة. وفي فاوست تنطلق الإرادة الثائرة وتتشكل في العالم ومن خلاله للوصول إلى القصد اليوتوبي أي لحظة الوجود الكامل والمطلق. أما دون كيشوت فهو من أهم الشخصيات الأدبية - بعد فاوست - التي سعت للوصول إلى اللحظة التي تحقق فيها وجودها الأسمى، ولكن إرادته الضعيفة - على العكس من فاوست - أخفقت في التوسط مع العالم الخارجي، فانفصلت عن الواقع العيني الذي كانت تعيش فيه ولم تصل للحظة المنشودة أبدا. ويبحث بلوخ عن اللحظة الممتلئة في الخير الأسمى الذي هو نهاية سلم القيم أو المثل العليا. وإذا كانت هذه القيم قد ظلت لفترة طويلة قيما ذاتية أي نابعة من عقل الإنسان، فإن للمشكلة جانبا موضوعيا تتفاعل معه ولا يمكن فصله عن الوعي أو الإرادة. ولذلك فإن عملية التقييم لا تعتمد على الوعي المعياري نفسه بل تعتمد كذلك على الموضوعات التي تزود هذا التقييم بالمحتوى المادي. ويستمر البحث عن اللحظة الممتلئة في الديانات سواء القديمة منها أو السماوية، ففي الديانة الإغريقية القديمة تحولت لحظة الوجود الأسمى إلى ما يمكن تسميته بالديانة الفنية كما تمثلت في التراجيديا الإغريقية، أما لحظة الوجود الأممي في الديانة المصرية القديمة فهي لحظة الصمت والسكون والثبات، وهي الأمل في الخلود وفي التوحد مع أوزوريس. وأما الديانة الرافدية القديمة فقد ربطت الأمل أو الخلاص بالإله المسيطر على الدورة الفلكية المتكررة، وأما في الديانة الصينية فالكونفوشيوسية تجد لحظة الوجود الأسمى في الاعتدال والتزام الحد، والتاوية وجدتها في «عدم الفعل» للاتحاد مع التاو أو طريق السماء. وأما الديانة الإيرانية القديمة - الزرادشتية - فقد وجدت اللحظة الممتلئة في الصراع بين النور والظلام، وفي الديانة البوذية الهندية تمثل الوجود الأسمى في لحظة تدمير العالم أو في لحظة الخلاص بالانطفاء وهو ما يسمى بالنيرفانا. وأما عن الديانات السماوية فقد كانت اللحظة الكبرى في الديانة اليهودية هي لحظة الخلاص ووعد الإله بلحظة يوتوبية للخلاص في سماء جديدة وأرض جديدة، وفي الديانة المسيحية تجلت اللحظة الممتلئة في قيام المسيح من القبر وصعوده إلى السماء وكأنه مرساة الأمل التي تأخذ البشر معها ليكونوا مثل الإله وتلك هي بشارة الخلاص المسيحي. ويأتي مضمون اللحظة الممتلئة في الدين الإسلامي في الخضوع لإرادة الله ولكتابه الكريم والسير على سنة رسوله. وأما في التجربة الصوفية حيث تختفي الثنائيات الحادة بين الأنا واللا-أنا، وبين الذات والموضوع، فتسمى هذه اللحظة بالآن الأبدية أو اللحظة الخالدة. ويتم التبادل بين كل من اللحظة والأبدية في وحدة جدلية هي اللحظة الأسمى التي لم تعد موجودة في الزمان بل تكون «الآن» فيها دائمة، وتكون ال «هنا» في كل مكان. وأخيرا اللحظة الممتلئة في الموت أو بمعنى آخر في الصور الخيالية المفعمة بالأماني التي رسمتها الأديان للحياة بعد الموت. لقد نظرت الديانة المصرية القديمة للموت على أنه بداية الحياة الحقيقية، واعتبرت أن الخلود هو لحظة الوجود الأسمى، أما عن الموت في الكتب المقدسة فلم تظهر فكرة الخلود في الديانة اليهودية إلا في مرحلة متأخرة، ولم يكن الموت هو اللحظة الأسمى في الديانة المسيحية بل البعث أو القيامة من الموت، لأن المجيء الثاني للمسيح هو لحظة الوجود الأسمى. ومع النزعة الرومانسية اختفى الخوف المعتاد من الموت وأصبح نوعا من التغيير والراحة الأبدية. ويرفض بلوخ فكرة الموت كما جاءت في الديانات والحضارات السابقة، كما يرفض فكرة الخلود من هذا المنظور الديني الساكن، ويرى أن لحظة الوجود الأسمى أو لحظة الخلود الأعظم ما هي إلا لحظة الفعل أو العمل والإبداع، فإذا كان الموت هو سلب الوجود، فإن مجيء الموت هو الذي يضفي على اللحظة قيمتها، كما أن لحظة الامتلاء والسعادة القصوى لن يوقفها الإنسان - لفرط طموحه واتساع أمله - ولن يخاطبها على لسان فاوست «تريثي قليلا، فما أجملك!» لأن من الممكن - مهما تصورناها ذروة الإمكان - أن تتكرر على الدوام في صور لا تنفد جدتها ولا ينتهي تنوعها.
ويتناول الفصل الخامس «تجليات الأمل في اليوتوبيات التاريخية» ويعرض لتجلي الأمل وتتبع بذوره فيما يمكن تسميته باليوتوبيات التاريخية، أي في تاريخ التقنية والكشوف الجغرافية والفنون المختلفة، وقد انقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: التجلي اليوتوبي في تاريخ التقنية، والتي بدأت في العصر اليوناني مع الميثولوجيا عندما سرق بروميثيوس النار ليعطيها للإنسان مانحا إياه سر التقنية، وتوسطت الطاقة لتحول الإنسان المقهور إلى إنسان صانع. وعندما عجزت قدراته المادية والعلمية - في العصور القديمة والوسيطة - عن اختراع أشياء عينية لتحقيق حياة أفضل، لم تعجز مخيلته عن اختراعها في الخيال. وفي عصر النهضة تحول هذا السحر إلى ما يسمى بالسيمياء التي استخدمت السحر والتنجيم لفك رموز الطبيعة كما عند باراسلس وياكوب بوهمه، إلى أن تأسست في القرن السابع عشر والثامن عشر الجمعيات السرية التي زعمت أنها تملك معرفة سرية بالطبيعة والدين. وتقف يوتوبيا فرنسيس بيكون على رأس اليوتوبيات التي حررت التقنية من أسرها السحري؛ مما جعلها أول يوتوبيا للتقنية تميزت بالتفاؤل وكشفت عن إمكانات هائلة أثبت تحققها في المستقبل صدق حدسها، كما قدم توماسو كامبانيلا «مدينة الشمس» التي تميزت بحدس يوتوبي أضفى على التقنية رؤية مستقبلية، وقد حقق التقدم العلمي والثورة الصناعية أغلب صور التقنية التي رسمها خيال كامبانيلا. ثم كانت المادية الآلية بقوانينها الحتمية فظهرت تقنية مغتربة منذ البداية عن قوى الطبيعة، ونشأت بينهما علاقة قائمة على الاستغلال والافتقار إلى التوسط وإلى العلاقة الجدلية التي يجب أن تقوم بين المجتمع البشري والعالم المادي. ثانيا: التجلي اليوتوبي في الكشوف الجغرافية، فعلى الرغم من أن الاكتشافات الجغرافية بدأت لأغراض تجارية، إلا أنها تحولت إلى نوع من اليوتوبيات الجغرافية، فلكي يكون الاكتشاف يوتوبيا عينية لا بد أن يتعلق بالمستقبل، وقد عنيت اليوتوبيات الجغرافية في المقام الأول باكتشاف طرق وأراض جديدة بحيث أصبحت اليوتوبيات الأخرى مدينة لهذه الكشوف، وارتبط تاريخ الكشوف الجغرافية لفترة طويلة من الزمن بالأساطير التي تبحث عن أرض الذهب وجنة عدن. ولذا كان الهدف اليوتوبي من بعض الرحلات هو السعي وراء الحلم الأسطوري أو الجنة الأرضية التي حددها الكتاب المقدس في أورشليم، ولذلك ظل الشرق لفترة طويلة هو قبلة اليوتوبيا الجغرافية. ثم ارتبطت الكشوف الجغرافية منذ هنري الملاح وكولمبس من بعده بالظروف الاقتصادية، فلم يعد الهدف هو جنة عدن بل أصبح هدفا اقتصاديا. وبفضل التقدم العلمي الهائل تجاوزت الكشوف الجغرافية الأرض وما عليها وتحولت الآمال إلى الفضاء الواسع بعد أن تحررت الأجساد البشرية من الجاذبية الأرضية، فكانت رحلات استكشاف الكواكب الأخرى، على الرغم من أن هذه الأرض التي يحيا عليها البشر ما زالت تتضمن داخلها عالما أفضل وليس علينا إلا البحث عنه بين الكائنات البشرية وعلى هذه الأرض. ثالثا: التجلي اليوتوبي في تاريخ العمارة والفنون، ويتناول هذا القسم: (1) التجلي اليوتوبي في فن العمارة، فقد عبر هذا الفن عن أحلام مفعمة بالأماني كما في جدار بومبي الروماني، ثم خضع - كسائر الفنون والعلوم الأخرى - لسيطرة السلطة الدينية في العصور الوسطى، فعبر عن صور ورسوم مستوحاة من الكتاب المقدس. وصاحب التغيرات السياسية والاقتصادية والدينية التي حدثت في عصر النهضة، صاحبها تحول في الفنون يعكس ما تمتعت به الطبقة الحاكمة وكبار التجار وأمراء المدن من مظاهر ثراء وفخامة، فتحول الفن من الكنائس إلى القصور البديعة، وأصبحت المناظر الطبيعية - وليست الدينية - هي مجال فن العمارة، وتحول الفن القوطي - الخاص بطراز الكنائس - إلى فن الباروك الذي تميز بنزعة التكلف مثله مثل فن الروكوكو من بعده، إلى أن تحولت العمارة في العصر الحديث إلى إنشاءات مجردة ومدن بلا حياة وسيطر عليها سكون العالم الآلي، فأصبحت غريبة عن الإنسان، كما أصبح الإنسان مغتربا عنها. وبذلك لم تحقق اليوتوبيا المعمارية هدفها في تشكيل المكان بشكل أكثر جمالا، ولم تستشرف مكانا أكثر ملاءمة للإنسان لبناء «وطن» إنساني جديد. (2) التجلي اليوتوبي في فن التصوير، ويعد التصوير من خلال الأضواء والظلال والتكوينات والأبعاد والزوايا من أقدر الفنون على استشراف المستقبل وإلقاء الضوء على أشياء لم توجد بعد في عالم الواقع. وقد مر التصوير بمراحل تطور مختلفة كشف في كل مرحلة منها عن بعد من أبعاده اليوتوبية الكامنة في داخله، فإذا ابتعدنا عن المرحلة الزمنية التي كان الفن فيها خادما للدين، وجدنا أن الفن الهولندي قد عبر عن موقف من الحياة لا ترفع فيه، وفي نهاية العصور الوسطى ظهرت في الصورة أبعاد مفتوحة على العالم الطبيعي وتصوير المنظر المفتوح المفعم بالأمل للإيحاء بالامتداد الهائل لعالم لامتناه. ثم تحول الرسم إلى التصوير في أماكن طبيعية أكثر اتساعا وانفتاحا في الهواء الطلق لإرضاء الذات البشرية التواقة للرحيل لعالم أفضل. (3) التجلي اليوتوبي في الأعمال الأدبية، وفيه محاولة لتلمس العنصر اليوتوبي والاهتداء إلى بعد الأمل في عملين أدبيين كبيرين هما «الكوميديا الإلهية» لدانتي و«فاوست» لجوته، فكانت الأولى رمزا للسكون الأبدي الثابت أي ليوتوبيا مكانية مغلقة ليس لها مستقبل، وكانت الثانية نابضة بالوعي الحي الإرادي أي أنها يوتوبيا زمانية متحركة. وننتهي من هذا إلى أن تقييم العمل الفني لا بد أن يكون في حدود ما يحمل هذا العمل من بعد يوتوبي، أي بقدر ما يعبر مضمونه عن الأمل الكامن فيه.
ويتناول الفصل السادس «تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية». وينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: يوتوبيات العصور القديمة والوسيطة، ويتناول هذا القسم: (1) جمهورية أفلاطون وكيف أنها كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية وعن الطبيعة البشرية؛ إذ فاقت كل النظم اليوتوبية في سكونيتها وبعدها عن اليوتوبيا الإنسانية، وبقيت أقرب إلى تقرير واقع اجتماعي قائم بالفعل. (2) الرواقية والدولة العالمية، فقد نادت الرواقية بدولة عالمية تجمع كل البشر في وحدة عالمية هدفها الانسجام الكامل مع الطبيعة. (3) يوتوبيا الكتاب المقدس، وأثر الرواقية على ما قد نلمسه من خط يوتوبي في الكتاب المقدس. (4) مدينة الله للقديس أوغسطين، حيث قدم أوغسطين صورة يوتوبية في كتابه «مدينة الله» أبرز فيها التاريخ في شكل صيرورة للخلاص تربط آدم بالمسيح على أساس من الوحدة الرواقية للجنس البشري، وهي صورة هدفها جعل البشر قديسين، أي أنها يوتوبيا انعقدت فيها الآمال والأحلام على ميلاد روحي جديد لأغلبية البشر، وإن كانت هذه الأحلام والآمال لا تتجه اتجاها حقيقيا إلى المستقبل. (5) مملكة الإنجيل الثالث، ليواخيم الفيوري الذي نقل مملكة النور من العالم الآخر إلى داخل التاريخ ليودع اليوتوبيا في المستقبل التاريخي. ثانيا: يوتوبيات عصر النهضة، وينقسم هذا القسم إلى: (1) يوتوبيا توماس مور، التي تعد أول صورة حديثة للأحلام المفعمة بالأماني لشيوعية-ديمقراطية نمت مع بداية القوى الرأسمالية، كما هي تعبير عن نزعة ليبرالية حرة ذات مضمون ديمقراطي إنساني. (2) مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا، وهي يوتوبيا قائمة على النظام وعلم التنجيم، والمقابلة بين يوتوبيا مور ومدينة الشمس لكامبانيلا هي مقابلة بين الحرية والنظام، ويجب أن تفهم العلاقة بين الحرية والنظام في إطار جدلي مادي لكي تنتهي إلى اليوتوبيا العينية. ثالثا: يوتوبيات العصر الحديث، وينقسم هذا القسم إلى: (1) اليوتوبيا والحق الطبيعي، ويعرض لحقيقة العلاقة بين الحق الطبيعي - بما ينشده من عدل وتأكيد للكرامة الإنسانية - واليوتوبيات الاجتماعية - بما تنشده من سعادة بشرية - فكلاهما يؤمن بأن الوجود الحاضر يجب دفعه للأمام لكي يتحرر من كل الظروف التي تعوق فتح الطريق لحياة أفضل. (2) اليوتوبيات الفيدرالية، التي يمثلها كل من روبرت أوين وشارل فورييه، ثم ظهرت يوتوبيات مركزية - حيث تنوعت الأشكال اليوتوبية في تلك الفترة - ذات تنظيمات اقتصادية كبيرة ونزعة جماعية صناعية عند كابيه وسان سيمون وأتباعه. (3) الصهيونية ويوتوبيا الأرض الجديدة-القديمة، وهي يوتوبيا قائمة على العرقية والعنصرية الدينية، وحام حلمها اليوتوبي حول فلسطين وأخفت من الماضي وضعا بعينه لتضعه أمامها وتسعى لتحقيقه في المستقبل، وكأن هذا المستقبل في اليوتوبيا الصهيونية ينشأ من الماضي. (5) الماركسية واليوتوبيا العينية، لقد سعت اليوتوبيا السابقة كافة إلى تحقيق العدل وبناء عالم أفضل، ولكن ندر بينها من امتلك إرادة التغيير واكتشف التوسط التاريخي مما أسفر عن يوتوبيات تأملية مجردة. وإصلاح العالم لا يأتي بالتأمل بل بالفعل وبالنظرة الجدلية إلى الواقع مع مراعاة قوانين العالم الموضوعي حتى تتحول اليوتوبيا من تأملية مجردة إلى يوتوبيا عينية ذات نزعة اشتراكية، وهذا ما فعلته الماركسية في رأي بلوخ. وينتهي الفيلسوف الاشتراكي إلى أن تاريخ اليوتوبيا ليس إلا تطورا تدريجيا لهذه النزعة التي اكتملت - في رأيه - في الماركسية، ومعها تقدمت الاشتراكية من اليوتوبيا إلى العلم، وقد جسد ماركس بشكل مادي توقعات اليوتوبيا بوسائل اقتصادية عندما بحث في جدل الإنتاج ووضع الأسس المادية لجدل التاريخ، وألغى الثنائية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين الممارسة التجريبية واليوتوبيا من أجل إعادة تنظيم المجتمع بشكل ثوري. إنها يوتوبيا عينية بسبب ارتكازها على عنصرين أساسيين هما توجهها للمستقبل وارتباطها بإمكانات حقيقية موضوعية كامنة في الواقع الفعلي، وإن لم تتحقق بعد في العالم الخارجي.
إن الأمل النابع من خطة علمية مدروسة والمرتبط بالممكن الوشيك التحقق هو أفضل ما في حياة الإنسان، بشرط أن يرتبط بالمعرفة الدقيقة بالواقع مع الممارسة العملية، ولا يمكن أن يزدهر العقل بغير الأمل، ولا يمكن أن يتكلم الأمل بغير العقل، لأن وحدتهما وحدة ضرورية. والأمل الصحيح يتوسط النزوع التاريخي كما يتم في العالم وعن طريقه ويتجه نحو هدفه وهو تحقيق «المجتمع الإنساني الحر». وإذا كانت الماركسية - في رأي بلوخ - هي المعنية بتحقيق الهدف النهائي للأمل وهي الفلسفة الوحيدة القادرة على تحقيق الحلم اليوتوبي، فإن نزعته التفاؤلية وإصراره على الأمل حتى اللحظة الأخيرة من حياته لم يحجبا عنه رؤية الواقع الفعلي وتجاربه المريرة، ولم تغفل عينه عن المصاعب «الموضوعية» التي تواجه تحقيق الأمل المتجدد، ولهذا لم يغب عنه أن من الممكن أن يخيب الأمل في الأمل لأنه لا يتعامل مع وقائع ثابتة، بل مع مسار تاريخي جدلي لا يمكن له أن يتوقف، ولهذا يتطلب الأمل في المستقبل دراسة جادة لكل الشروط الذاتية والموضوعية التي تساعد على إظهاره إلى النور، وينتهي البحث بملاحظات نقدية ختامية تتناول التقييم العام للنسق الفلسفي الكامل لفلسفة الأمل واليوتوبيا عند إرنست بلوخ وتحاول أن تبين أنها فلسفة معاصرة وحية - على الرغم من جوانب النقد الكثيرة التي يمكن أن توجه إليها - خاصة بعد الزلزلة الأخيرة للتطبيق الاشتراكي للفلسفة الماركسية.
وأخيرا عسى أن يكون هذا البحث قد وفق بعض التوفيق في تقديم مفكر معاصر يثير إشكالات معاصرة لا نستطيع أن نبقى بعيدين عنها: كأزمة الماركسية وسقوط حلمها - على الأقل مؤقتا - وأهمية النقد الفلسفي، والتأكيد على الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان الفرد، والتفكير اليوتوبي المستقبلي، فما أحوج أمتنا العربية - في مرحلتها الراهنة - إلى هذا البعد المستقبلي الهام!
الفصل الأول
حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
إرنست بلوخ
Ernst Bloch
فيلسوف ألماني وناقد أدبي وفني، يعد من أهم الماركسيين الجدد في القرن العشرين، قامت فلسفته على نزعة إنسانية خالصة لتحرير البشرية من العبودية، ووصفها بأنها فلسفة الأمل. وبلوخ هو الفيلسوف الوحيد بين مفكري عصره الماركسيين الذي عرف نفسه بأنه فيلسوف يوتوبي، ووصف اشتراكيته بأنها «يوتوبيا عينية» تمتد جذورها في الإمكانات التاريخية،
1
كما أن عرضه وتحليله لصور الأمل المختلفة عبر التاريخ قد أعطاه اسم «فيلسوف الأمل»، كما جعل كتابه «مبدأ الأمل» واحدا من أهم الكتب الأساسية في الفلسفة المعاصرة. ومع ذلك يمكن القول بأنه لم يكن فيلسوفا بالمعنى التقليدي، بل بالمعنى العيني والثوري. لقد اتجه تفكيره على الدوام إلى التغيير، كما تركز اهتمامه على التأثير في الظروف السياسية وتوجيهها نحو تحقيق الأمل الذي يمثل محور فلسفته وغايتها. وللاقتراب من فكر هذا الفيلسوف لا بد من إلقاء الضوء على حياته ومؤلفاته ومصادر فكره وتحديد أهم المقولات والمعالم الأساسية في فلسفته.
أولا: حياة بلوخ ومؤلفاته (1) حياته
ولد بلوخ في اليوم الثامن من شهر يوليو عام 1885م بمدينة لودفيجز هافن الصناعية الواقعة على نهر الراين في الجنوب الغربي لألمانيا. وهو ينحدر من أصل يهودي، وكان أبوه ماكس بلوخ موظفا بالسكك الحديدية في هذه المدينة الصناعية التي كانت معقلا لعمال المصانع الفقراء. فتح بلوخ عينيه على شقاء هؤلاء العمال وبؤسهم، وأدرك منذ طفولته التناقض الحاد بين قبح مدينته الصناعية وبؤسها وبين فخامة مدينة مانهايم وثرائها على الجانب الآخر من نهر الراين، ففي الأولى أكبر المصانع الألمانية وحولها العشش والأكواخ الفقيرة التي تعج بالعمال الكادحين، وفي الثانية أكبر وأفخم المسارح الألمانية المحاطة بالأبنية الفخمة والحدائق الغناء مما كان له أكبر الأثر في تكوين بلوخ الاشتراكي، وأحد أسباب انشغاله بالأفكار التقدمية والثورية منذ صباه ودفاعه عنها، كما كان أحد أسباب إعجابه بروزا لوكسمبورج.
2 (1871-1919م) وشخصيتها المتحررة. وكأن هذا الفيلسوف الذي سحره الجمال في اللغة والفكر فانجذب إليه بكل كيانه، قدر عليه أن يحيا وسط القبح والتلوث والضباب المتصاعد من أدخنة المصانع على نهر الراين الذي طالما تغنى الشعراء الألمان بجلاله الملكي وصفائه العذري، والذي رآه بلوخ في طفولته وصباه وهو ينساب بطيئا ملطخا ببقع الزيت الكثيفة.
3
كان بلوخ متعدد الاهتمامات الثقافية، وقد أقبل في مطلع شبابه على قراءة الفلسفة أثناء زياراته المتكررة لمكتبة مدينة مانهايم الغنية - المقابلة لمدينة لود فيجزهافن - وكان شغفه بالكتب الفلسفية والسياسية أحد أسباب قراءته المبكرة لفشته وهيجل وشيلنج. وبدأ دراسة الفلسفة والموسيقى والفيزياء عام 1905م في جامعتي ميونخ وفيرتسبورج التي حصل منها على درجة الدكتوراه عام 1908م برسالة عن فيلسوف التاريخ هيزيش ريكرت (1863-1936م ) تحت إشراف الفيلسوف وعالم النفس أوزفلد كولبه (1862-1915م). ثم انتقل للإقامة في برلين التي عاش فيها من سنة 1908 حتى عام 1911م، وتعرف على فيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل (1858-1918م) وأخذ يتردد على محاضراته وندواته. وفي إحدى قاعات البحث التي كان يقيمها هذا الأخير تعرف على فيلسوف الجمال الماركسي جورج لوكاتش (1885-1971م)، وتوثقت بينهما عرى صداقة قوية كان لها تأثير عظيم على كل منهما، وكثرت أسفارهما معا وفي صحبة جورج زيميل وبخاصة إلى إيطاليا. وفي عام 1912م أخذ بلوخ يتردد على مدينتي جارميش
Garmisch
وهايدلبرج حيث كان يقيم لوكاتش،
4
وحيث كان الاتفاق بينهما في الأفكار شبه كامل في تلك الفترة من حياتهما، ثم لم يلبث الخلاف الفكري العميق أن دب بينهما بعد ذلك بسنوات قليلة. وقد عكرت صفو هذه الصداقة خصومة شديدة وصلت إلى حد المعارك الجدلية اللاذعة التي سيشار إليها في حينها، ولم تعد العلاقة لصفائها الأول إلا عندما أهدى بلوخ كتاب «المشكلة المادية» إلى صديق شبابه لوكاتش.
وفي هايدلبرج أصبح بلوخ أحد رواد حلقة فيلسوف الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920م) ولكن هذا الأخير ابتعد عنه لزعمه أن بلوخ يعتبر نفسه من رواد مذهب الخلاص ولتشككه في أفكاره الصوفية. وفي عام 1913م اقترن بلوخ بزوجته الأولى إليزافون شترتسكي التي كانت تعمل بفن النحت وتوفيت سنة 1921م، وقد كتب إلى صديقه يواخيم شوماخر في سنة 1943م رسالة يقول فيها إن إليزا قد أحبته وآمنت بفلسفته إيمانا مطلقا لا يقل عن إيمانها بالكتاب المقدس، حتى لقد راحت تفسره من خلال فلسفته، كما تفسر فلسفته من خلاله. ويبدو أنها صدقت كذلك تصديقا مطلقا بأن له رسالة يبلغها للبشرية، وهي رسالة التبشير بالخلاص القادم والوعد باليوتوبيا العينية التي ستحقق الأمل الذي امتلأ به قلبه الشاب في ذلك الوقت.
أعفي بلوخ من الخدمة العسكرية لعدم صلاحيته، فعاش معظم سنوات الحرب العالمية الأولى في جرون فالد
Grunwald
قبل أن ينتقل إلى برن عام 1917م، وأعلن معارضته الشديدة للحرب وللتجنيد الإجباري. وفي عام 1921م ذاع صيت بلوخ كأديب وكاتب منتظم في الصحف الرئيسية في برلين، وتعرف على الشاعر والكاتب المسرحي برشت (1898-1956م) وربطت بينهما صداقة قوية. ويرجع انجذاب كل منهما للآخر إلى نزعتهما الماركسية الإنسانية وغير المتزمتة.
5
وفي ذلك العام نفسه - أي عام 1921م - توفيت زوجته الأولى إليزا كما سبق القول - وقد كان لنزعتها الصوفية أثر كبير على أهم أعماله المبكرة وهو «روح اليوتوبيا» 1918م - بدأت سلسلة من الأسفار تنقل فيها بين سويسرا وإيطاليا وتونس التي زارها عام 1926م، وكانت هذه الزيارة هي أول اتصال مباشر لبلوخ بالعالم الإسلامي، تعرف خلالها على الإسلام الذي تضمن في رأيه «صورا مليئة بالأمنيات واللحظة الموعودة» التي أفرد لها فصلا مستقلا في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل» بجانب الفصول التي كتبها عن التراث اليهودي والمسيحي. ورجع بلوخ إلى برلين وبدأت تربطه صداقة جديدة فى عشرينيات القرن مع مجموعة من الفلاسفة والأدباء والنقاد الألمان، الذين أصبحوا فيما بعد من أعلام مدرسة فرانكفورت، أمثال برشت وأدورنو (1903-1969م) - الذي كتب عن مؤلفات بلوخ بإعجاب شديد تحت عنوان «موسيقى بلوخ الكبرى» - وفالتر بنيامين (1892-1940م) الناقد الأدبي الماركسي الذي شارك بلوخ اهتمامه بالتراث الصوفي وبالقبالة
6
بوجه خاص.
وعندما استولت النازية على السلطة في ألمانيا عام 1933م، استأنف بلوخ أسفاره من جديد، ورحل إلى زيورخ في سويسرا ومنها إلى فيينا حيث تزوج عام 1934م زوجته الثانية كارولا المعمارية البولندية. ورحلا إلى باريس ثم إلى براغ ومكثا بها من 1936 إلى 1938م حيث ولد ابنه جان عام 1937م، حتى انتهى به المطاف هو وزوجته وابنه إلى الهجرة النهائية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938م حيث بقي هناك ما يقرب من عشر سنوات، عاش خلالها في حالة من الانطواء الشديد وخلت حياته من الأصدقاء - باستثناء صديقين هما الموسيقي هانز آيزلر ويواخيم شوماخر - وبدأ في هذه الفترة من حياته في تأليف أهم كتبه على الإطلاق وهو «مبدأ الأمل» الذي أهداه إلى ابنه جان روبرت. وقد حاول أن ينشره في أمريكا تحت عنوان «أحلام حياة أفضل» ولكن خاب أمل فيلسوف الأمل، فلم يحظ الكتاب بأي اهتمام أو تعاطف من الثقافة الأمريكية التي طالما أشار إليها بلوخ باشمئزاز في ذلك الكتاب. لم تكن حياة بلوخ سهلة ولا ميسورة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يستطع أن يتعاطف مع ثقافتها أو يحس بأدنى صلة تربطه بنظامها الرأسمالي؛ إذ رأى فيها استمرارا للفاشية التي تركها وراءه في أوروبا. وزاد من إحساسه بالعزلة في الولايات المتحدة ابتعاده عن بقية الفلاسفة الألمان مثل أعضاء مدرسة فرانكفورت الذين اختاروا الولايات المتحدة منفى لهم أثناء الحكم النازي. لقد التف معظم هؤلاء الفلاسفة حول الروائي الكبير توماس مان وتجاهلوه، كما تجاهله هوركهيمر (1895-1973م) مؤسس مدرسة فرانكفورت،
7
وضن عليه بالعمل في معهد الأبحاث الاجتماعية الذي انتقل في ذلك الحين إلى الولايات المتحدة، على الرغم من النفوذ الكبير لأدورنو - صديق بلوخ القديم - والمكانة التي كان يتمتع بها في المعهد. وربما كان سبب التجاهل هو فتور العلاقة بينهما في الثلاثينيات؛ فعاش بلوخ في الولايات المتحدة - معقل الرأسمالية - يعاني الحرمان والعوز حتى اضطرت زوجته كارولا إلى العمل نادلة في البداية، ثم التحقت بمكتب للعمارة لتوفير الحاجات الأساسية للأسرة وإعانتها على المعيشة.
8
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م وجهت الدولة الاشتراكية الجديدة في ألمانيا الدعوة إلى بلوخ لتولي كرسي الفلسفة في جامعة ليبزج، وقبل الدعوة عام 1948م لكي يحيا في البلد الذي شرع في بناء المجتمع الاشتراكي. وعاد بلوخ إلى ألمانيا وهو في الرابعة والستين من العمر، حالما بمجتمع جديد معاد للفاشية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقد احتل في البداية مكانة مرموقة كفيلسوف رائد، وصدر الجزء الأول والثاني من «مبدأ الأمل» في عامي 1954 و1955م على التوالي، ومنح الجائزة القومية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. غير أن صدمته في تطبيق التجربة الشيوعية في ألمانيا الشرقية (سابقا) واصطدامه باستبدادها وبيروقراطيتها جعلا موقفه الفلسفي والسياسي غير متوافق مع الحزب الحاكم؛ إذ كان لاتجاهه الماركسي اليوتوبي المتفرد أثر كبير في غضب الماركسية الرسمية على الرغم من تعاطف اليسار الجديد في ألمانيا الغربية مع فلسفته. وبدأ صراعه مع بيروقراطية الحزب الشيوعي واعتراضه على إهدار الحقوق الإنسانية والديمقراطية. وأدان الأوضاع السيئة في ألمانيا الشرقية في خطبته في مؤتمر الأكاديمية الألمانية للعلوم عام 1956م، كما وجه نقده الشديد لدعاية الحزب الشيوعي الألماني في ذلك الوقت، وقد كان يتبع سياسة موسكو الحرفية واتهمه - أي الحزب - بنسيان الفرد العيني الحي لحساب المجموع المجرد.
9
ويتضح من هذا النقد أنه أصبح من المستحيل على بلوخ التفاهم مع هذا الحزب أو الانضواء في صفوفه، حتى لقد اتهمه فالتر أولبرشت - رئيس الحزب آنذاك - بأنه لا يلتزم بالمبادئ الماركسية في تدريسه، وأن فلسفته اليوتوبية تتجاهل حقيقة الصراع الطبقي وتنساق وراء مثالية «الهدف البعيد» وهو ما ترفضه الماركسية الرسمية التي تعتبر نفسها قد حققت العالم الأفضل، ولذلك ترفض اليوتوبيا والتفكير اليوتوبي من أساسهما. ومنذ ذلك الحين بدأ الهجوم على بلوخ من قبل الفلاسفة الرسميين وممثلي الأيديولوجيا السائدة، وأوقف عن التدريس وأحيل بالقوة إلى المعاش عام 1957م. واعتبر منذ ذلك الحين - مثل سقراط قديما - مفسدا للشباب. ولولا تدخل أحد معارفه في المكتب السياسي لدخل السجن.
10
ثم حيل بينه وبين المشاركة في الحياة الأكاديمية في ألمانيا الشرقية، ففرض عليه الصمت، وخضعت مؤلفاته لرقابة السلطة السياسية، واعتقل عدد من تلاميذه، وعاش في عزلته لا يختلط إلا بالأصدقاء المقربين، وإن كان قد استمر - على الرغم من ذلك - في الكتابة، فظهر الجزء الثالث من «مبدأ الأمل» عام 1959م.
وبينما كان بلوخ يزور ألمانيا الاتحادية في عام 1961م لإلقاء بعض المحاضرات في جامعاتها فوجئ ببدء بناء سور برلين الشهير الذي ظل يفصل بين شطري ألمانيا حتى عام 1989م، فقرر البقاء في الغرب، واستجاب لدعوة من جامعة توبنجن للتدريس بها، واختار العيش في هذه المدينة لارتباطها بأسماء شيلنج وهيجل وهلدرلن، ولكنه عاش في هذه المدينة الألمانية الغربية الرأسمالية متمسكا بنزعته الاشتراكية، حانقا على الرأسمالية حتى النهاية. غير أن جو العداء الذي أحاط به، والافتراءات التي بدأت تتوالى عليه، وعدم ارتياحه للحياة في ظل الرأسمالية - على الرغم من تمتعه بالحرية الشخصية التي حرم منها في البلد الذي كان يزعم أنه يبني الاشتراكية - كل هذا لم يمنعه من مواصلة الكفاح في ألمانيا الاتحادية ضد قوانين الطوارئ، وحرمان التقدميين من التعيين في وظائف الدولة، كما لم يمنعه من القيام بواجباته العلمية والأدبية، فكرس وقته لتلاميذه، وناصر الحركة الطلابية. وبقي موقفه من النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي موقفا متحفظا؛ إذ عارض النزعة الستالينية، وحذر على الدوام من أن روسيا لم تصل بعد إلى النضج السياسي وأنها ما زالت في مرحلة انتقالية، كما أكد أنها بعيدة عن «المملكة النهائية» التي يقصد بها «مملكة الحرية» المتعلقة بفكرته اليوتوبية الأساسية. لم يزر بلوخ الاتحاد السوفيتي رغم الدعوات التي وجهت إليه، واكتفى بالثناء على ما اعتبره الجانب الإيجابي في الثورة الروسية، وهي التطورات التي واكبت الثورة في فنون الباليه والرقص والفنون الشعبية وصناعة السينما. والمهم أن بلوخ لم يعتبر النظام الشيوعي الروسي نموذجا رائدا، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما دعا - في أواخر حياته - النظم الشيوعية الأخرى إلى الابتعاد عن هذا النموذج ومقاومة السيطرة السوفيتية عليها، وذلك على أثر الأحداث التي وقعت في تشيكوسلوفاكيا ومناصرته للنظام الاشتراكي في براغ. ولكنه لم يتردد كذلك عن معارضة النظام الاستعماري الأمريكي وإدانة التدخل الأمريكي في فيتنام بكل قوة.
11
وساند - وهو في الثانية والتسعين من عمره - الدعوة إلى عقد جلسات محكمة «راسل».
12
للمرة الثالثة، كما انضم هو وزوجته لمنظمة تهدف لمساعدة ضحايا القهر والاضطهاد على مساعدة أنفسهم، وكتب نداء قبل وفاته بأسبوعين يحذر فيه من أخطار القنبلة النيوترونية.
حظي بلوخ في مدينة توبنجن بأسمى درجات التكريم. وعلى الرغم من أن صوته لم يكن مسموعا خارج ألمانيا - إذ لم يترجم إلى العالم الناطق بالإنجليزية إلا متأخرا، ولم تظهر الطبعة الإنجليزية ل «مبدأ الأمل» الذي يعد خلاصة نسقه الفلسفي إلا عام 1986م - إلا أنه كان يشغل في بلده مكانة رفيعة، حتى أصبحت صورة «الفيلسوف ذي الغليون» علامة من علامات مدينة توبنجن التي توفي فيها في يوم 4 أغسطس من صيف عام 1977م بعد إصابته بالعمى في سنوات عمره الأخيرة، وبعد الانتهاء من إعداد الطبعة الكاملة لأعماله. (2) مؤلفاته
كان «روح اليوتوبيا» هو أول مؤلفات بلوخ الفلسفية، وقد صدر عالم 1918م، بعد العديد من المقالات الأدبية. وفي هذا الكتاب تظهر بوضوح الروح المشيحانية
Messianism
أو روح التبشير بالخلاص الأخير التي تطبع تفكيره وتحدد شخصيته ورسالته في الحياة . وتغلب على الكتاب النغمة الحماسية المتدفقة لشاب تفيض مشاعره على قلمه أكثر مما يعنى بترتيب أفكاره وتنسيقها، كما يعبر الكتاب عن جيل كامل من الحالمين بالتغيير: «أن نعثر على ما هو حق وصواب يستحق أن نحيا من أجله، أن ننظم أنفسنا، أن نوفر الوقت الضروري لذلك، من أجل هذا الهدف نسير في طريقنا، ونشق الطرق الخيالية البناءة، وننادي ما ليس موجودا، ونبني بيوتنا كما نبني أنفسنا في الأفق الأزرق، ونفتش هناك عما هو حق وحقيقي، حيث يختفي كل ما هو واقعي فحسب، لقد بدأت الحياة الجديدة.»
13
بهذه العبارات يبدأ بلوخ كتابه وكأنه يعلن بشارة الرائد الذي يقدم على السفر إلى عالم جديد. وأهم ما يميز هذا الكتاب أنه يضع كل الأفكار التي يتضمنها في سياق تاريخي وفلسفي، وتظهر فيه التأملات الميتافيزيقية في صور واستعارات أدبية حية، كما تتبدى حقيقة المتعالي في لقاء مباشر، وتصبح اللغة معبرة، كما تصبح كلماتها أفعالا تشير إلى المستقبل. إن الذاتية هنا غالبة متدفقة، كما أن اللانهاية هي التي تتجه إليها هذه الذاتية محققة العلو أو التجاوز نحو ذلك الذي لم يتحقق بعد، والذي يحرك التاريخ والعالم والإنسان في عملية صيرورة متصلة نحو غاية التاريخ العالمي. وهذه الغاية التي لم تتحقق بعد هي المتعالي الحاضر في كل لحظة، وهو العنصر الجوهري في مسار العالم والمحرك له.
ظهرت في هذا الكتاب المبكر فكرة بلوخ عن حركة التاريخ نحو مملكة الحرية التي تتحقق فيها هوية الإنسان مع ذاته ومع العالم الذي يعيش فيه، بحيث تصبح ذاته هي كل إمكاناته، كما يصبح العالم وطنه. وهذه الفكرة نفسها هي التي جعلت فلسفته التاريخية في تلك الفترة ذات طابع ديني؛ إذ أنه وضع الكل والغاية الممكنة على شكل متعال يتحرك التاريخ البشري نحوه متخطيا الهنا والآن - بلغة هيجل في ظاهريات الروح التي يكثر بلوخ من استخدامها - فكأن فكرة الخلاص كانت تمتد عنده منذ البداية إلى العالم المادي والمادة غير العضوية، كما تمتد إلى تحرير الإنسان من كل أنواع القهر والحتمية المادية الطبيعية وغير الطبيعية، بحيث يتحقق الخلاص في «الجماعة الشيوعية الحرة» التي ظلت هي هدفه من البداية إلى النهاية، أي منذ أن كان ثوريا عاطفيا في شبابه إلى أن أصبح اشتراكيا علميا إلى حد كبير في رجولته، وإن كان يتهم بأنه ظل اشتراكيا إنسانيا حالما ولم يصل أبدا إلى الاشتراكية بالمعنى العلمي.
وتسري في هذا الكتاب الذي وضعه بلوخ أثناء الحرب العالمية الأولى روح دينية وصوفية تمتزج فيها نزعته الاشتراكية مع التبشير بالخلاص في لحن جياش عالي الصوت، وتهيب بالإنسان أن يجد نفسه، كما تدعو الأنا إلى الاتحاد الصوفي بالوجود الكلي. وقد استخلص بلوخ من النزعة الاشتراكية والتصور الديني ومن التراث الصوفي تصوفا جديدا يمكن وصفه بأنه تصوف دنيوي أو علماني، يدعو إلى الخلاص الأخير، ويبحث عن نهاية التاريخ، ويصرخ بأن العالم لم يكتمل بعد. وتعود أهمية هذا الكتاب إلى أنه حارب اتجاهين في الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر، أحدهما هو جمود الفلسفة الأكاديمية واقتصارها على تدريس كانط، والآخر هو الاشتراكية الديمقراطية للطبقة الوسطى أو البرجوازية الألمانية الصغيرة التي اعتبرت أن الإنسان مجرد ملحق أو هامش للأساس الاقتصادي الذي يتحرك بقوته الذاتية. وقد امتدت جذور الاتجاهين في شباب بلوخ المبكر،
14
كما عكس الكتاب اهتمامه المبكر بالتفكير المستقبلي، وانطوى على بذور ميتافيزيقا جديدة. والواقع أن الكتاب متأثر بروح الحركة التعبيرية في أسلوبه ومضمونه وعاطفته ورؤيته العامة، غير أن هذه النغمة التعبيرية العالية تراجعت بالتدريج لتحل محلها لغة فلسفية أكثر دقة وتجريدا في كتاباته التالية، وإن لم يستطع بلوخ أن يتخلص نهائيا من تأثير الحركة التعبيرية التي ظل متمسكا بها، بل ومدافعا عنها حتى النهاية. وإذا كانت الذات الفردية هي التي طغت على «روح اليوتوبيا» فإن الذات الجماعية هي التي ستحل محلها وتؤكد نفسها بعد هذا الكتاب.
وفي عام 1921م صدر كتاب «توماس مونتسر، لاهوتي الثورة» وهو عن زعيم الحركة الشعبية المتمردة في ألمانيا، الذي أعدم عام 1525م بوصفه قائد الفلاحين الثائرين ضد الأمراء في منطقة التورنج. وتغلب على الكتاب فكرة الخلاص التي سيطرت على بلوخ طوال حياته، لقد صور شخصية مونتسر في هذا الكتاب وكأنه نبي من أنبياء العهد القديم. والحقيقة أن تصويره لمونتسر يمكن النظر إليه على أنه تصوير لشخصه هو نفسه، فقد استعمل بحرية لغة الكتاب المقدس، ونطق على لسانه بأسرار التراث الصوفي، وجعله ينادي بالخلاص وإن لم يكن هو الخلاص بالمعنى الديني المتعالي ولا المفارق لهذا العالم، وإنما هو «نبي الخلاص الأرضي» وهدفه هو الحرية وتحرير الإنسان.
ويعد هذا الكتاب قراءة ماركسية جديدة للتاريخ؛ إذ قدم فيه بلوخ تفسيرا جديدا لمونتسر وثورة الفلاحين الألمان في عهد الإصلاح الديني. ولا ترجع أهمية هذا التفسير فقط إلى وقوفه في وجه النقد اللوثري والكاثوليكي لمونتسر، بل إلى أنه يعد دفاعا - له دلالة خاصة من ماركسي جديد - عن الأبعاد الدينية للتغير الاجتماعي، وعن الدور الأساسي الذي يؤديه الخيال الديني في الرؤية الثورية لمونتسر. لم يبد بلوخ اهتماما بسرد الحقائق التاريخية ولم يقدم تفاصيل لأحداث تاريخية، بل استخدام دراسته لمونتسر كنموذج مثالي لثورية الوعي الطبقي وامتزاج العامل الاقتصادي بالخيال الديني والواقع السياسي والأحلام وكيف يتفاعل كل منها مع الآخر. وقد أثارت معالجة بلوخ لأهمية بصيرة مونتسر الدينية في الإصلاح؛ أثارت مشكلة استخدام التاريخ واللاهوت لأهداف سياسية، كما جذبت الانتباه إلى أهمية دور الدين في حركات التغير الاجتماعي.
15
يضاف إلى ما سبق أن هذه المعالجة تكشف عن محاولة بلوخ إيجاد جذور تاريخية لأفكاره الاشتراكية واليوتوبية، كما ترسم صورة لرؤيته للتاريخ باعتباره محددا من جهة المستقبل كما هو محدد من جهة الماضي. وليس توماس مونتسر مجرد شكل بطولي أو نموذج من الماضي، ولكنه يمثل نضال البشرية من أجل التحرير وخلق سماء جديدة وأرض جديدة وفي سبيل مستقبل مفتوح لم ينته أبدا. وقد استهل بلوخ كتابه بهذه العبارة ذات المغزى، «لا نريد أن ننظر إلى الوراء. ولكننا لا نملك إلا أن ننخرط فيه ... الموتى ينهضون مرة أخرى، وتعود أعمالهم لتحيا وسطنا.» ثم يضيف بلوخ: «إن مونتسر قبل كل شيء هو التاريخ بمعناه المثمر، فهو وعصره وكل ما يستحق الكتابة عنه إنما وجد لكي يتحدانا ويشعرنا بالحماس.»
16
هذا بإيجاز هو الإطار العام لمنهج بلوخ التاريخي، وهو يعبر عن رفضه التفرقة بين «مملكة الروح» و«مملكة السياسة» وهو ما كان سائدا بين اللاهوتيين والمؤرخين. فقد صاغ مونتسر وعيه الثوري من الكتاب المقدس، واستخدم في رسالته الشهيرة للأمراء صور الرؤية في العهد القديم من أجل إثارة قضيته: «كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقها، أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها.» «ويقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدا.»
17
فكما ينهار البناء بتدحرج الحجارة في سفر دانيال وتنشأ مملكة جديدة، أعلن مونتسر انهيار مملكة الأمراء ومجيء نظام جديد جوهره هو الطبقات الدنيا وليس لوثر أو الأمراء. وعلى الرغم من نمو الوعي السياسي لمونتسر الذي جعل الفقراء والمطحونين يلتفون حوله، فقد كان اللاهوت هو الخلفية الأساسية لهذا الوعي. لقد نمت رؤيته الدينية وسياسته الثورية وعزز كل منهما الآخر فازداد الغضب وتفجرت الثورة في كل من القائد والجماهير، وذهبوا جميعا يدا في يد مسلحين برؤية دينية وكونية وتحولت المعركة إلى ما يطلق عليه حرب الفلاحين، وهي الحرب التي بدأت بدفاع درامي عن قضية الفلاح وانتهت بسحق الأمراء للفلاحين وإعدام مونتسر.
18
وفي عام 1930م نشر بلوخ كتابه «آثار» وهو من قبيل السيرة الذاتية، ويعد عملا أدبيا هاما يتألف من مقطوعات من الشعر المنثور اقتبس بلوخ عبارات عديدة منها، استهل بها افتتاحيات أقسام كتابه «مبدأ الأمل». وفي عام 1935م ظهر في سويسرا كتابه «ميراث هذا الزمان» وهو تحليلات نقدية للوعي الزائف الذي اتسمت به البرجوازية الألمانية في فترة العشرينيات، وتتبع لنشأة النظام الفاشي الذي كمنت بذوره في الواقع المعيش بجانب نقد مبكر لدعايات الحزب الشيوعي الألماني وللدعاية الفاشية، واستطاع فيه بلوخ - بحسه التاريخي المرهف ووعيه الحاد بالحاضر - أن يلمس إرهاصات العهد الآتي ويستشف سماته المستقبلية، أي أنه استطاع - بنظرة نقدية وعينية للحاضر - أن يكتشف الإمكانيات التي يحملها المستقبل في جوفه، وكيف مهدت حقبة العشرينيات لظهور الفاشية التي استولت على السلطة في أوائل الثلاثينيات، وكان من الطبيعي أن يصادر هذا الكتاب من قبل السلطة الحاكمة.
وفي عام 1946م صدر كتاب «الحرية والنظام» وهو استعراض لليوتوبيات الاجتماعية منذ بداية التفكير البشري سواء أكانت في الماضي الذهبي أم في المستقبل المرجو، وقد تناول بلوخ هذه اليوتوبيات تناولا خاصا؛ إذ تتبع فيها بذور الأمل في الفكر البشري، وضم هذا الكتاب فيما بعد إلى القسم الرابع من «مبدأ الأمل». وفي عام 1951م صدر كتابه «الذات-الموضوع شروح على هيجل» وقد ركز بلوخ في هذا الكتاب على بيان الأسس النظرية لفلسفته في التاريخ وتأكيد مدى الاختلاف بين نسقه المفتوح المندفع نحو المستقبل، وبين نسق هيجل المتكامل تكامل الدائرة المغلقة على نفسها، كما بين الطرق التي يستطيع جدل هيجل من خلالها أن ينطلق ويتسع ويخرج من نطاق الدائرة. وفي عام 1952م صدر كتابه «ابن سينا واليسار الأرسطي» بمناسبة الذكرى الألفية لابن سينا. وقد قدم فيه تصورا جديدا للمادة بعد أن تتبعها منذ أرسطو وابن سينا، وابن رشد، وابن جبيرول حتى ممثلي «اليسار الأرسطي» في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر، إلى أن اكتملت في المادية الجدلية التاريخية عند ماركس وإنجلز.
وفي عامي 1954 و1955م على التوالي صدر الجزء الأول والثاني من كتابه الأساسي «مبدأ الأمل»، ثم صدر في عام 1959م الجزء الثالث من هذه الموسوعة الثقافية الكبرى التي لا يعادلها في الفكر الألماني سوى «ظاهريات الروح» لهيجل، ولا يناظرها في الأدب الألماني سوى «فاوست» جوته. وهذا العمل الضخم المكون من ثلاثة أجزاء - والذي استغرقت كتابته أحد عشر عاما - يحتوي على النسق الفلسفي الكامل لفكر بلوخ اليوتوبي ويقدم موسوعة للأمل البشري، حتى ليمكن القول بأن كل ما صدر قبل هذا الكتاب كان بمثابة إعداد وتمهيد له، وكل ما صدر بعده تنويعات أو شروح على كل تلك الأفكار الأساسية التي تضمنها، وهو صرح فلسفي كبير سيطر فيه بلوخ على مادة موسوعية هائلة ونظمها وأدارها حول فكرته الرئيسية، ألا وهي فكرة الأمل. والواقع أن البناء «السيمفوني» للكتاب يكشف عن فرط عشقه للموسيقى وولعه بها، فجاء «مبدأ الأمل» أشبه بسيمفونية كبيرة تتصاعد نغماتها تدريجيا في لحن متدفق جياش. كما يتضمن اكتشافات مشرفة لخيال البشر وآمالهم وفنونهم وثقافتهم التي يؤمن بلوخ بأنها مفاتيح لإمكانات بشرية من أجل بناء عالم أفضل، وأن هذا الميراث الثقافي يتوجه نحو مجتمع اشتراكي باعتبار أن هذا الأخير يحقق أحلام البشر وآمالهم.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ بلوخ نسقه الفلسفي بعد بلوغه سن الخمسين، فعلى الرغم من أن القارئ ل «مبدأ الأمل» يكاد يضيع في زحمة التفصيلات اللامتناهية التي استقاها المؤلف من التاريخ العقلي للبشرية، وعلى الرغم أيضا من صعوبة أسلوبه التي اعترف بها المؤلف نفسه في مقدمته للكتاب: «إن قراءته ليست سهلة، بل تزداد صعوبة كلما توغلت فيه.»
19
إلا أن القارئ يستطيع أن ينظر إلى هذا التاريخ كله من منظور الخلاص الممكن «ومبدأ الأمل» الذي تصور بلوخ أنه المحرك للوجود والإنسان، وأن الاغتراب الذي تستشعره الأنا ليس وضعا نهائيا في واقع يبدو مغلقا، وإنما يفتح الأمل الكامن في «الهنا والآن» على مستقبل الإنسان والعالم. ولذلك ليس غريبا أن يستهل بلوخ كتابه بهذه التساؤلات: من نحن؟ من أين أتينا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ماذا ننتظر؟ وماذا ينتظرنا؟
20
وللإجابة عن هذه التساؤلات قدم بلوخ مشروعا حضاريا نقديا مفعما بالأمل، مهاجما كل الأنظمة الفكرية الساكنة، ومنطلقا من نقد الواقع العيني المعيش، مقتفيا آثار الممكن الكامن فيه لتحقيق إنسانية حرة في ظل «مملكة الحرية».
ويعد «مبدأ الأمل» - في حد ذاته - من الأعمال الأدبية لفرط ازدحامه بالصور المجازية والرمزية والشعرية والتعبيرات ذات الدلالة اللونية، كاستخدام بلوخ المفرط لكلمات مثل الصباح، والأزرق البعيد، وساعة الزرقة ... إلى آخر الكلمات التي تعكس الضوء والإشراق بحيث يمكن تسميته «فيلسوف النور». وقد امتزج هذا الأسلوب الأدبي بلغة صوفية غامضة وتعبيرات لاتينية ويونانية قديمة، وأقوال شعبية ومأثورات جعلت صاحبه يستحق التسمية التي أطلقت عليه بأنه ساحر المفاهيم والتصورات والكلمات. وامتزج كل هذا بلغة ماركسية مادية جدلية لتصور حالات الوعي الفردي والجماعي وحالات الأمل والتحقق. وفي «مبدأ الأمل» اختار بلوخ أن يبحث في التراث السري والصوفي مما يعكس تفضيله للمفكرين والفلاسفة الذين ينظرون للعالم نظرة صوفية غامضة أو من وراء حجاب، كما اختار أن يبحث في القبالة أكثر من التوراة، وفي السيمياء السحرية أكثر من الكيمياء بالمعنى العلمي الحديث، وأن يهتم بنظم الفكر المتقدمة والمنفتحة على المستقبل أكثر من النظم المطلقة. وربما لكل هذه الأسباب استقبل الكاتب بالشك في الدوائر الماركسية الرسمية. كما أن كل هذه الأسباب أيضا جعلت نغمات بلوخ في «مبدأ الأمل» في تصاعد مستمر، بحيث يختتم كل قسم بشكل فيه علو ونزعة تفاؤلية، ولذلك يعد الكتاب من أكثر المشروعات الفلسفية طموحا، وفي الوقت نفسه من أكثر الكتب الفلسفية افتقارا إلى الاتساق أو النسق الواضح؛ فقد عرض في ثلاثة أجزاء كبيرة لكل ما يتعلق بالحياة الإنسانية لينتهي إلى أن للأمل جذورا في الوعي البشري وفي صيرورة العالم.
وفي عام 1961م صدر كتابه الهام «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» ويعد ثمرة جهود بلوخ لفهم إخفاقات التراث الماركسي، وقد وضعه بعد تجربته المريرة مع النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية التي خرج منها مصطحبا معه الكتاب وهو لا يزال مخطوطا ونشر في ألمانيا الغربية وكان مؤلفه قد بلغ السادسة والسبعين من العمر. ويعد الكتاب قراءة جديدة لتراث القانون أو الحق الطبيعي، ويعرض فيه لإمكان إعادة صياغة هذا التراث الذي حاول قراءته قراءة جدلية ليكشف عما هو اشتراكي فيه. ذلك أن هذا الفيلسوف ذا الحس التاريخي الأصيل قد قاوم فكرة اعتبار الماضي شيئا منتهيا، فأخذ في استعادته أو استرجاعه كأنه كيان حي، وراح ينقب فيه عن وعود الماضي غير المعلنة، وكأن وعود الماضي لها عيون تنظر للأمام. لقد فتش عن الأمل الكامن في لحظات الماضي، هذا الأمل الذي لم تتح له الظروف الموضوعية ليشهد النور، وكان دافعه للبحث في التراث هو أن يظهر للنور ما قد خفي وكمن داخله حتى يومنا الحاضر. كما يمثل القانون الطبيعي مجالا آخر للمضامين التي لم يتوصل إليها، فهو يرسم إطار العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تتحقق فيها الحرية البشرية.
وقد كانت مهمة بلوخ في هذا الكتاب هي بيان أهمية الحقوق الإنسانية بالنسبة للمجتمعات الاشتراكية. وليس الكتاب مجرد تأريخ لنظريات القانون الطبيعي، ولكنه إعادة تفكير في المبادئ الأساسية للفلسفة السياسية، وإظهار ما خفي من هذا التراث والبحث فيه عن الوعود المستقبلية غير المعلنة، وإبراز السمة اليوتوبية لنظريات القانون الطبيعي التي كانت هي السلف الحقيقي لليوتوبيات الاجتماعية ذات النزعة الاشتراكية العلمية.
21
فالأحلام المتعلقة بحياة اجتماعية أفضل في كل منها تتداخل في بعضها البعض. والواقع أن قضية الحقوق الإنسانية - التي غابت عن جدول أعمال النظم الاشتراكية - كانت هي الدافع الأساسي وراء بحث بلوخ عن مقاصد
22
الأسلاف، ولذلك استهل كتابه بسؤالين هامين: «ما هو العدل؟ وما هو الحق؟»
23
سؤالان طرحهما شخص عرف وشهد على الأشكال الجديدة للظلم القديم، وكانت الإجابة عليهما. من خلال إعادة صياغة نظريات القانون الطبيعي في التراث الغربي بأكمله لينتهي إلى أسباب إخفاق النظم الاشتراكية التي تغافلت عن ضرورة ارتباط الثورة بالحق، وأهم هذه الأسباب في تقديره هو إهمال الجانب الإنساني، وغض الطرف عن الحقوق الإنسانية للفرد، وبالتالي ضياع الكرامة الإنسانية.
ويؤكد بلوخ في هذا الكتاب أن السعادة البشرية والكرامة الإنسانية اللتين تتعلقان باليوتوبيات الاجتماعية من جانب، وبنظريات القانون الطبيعي من جانب آخر، قد سارا لفترة طويلة من الزمن في طريقين مفترقين، وأنه آن الأوان ليرتبط كل منهما بالآخر، فكلاهما يتوقع شيئا ما أفضل من ذلك الذي تم، وكلاهما ينطلق من الأمل. ومهمة النزعة الاشتراكية أن ترث بعضا من تراث القانون الطبيعي بعد تطهيره من السمات البرجوازية، كما أن في الماركسية قانونا طبيعيا غامضا تتضمنه عبارة ماركس «علينا أن نتجاوز الظروف التي تجعل الإنسان محتقرا ومستعبدا.» إن التزاوج بين الحق الطبيعي والماركسية ضروري من أجل مجتمع غير مغترب ومتكافل اجتماعيا، ولكي يتحقق هذا لا بد أن تقدم العوامل الإنسانية على العوامل الاقتصادية لإيجاد مجتمع يستطيع الإنسان أن يسير فيه وهو «منتصب القامة».
توالت أعمال بلوخ بعد «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» فكان «مدخل توبنجن إلى الفلسفة» عام 1964م و«الإلحاد في المسيحية» عام 1968م وفيه تمتد نظرة بلوخ النقدية من الواقع الاجتماعي والسياسي إلى المعتقدات الدينية الراسخة في الأذهان كمسلمات بديهية، وهو يتناول بالنقد ما هو مألوف ومعتاد لينتهي إلى تفكيك الفكر الديني وبنيته النظرية، مع تبني المقولة الأساسية للفكر الماركسي في نقد الدين وتطويرها. وفي عام 1972م صدر كتاب «محاضرات في عصر النهضة».
24
وجاء هذا الكتاب بمثابة إعلان للماركسية الرسمية بأن الإنسان هو الهدف والغاية المنشودة، وأن التضحية بالإنسان من أجل «أيديولوجيا» أو فكرة معينة أمر لا يغتفر؛ لذلك ربط بلوخ - بوعيه التاريخي الناضج - الفكر بأسسه الإنسانية وانتزعه من الحاضر وضآلته، إيمانا منه بأن الواقع الحاضر ليس سوى لحظة يحدد مسارها من خلال تيار الزمن الماضي بتراثه الثقافي من ناحية، والمستقبل بإمكاناته المفتوحة من ناحية أخرى. لذلك قام برحلة في التراث الثقافي الأوروبي في الماضي القريب - أي في القرن الخامس عشر والسادس عشر - لاستجلاء الحاضر واكتشاف إمكاناته. ويوضح فهمه للنهضة الأوروبية أن التطور الكمي والنوعي لهذا التراث الثقافي قد امتزج بالذات المكونة والفعالة في هذه النهضة، أي بالإنسان الذي كان هدف بلوخ على الدوام. فالنهضة ليست ولادة جديدة لما هو قديم، وإنما هي ولادة لإنسان جديد ومجتمع يحمل قيما جديدة كل الجدة. وهو في دراسته للنهضة الأوروبية يرى أن المجتمع الذي تمخض عنها كان جديدا بالمقارنة مع المجتمع البرجوازي الذي سبقه، وأن الإنسان الفرد وإبداعاته الخلاقة هما الأساس في انبثاق النهضة في مجالات عدة تشكل في مجموعها الكل الحضاري. ففي الفلسفة كان هناك جوردانو برونو وكامبانيلا وبوهمه وبيكون. وفي العلوم والمعرفة العلمية نجد جاليلو ونيوتن. وفي فلسفة التاريخ والدولة والقانون يبرز بودان وجروسيوس وهوبز وفيكو. والخلاصة أن الحضارات والنهضات الموجهة من أجل الإنسان لا يخلقها سوى الإنسان ذاته.
25
وفي النهاية كان كتاب «تجربة العالم» هو آخر أعمال بلوخ وأصدره عام 1975م قبل وفاته بسنتين. هذا بالإضافة إلى العديد من المحاضرات العامة والمقالات السياسية والأدبية التي ظهرت على صفحات الجرائد والمجلات الدورية، وهي حصيلة معاركه الفكرية مع العديد من فلاسفة عصره ونقاده وأدبائه. وما سبق ذكره ليس جل مؤلفات بلوخ بل أهمها، وقد صدرت الطبعة الكاملة لمؤلفاته في ستة عشر مجلدا، وأشرف بنفسه على مراجعتها قبل إصابته بالعمى في سنواته الأخيرة، وقبل رحيله في 4 أغسطس عام 1977م بمدينة توبنجن، ثم أضيف المجلد السابع عشر بعد وفاته.
ثانيا: المؤثرات الفكرية على فلسفة بلوخ
توقدت شعلة المخيلة الحية التي تميز بها بلوخ مع احتكاكها بالواقع البائس الحزين الذي عاشته المدينة الصناعية الكئيبة «لودفيجز هافن» التي فتح عينيه عليها، فانطلقت شرارة الحلم والثورة، وتوهجت بروق الوعد والأمل. وكيف لا يثير هذا الواقع الظالم خيال الحالم، بل أكبر الحالمين وأهمهم في القرن العشرين؟ وكيف لا يفكر في ضرورة «رفع» هذا الظلم أو تجاوزه نحو «مستقبل واقعي» أو عيني «تحتمه الرغبة» أو الشوق والأمل المتجذر في الإنسان وفي المادة؟ ثم ماذا يفعل ليجعل من حلمه فلسفة وعلما وثورة في آن واحد؟ هذا الذي نذرته الأقدار ليقتفي آثار الحلم الأكبر الذي يتخلق منذ القدم في وعي البشرية وتراثها، وفي باطن الوجود المادي وأعماقه؟
لقد كان من الضروري أن يختمر الحلم بشواهده وتجلياته اللانهائية في الوعي البشري منذ أن وجد البشر، وأن يتحد بقلب المادة وبذورها وإمكاناتها التي ما زالت تتفتح منذ أن كان العالم ووجد الوجود. أجل كان لا بد من ذلك حتى لا يبقى حلمه حلما ذاتيا أشبه بنسيج عنكبوت لا يلبث أن يتحلل أو يتبدد مع أول صدمة أو هبة ريح. إن الفتى الحالم الذي يصوب بصره لأفق الحلم الممكن البعيد قد أدرك في هذه الفترة المبكرة من حياته أن الواقع لا يفتقر إلى الحلم وإنما يطويه في أحشائه، وأن ألوانه القديمة والحديثة تتخايل أمام عينيه في قصور القياصرة والنبلاء والأشراف في مدينة «شباير» ومدينة «مانهايم» القريبة، وفي مزارع الكروم الواسعة في المنطقة، وكأن كل شيء يدعوه ألا يستسلم للواقع البرجوازي والرأسمالي السائد حوله.
وتتجمع ذرات الحلم الكبير في رحاب نفسه، وتختمر وتنمو وتتشكل فتتكون نواة تفكيره الأساسية وتستمد غذاءها المتجدد مع مرور الزمن من تجاربه وقراءاته حتى تصبح نسقا فلسفيا متكاملا يكاد يحجب معالمه عن النظرة السطحية ثراء المعرفة الموسوعية بالتراث الإنساني بكل ألوانه وظلاله ولوحاته الثرية التي راح يتتبع فيها مسرى الحلم بواقع غد أجمل وأعدل وأكمل من واقع اليوم (الحاضر) السائد، هذا الواقع الذي ظل يكافح - على مستوى الشعور - حتى يصبح وعيا، وأخذ يندفع وينمو ويتفتح - على مستوى الوجود المادي - لكي يتحول من واقع كامن «لم يتحقق بعد» إلى واقع فعال متحقق. ويمتلئ وجدانه - منذ الثانية والعشرين من عمره - بعزم الرائد الذي يقف على مفترق الطرق، يحفزه الأمل المتوثب لاكتشاف «الأرض التي لم تطأها قدم إنسان»، بل الأرض التي لم توجد أبدا من قبل، وهي الآن بحاجة للإنسان الذي يتحد في كيانه المكتشف، والبوصلة والعمق في وقت واحد.
26
ويساعد الجو الليبرالي
27
المستنير من حوله على مواصلة الحلم والتفكير والعمل والشعور بإحساس المواطن الحر المنتمي لتراثه القومي من ناحية، والمتمسك من ناحية أخرى بتراثه اليهودي الغني بحكمته وأساطيره وحكاياته وكتاباته الصوفية السرية ونزعات الخلاص وأشواق مملكة الميعاد الكامنة فيه. وتتبلور كنوز التراثين في أسلوب مزدحم بالصور والاستعارات والتشبيهات والأمثال والحكم الموجزة التي تكاد تغرق خيوط الفلسفة المتسقة والتفكير المنهجي الدقيق. وينطلق الملاح العنيد الحالم في هذا البحر بحثا عن تلك الأرض التي لم توجد من قبل ولم تطأها قدم إنسان، تهديه منارة «ذاتيته» المتوهجة بأشعة الأمل الذي لم تلح سفينته في الأفق فتكشف له أبعاد الواقع الموضوعي المنتظر في غد لن يتأخر إذا استطاع البشر بعلمهم وعملهم وجهدهم أن يصلوا «الكائن» بما «سوف يكون». (1) مؤثرات فلسفية
يواصل الحالم الشاب رحلة كفاحه مع التراث البشري فتصبح نواة فكرته عن الأمل موسوعة ضخمة. وعلى الرغم من أن جذور فلسفته ضاربة في التراث الألماني بوجه خاص، إلا أن تكوينه العقلي قد تشكل من تيارات عديدة تكاد أن تشمل الحضارة البشرية بأكملها: من الفلسفة الكلاسيكية القديمة والتراث الصوفي إلى الفلسفات الشرقية والغربية. وهكذا ارتبط الوجود الحاضر بالماضي الذي انقضى والمستقبل الذي لم يأت بعد. وتحققت دلالة العبارة الشهيرة التي قالها ليبنتز (فيلسوف الممكن الذي يتحقق في الواقع بحكم الضرورة المنطقية والعناية الإلهية): «إن الحالة الحاضرة لأي جوهر بسيط هي بطبيعتها نتيجة مترتبة على حالته السابقة، بحيث إن الحاضر يحمل المستقبل في أحشائه.»
28
بيد أن ليبنتز، الذي قامت فلسفته على استيعاب المستقبل في الحاضر، لم يستطيع أن يستخلص منها «أنطولوجيا» كاملة أو نظرية واضحة عن الوجود كما فعل بلوخ في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل». ولم يكن من المستطاع تصور ذلك قبل منطق هيجل الذي ربط في المقولة الأولى منه بين الوجود والعدم والصيرورة ربطا محكما، ولا كان من الممكن أيضا أن يتحول التفكير في الغد وما بعد الغد حتى نهاية الزمن إلى تجربة حقيقية بغير الدفعة الثورية التي أطلقتها عاصفة التغيير الاجتماعي على يد ماركس.
لا جدال في أن أي فيلسوف يستحق هذا الاسم يتأثر بفلاسفة قبله ويؤثر على آخرين بعده. ولا يمكن مثلا أن نتصور ماركس وفلسفته المادية التاريخية وتحليلاته لرأس المال بغير نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكية ومنطق هيجل الجدلي، ولا بغير الفلسفات المادية السابقة ابتداء من ديمقريطس الذي أعد عنه رسالته في الدكتوراه. والأمر كذلك بالنسبة لبلوخ، فلا شك أن تنوع ثقافته وثراءها قد امتد من التراث الفلسفي قديمه وحديثه. فقد التقى في مكتبة مدينة مانهايم المقابلة لمسقط رأسه لود فيجز هافن - والتي كان يتردد عليها دائما - بأهم الكنوز الفلسفية التي أثرت على حياته فيما بعد. هناك استطاع أن يقرأ لعدد من الفلاسفة من ليبنتز إلى هيجل وتلاميذه، كما استطاع أن يقرأ لفشته وشيلنج في سن مبكرة. ربما يكون قد أساء فهم الكثير من نصوصهم، ولكنه أساء فهمها على طريقته الخاصة، وربما كانت كلمة سوء الفهم علامة دالة على طريقة فهمه لتاريخ الفلسفة، فهو لم يفهم العدد الكبير من الفلاسفة من أرسطو إلى ماركس بطريقة تقليدية؛ إذ كان يتوقف عند الأفكار التي تصب في تيار عصره أو تتوجه إلى المستقبل، وكان يهتم بالكثير من الخيوط الفكرية التي لم يلتفت إليها المفسرون التقليديون. لقد نظر إلى التاريخ الفلسفي كله من جهة التطلع إلى المستقبل، ورأى فيه الوجه الآخر لتاريخ الفلسفة، أي فلسفة المستقبل التي لم ينتبه إليها المؤرخون. ومن الصعب تتبع كل الفلاسفة الذين أثروا على فلسفة بلوخ، كما أن من الصعب الدخول في المقارنات عن تأثير بعض الفلاسفة عليه لأن هذه مسألة خلافية، خاصة إذا لم يكن التأثير قويا وواضحا، وإذا لم يكن قد دخل في جدال فكري وحوار مع الفلاسفة الذين تأثر بهم، ولذلك سنكتفي بذكر بعض الفلاسفة الذين ظهر تأثيرهم عليه بشكل مباشر، أو الذين دخل معهم في حوار صريح مثل أرسطو وهيجل وماركس. وسوف يتعرض البحث لفلاسفة آخرين من خلال عرض نسق بلوخ الفكري، وفي المواضع التي يتضح فيها تأثيرهم عليه، مثل ليبنتز وتأثير فكرته عن الوعي المسبق عليه. (أ) أرسطو (384-322ق.م.)
بهذا المعنى السابق فهم بلوخ أرسطو فهما غير تقليدي، اعتمد فيه على تفسير المعلم الأول للمادة أو بالأحرى على تفسير بلوخ الخاص لهذا التفسير. والواقع أن جذور فلسفته المادية تكمن في مفهوم أرسطو عن المادة بوصفها إمكانية وجود، كما ترتبط بفكرته المعروفة عن الموجود بالقوة والموجود بالفعل. أخذ بلوخ هذا المفهوم وأكد الطابع الحيوي الذي يميزه ثم طوره إلى مقولة الإمكان التي تعتبر أهم المقولات الأساسية في نسقه الفلسفي. وقد أفاض في شرح مفهوم أرسطو عن القوة والفعل وتابع تطور هذه الفكرة من بعض فلاسفة العصر الوسيط وعصر النهضة حتى العصر الحديث. ويكفي في هذا الموضوع أن نلخص المفهوم الجدلي للمادة عند بلوخ بالقول بأن الماهية الأساسية لكل موجود أنه في حركة دائمة. ولكن أرسطو - كما هو معروف - هو مؤسس المنطق الصوري ونظرية المقولات، وقد يبدو هذا لأول وهلة أمرا متناقضا مع ما سبق قوله عن تأثر بلوخ بمفهوم المادة عنده من حيث هي إمكان ذو طابع حيوي، فالمنطق يدرك الموجود في حالة سكونه أو إحدى أحواله. ومن ثم فإن أي قول ثابت عن موجود متحرك لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا تغير هذا القول نفسه أيضا، ومن هنا يمكن فهم نظرة بلوخ إلى المقولات التي فهمها كذلك فهما جدليا وأنطولوجيا في آن واحد كما سيتضح بعد ذلك بالتفصيل في الفصل الخاص بأنطولوجيا ال «ليس-بعد». (ب) ياكوب بوهمه
Jakob Boehme (1575-1624م)
كان لياكوب بوهمه تأثير كبير على بلوخ. فقد عبر جدل الأول عن فلسفة الثاني، وكشف هذا الجدل عن أن النور كامن في الظلام، وأن الظلام هو أصل النور وعلته، وقد قام جدل بوهمه على الصراع بين النور والظلام، صراع الضدين وخرج ثالث ينتصر عليهما هو ما ينتج الجديد دائما، كما هو الحال عند بوهمه وعند بلوخ نفسه اللذين يؤكدان وجود الخير الذي ينتصر حتما على الشر، والنور الذي سيهزم الظلام. وقد نظر بلوخ إلى جدل بوهمه بإعجاب شديد واعتبره أعمق جدل منذ هيراقليطس،
29
والفارق الأساسي بينهما يقوم على أن الأضداد تنتج على الدوام شيئا جديدا أفضل، على حين أن الأضداد عند هيراقليطس تظل قائمة بغير أن تنتج هذا الجديد، وقد كان بوهمه على اقتناع تام بأن الشر سينهزم في النهاية وأن الخير هو الذي سينتصر. إن الضدين المتقابلين سيظلان في حركة وصراع دائمين. ولكن الخاصية الخيرة في الطبيعة ستكون في النهاية هي الأقوى، وهي التي ستنتصر على الخاصية الشريرة. وهذه الفكرة هي نواة فلسفة بلوخ، فلولا الأمل في الجديد الذي سيولد من هذا الصراع الدائم ما أمكن تصور فلسفته بأكملها. (ج) شيلنج (1775-1854م)
كذلك كان لشيلنج تأثير كبير، وخصوصا من خلال فلسفته المتأخرة أو فلسفة الشيخوخة التي عبرت عنها محاضراته في برلين التي نشرت بعد وفاته تحت عنوان «فلسفة الأسطورة والوحي». وربما كانت أهم الأفكار التي استقاها بلوخ من هذه الفلسفة هي «أن للأساطير حقيقة ومغزى مذهبيا، وأن فيها حقيقة مضمرة، على الأقل منذ البداية ... فالأساطير تقول غير ما يبدو أنها تقوله، أي أنها رموز ومجازات وأمثال تخفي تحتها حكما وأقوالا.»
30
هذا المعنى المجازي هو ما حاول بلوخ الكشف عنه من خلال تفسيره لكل التاريخ البشري، أي أنه حاول أن يفض قشرة المجاز الرمزي ليكشف عن الجوهر الحقيقي للأشياء والإمكانات الكامنة داخله، ومن شيلنج استعار بلوخ فكرته الأساسية التي أكدها خلال فلسفته كلها وهي أن الماهية، أي الوجود الحقيقي غير المغترب، لا تتحقق إلا بالتفاعل المستمر بين الإنسان والعالم، «فالفكرة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة الطبيعة عند شيلنج هي القول بوحدة الطبيعة والروح (أو العقل) ... وأن الطبيعة والروح ليستا جوهرين مختلفين، بل هما جوهر واحد: فالروح (أو العقل) تتطور وتحقق نفسها في الطبيعة، والطبيعة تحقق قوانين الروح أو العقل، ووحدة الطبيعة والعالم شاملة ... إن مبدأ وحدة الطبيعة يقتضي رفع التقابل بين المتقابلات الظاهرة في الطبيعة واستخلاص الطبيعة العضوية والطبيعة
31
اللاعضوية كلتيها من مبدأ واحد.» تعلم بلوخ من شيلنج إذن أنه لن يمكن التوصل إلى الوجود الحقيقي «غير المغترب» إلا عن طريق التفاعل بين الإنسان والعالم، وأخذ منه تفرقته الهامة بين الوجود الفعلي كما هو عليه
existence
وبين الماهية
essence
التي ينبغي أن تتحقق من خلال عملية الصيرورة التاريخية، والواقع أن فلسفة بلوخ بأكملها لا يمكن تصورها بغير هذه التفرقة الهامة التي تناولها البحث بالتفصيل في الفصل الخاص بالوعي الذي لم يتم بعد. (د) هيجل (1770-1831م)
لم يكتف بلوخ من منابع المثالية الألمانية بشيلنج فقط، بل وقف طويلا عند هيجل، فهذا الأخير قد وصف تاريخ البشرية بأنه طريق «التخارج» والاغتراب أو الاستلاب، وطور فكرته عن «الروح» أو «العقل المطلق» ليكون أشبه بالمقر المتعالي الذي تتم في إطاره ظواهر الأحداث الواقعية وترفع فيه في النهاية لكي يتسنى وضع المضامين التجريبية داخل نسق فلسفي ومنهجي محكم، ودمج الأحداث التاريخية العارضة في سياق التأمل العقلي الصارم أو في دائرة الحقيقة الكلية الشاملة. وقد كان على الأجيال التي جاءت بعد هيجل أن تقرأ فلسفته التأملية قراءة تجريبية وتترجمها إلى لغة الواقع الاجتماعي. وجاء بلوخ على طريقته الخاصة في فهم وتفسير تاريخ الفلسفة، ليكشف التفكير المستقبلي عند هيجل الذي وصفه بأنه المعلم الجليل لمرحلة شبابه، وكتب عنه في كتابه الذي وضعه عن هيجل ودخل معه في حوار عن «الذات-الموضوع: شروح على هيجل»: «لا نكاد نجد في الفلسفات الماضية فلسفة غنية بالمشكلات مثل فلسفة هيجل التي لا تزال تواجهنا كأنها قادمة من المستقبل.»
32
وقد ظل بلوخ طوال حياته يؤكد أن الفلسفة الهيجيلية لم تعرف بعد على حقيقتها، وأن الدوجماطيقيين الماركسيين قد تصورا أنه لم يعد بحاجة إلى دراسة. لهذا نجده يهتف في الاحتفال بمرور قرن وربع قرن على وفاة هيجل في أكاديمية العلوم في برلين (الشرقية سابقا) «أنه قد آن الأوان لنتحاور مع هيجل وأن نوقف الطاحونة.»
33
إن تأثير هيجل على بلوخ لم يقف عند عنوان أحد كتبه التي خصصها لدراسة هيجل تحت هذا العنوان الدال «الذات-الموضوع» فهو يرى في هذا الكتاب أن هيجل لم يفصل الذات عن الموضوع في نظريته عن المعرفة: «إن نظرية التوسط الجدلي لم تسمح بأن تبتعد الذات عن الموضوع، ولا الموضوع عن الذات، أي لم تسمح بابتعاد الموضوع عن الوعي ولا الوعي عن الموضوع، إن مثل هذا التعارض في رأي هيجل يسد الطريق إلى الفلسفة؛ لذلك فإن عليها منذ البداية أن تتحرر منه.»
34
وقد حل هيجل هذه الثنائية بين الذات والموضوع ووحد بينهما وحدة ميتافيزيقية، وإن كان قد لف العنصر المشترك بينهما «وهو الذي سماه «الروح المطلق» (...) في ضباب الغموض والتصوف.»
35
وقد اكتشف بلوخ منذ شبابه ثلاثة موضوعات أساسية تجمعت في ظاهريات هيجل وكونت فيما بعد محور فلسفة بلوخ نفسه: (1) الذات، أو الأنا الثورية التي ظهرت في التاريخ العملي والسياسي لأول مرة مع الثورة الفرنسية. (2) الموضوع أو إنتاج مضمون المعرفة تحت تأثير المعرفة العلمية في العلوم الطبيعية، أو بمعنى آخر إنتاج العقل لمضمون المعرفة متأثرا بطبيعة المعرفة العلمية. (3) التاريخ، أي أخذ التاريخ مأخذا جادا مع التأثر بالنزعة التاريخية
36
كما تمثلت عند أصحاب المدرسة التاريخية الذين أحالوا كل شيء إلى تاريخه. وقد رأي بلوخ أن هذه العناصر الثلاثة متمثلة بصورة متوازنة في ظاهريات هيجل، وأنها تستحوذ على اهتمام المفكرين خصوصا في فترات التحول التاريخي وهنا ينشأ هذا السؤال: كيف تفاعل الذات والموضوع في التاريخ بحيث تمخض عنهما التغير الثوري في مرحلة تاريخية معينة؟ وكيف يمكن أن يتفاعلا في المستقبل لإحداث مثل هذا التغيير الثوري؟ وسوف يبين البحث كيف أن مشكلة الذات والموضوع، والوجود الفعلي والماهية، ظلت أهم المشكلات التي دارت حولها فلسفة بلوخ التي حاولت أن تزيل الاغتراب بين الذات والموضوع، وأن تصل بمبادئها اليوتوبية والمقولاتية إلى الماهية الحقيقية في وجود مستقبلي أكمل وأفضل.
إن التوحيد بين هذه العناصر الفلسفية الثلاثة (الذات - الموضوع - التاريخ) بالإضافة إلى اكتشاف وتحليل النزعات والاتجاهات الكامنة في الواقع والتي تنتظر الإرادة الثورية والدراسة الواعية لدفعها نحو الوجود اليوتوبي أو نحو الأمل، هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلت بلوخ الفيلسوف الفينومينولوجي أو الظاهراتي - بالمعنى الهيجلي - للمستقبل الإنساني والاشتراكي، كما جعلت كتابه «مبدأ الأمل» هو «ظاهريات الروح» الجديد في تاريخ الفلسفة المعاصرة. فليس هذا الكتاب في نهاية الأمر سوى رصد دقيق وشامل لمراحل تطور المادة والوعي معا - تبعا لمقولة ال «ليس-بعد» الأساسية - نحو الكل اليوتوبي الذي يتحقق فيه المجتمع الإنساني العادل، ولا حاجة للقول بأن هناك فرقا كبيرا بين ظاهريات ترصد التطور المعرفي نحو الوعي المطلق بالروح، وظاهريات ترصد التطور المادي والإنساني والمعرفي على السواء نحو الكل اليوتوبي أو الأمل اليوتوبي الممكن. (ه) كارل ماركس (1818-1883م)
قال بلوخ في المجلد الثاني عشر من مجلدات الطبعة الكاملة لأعماله: «إن فلسفتي مدينة لأخي شيلنج، ولأبي هيجل ولماركس ابن هذا العالم.»
37
وقد سبق الحديث عن أهم نقطة أثرت عليه من فلسفة شيلنج، وهي التمييز بين الوجود الفعلي والماهية التي تتحقق خلال العملية التاريخية، وكذلك عن مشكلة الذات والموضوع عند هيجل - لا سيما في ظاهريات الروح - حيث رأي بلوخ أن هيجل لم يفصل بينهما من الناحية المعرفية، بل اشترط أن يكون تحرر الموضوع من الاغتراب عن الذات أو الوعي ووحدتهما الميتافيزيقية هي البداية الحقيقية للفلسفة. وإذا كان بلوخ قد أخذ على هيجل كما رأينا فيما سبق: أنه يصبغ العنصر المشترك بينهما بصبغة صوفية ويسميه بالتسمية الغامضة (الروح أو العقل المطلق)، فإن هذه الصبغة الصوفية ربما كانت من أهم أسباب اتجاه بلوخ - العلماني أو الدنيوي - إلى ماركس الدنيوي مثله. فمن الطبيعي لبلوخ الذي لم يتقيد بالروح المطلق أن ترتبط فلسفته بفلسفة ماركس، إذ تحول الاغتراب الهيجلي على يد ماركس إلى برنامج سياسي ثوري، وأصبحت «ظاهريات الروح» - التي أوقفت على قدميها - هي تاريخ الصراع الطبقي، وغدت «هوية الروح» مع ذاتها هي هوية الإنسان العامل المنتج، بل هوية العالم الطبيعي مع نفسه، والعلامة المميزة «للمجتمع الخالي من الطبقات». بذلك تصور ماركس أن الشيوعية في نهاية الصراع والشقاق بين الإنسان والطبيعة، وأن تحقيقها رهن بإرادة الطبقة العاملة التي تعي دورها الثوري ومسئوليتها التاريخية فتحول مسار التاريخ.
ومن الطبيعي أيضا - باعتبار بلوخ فيلسوفا ماركسيا - أن تكون الوقفة عند ماركس أطول، وأن يكون التأثير مباشرا بشكل لا يدع مجالا للشك. والحق أنه يصعب تحديد الجانب أو الجوانب التي أثرت على تفكير بلوخ من فلسفة ماركس، فإذا كان العامل المشترك الذي يجمعهما بوجه خاص هو الفلسفة المادية الجدلية والتوجه الثوري نحو تغيير العالم ونحو المستقبل، فإن هنالك جوانب تفصيلية متعددة تكشف عن الكثير من أبعاد هذا التأثر ويشير إليها هذا البحث في موضعها. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين الماركسيين الحرفيين قد أنكروا أن يكون هناك أي شيء مشترك بين ماركس وبلوخ، كما زعموا وزعم غيرهم أن ماركسية بلوخ هي ماركسية وجودية أو صوفية أو رومانسية ولم يبق فيها شيء من ماركس الحقيقي والعلمي ... إلى آخر هذه الاتهامات التي استندت - فيما استندت إليه - إلى نقد بلوخ للماركسية السوفيتية، وإلى تأكيده للدور اليوتوبي للماركسية، على الرغم من هذا كله فإن وجوه التطابق بين الفيلسوفين الماديين الجدليين أكثر من أن تحصى . ويمكن الاكتفاء في هذا الموضع بجانب واحد لعله أن يكون من أهم الجوانب التي لا يمكن إنكارها بجانب إشارات بلوخ الكثيرة إلى اسم ماركس وأعماله وأفكاره الأساسية في مؤلفاته، ويتعلق هذا الجانب «بأصول» الاغتراب بين الذات والموضوع أو الوعي والطبيعة أو الوجود والماهية.
ربما كانت تحليلات ماركس - في رأس المال ونقد الاقتصاد السياسي - للقيمة وأشكالها المختلفة من أهم الأفكار في رأي «دتليف هورستر»، التي انطلق منها بلوخ وأصبحت من الأفكار المحورية في فلسفته. فمن المعروف عن التحليلات الماركسية أن الإنتاج الرأسمالي قد تطور عن طريق الدورة السلعية التي بدأت على حافة التجمع البشري الفطري أو الطبيعي. وقد بين ماركس - خصوصا في رأس المال، ومن خلال العرض التاريخي لتطور الأشكال المختلفة للقيمة - أن أبسط هذه الأشكال قد ظهر من الناحية العملية مع البدايات الأولى التي تحولت معها منتجات العمل إلى سلع من خلال التبادل العرضي والاتفاقي.
38
والواقع أن عملية تبادل السلع لا تظهر في الأصل في حضن التجمعات الطبيعية أو الفطرية، وإنما تظهر حيث تتوقف هذه التجمعات، أي على حدودها وعند النقاط القليلة التي يتم فيها اتصالها بتجمعات أخرى. «والعلاقة الحقيقية بين السلع هي عملية التبادل بينها، وهذه عملية اجتماعية يشترك فيها الأفراد المستقلون بعضهم مع بعض، ولكنهم لا يشتركون فيها إلا باعتبارهم مالكي سلع، ولا وجود لهم إزاء بعضهم بعضا إلا عن طريق سلعهم، وبهذا يظهرون لنا كأنهم ممثلو أو «حملة» عملية التبادل.»
39
هنا تبدأ التجارة القائمة على التبادل، ثم تعود فتنفذ في صميم التجمع البشرى نفسه لتؤثر عليه تأثيرا مدمرا. وفي عملية التبادل البسيطة هذه تنطوي بذور الرأسمالية، وبقية تحليلات ماركس تبين كيف تطور عنها «المال» ومنه «رأس المال» وكيف ساهم الإنسان والوعي الإنساني في هذا التطور وتأثرا به بصورة غيرت علاقة الوعي بالعالم وعلاقة الذات بالموضوع.
ولم يتم التطور السابق بطريقة مستقلة عن الإنسان ووعيه كما سبق القول، فنشاط الوعي قبله وفي بدايته قد يختلف اختلافا كيفيا عنه بعد الوصول إليه أو الدخول فيه. ذلك أن نشاط الوعي قد اقتصر في البداية على خدمة الحياة العينية البسيطة المباشرة. ومع بداية تبادل منتجات العمل بين البشر حدث تغير حاسم في مفهوم المنتج والوعي معا؛ إذ اكتسبت المنتجات «صفة اجتماعية» لم تكن تملكها من قبل وصارت لها «قيمة».
40
وتقوم القيمة بدور «التوسط» في حركة المنتجات عندما تكف عملية التبادل عن كونها مجرد عملية اتفاقية أو عرضية تتم على هامش التجمع البشري، ومن ثم تتعرض للزوال بمجرد نشوئها، ومعنى هذا أنه عندما تصبح التجارة القائمة على التبادل فعلا مستمرا ومتصلا، تصبح القيمة هي اليد الخفية التي تنظم حركة السلع وتبادلها.
41
وتستمر حركة هذا التطور فتبدو للبشر - في ذروة تطور السلعية
42 - وكأنما هي شيء طبيعي ومستقل عنهم، ويقفون في مواجهتها كذوات «عارفة». ويظل خافيا عليهم أن القيمة ليست شيئا «موضوعيا» - أي شيئا متعلقا بالموضوعات نفسها تعلقا طبيعيا - وإنما نشأت نشأة اجتماعية كما تطورت تطورا طبيعيا، وهكذا تقف الذات والموضوع من بعضهما موقف طرفين متقابلين في عملية المعرفة الخالصة. بل إن وعي الذوات أو نشاطهم العقلي والفكري يمكن أن يستقل بنفسه بحيث تنقطع العلاقة المباشرة بين الذوات وبين الموضوعات، وبحيث يقتصر دورها على معرفة الموضوعات معرفة نظرية بحتة دون تغييرها أو التأثير عليها.
ومعنى هذا أن الوعي يمكن أن يستقل بنفسه عن الموضوعات الحية وعن الحياة المباشرة نفسها، وأن يتصور أن معرفته وحدها هي الهدف الأسمى والغاية الأخيرة من الحياة. ويمكن أن نجد البداية الفلسفية لهذا التحول في تحليلات أرسطو في الكتاب الأول من كتابه عن الميتافيزيقا، ففي رأيه أن العلم قد نشأ لأول مرة في مصر حيث وجد الناس الفراغ الكافي لممارسته. والعلم ينصرف إلى المعرفة لذاتها لا لأي غرض أو منفعة عملية أو هدف خارجي عنه. والسبب في ذلك بسيط في نظر أرسطو - وغيره من فلاسفة اليونان - فالمعرفة تحمل هدفها في ذاتها. والمهم في هذا السياق أن الانفصال بين الذات والموضوع (والعكس) قد بدأ مع بداية التطور المادي الاقتصادي الذي أدى إلى عملية التبادل عن طريق السلع والمال، بحيث وقفت «الأنا » الواعية بذاتها في مواجهة الموضوعات، وراحت تتعرف عليها مستعينة بأدواتها العقلانية وتؤثر عليها بفعلها وسلوكها العقلاني أيضا، ومن هنا بدأ الانفصال بين الذات والموضوع، والباطن والظاهر، والفرد والعالم المحيط به (وهو الأمر الذي لم يعرفه مثلا أبطال ملحمتي هوميروس - من حوالي القرن الثاني عشر إلى حوالي القرن التاسع والثامن قبل الميلاد - وذلك قبل القرن السابع ق.م. الذي عرفت فيه الجماعات الإغريقية تبادل السلع وظهور العملة النقدية).
43
إن تاريخ الانفصال بين الذات والموضوع في عملية المعرفة - أو بالأحرى انقطاع العلاقة والوحدة المباشرة بينهما مما أدى إلى ظهور التفكير المجرد - هو في الوقت نفسه تاريخ التطور من التبادل البسيط أو المقايضة إلى الرأسمالية. أضف إلى هذا أن التفكير المجرد قد تطور أيضا مع التطور المتزايد في تجريد التبادل، بحيث أصبح ينظر إلى المنتجات المختلفة في علاقتها بالعنصر المجرد المشترك بينها، أي بحيث صارت قيمتها في عملية التبادل هي الشيء الوحيد المهم، وهو الأمر الذي تم في المرحلة السابقة على الرأسمالية، ثم تزايد وبلغ ذروته في ظل العلاقات الرأسمالية.
44
ولا بد من القول بأن الانفصال الذي تم بالتدريج بين الذات والموضوع لم يجعل التبادل والتفكير قطبين متعارضين أو متضادين، لأن المسألة في الواقع هي مسألة علاقة إنتاج متبادلة بين أشكال الوعي وأشكال الوجود. وتطور المال ودوره في التعامل والتبادل السلعي يوضح هذه المسألة. فقد استلزم التبادل عن طريق المال توحيد القيمة المادية والكمية للأشياء المختلفة في قيمتها الكيفية «ومن ثم تستطيع أشياء غير ذات قيمة نسبية، منها الورق مثلا، أن تعمل كرموز للعملة الذهبية.»
45
أي أن تلك القيمة الكمية تفترض تجريد المنتجات المختلفة. من صفات أو خصائص محددة هي في صميمها صفات أو خصائص كيفية. هذا التجريد والتوحيد قد تم قبل كل شيء في رأس الإنسان، ثم ترتب عليه بعد ذلك من الناحية الواقعية «موضعة» القيمة، أي تجريدها.
في شكل «مال» أو عملة نقية؛ مما ساعد في نفس الوقت على زيادة قدرة الإنسان على التجريد أو التفكير المجرد بعد مساعدتها على نشوئها .
46
يتضح مما سبق أن نوعا معينا من الوعي أو التفكير (وهو التفكير المجرد أو التجريد) هو عنصر أساسي ساهم في تكوين وتطور الرأسمالية التي تمثل في نظر الماركسية آخر مرحلة تاريخية ومنطقية لتطور عملية التبادل السلعي، كما أن هذا الوعي أو التفكير المجرد قد تكون بدوره من خلال تطور عملية التبادل السلعي وبخاصة منذ تطور التبادل عن طريق المال الذي قام عليه تطور العلاقات الرأسمالية والذاتية البرجوازية في ظل هذه العلاقات.
47
والمهم في النهاية ألا نرجع هذا التطور الرأسمالي إلى عنصر واحد (العنصر الذاتي، أي الوعي والتفكير المجرد من ناحية، والعنصر الموضوعي أي السلعة والمال والعلاقة الاجتماعية الإنتاجية من ناحية أخرى) لأن علاقة التأثير والتأثر متبادلة بين هذه العناصر جميعا ولا يمكن إرجاع التطور الرأسمالي لواحد منها مستقلا عن الآخر، ولأن تطور الذات الإنسانية وتغيرها قد صاحبه تطور الموضوع وتغيره، وذلك في سياق عملية جدلية شاملة تمخضت عنها أشكال جديدة للفكر وأشكال جديدة للموضوعات. والخلاصة أن الطابع المزدوج لمنتج العمل الذي تحول إلى سلعة، أي باعتباره في نفس الوقت شيئا يستخدم وقيمة، وما ينطوي عليه ذلك من الأشكال المختلفة للقيمة،
48
قد كان هو السبب في ذلك التقابل المشهور في نظرية المعرفة بين الذات والموضوع، بين الفرد والبيئة المحيطة به، وبين الأنا والعالم. وهو تقابل نظري مجرد لم يكن له وجود عندما كانت العلاقة مباشرة بين البشر والطبيعة، وعندما كان في إمكانهم تنظيم عملهم تنظيما اجتماعيا مباشرا بدون توسط عملية التبادل السلعي.
نكتفي بهذا القدر من تحليلات ماركس لجانب واحد من جوانب نظريته عن القيمة لنسأل عن تأثيره على تفكير بلوخ وعن العنصر المشترك الذي تم الإشارة إليه بين الفيلسوفين. لقد اتضح من العرض السابق أن الانفصال بين الذات والموضوع أو الفكر والوجود هو في نظر ماركس مسألة تطور تاريخي وليس حقيقة ثابتة، وأن عملية التبادل السلعي هي المسئولية عن استقلال المنتجات عن منتجيها ومن ثم عن إمكان معرفة «الموضوع» معرفة نظرية عن طريق الذات المقابلة له. هنا أيضا يمكن أن نقول إن بداية تاريخ الفلسفة قد اقترنت بوجود التفكير في ناحية والوجود في ناحية أخرى. وقد تطور هذا التصور مع تطور الفلسفة فأصبح الفكر الخالص في جهة والمادة في جهة أخرى، كما انقسمت الاتجاهات الفلسفية إلى اتجاهات تؤكد الذات على حساب الموضوع أو تؤكد الموضوع على حساب الذات، ومن ثم تكرس الاتجاهات والمذاهب العقلية أو الذاتية في جانب، والمادية أو الموضوعية أو الوضعية أو التجريبية في الجانب المقابل، مع وجود استثناءات تخرج عن هذا التعميم بطبيعة الحال.
وقد سبق القول إن بلوخ ينقد التراث الفلسفي القديم (الكلاسيكي) والحديث ويحاكمه من هذه النقطة بوجه خاص، أي من جهة الفصل بين الفكر والوجود. ومع أن الفلسفة المثالية (التي يغلب فيها الفكر على الوجود) والفلسفة المادية (التي يغلب فيها الوجود على الفكر) قد حاولتا كل على طريقتها أن تقربا بين طرفي الفكر والوجود وأن تقهرا هذه الثنائية العقيمة، فقد بين بلوخ في قراءته لتاريخ الفلسفة ولبعض الفلاسفة الذين اهتم بهم أن الانفصال بين الفكر والوجود ظل هو الطابع الغالب عليهم، كما حاول جهده أن يوحد بين العناصر الإيجابية في الاتجاهين الرئيسيين لتاريخ الفلسفة (أي المثالية والمادية) دون أن ينضم صراحة إلى أحدهما بصورة مطلقة. وسوف يتضح من خلال البحث أن ماديته التي يصر عليها ليست مادية بالمعنى التقليدي الشائع لهذه الكلمة، وإنما هي مادية صوفية ودينية أو مثالية ورومانسية.
إن ماركس وبلوخ يتفقان على شيء جوهري، وهو أن اغتراب الإنسان عن ذاته وعن الطبيعة لن يتوقف حتى يتوقف استقلال الذات والموضوع كل منهما عن الآخر، وحتى تتوقف كذلك إمكانية فكر خالص في ناحية ووجود خالص في ناحية أخرى، والهدف النهائي عند كل منهما هو التوصل إلى «وحدة الإنسان الذي عاد إلى نفسه مع عالمه الذي نجح في تغييره أو تشكيله.»
49
وهذا الهدف النهائي لا يمكن تحقيقه عن طريق التفكير وحده، وإنما يجب أن يرفع أو يلغي استقلال الموضوع عن طريق الممارسة العملية وأن يتم في الواقع. ومن الطبيعي أن يجد بلوخ أسس هذه الممارسة في المادية الجدلية التي يعتبر أنها هي الفلسفة الوحيدة التي يتم فيها التغلب على التضاد بين الفكر والوجود، والعقل والحس، والقبلية والبعدية (أو العقلية والتجريبية) والنزعة الإرادية والنزعة القدرية، وهكذا يتفق النسقان المفتوحان على المستقبل لكل من ماركس وبلوخ اتفاقا جوهريا على أن الذات والموضوع اللذين تم الفصل بينهما يمكن أن يقتربا من بعضهما مع اقتراب كل منهما من نفسه أو عودته إلى نفسه.
ليس هذا العرض السابق - كما تمت الإشارة في البداية - سوى مجرد محاولة لتفسير جانب هام من جوانب تأثر بلوخ بفلسفة ماركس أو على الأقل بجانب واحد منها. أما عن تأثره بالفلسفة الماركسية في مجموعها فهو شيء واضح يفصح عنه قبل كل شيء توجهه الثوري إلى المستقبل. ويمكن القول إن ماركس مهد الطريق أمام بلوخ - الذي تجاوز الماركسية بدوره بل وجعلها تنضوي تحت لواء نسقه الفلسفي - ليقيم «علم الأمل» الذي شيد بناءه على أساس مادي وملأه بمضمون فلسفي بحيث ارتفع هذا الأمل من مستوى العاطفة الذاتية أو الفضيلة الأخلاقية إلى شروط موضوعية محددة، ويحركها وعي ثوري يضمن تحقيق الخلاص في ظل «الجماعة الإنسانية» الحقة التي ستنعم في نهاية المطاف بالسعادة والعدالة والحرية والكرامة والإخاء. (2) مؤثرات فكرية وأدبية
لم تقتصر العوامل الثقافية التي أثرت على بلوخ على الفلاسفة الكلاسيكيين والمحدثين من أرسطو إلى ماركس، وإنما أثر عليه مجموعة من الأدباء والمفكرين المعاصرين الذين ربطته بهم عرى الصداقة، ومن هؤلاء الناقد الأدبي فالتر بنيامين، والفيلسوف أدورنو، والكاتب المسرحي برشت، والمؤلف الموسيقى كورت فايل وغيرهم. ولكن أهم هذه الصداقات - كما سبق القول - هي التي جمعته خصوصا في سنوات شبابه بالفيلسوف المجري جورج لوكاتش (1885-1971م) ولما كان المقام لا يتسع للحديث عن التفصيلات الدقيقة لهذه العلاقات بين بلوخ وبين هؤلاء الأدباء والمفكرين والفنانين - وغيرهم كثير - فسوف نكتفي بإلقاء الضوء على بعضها بالقدر الذي يسمح به سياق الكلام عن أبرز المؤثرات على حياته وتكوينه الفكري، بادئين بأقرب أصدقائه إلى قلبه - على الأقل في سنوات الشباب - وهو لوكاتش. (أ) لوكاتش
تقابلا للمرة الأولى في إحدى قاعات البحث التي كان يقيمها فيلسوف الحياة جورج زيميل في برلين، ثم كانت إقامتهما ورحلاتهما معا من عام 1912 حتى عام 1914م في هايدلبرج، واشتراكهما في الحلقات الدراسية التي أقامها ماكس فيبر في هذه المدينة الأخيرة. وقد روى بلوخ أنهما كانا على اتفاق تام في ذلك الوقت، وأنهما حتى عندما كانا يلتقيان بعد أسابيع طويلة كانا يستأنفان الحوار وكأنه لم ينقطع، وكان لا بد في هذه المرحلة من أن يحددا - على حد تعبيره - منطقة خضراء تبين الفروق بينهما حتى لا يتصور الناس أنهما يتكلمان بفم واحد.
وقد جمعهما تأثرهما الشديد «بظاهريات الروح» لهيجل واتفاقهما في فهمها فهما ثوريا، وخاصة في تناولها للموضوعات الأساسية التي تم الإشارة إليها سلفا وهي «الذات - الموضوع - التاريخ». كانت هذه المشكلات حاضرة في ذهن بلوخ عندما بدأ في كتابة مؤلفاته الأولى وهي «روح اليوتوبيا» عام 1918م، وكتابه توماس مونتسر عام 1921م، كما أن هذه الموضوعات نفسها شغلت لوكاتش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» عام 1923م؛ مما يدل على أنهما انطلقا من نفس المشكلات المعرفية والنظرية، وإن كان الاختلاف على البعد اليوتوبي قد فرق بينهما بعد ذلك. فقد ظل الصديقان على وفاق حتى اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى فتوجه لوكاتش إلى المجر والتحق بعد الحرب بالحزب الشيوعي المجري وعمل منظرا للماركسية طوال العشرينيات، بينما توجه بلوخ إلى سويسرا، وعلى العكس من لوكاتش، لم يلتحق بالحزب الشيوعي الألماني، وقد كان لروسيا عشية الثورة فعل السحر على كل منهما، وعندما استولت النازية على السلطة رحل لوكاتش إلى روسيا، ورحل بلوخ إلى براغ، ومن هنا بدأ المسار الفلسفي للرجلين يزداد تباعدا خاصة عندما قام لوكاتش بتبرير الرعب الذي يمارسه الحزب الشيوعي في بسط هيمنته، لقناعته أن الرعب والقهر إجراءان ضروريان لإقامة المجتمع الاشتراكي، بينما تمسك بلوخ - إلى حد الجنون أحيانا! - بالحق والكرامة الإنسانية والحرية الفردية التي يجب ألا يقهرها أي فكر عقائدي. واحتدمت الخلافات بينهما، وكان من رأي بلوخ أن صديقه لوكاتش لم يفهم فكرته عن اليوتوبيا، كما أنه - أي بلوخ - اختلف معه بشدة حول مفهوم الواقعية في الأدب الذي كان لوكاتش يدافع عنه بشدة لأن مثل هذه الواقعية تفتقر إلى البعد اليوتوبي. وتبلور خلافهما على صفحات الصحف والمجلات الثقافية في شكل معارك حادة حول الحركة التعبيرية التي هاجمها لوكاتش بقسوة ودافع عنها بلوخ حتى النهاية، وشكلت هذه المناظرة الفكرية بينهما في عام 1938م أحد الأحداث الهامة في الفكر والأدب الألماني الحديث.
والتعبيرية حركة أدبية ظهرت في ألمانيا حوالي عام 1906م وامتدت حتى أوائل العشرينيات، وقد نشأت في مجال الرسم ثم امتدت إلى الشعر والقصة والمسرح (وقد كانت الأعمال المسرحية الأولى لبرشت من أهم إنجازاتها) وأطلقت صرختها وفزعها من رعب الحرب، وشوقها إلى عالم إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية. كانت التعبيرية حركة فنية ثائرة، تجمعت تحت لواء الإيمان بإنسانية جديدة، وحاولت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وأن تعصف بكل القيم الزائفة في الحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحل دون وقوعها ولم تقف في وجهها. وكان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى، وكانت التعبيرية هي التعبير الفني عن هذا السخط. أراد الفنان أن يشكل العالم من جديد بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم العلمي والتقني وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
50
لكن سرعان ما اختفت هذه الحركة ولاذ أصحابها بالصمت أو تشتتوا في المهجر أو سقطوا في الحرب العالمية الأولى أو انسحقوا تحت أقدام الطغيان النازي، واختنق صوتها في أوائل الثلاثينيات، خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية، واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية. وكانت النتيجة أن دفنت التعبيرية حية، وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج.
51
أثرت الحركة التعبيرية تأثيرا كبيرا على بلوخ، وانعكس هذا التأثير على كل إنتاجه الفكري، الفلسفي منه والأدبي، فقد أخذ بلوخ من التعبيريين حماسهم وأسلوبهم المتوهج في الكتابة، والتعبير عن الأفكار بلغة الشعر والأسطورة والحكم والأمثال، والاستخدام المفرط للصور المجازية التي تصل إلى حد الغموض في أحيان كثيرة، وهو ما تلمحه بسهولة عين القارئ لمبدأ الأمل؛ إذ كان للنزعة التعبيرية أكبر الأثر على عرض النص الفلسفي من حيث شكل التعبير والأسلوب الزاخر بالرموز والصور الشعرية؛ مما زاد من صعوبة قراءة بلوخ واستخلاص جوهر نسقه الفلسفي. ولعل النزعة الإنسانية للتعبيريين وحلمهم بمجتمع إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية - الذي كان منذ البداية هو الهدف والغاية عند بلوخ - هو ما جذبه إليهم، فظل متمسكا بأفكارهم ومدافعا عنهم، وخاض من أجلهم أكبر معاركه الفكرية مع لوكاتش صديق عمره، حتى بعد أن قضى على هذه الحركة تماما ولزم أصحابها الصمت أو انزووا في المنفى أو السجن أو سكتوا إلى الأبد تحت التراب.
وعلى الرغم من أفول التعبيرية واعتبارها الآن جزءا من تاريخ الأدب، إلا أنها تمثل المرجع الألماني الأول للفن المعاصر، كما أن المعركة الفكرية التي دارت رحاها بين لوكاش وبلوخ حول التعبيرية كانت خلافا حول المعنى التاريخي للنزعة الحديثة أو الحداثة
modernism
بصفة عامة.
52
تبنى لوكاتش المقولة الأساسية في النقد الأدبي الماركسي في هجومه على التعبيرية التي كان قد انجذب إليها في بداية حياته - وهي أن الأدب نتاج للأوضاع التاريخية - واتهمها بالاغتراب عن عامة الشعب وبعدها عن الواقع الاجتماعي حين صرح في مقال بعنوان «الواقعية في الميزان» بأن التعبيرية تنكر أي صلة لها بالواقع وتعلن الحرب عليه وعلى كل إنجازاته لأن العديد من التعبيريين يشتاقون لاكتشاف عالم جديد عن طريق هجر الأرض، والقفز في الهواء والتعلق بالسحاب
53 ... وعلى الرغم من تأكيد لوكاتش في بداية حياته على دور العامل الذاتي أو الفردي في الأدب، واقتناعه بأن مهمته هي التعبير عن مواجهة مجتمع معاد ومغترب، إلا أنه تعلم أيضا من الماركسية أن العلاقات الاجتماعية هي أساس الأدب والفن والجمال؛ ولذلك لم يتحول عن الثوابت المنهجية والنظرية الماركسية، وهي الوحدة الجدلية بين الذات والموضوع، والخلاص من الاغتراب عند وصول المجتمع إلى الوعي بالذات، وأن الحقيقة هي كل شامل يصارع الإنسان من أجل الوصول إليه، ولذلك كان من رأيه أن التعبيرية شوهت هذه الحقيقة لأن الوظيفة الكاملة للفن هي رسم صورة الواقع الموضوعي لا الهروب منه أو الاكتفاء بالصراخ في وجهه.
لن نستطرد طويلا في تفاصيل هذه المناظرة التي يمكن أن تخرج بنا عن سياق البحث. ولكن يمكن القول بإيجاز إن المواجهة الفكرية بين بلوخ ولوكاتش كانت في حقيقة الأمر مواجهة بين الفن التعبيري والواقعية الاشتراكية. لقد دافع الأول عن التعبيرية وشجب اتهام لوكاتش لها بأنها حركة تواطأت مع البرجوازية الرأسمالية، مستشهدا في دفاعه بعبارة للوكاتش نفسه يعترف فيها بأنها - أي التعبيرية - كانت من الناحية الأيديولوجية حركة مناهضة للحرب. ويؤكد بلوخ أن اتجاهات الوعي في التعبيرية لم تكن فاشية، وأنها من الناحية الجمالية أو الاستطيقية تعتبر استجابة لأزمات مرحلة انتقالية تحطم أثناءها الكل الثقافي للبرجوازية، بينما بقيت البروليتاريا الثورية في مرحلتها البدائية. ويتهم بلوخ واقعية لوكاتش بأنها مغلقة وتستبعد الذاتية المثالية، ولذلك لم يتحرر من النظم الكلاسيكية، كما أن مفهومه الضيق الأفق للواقعية جعله يرفض دور الفنان في تحطيم أية صورة للعالم، حتى الرأسمالية، متناسيا أن الفن يناضل ليستثمر صدوع الواقع ويكشف الجديد في شقوقه.
54
كما أن اتهام لوكاتش للتعبيريين بأنهم اغتربوا عن عامة الشعب، هو اتهام لا يستند إلى أساس حقيقي؛ إذ كانوا على العكس من ذلك أول من فتح عين الشعب على فن الفولكلور، وركزوا انتباههم على رسوم الأطفال والمساجين والمرضى العقليين، كما اهتموا اهتماما خاصا بالفن البدائي بحيث كان الفن الشعبي هو الانطلاقة الحقيقية للحركة التعبيرية.
55
والمهم أن الخلاف الحاد الذي احتدم بين الصديقين في هذه المناظرة النقدية الهامة قد تسبب في القطيعة بينهما - وإن لم يمنع من استمرار التقدير والاحترام المتبادل بينهما - كما كشف عن تحرر بلوخ منذ شبابه المبكر من الأيديولوجية الماركسية الحرفية المتزمتة، وإن بقي مع ذلك مخلصا للماركسية في روحها العامة ومنهجها الجدلي والنقدي. (ب) برشت (1898-1956م)
ربطت بلوخ ببرشت صداقة قوية قائمة على التقارب الفكري والعقائدي. فقد جمعهما الاهتمام بالتعبير عن تناقضات المجتمع الرأسمالي والتمسك بالحلم الشيوعي حتى النهاية، بحيث يمكن القول إن ما عبر عنه بلوخ بالفلسفة عبر عنه برشت بالدراما. وقد جمعهما كذلك اهتمامهما بالفلسفة الهيجيلية والماركسية؛ إذ عكف برشت على دراسة هذين الفيلسوفين وانتهى إلى الإيمان بضرورة الثورة الماركسية، بل ذهب إلى أبعد من الإيمان بالنظرية، فالتزم التزاما مطلقا بالأيديولوجية الماركسية في شبابه، وآمن إيمانا لا حيدة عنه بضرورة التغيير الاجتماعي المصاحب للثورة. وقد ربطت بينهما كذلك سنوات الغربة في الولايات المتحدة الأمريكية التي انتهى إليها مطاف برشت بعد سنوات تجوال طويلة في البلدان الأوروبية هروبا من الحكم النازي ثم عودتهما إلى ألمانيا الديمقراطية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مدفوعين بالشوق والأمل للمساهمة في توطيد أركان الدولة التي زعمت أنها تبني الاشتراكية فعادا عام 1948م إلى برلين (الشرقية سابقا) حيث أسس برشت فرقته المسرحية، وبدأ في تطبيق نظريته عن المسرح الملحمي أو الجدلي الذي يوقظ ملكة الحكم عند المتفرج ويثير فيه الإحساس بالغرابة والدهشة لما يراه، ويبعث فيه إرادة التغيير الثوري للقيم والظروف الاجتماعية التي يعيش فيها ويراها أمامه منعكسة على خشبة المسرح.
56
كان برشت خير من عبر عن الفلسفة الماركسية سواء في أشعاره أو في أعماله المسرحية، ورأى أن مهمة الكاتب المسرحي هي ألا يخاطب الشعور بل يخاطب العقل، وأن من واجبه أن يعلم هذا العقل ويدفعه إلى الحركة والتغيير بدلا من أن يثير الشعور. وكما قال ماركس إن على الفلسفة أن تغير العالم لا أن تفسره، فقد أصبح على الفن والمسرح أيضا أن يغيرا الإنسان تمهيدا لتغيير العالم.
57
غير أن برشت تراجع عن نظرته المذهبية المتزمتة في أعماله الأخيرة عندما أدرك - مثلما أدرك بلوخ أيضا كما سبق القول - الأخطاء والتناقضات التي وقع فيها التطبيق الماركسي في ممارسته العملية. بل وذهب إلى أبعد من هذا الحد فراح يدعو إلى توحيد ألمانيا والحيلولة بينها وبين التسلح من جديد، وكتب خطابه المفتوح المشهور إلى فالتر أو لبرشت على أثر إخماد ثورة العمال الألمان في القطاع الشرقي من برلين في شهر يونيو عام 1953م ضد الحزب الشيوعي الحاكم، ووجه إليه فيه أعنف اللوم حين قال عبارته المشهورة: «إذا كان هذا الشعب لا يعجبكم فابحثوا لكم عن شعب آخر.»
58
كذلك ربط بلوخ وبرشت اهتمامهما بالحركة التعبيرية، فقد دافع عنها بلوخ وتمسك بها حتى النهاية وانعكست أيضا على أسلوبه المتدفق الجياش في الكتابة. أما عن برشت فقد أخذ يطبق برنامج الحركة التعبيرية التي لم تهتم بالدراما في ذاتها بقدر اهتمامها بأن تكون أداة للعرض والبيان، فالتعبيري كان يعرض عواطفه الجياشة المنطلقة، وبرشت يعرض نزعته العدمية في مسرحياته المبكرة أولا، ثم يعرض نزعته الماركسية الثورية في مسرحياته التعليمية، ثم يجمع بين النقيضين في مسرحياته الأخيرة التي تخلو من التزمت العقائدي، وتهيب بالجمهور أن يفكر ويبحث عن حل بدلا من أن تفرض عليه الحل الوحيد.
59
وإذا كان بلوخ لم يتخل عن التعبيرية بل تمسك بها حتى النهاية، فإن برشت استطاع أن يتجاوزها في أعماله المتأخرة. وإذا كان ما جمعهما هو توجههما الاشتراكي، فإن بلوخ لم يكن منذ البداية متزمتا في نزعته الماركسية بل اتسم تفكيره بالأقق المفتوح بلا حدود على المستقبل، كما أن برشت عرف في مرحلة شبابه بتزمته العقائدي ودعوته إلى التغيير بالعنف إذا دعت الضرورة لذلك، ولكنه تراجع كما سبق القول في سنواته الأخيرة عن هذه النظرة المحدودة الأفق. وعلى الرغم من هذا ظل إعجاب بلوخ بأعمال برشت الشعرية والمسرحية كبيرا حتى إنه استشهد بالعديد منها في شرح نسقه الفلسفي. (3) مؤثرات الحركة النقدية
لم يكن بلوخ فيلسوفا أكاديميا فحسب؛ إذ لم تبدأ مرحلته الأكاديمية إلا بعد أن تجاوز الستين من عمره، بل كان مفكرا لا يمكن فصله عن الجو الثقافي والعلمي المحيط به، كما لا يمكن الفصل بين الفكر أو الفلسفة من ناحية وبين الروح الثقافية للعصر من أدب وشعر وعمارة وموسيقى وفنون مختلفة من ناحية أخرى، وقد استوعب بلوخ كل هذه العناصر الثقافية في عصره وعبر عنها في نسق متكامل، كما جاء هذا النسق معبرا عن عصر مخاض وحلم وثورات اشتراكية وأحزاب فاشية، واتسم بالديناميكية كما اتسم بالاضطراب والقلق. إنه عصر شهد فيه الفكر الفلسفي الألماني تغيرات كثيرة وحاسمة، وبداية بحث فلسفي على أسس منهجية جديدة، وإعادة إحياء التراث الماركسي باعتباره فهما نقديا تحليليا للواقع، وقد اجتاحت فيه الفكر الألماني حركة نقدية واسعة النطاق ذاع صيتها باسم «مدرسة فرانكفورت»، نظم أعضاؤها حلقات بحث حول الماركسية، وركزوا على أفكار ومؤلفات ماركس الشاب وليس الاقتصادي، وأثاروا عاصفة نقدية على كثير من القيم السائدة والنظم المستقرة.
ومع أن النسق الفلسفي لبلوخ قد اتسم بعمق النظرة النقدية للواقع، فقد اختلفت النظرة النقدية عنده عن النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، على الرغم من انطلاقهما من منبع واحد وهو المنهج التحليلي النقدي المعروف في التراث الماركسي، ويعود الاختلاف إلى النظرة أو النزعة الأكثر عمقا عند بلوخ والتي تمتد جذورها في التراث الفلسفي الهيجلي والماركسي. لقد استخلص من المنهج الهيجلى عمقه النقدي للثورة على الواقع وتجاوزه، وتعلم من الماركسية الحلم بالمستقبل والرغبة في تغيير العالم وحتمية الثورة، وأحسن استخدام منهجهما وأدواتهما التحليلية في التعامل مع الواقع الاجتماعي العيني. لم يحصر الحلم الماركسي في أطر سياسية واقتصادية محددة، بل انطلق إلى آفاق لا محدودة، وطبق هذه النظرة النقدية على الماركسية نفسها، فنقد الماركسية المادية لحساب الماركسية الإنسانية، وجعل الماركسية مبدأ لأمل إنساني شامل، ولذلك رأى وجوب إعادة اكتشاف الماركسية كسلاح نقدي لمقاومة كل واقعية اجتماعية تعسفية كالرأسمالية الجديدة والنمط الاشتراكي السوفيتي
60 (قبل انهياره بطبيعة الحال).
لم يكن بلوخ أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت، ولا يمكن القول إن لهذه المدرسة تأثيرا واضح المعالم على فكره، بل يمكن القول إن تأثيره كان كبيرا وهاما على أعضائها فيما اكتسبوه من حدة الوعي الثاقب في تفتيت بنية الواقع، وحسن استخدامهم للمنهج الهيجلي والماركسي في تحليلهم النقدي للأوضاع الاجتماعية. وليس من المبالغة أن نقول إن تعامله النقدي مع التراث الماركسي على وجه التحديد كان مقدمة لخلق نظرية نقدية أكثر اتساعا وشمولا عند أصحاب هذه المدرسة.
وعلى الرغم من انطلاق النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من نظرة بلوخ النقية للواقع العيني، إلا أنها لم تتميز بالنزعة التفاؤلية التي اتسم بها تفكيره، بل كان لأكثر أعضائها نزعة تشاؤمية دفعتهم إلى اليأس من أية ثورة، واتسم الفكر عند القليل منهم بالتفاؤل. لقد ميز التيار الفكري النقدي للمدرسة اتجاهان متباينان من ناحية الرؤية ومتحدان من ناحية المنطق التحليلي النقدي لكونهما نتاج فكر جدلي واحد. التيار الأول هو التشاؤم الذي شكل النزعة الغالبة لمفكري المدرسة، والتيار الثاني هو التفاؤل. ولعل هذا الجانب التفاؤلي كان ثمرة للتأثير الذي مارسه بلوخ عليهم باعتباره تيارا فكريا أساسيا زامن الفترة السياسية-الثقافية المكونة للعناصر الشابة التي قامت بإنشاء المعهد بعد ذلك. وارتباط بلوخ والناقد الأدبي الماركسي فالتر بنيامين بعلاقة صداقة شخصية كان يمثل الصورة التكميلية المؤكدة للتيارين النقيضين اللذين تقاسما المسارات الفكرية للمدرسة. كان بلوخ يكن احتراما كبيرا لفالتر بنيامين على الرغم من عدم اتفاقه مع نظرته التشاؤمية للواقع، فالتشاؤم عند بنيامين هو الواقع أو الضرورة الأولى لفهم الواقع موضوعيا بمحتواه الدرامي ومأساويته.
61
نظر أصحاب مدرسة فرانكفورت إلى الواقع بوصفه حافلا بالصراعات والتناقضات، وأسسوا فلسفة اجتماعية تركز موضوع بحثها على البشر المغتربين عن أشكال حياتهم التاريخية في المجتمعات الرأسمالية والصناعية الشمولية التي أنتجوها كما كانوا نتاجا لها، واغتربوا عنها كما كانت السبب في اغترابهم.
62
أما عن بلوخ فقد شارك مفكري عصره همومهم واشترك معهم في الحلم بالتغيير، ولكنه لم ينته إلى نظرة مأسوية للتاريخ كما فعل معظم أصحاب المدرسة، وكان تيودور أدورنو من أكثر أعضاء المدرسة قربا من بلوخ وربطت بينهما صداقة حميمة قبل هجرة أعضاء المدرسة إلى الولايات المتحدة في فترة الحكم النازي. أعجب أدورنو بفلسفة بلوخ وشبهها بالعمل الموسيقي الكبير الذي تتصاعد نغماته تدريجيا، وكان هذا قبل أن تصاب العلاقة بينهما بالفتور في فترة المهجر. (أ) أدورنو (1903-1969م)
فهم بلوخ الفلاسفة التقليديين - كما سبق القول - فهما غير تقليدي، وأهم ما جذب انتباهه من كل هؤلاء الفلاسفة هي العناصر الحية أو الشابة التي تكمن في تفكيرهم وتتوجه نحو التغيير، لأن فلسفته كلها توجهت نحو تغيير العالم. لذلك كان من أهم العناصر التي جمعته بأعضاء مدرسة فرانكفورت - ولا سيما أدورنو - هو تأكيد هذا العنصر وهو شباب الفلسفة أو حيويتها الدائمة، ومقاومتها للآراء والقيم السائدة، وتجاوزها الدائم للواقع القائم. وعلى الرغم من أن بلوخ كان ينتمي إلى جيل سابق على جيل أدورنو وزملائه الذين اعتبروه بمثابة معلم بالنسبة لهم - وإن أخذوا عليه افتقاره إلى الموضوعية والمنهجية وانسياقه وراء الأحلام والتعبيرات الشعرية والمجازية - فإن أهم ما يربطه بأدورنو بوجه خاص هو الإيمان بشباب الفلسفة، بالمعنى السابق الذكر. أدرك بلوخ منذ شبابه مدى الحيوية والشباب في «ظاهريات الروح»، كما كان أدورنو يقول لتلاميذه دائما إن الفلسفة هي في الحقيقة مسألة تهم الشباب قبل كل شيء، وإن على الفيلسوف أن يحافظ على القدرة على التساؤل والاندهاش الذي يطبع مرحلة الشباب.
63
آمن بلوخ وأدورنو بموضوع شباب الفلسفة وحيويتها وقدرتها على التجدد المستمر: «لا يزال هذا الوجود في كل لحظة لغزا لم يحل، وسؤالا غامضا ومتجددا يفرض نفسه أو يفرضه الموجود المباشر ذاته: لم وجد أي شيء على الإطلاق؟ وهو يعبر عن نفسه بالخلق المتجدد في كل لحظة ومن خلال كل لحظة، لأن العالم كله تجربة لحل السؤال الدائم عن الأصل، السؤال المطوي في كل موجود مباشر - هناك.»
64
وكما كان أدورنو يناشد تلاميذه الاحتفاظ بالقدرة على التساؤل والاندهاش، فإن بلوخ لم يتخل عن إيمانه بقدرة الفيلسوف على الاندهاش الإيجابي «إن الاندهاش الإيجابي الأصيل لا يتولد عنه السؤال القديم: لم كان وجود على الإطلاق ولم يكن بالأولى عدم؟ بل ينشأ عنه هذا السؤال الذي تحدق عيناه - كعيني الفتاة التي صورها «دورر» في لوحته المعروفة «الكآبة» - في أفق «الكل» الغائب: لم كان وجود كالعدم؟ ومتى يكتمل ويخرج من حالة عجزه ونقصه وافتقاره إلى الكل اليوتوبي؟»
65
ومثل هذا التساؤل الشاب الذي يؤدي إلى إجابات جديدة شيء لا يقدر عليه الفلاسفة التقليديون أو الحرفيون؛ لأن شباب الفلسفة ضد كل ما هو جامد ومتحجر سواء في الفكر أو في المجتمع، وضد ما يسمى بالحس السليم أو الفهم المشترك. لذلك لم يخضع أدورنو وبلوخ للغة الشائعة في المجتمع لأنها لا تلائم أفق تفكيرهما ولا مصطلح تعبيرهما. كانت هذه اللغة السائدة سواء في المجتمع أو عند الفلاسفة التقليدين لغة بالية وعاجزة عن طرح أسئلة جديدة ولم تتسع لأسئلتهما، ولذلك كانت إجابتهما مثل إجابات هيجل في عصره؛ غريبة على معاصريهما. ولعل هذه اللغة الجديدة التي صيغت فيها الأسئلة الجديدة أن تكون أهم ما جذب إليهما الشباب الثائر في الجامعات الأوروبية عام 1968م بحيث كان شعار هؤلاء الشباب الذي كتب على الجدران في باريس من وحي فلسفاتهما، وهذا الشعار هو «كونوا واقعيين وافعلوا المستحيل.»
66 (4) مؤثرات دينية
كانت المؤثرات الدينية والصوفية هي أحد المصادر الهامة التي زادت أفكار بلوخ غنى وثراء، والواقع أنه يصعب تحديد أسماء المفكرين الدينيين الذين قد يكون لهم تأثير مباشر عليه، وإذا كان تفكيره الديني يقترب من أنثروبولوجيا الدين عند فويرباخ، إلا أنه - أي بلوخ - يتجاوز هذه الحدود ويتمثل كل التراث الديني والصوفي وبخاصة التراث اليهودي-المسيحي، وقد تمثل تأثير هذا التراث الديني في إحدى الأفكار الهامة التي تشكل فلسفة بلوخ وهي «فكرة الخلاص» التي جعلت فلسفته تحلق في أفق النهاية المفتوحة بأسلوب صوفي غامض، صحيح أن التفكير «الأخروي» أو التفكير في النجاة أو الخلاص الذي سيتحقق آخر «الزمان» في مملكة السعادة والخير - التي ستنتهي معها كل الشرور وتمتلئ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا - قد وجد على الدوام في كل العصور والأديان والحضارات. ولكن بلوخ جمع كل الشواهد التاريخية والحضارية الممكنة على هذا التفكير مع ما يتصل بها من تصورات للخلاص والمجتمع اليوتوبي الأمثل، وهي التصورات الحالمة التي تفنن الخيال البشري في رسمها ليملأ ثغرات الواقع المعيش ويعوضه عن فقره ونقصه. ثم تعلم ماركس كيف يشد هذه التصورات من فضاء الأوهام الغيبية والمثالية، الذي كانت ترفرف فيه، إلى أرض الواقع الصلب والممارسة العملية والثورية، بحيث لا يعود الواقع أو المجتمع الذي تختفي منه اللاإنسانية مجرد حدث ينتظر أن يتم في آخر الزمان ونهاية التاريخ، بل يصبح محور التاريخ نفسه ومحركه الحقيقي في مساره الحر واتجاهه الصحيح. وكان من الضروري «لتاريخية» الخلاص، أو لوضعه في التاريخ، من وجود منهج علمي لتفسير العملية التاريخية وتحديد قوانينها والقوى المحركة لها، بالإضافة إلى الممارسة الثورية التي لا تكتفي بنقض الأوضاع القائمة، بل تسعى لبناء مجتمع إنساني جديد، يزول منه القهر والقمع والاستغلال والاغتراب.
67
ولم يكن من المستغرب أن يلجأ بلوخ للتعبيرات الدينية أو شبه الدينية التي امتلأ بها «مبدأ الأمل» خلال حديثه المجازي عن الهدف النهائي أو بالأحرى «اليوتوبي» لعالم المادة وعالم الإنسان. ذلك أن الغاية النهائية أو الخير الأقصى والأسمى، قد وصفا منذ القدم باسم الجلالة «الله». وإذا كان بلوخ - شأنه في هذا شأن الماديين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم - قد تحاشى هذه التسمية، وآثر شيئا يمكن أن يوصف بالقدر أو المشيئة العارضة التي تحدث الجديد وغير المنتظر وتظهرهما في «الهنا والآن»، فقد تسرب هذان المفهومان إلى فلسفته من الموروث الديني، وأجرى عليهما نوعا من التجريد من الروح الأسطورية أو التخلص من سحر الأسطورة الذي يميز كل ألوان الحداثة في عصرنا، وبذلك شدهما إلى عجلة الصيرورة الدائرة في عالمنا ودنيانا «هنا والآن». ولكن نزعة التجرد من التفكير الأسطوري - التي اتجهت منذ عهد فويرباخ وماركس إلى نقد الأيديولوجيات وكشف القناع عن المضامين الدينية بوصفها من خلق البشر وافتراضهم وصنع خيالهم - لم تستطع القضاء على الإشكالات الدينية، فبقيت عالقة بفكر بلوخ المادي والدنيوي، وظلت ماثلة في الأسلوب المجازي الذي يميز لغته التعبيرية، وفي الثنائية الجدلية التي نجدها واضحة عنده في تأكيد الضرورة والعرضية في حياة البشر وتاريخهم، وافتراض «الكل» الكوني اللانهائي مع القول بعدم تحقيقه لهويته أو ذاتيته تحقيقا نهائيا.
وهنا يمكن أن نضيف أن التراث اليهودي كان له تأثير كبير على فلسفة بلوخ، فهذا التراث الذي ظل طويلا في حالة اشتياق للخلاص من أجل مستقبل أكثر أمنا وإشراقا هو الذي صاغه في فلسفة حقيقية للأمل واليوتوبيا، وربما جاز القول بأنه كتب فلسفة للتاريخ من روح «الخروج»، أي الخروج من تاريخ الظلم والاضطهاد والاغتراب إلى «مملكة الحرية»، كما أن التراث اليهودي الصوفي الطويل - الذي شكل جزءا كبيرا من حياة بلوخ وفكره - قد أثر أيضا في توهج الصور المجازية والشعرية والرمزية التي ميزت كل كتاباته، ولكن يمكن القول أيضا إنه تجاوز الحلم اليهودي بمفهومه الضيق وحلق به في آفاق أكثر اتساعا حتى وصل الحلم إلى قمته في اليوتوبيا التي يجب أن تحرر الإنسان من الاغتراب، وهذه اليوتوبيا التي حلم بها بلوخ هي ما أطلق عليه اسم «الوطن»، أو الجماعة الإنسانية الحرة العادلة.
ولأن الهدف الأخير أو «اليوتوبيا» النهائية، التي تسعى إليها فلسفة بلوخ يستحيل التعبير عنها بغير الأسلوب المجازي والميتافيزيقي، فقد بقي أسلوبه وفكره شديد القرب من لغة التفكير الديني ومنهجه وأسلوبه، سواء أكان هذا التفكير صوفيا وجدانيا أو لاهوتيا عقليا، ولذلك لا نعجب إذا وجدنا بعض الكتاب والنقاد يصفون فلسفته بأنها في حقيقتها فلسفة دينية. والواقع أن هذا الوصف فيه شيء من الحقيقة لا الحقيقة كلها، لأن الفكر الفلسفي كله قد نشأ في الأصل عن الأسئلة والمشكلات الدينية، وإن كان بلوخ مثل غيره من الماديين قد أنزلوا هذه الأسئلة والمشكلات من السماء إلى الأرض، ولم يكتفوا «بعلمنتها» (نسبة إلى العالم) «وعقلنتها» كما فعلت الفلسفة طوال تاريخها، وإنما قلبوا المتعالي وأسكنوه العالم والأرض، ولا تزال الفلسفة قريبة من الدين كلما لمست «الأسئلة الحدية» التي تطرحها الميتافيزيقا وسليلتها الأنطولوجيا، أو عرضوا لمشكلات القيم والموت والمصير ... إلخ. ومع أن الفلسفة تطرح الأسئلة والمشكلات الدينية طرحا مختلفا، وتستخدم المفاهيم الدينية بطريقة مغايرة، فهي لا تستغني أبدا عن الاقتراب من الدين والتحليق في أفقه، وبخاصة حين تبتعد عن اللغة العلمية وتلجا إلى اللغة المجازية. والدليل على هذا أن اللاهوتيين قد انجذبوا إلى فلسفة بلوخ وإلى الفكرة المحورية التي تعالجها لغته التبشيرية الجياشة بالصدق بتنويعات مختلفة،
68
وهي فكرة الخلاص التي ترتبط أوثق ارتباط بالأمل في «اليوتوبيا» المحتومة والموعودة، وإن لم يغب عنهم بطبيعة الحال أنه لم يتخل عن «دنيويته» وماديته التي بقيت مفعمة بالنبض الصوفي والحنين الروحي.
ولا شك أن أحد الإشكالات الأساسية في فكر بلوخ اليوتوبي تتمثل في استحالة تحقيق «الهدف اليوتوبي» داخل العالم نفسه. فطالما وجدت في هذا العالم (أي في مادته الطبيعية أو في التاريخ البشري الذي يدور فيه) إمكانات لم تتحقق بعد ولم تتحول إلى واقع، فسوف يبقى ناقصا أو غير واقعي بصورة تامة. ولو افترضنا تحقيقه للواقع الكامل أو لهويته الذاتية لكان معنى هذا أن نلغي وجوده بوصفه عالما دائب الحركة. ومعنى هذا أيضا أن «الموجود الذي يبلغ أقصى درجات الواقعية» سيصبح في هذه الحالة هو «الموجود الذي بلغ أقصى درجات الكمال»
69
وكلاهما - بحكم الضرورة الجدلية نفسها - لا يمكن أن يوجد في «العالم» بل في «متعال» يقع فوقه أو وراءه، وترتفع عنده الصيرورة وتتم النهاية الأخيرة
70
أما عن طبيعة هذا «المتعالي» فلا ننتظر من بلوخ بطبيعة الحال أن يخوض في شأنه بطريقة مباشرة، وإن كنا نشعر بأنه يصفه وصفا يوحي بتبرئه منه وهو بصدد الحديث عن هيجل، وكيف ترفع كل العلاقات والإمكانات والظواهر في «الروح» أو «العقل» المطلق الذي رجع إلى ذاته وبلغ العلم المطلق، وحقق هويته: «إن المرحلة الأخيرة، وهي الرابعة عشرة لظهور الروح، هي بالتالي تلك المرحلة التي يقف فيها على عتبة تحقيقه لذاته، أي مرحلة العلم المطلق. وفي هذه المرحلة يتمثل شكل من أشكال العلاقة والظهور الذي لم يعد في الحقيقة كذلك. فهو يظهر - كما يحدث للعمر المتقدم - أثناء تخلصه من كل ظهور، بحيث ترجع المباشرة (أي الوحدة البسيطة المباشرة التي بدأ بها الروح المطلق) بعد انتهاء جميع التوسطات. هنا تنتهي علاقة الذات بالموضوع التي ظلت مستمرة حتى الآن، وينتهي معها هدفها المثالي ألا وهو رفع الموضوع أو إلغاؤه.»
71
هذا التحديد الأنطولوجي للغاية النهائية عند هيجل لا يخلو كما نرى من مضمون ديني، وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة للنسق الهيجلي (دينية كانت أو منطقية أو أنطولوجية واحدية ... إلخ) التي تخرج عن موضوع هذا الحديث، فإن كلام بلوخ السابق يمكن أن ينطبق على «نسقه المفتوح» نفسه. فاليوتوبيا عنده لا تقتصر على تحقيق المجتمع «الإنساني» الخالي من الطبقات وابتداء حقبة جديدة كل الجدة في التاريخ البشري، وإنما تضع في حسابها كذلك «الشكل النهائي» الذي ستتمخض عنه صيرورة المادة أو مسيرتها الجدلية، أي أنها تنتهي بصورة من الصور إلى «نهاية» ربما لا تختلف كثيرا عن النهاية التي يصفها النص السابق في كلامه عن الروح الهيجلي المطلق. صحيح أن تفكير بلوخ اليوتوبي يحرص على أن يبقى دنيويا وداخل إطار العالمين الطبيعي والتاريخي، ولكنه مضطر للاتجاه إلى أفق «متعال» يمكن أن يحدد تحديدات دينية في جوهرها مهما حاول أن يبتعد صراحة عن كل تحديد أو تعريف نهائي لهذا الأفق المتعالي أو لهدفه اليوتوبي النهائي والأخير. ولعل «النزعة الأخروية» - بالمعنى الدنيوي أو العالمي بطبيعة الحال - التي نجدها واضحة عنده ولا يمكن تجريدها من مضمون ديني، لعلها هي التي تشجع على هذا التفسير «الديني» لفلسفته، على الرغم من حرصه على إنكار أمثال هذا التفسير وحرصه على السخرية اللاذعة منه، بيد أن الفجوة واسعة بين النية والعمل، وبين ظاهر الكلام ومضمونه.
ولا بد في النهاية من الاعتراف بأهمية «النواة الأنطولوجية» لتفكير هذا الفيلسوف والإشادة باكتشافه لمقولات الوعي الذي يأمل ويتوقع، ومعادلاتها الموضوعية في تاريخ البشر وسعيهم المتصل لبلوغ «اليوتوبي» بأشكاله التاريخية المتعددة، وتأكيد دور «الذات» الإنسانية في تحقيق الأمل على المستوى الطبيعي والبشري على السواء. وإذا كنا قد أشرنا إلى المضامين الدينية والتفسيرات الدينية الممكنة لتفكيره، فإن هذا لا يجعل فلسفته نوعا من ظاهريات الدين أو الحنين الديني، وإلا كان هذا تبسيطا مخلا وتحريفا شديدا لها، لأنها ستبقى فلسفة الوعي الثائر والثوري، مهما احتفظ هذا «الدنيوي» بشيء من الحنين الديني والأشواق الصوفية والمثالية الشعرية. وإذا كان بلوخ قد صور لنا التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري في صورة يوتوبية، فلم يكن اهتمامه بالأنطولوجيا المادية والفلسفة الطبيعية تشتيتا للأنظار عن التاريخ الإنساني الذي لا يزال في حاجة إلى التشكيل، لأن الأول يقدم الأساس أو المعدل الموضوعي الذي يقوم عليه الثاني ولا ينفصل عنه في غمرة الصراع المستمر بين الإنسان والطبيعة، كما لا ينفصل عن الصراع من أجل السيطرة على الطبيعة لكي نكون في النهاية - كما تقول عبارة ديكارت الشهيرة - سادة عليها ومالكين لها.
أخيرا فعلى الرغم من تعدد المصادر وتنوع المؤثرات التي ترددت أصداؤها في فلسفة بلوخ فقد امتزجت وشكلت نسقا فلسفيا مستقلا له بناؤه الأنثروبولوجي والأنطولوجي. وعلينا الآن أن نمهد لهذا النسق ونبين أهم معالمه ومقولاته قبل أن نتناول كلا منها بالشرح والتفصيل.
ثالثا: مدخل إلى فلسفة بلوخ ومفاهيمها الأساسية
قبل البدء في عرض فلسفة بلوخ يتعين طرح الأفكار والمقولات الأساسية التي تعد مفتاح فلسفته اليوتوبية ونسقها المفتوح، والتي يصعب فهمها قبل إلقاء الضوء عليها وتناولها بالشرح بالقدر الذي يجعلها واضحة وميسورة الفهم حين يرد ذكرها في موضعها من هذا البحث. وينبغي التنويه في البداية أن مقولات بلوخ تختلف اختلافا أساسيا عن المقولات التقليدية في التراث الفلسفي. إنها ترتبط بالأفكار الرئيسية في فلسفته الجدلية المتفتحة على الجديد، وبالوجود الذي لم يكتمل بعد، وبالنزوع الموضوعي - الكامن في الموضوع والذات على السواء - الذي تحاول الإمساك به وبلورته بطريقة تصورية. وقد أدرك بلوخ أن المقولات التقليدية عاجزة عن أن تقول شيئا عن عملية الصيرورة الشاملة، وأن المقولات التي تلائم فلسفته لا يمكن أن تكون سكونية ولا معتمدة على التجربة، ولا مجرد قوالب توضع فيها مادة هذه التجربة، وإنما يجب أن تكون مطابقة لتدفق الصيرورة الواقعية. ولذلك لا يستغرب منه أن يؤكد باستمرار أن مقولات الصيرورة لا بد أن تكون هي نفسها في صيرورة، وأن الثابت الوحيد هو أنها تعبر عن العلاقات التي تربط الموجود بالماهية، وأنها تقوم في مجموعها على المقولة الأصيلة المعبرة عن العلاقة السابقة بين الوجود وبين الماهية في داخل الوجود الواقعي وفي داخل هذا العالم.
وأول ما نلاحظه عن المقولات هو أنها تحاول أن تدل على العلاقة بين «الموجود» الكائن بالفعل وبين «الممكن» الذي يسعى إليه هذا الموجود، أو بعبارة أوضح أنها تشير إلى «النزوع» الكامن فيه نحو الوجود الذي لم يتحقق بعد، أو الوجود الذي ما يزال في طريقه إلى التحقق. ومع ذلك فإن انفتاح هذه المقولات على «ما سوف يصير» لا يعني أنها تنصب على الصيرورة المتدفقة فحسب، وإنما يعني أنها تنصب كذلك على الأشكال التي تبدعها هذه الصيرورة، أي أن نهر الصيرورة الجياش لا يصح - على حد تعبير بلوخ نفسه - أن يتجاهل «موانئ» المقولات التي ينبغي أن تحتويه عندما يرسو فيها.
72
والملاحظة الثانية التي ينبغي تأكيدها كذلك منذ البداية هي أن المقولات في فلسفة بلوخ لا تقتصر وظيفتها على التصور والمعرفة، وإنما تشارك بطريقة خلاقة في تكوين أشكال جديدة ومتجددة للوجود. فهي تبلور العناصر المادية البارزة من أحداث الصيرورة، ثم تقوم بعملية التوسط الجدلي بتحديد النزوع الموضوعي الكامن في هذه العناصر والهدف الذي تتجه إلى تحقيقه وتردها مرة أخرى إلى عملية الصيرورة، وبذلك تتدخل بطريقة تصورية في هذه العملية المتدفقة بحيث ترفع التضاد القائم بين الذات والموضوع وبين النظرية والتطبيق. ومعنى هذا أن المفهوم (أو التصور) ليس مجرد تصور تأملي بعيد عن الموضوع، إذ يتقرر مضمون الصدق المحتوى فيه طبقا للصلة التي تلائم بين الذات والموضوع وتربط بينهما كما يربط الجسر بين ضفتي النهر. ف «اللا» الكامنة في الموضوع والتي تعبر عن افتقاره إلى التحقيق وتدفعه إليه باستمرار، تؤدي إلى المواءمة بين مقاصد الذات ونوازع الموضوع، وبين الوظيفة اليوتوبية في الإنسان والنزوع الموضوعي في العالم، مع العلم بأن هذا التواؤم بينهما ليس أمرا بسيطا وبديهيا، لأنه يحتاج باستمرار إلى تدخل العامل الذاتي وتوجيهه، لأن تطور العالم وصيرورته محكومان بالوضع الطليعي للإنسان وقدرته على المعرفة الموضوعية الواقعية وعلى التدخل بطريقة تصورية في توجيه تلك الصيرورة، وبعبارة أخرى فإن «تجربة العالم» لا تستغني عن الإنسان الواعي والعارف الذي يقف موقف «الطليعة» من مسيرة العملية الكونية. وإذا كانت المقولات تتحدد في رأي بلوخ بالشروط التاريخية والاجتماعية فإنها لا ترد إليها تماما، لأنها لا تخرج في النهاية عن أن تكون محاولات مفتوحة ومستمرة لاستخلاص أشكال الوجود وأساليبه بصورة موضوعية وواقعية.
73
هكذا تكون المقولات عند بلوخ أحكاما عامة عن العملية الكونية المفتوحة وعن اتجاهات نزوعها نحو المستقبل. وإذا كان الحديث هنا عن العام والعمومية، فليس ذلك بالمعنى المفهوم في نماذج التفكير الاستنباطي التقليدية التي تتحدث عن المفاهيم العقلية العامة والجزئيات الواقعية الخاصة التي تندرج تحتها أو تستبعد منها إذا كانت لا تدخل في قوالبها. ذلك لأن فلسفة بلوخ لا تتجاهل التغيرات التي تلحق بالخاص أو بالجزئيات الخاصة. ويلجأ بلوخ إلى فلسفة ليبنتز التي يرى أنها توضح العلاقة بين العام والخاص. فالعام عند هذا الأخير لا يقع «قبل» الجزئي أو الفردي الخاص ولا «خارجه» وإنما يكمن في داخله. ولا يوجد عند ليبنتز شيئان متشابهان ومختلفان من جهة العدد وحده، لأن الفردي عنده هو كذلك العام من الناحية المنطقية، أي أن كل الجزئيات الفردية أو المونادات مترابطة من حيث إنها تعكس الكون وتعبر عنه تعبيرات مختلفة وغير متناهية، على نحو ما ينعكس الوجه الواحد انعكاسات لا آخر لها في مرايا مختلفة، وكان التغيرات التي تطرأ على المونادات الفردية في جملتها ليست إلا لحظات من المجموع الكلي المتغير على الدوام.
74
إن المقولة هي حكم عام على الخاص، أو هي حكم على الخاص المتكثر كثرة لا نهائية من خلال العام المشترك، وهي - أي المقولات - تعبر على المستوى الفكري عن أعم التصورات العلاقية. وبذلك تعكس أعم أشكال الوجود المتحرك وأنحائه. وإذا كان من الممكن قيام علاقة بين الوجود والماهية، فإن هذه العلاقة نفسها هي المقولة الأساسية وسائر المقولات تفريعات لها. والمهم في هذا كله أن المقولة الأساسية هي التي تعبر عن العلاقة بين الوجود القائم الذي لم يكتمل، وبين الماهية أو الجوهر الذي سيتحقق أو في طريقه إلى التحقق في المستقبل. فما هي إذن طبيعة هذه المقولة؟ وماذا يعني بها بلوخ؟ (1) ال «ليس-بعد»
Not-yet
إن ال «ليس-بعد» من أهم المقولات المحورية في فلسفة بلوخ. وإن كانت تنطوي على إشكالات أنطولوجية تصدم الفكر العادي وتحيره. وتتلخص هذه المقولة على المستوى الإنساني في هذه الصيغة: إننا لم نكن أو «لم نوجد بعد»، ولذلك «فسوف نكون أو نوجد». كما تتمثل على المستوى الطبيعي في أن العالم المادي «لم يكتمل بعد».
لقد تصور بلوخ أن مقولة ال «ليس-بعد» لا تحتاج إلى برهان أو دليل لأننا جميعا نشعر بهذا الذي لم يوجد بعد «شعورا مباشرا»، وكل ما يحتاج إليه هو أن نصفه، وإنه - كمبدأ فلسفي - يقيني يقين الكوجيتو الديكارتي، بحيث يمكن تسميته - على طريقة ديكارت - «بداهة ما ليس-بعد»، بل إن ال «ليس-بعد» متضمن في الكوجيتو «الديكارتي» نفسه (أي الأنا موجود)، لأنه بداهة إنسانية خالصة يضاف إليها الفكر والمعرفة فيما بعد.
هذه ال «أنا موجود» تظل خرساء معتمة كالحجر حتى تتعلق بشيء خارجي تملكه فتملك نفسها، وهذا الشيء الخارجي ليس إلا العالم الذي لا يزال معلقا بين الوجود والملك، عندما أملكه أوجد، وعندما أوجد أملكه. (أي تتحقق عندئذ وحدة الذات والموضوع، ويزول الاغتراب الذي سبق أن ذكرناه بين الوجود والماهية) وقد عبر بلوخ عن هذا كله في هذه العبارة التي وضعها شعارا لخواطره الأدبية والفلسفية التي جعل عنوانها «آثار»: «ما الأمر إذن؟ إنني كائن أو موجود، ولكني لا أملك نفسي بعد، ولهذا سوف نكون.» فالإنسان إذن كائن، وماهية العالم لن تتفتح إلا فيه ومن خلاله.
75
والواقع أن مشكلة هذه المقولة تكمن في هذه الكلمة الصغيرة «ليس-بعد»، إذ كيف يستطيع الفكر العادي أن يقبل وجود شيء لم يوجد بعد - أي لا وجود له من الناحية الأنطولوجية الدقيقة - في باطن الموجود نفسه حتى لو كان ذلك على سبيل الإمكان، غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في هذا السؤال البسيط: هل نفكر في الوجود من خلال المنطق التقليدي أم من خلال المنطق الجدلي؟ إننا لو فكرنا تفكيرا جدليا لوجدنا أن المسألة أقدم مما نظن، فهي ترجع إلى فلسفة أفلاطون المتأخرة، وبخاصة في محاورتيه بروتاجوراس وبارمنيدس، حيث ناقش مشكلة احتواء الواحد على الكثير وخروج اللاوجود عن الوجود، كما يمكن أن نجد لها تأثيرا على ميتافيزيقا ليبنتز وآرائه شبه الجدلية عن تحقيق إمكان معين من إمكانات بديلة عديدة، ثم إنها ماثلة في شروح هيجل على مثلثه الجدلي الأول بمقولاته الثلاث عن الوجود والعدم والصيرورة.
ولكن هل حلت المشكلة بجعل المقولات جدلية؟ إن بلوخ يضيف ملمحا جدليا جديدا يضع فلسفته في إشكالات غير هينة. فهو يزعم أن ذلك الذي لم تتحقق شروط وجوده بصورة كافية، موجود بالفعل على نحو «ما». وفي كل معرفة واعية إشارات أو دلالات على معرفة أخرى لم يستوعبها الوعي بعد، ولكن يمكنها في المستقبل أن ترتفع إلى مستوى الوعي، وكأننا نملك هذه المعرفة الأخيرة بالفعل وإن لم يتم استيعابها بصورة واعية. ويتمثل الإشكال هنا في أن ثمة - من ناحية الموضوع - وجودا لم يوجد بعد تتجه إليه هذه المعرفة الأخيرة أو تستشعره، وإن لم يتسن لها في الحقيقة أن تعرف عنه شيئا بعد.
ويمكن على سبيل المحاولة توضيح هذا الإشكال بالقول إن الموجود القريب منا قربا مباشرا - سواء على مستوى العالم المادي الواقعي أو على المستوى الباطني والوجداني - يتصف بأنه معتم ومستعص على المعرفة و«اللا» الكامنة فيه لا تصبر على حالة الافتقار والنقص، ولذلك نجد فيه الدافع الذي يحفزه على التعلق بشيء ما والوصول بهذا الشيء إلى ماهيته، وبهذا يمكن التفكير فيه والحمل عليه، أي وصفه بمحمول معين، والعلاقة بين «اللا-موجود» و«الموجود-هناك» هي نوع من التوسط بين الموجود القائم وبين ماهيته الممكنة، بمعنى أن هذه العلاقة تقوم على حضور متميز للماهية.
76
مهما يكن من شيء فسوف نتعرض لشرح المقولات بالتفصيل فيما بعد، ويكفي الآن القول بأن كتاب «مبدأ الأمل» منجم زاخر بمحاولات بلوخ وتجاربه التي لا تنتهي لإثبات الوجود الفعلي لأحلام وأفكار واستشعارات تموج بها أشكال الوعي ومضامينه التي لا نهاية لها أيضا. ولذلك نراه ينطلق كالنحلة الدءوب ليلتقط أشكال الرغبة والشوق والحلم والتوقع والخيال والدوافع التي حركت وعي البشر في شتى الظروف والعصور والديانات والحضارات، محاولا أن يجد لها تفسيرا أنطولوجيا تقوم على أساسه، وأن يشرحها على ضوء العالم الأفضل الذي وجه تلك الأحلام والأشواق للتعبير عنه والسعي إلى بيان معالمه. وقد كان هدفه من كل هذه المحاولات هو أن يثبت وجود تلك المعرفة التي لم تصل إلى درجة الوعي، وأن يبحث عن أمثلتها ونماذجها التاريخية مؤكدا بذلك أن للتفكير «اليوتوبي» مضامينه الواقعية، وأن توقع ما لم يوجد بعد كان عاملا أنطولوجيا وأنثروبولوجيا حاسما في توجيه مسيرة المادة والإنسان على السواء نحو الهوية المبتغاة على مستوى العقل والخيال. وعلى مستوى الوجود والماهية.
وينبغي أن تفهم الهوية هنا بطريقة مختلفة عن طريقة فهم مبدأ الهوية في المنطق التقليدي أو الصوري. فليس المقصود بالهوية أن يصبح الذات والموضوع في هوية مع نفسهما من نفس الجهة، وعلى النحو الذي يوجدان عليه، وإنما المقصود أنهما يتغيران تغيرا مستمرا، وكل ما يمكن فعله والتفكير فيه هو محاولة تحقيق الهوية بينهما والتوحيد بين الوجود والماهية. وبعبارة أوضح فإن مبدأ الهوية يجب أن يفهم جدليا على أنه يحيل إلى هوية ستتحقق في المستقبل، أي إلى الأفق الذي يصبح فيه تحقيق الهوية في آخر المطاف أمرا ممكنا، وتتم فيه - بصورة يوتوبية واقعية - علاقة الوجود بالماهية.
لقد قدم بلوخ فينومينولوجيا ل «ليس-بعد» تماثل فينومينولوجيا الروح لهيجل. وإذا كانت هذه الأخيرة تدور في الحاضر الأبدي، فإن فينومينولوجيا بلوخ تدور في الواقع الفعلي، أي في ال «ليس-بعد» الموجود في جذور الواقع الفعلي الممتد إلى المستقبل. (2) الإمكان
سبق القول إن فلسفة بلوخ نسق مفتوح على المستقبل، ومع ذلك فإنه لم يتجاهل الماضي ولم يهمل الحاضر، بل رأى أن الماضي يحتوي على إرث ثقافي من الممكن الأخذ ببعض جوانبه. هذا الإرث الآتي من الماضي ينطوي على أمل لا تفتر طاقته، كما أن الفكر الماضي الذي نتصور عادة أنه قد مضى وذهب إلى غير عودة، هو في الحقيقة فكر لم يكتمل، وعلى كل عصر أن يكتشف ويطور ما فيه من إمكانات لم تتحقق بعد. وقد أخذ بلوخ من الموروث الثقافي مفهوم أرسطو عن الأنتيليخيا
77
وأسس عليه نظرية عن مقولة الإمكان، وهي إحدى مقولاته الهامة، بل هي ركيزة أساسية في فلسفته اليوتوبية.
وينتقد بلوخ النظريات التقليدية في المعرفة كنظرية التصور (عند الواقعيين) التي تقول بأن الحكم صورة مطابقة للواقع، أو نظرية الإنتاج التي تقول بأن الحكم إنتاج خالص للعقل البشري، ويرى أن النظريتين تتداخلان وتتفاعل كل منهما مع الأخرى بحيث تتمخض عن تفاعلهما نظرية مادية وتاريخية يمكن وصفها بأنها نظرية التقدم المتصل، هذا التقدم هو الذي يستعين به الإنسان الذي يقف في طليعة المستقبل أو المتجه إلى الأمام، ويتعرف على الشروط الضرورية لإمكان هذا التوجه، ويوائم بين الفكر الجدلي المتقدم للأمام وبين النزوع الكامن في العالم نحو إنتاج أشكال جديدة وأنحاء متجددة للوجود.
78
ومن الطبيعي أن تكون تصورات هذا الفكر الجدلي (أو مفاهيمه) مختلفة عن تصورات المنطق التقليدي وألا تخضع في تكوينها لقواعده وقوانينه. وما دام الوجود في حركة مستمرة فلا بد أن تكون الأحكام العامة عن أسلوب الوجود متحركة كذلك، ولا بد من البحث عن التصورات (أو المفاهيم) وهي في حالة النشوء والتكون. بذلك يتغير التسلسل التقليدي الذي يسير من التصور إلى الحكم إلى النتيجة، إلى تسلسل آخر مرن يبدأ من الشيء في حالة الإمساك به بغير تحديد (وهو ما يسميه بالكلمة الألمانية
Ergriff ) ليسير إلى الحكم فالتصور - أو المفهوم
Begriff - فالنتيجة، ومن ثم يكون ذلك الشيء غير المحدد سابقا للحكم، أي يكون مرحلة سابقة وممهدة للموضوع الذي نتصوره ونحدده بإسناد المحمول إليه، أي أن الشيء غير المحدد الذي نبدأ منه يفترض أنه متضمن في الموضوع، ثم يأتي الحكم فيحدده ويجعل منه تصورا (أو مفهوما) عن طريق الحمل، وهذا التحديد حكم يربط الموضوع الذي نسعى لتحديده بالمحمول الذي يحدده.
79
ومقولة الإمكان كمقولة معرفية لها طبقات أو مستويات متعددة تعكس درجات المعرفة. فالعالم الطبيعي ينطوي على إمكانات هائلة ما زالت في حالة كمون، وعلى الإنسان أن يفجر هذه الإمكانات. ويفرق بلوخ هنا بين الممكن الواقعي والممكن الموضوعي، فالممكن الواقعي هو الممكن الذي لم تكتمل شروطه لكي يصبح ممكنا موضوعيا. أما الممكن الموضوعي فهو الذي تتوافر معرفة شروطه، وهو الممكن المتوقع بشكل علمي، وكلاهما لا يكتمل بدون الآخر، لأن الواقع لم يتحدد بعد بشكل كامل، بل يتضمن إمكانيات مفتوحة في شكل صيرورة متجددة دائما؛ مما يدل على أن الواقع الفعلي لا يرفض اليوتوبيا.
80 (3) ما قبل الظهور
pre-appearance
يرى بلوخ أن الخيال، أو المخيلة الخلاقة، وسيلة معرفية لرسم المستقبل. لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يتناول الأعمال الفنية على اختلاف ألوانها وأشكالها، وإن يفتش عن نماذجه الحية بين الأساطير والحكايات والأشعار وغيرها من صور المخيلة التي تجسد ما لم يوجد بعد أو توحي به. بذلك جعل للفن وكل أشكال الرموز والاستعارة والتشبيه والأسطورة ... إلخ مرتبة أنطولوجية رفيعة، فهي تضيف إلى العالم الواقعي معاني ودلالات تشارك في تكوينه وتوجيهه، بقدر ما تعبر عنه وتعكس مضامينه بطريقتها التصورية والموضوعية.
81
هكذا نجد أن المقولة «الأنطولوجية» المتعلقة بما لم يوجد بعد، تناظرها مقولة «وجدانية» في الوعي والشعور. وقد أطلق بلوخ على هذه المقولة تسمية تصعب ترجمتها وإن كان يمكن أن نطلق عليها اسم «ما قبل-الظهور» فكل الأعمال الفنية الكبيرة (كالهرم الأكبر أو لحن الهاليلويا لهيندل ...) تدل بوجودها نفسه في عالمنا الأرضي دلالة مسبقة على وجود آخر لم يتم ولم يستوعبه الوعي بعد (على الخلود وراء الموت في الحالة الأولى وعلى مملكة الرب في الحالة الثانية، وكلاهما في الحقيقة «شفرة» لها دلالتها على النعيم المأمول والسعادة المرتقبة). وفي هذا دليل على أن الفن والدين يتخطيان الحاجز الذي يفصل الإنسان عما لم يتحقق في الوعي، فهما (أي الدين والفن) مظهران سابقان للمتحقق أو هما بمثابة الفجر الذي يبشر ببزوغ الصباح.
ومن الواضح أن كلمة «الظهور» أو المظهر في تسمية هذه المقولة لا توحي بالمعنى الجمالي أو الأخلاقي الذي انحدر إلينا من التراث الأفلاطوني، وجعل المظهر الحسي هو الوجه الفاسد والزائف المقابل للحقيقة الخالدة الصادقة، كما أنها بعيدة عن المعنى الذي جعل بعض الحسيين والظاهريين يؤكدون أن الموجود ليس إلا مجموع مظاهره، أو الذي أغرى بعض علماء النفس الاجتماعي والحضاري وفلاسفة الوجود بالتفرقة بين أن «نكون» وأن «نظهر» أي بين الوجود الذاتي الأصيل والوجود الزائف مثل إريك فروم وهيدجر.
82
فالواقع أن «الظهور» - من جهة الفعل اليوناني الأصلي المرتبط بالنور وما يظهره
phaino - لا يعني أكثر من التجلي بعد الخفاء، بحيث يخرج الموجود من ظلام اللامعروف وغير المدرك ويبدو أمام العين فنقول إنه «ظهر»، وليس هناك ما يدعو لوضع المظهر في مقابل الحقيقة، ما دام أن الحق نفسه (ومن لفظه اليوناني الأصلي وهي أليثيا
Aletheia ) يعني المتجلي في النور بعد الاحتجاب والتخفي (أو هذا على الأقل هو تفسير هيدجر لهذه الكلمة) وليس المهم أن نقول إن الكائن أو الموجود هو ما يظهر، وإنما المهم أن نعرف كيف يظهر. بذلك لا يكون المظهر سلبا لحقيقته، بل كيفية ظهوره لنا، سواء تبين بعد ذلك أنه ظهر في حقيقته أو في مظهر خداع، لأن الحق والخداع هما أنفسهما من أساليب الظهور أمام الوعي المدرك.
83
وينطوي تعبير «ما قبل الظهور» على معنى الظهور أمام الوعي، ولكن الأهم من ذلك هو الوظيفة الزمنية التي تتضمنها كلمة «قبل». وبيان هذا أن ظهور الشيء يفترض الذات التي ينعكس عليها، كما يفترض المسافة الزمنية التي تفرق الظهور الحقيقي (الذي يقابله واقع فعلي أو ممكن) عن الظهور الزائف (الذي هو مجرد وهم خادع أو سراب)، وربما عجزنا في البداية عن التحديد والقطع برأي أكيد، ولكن ربما استطعنا أن نعمل على أن يكتسب «المظهر» في المستقبل حقيقة ويتحول إلى واقع. فالذي يظهر لنا كعمل فني أو أسطورة أو حكاية ... إلخ له واقعيته من حيث دلالته على معاني نختبرها في أنفسنا، أو يمكن أن نختبرها، والذي يظهر لنا من أعمال الفن يوقظ جوانب شعورية وجمالية ومعرفية لم يتم لنا الوعي بها، كما يؤكد لنا وجود إمكان معين - داخل عالم الممكنات اللانهائي - يمكن أن يصبح وجودا فعليا في المستقبل. وهكذا يعمل المغزل الأبدي الذي ينسج ثوب العالم - على حد التعبير المشهور لجوته في «فاوست» - متأرجحا بين واقع ناقص ووعي خلاق حتى يتحقق ما لم يوجد بعد.
84
ولولا العامل الذاتي لاستحال تغيير العالم أو تغيير الواقع على أساس الخطط والأهداف والمحاولة والخطأ، ولولاه لسقط العالم أو الواقع صريع الصدفة والعرضية. والفن هو الشاهد الحي على هذه الوحدة التي تؤلف بين الذات والموضوع؛ إذ «تموضع» الذات نفسها في مواقف وأشكال وأفعال، كما يصبح الموضوع ذاتيا بفضل الخيال الخلاق (سواء في الحزن أو الفرح أو التعبير عنهما)، وفي هذه الوحدة التي يتلاحمان فيها يتجلى لنا العمل الفني الكامل أو المتكامل الذي «يظهرنا» على الأفق الجدلي الشاسع لعملية الإبداع الفني التي يكتسي فيها ثوبه الجمالي الذي يظهر به أمامنا، كما يدل على إمكانات أخرى كامنة يمكن أن تظهر في المستقبل (بصورة مختلفة كل الاختلاف عن ظهور المعطى الحسي المباشر أو الحدث التاريخي أو الموجود الطبيعي) وهو بهذا لا يحدد المستقبل بقدر ما يدل على الأفق اليوتوبي الذي يمكن - بإرادة البشر وتصميمهم ورغبتهم وإبداعهم - أن يتحقق فيه على مستوى الوجود والوعي على السواء.
بهذا المعنى يمكننا أن نبرر وصفنا للعمل الفني بأنه عالم كلي متكامل، ارتفع فيه الواقعي العارض إلى صعيد الضرورة، ودل فيه الخاص على العام، ولو تأملنا بعض الأعمال الخالدة في الفنون المختلفة والعصور المتتابعة (مثل الأهرام في مصر، ومعابد البانثيون في روما، والأكربوليس الأثيني، أو كوميديا دانتي الإلهية، أو هاملت شكسبير، وموناليزا دافنشي، أو عذراء جوتو ... إلخ) لاقتنعنا بأن الجمال وجود كامل في ذاته، وأن العمل الفني الذي يتحقق فيه الكمال يقف وسط الموجودات الأخرى وقفة «الموجود الكامل»، كما يدلنا دلالة مسبقة على الوجود الإنساني الذي يمكن أن يحقق وحدته أو هويته مع ذاته. وبهذا المعنى أيضا تصدق عليه الكلمة التي تعذر علينا إيجاد المقابل العربي الواضح لها، وهي «ما قبل-الظهور» التي نرجو أن يكون الشرح السابق قد بين دلالتها «اليوتوبية» على إمكان تحول الواقع المعيش - بكل شروره ونواقصه واغترابه - إلى يوتوبيا تجسد الأمل الدائم في تحقيق الهوية والكمال والحرية. (4) الأمل
Hope
ينطلق بلوخ من السمة الجوهرية للحاضر وهي عدم الاكتمال والقلق الذي يميزه ويطلق على كل ما هو مدفوع للأمام وكامن في كل لحظة اسم «الأمل». ولكنه ليس بالأمل الذي يقتصر على مجرد التمني والرجاء، بل الأمل الذي يؤكد وجود الإنسان الذي «لم يتحقق بعد» ويثبت افتقاره المستمر إلى أن يملك ذاته وهويته ويتغلب على اغترابه، وهو ينبع من خطة مدروسة ترتبط بالمعرفة الدقيقة بالواقع وتستهدف الممكن الأفضل الوشيك التحقق. هذا الأمل المدرك بشكل عيني وعملي هو عماد هذه الفلسفة الطموحة المتفائلة. وهو يقف في «الطليعة» من تقدم العالم بوصفه مادة مفتوحة على وجود يوتوبي ممكن. ثم إنه هو المبدأ النسقي اليوتوبي الذي يقصده بلوخ للكشف عن حقيقة التاريخ الذي يتجه نحو المستقبل وإطلاق ما فيه من إمكانات كامنة لم تظهر بعد.
وعلى الرغم من معرفة بلوخ بأن الأمل في مجتمع إنساني أفضل يمكن دائما أن يصدم ويصاب بالإحباط، إلا أنه لم يفقد الأمل أبدا ولم يعتبر أن خيبة الأمل مرادفة لليأس: «إن الغد يحيا في اليوم، والناس تتطلع إليه على الدوام. لقد اختلفت الوجوه التي اتجهت ناحية اليوتوبيا من عصر إلى عصر، كما اختلفت آراء أصحابها في تفاصيل هذه اليوتوبيا. ولكن الاتجاه نفسه والغاية منه لم يتغيرا. إنهما الثابت الوحيد الذي لم يتغير خلال التاريخ وإن اختلفت الصور المعبرة عنه. فالسعادة والحرية وعدم الاغتراب، والعصر الذهبي والأرض التي يسيل منها اللبن والعسل، والأنثى الخالدة في فاوست، وصوت البوق الذي يعلن عن بعث جديد في نهاية أوبرا «فيديليو»
Fidelio
لبتهوفن ... إلخ؛ كل هذه شواهد وصور مختلفة تدور حول شيء واحد ينطق وإن كان لا يزال صامتا.»
85
أخيرا يمكن القول إن الأمل عند بلوخ هو اليوتوبيا، وإن مبدأ الأمل هو مبدأ يوتوبي، وهو المبدأ الوحيد الذي يعتقد بلوخ أنه يتحكم في كل التغيرات. ومع اختلاف صور التعبير عنه من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فإنه يظل في رأيه مبدأ واحدا يسميه بلوخ بأسماء عديدة مثل الجديد، الأقصى، الكل اليوتوبي، الماهية، وهو في النهاية الوطن. وإذا كان الأمل عنده يدور في فلك الماركسية، فإنها ماركسية يجب النظر إليها نظرة خاصة مختلفة عن الفلسفة الماركسية الرسمية، أو تلك التي تحولت أثناء تطبيقها في التاريخ والواقع إلى فلسفة رسمية. وهذه الماركسية التي يدور الأمل في فلكها متحركة وليست ثابتة ولا تنتهي عند هدف محدد. إنها مفتوحة على آفاق الممكن اللانهائي؛ لذلك نجد مقولات أخرى مثل الأمام والأقصى ترتبط ارتباطا وثيقا بمقولة الأمل وتندفع معه نحو مستقبل مفتوح. (5) الأمام
Front
يسير العالم في عملية جدلية يضع لها بلوخ ثلاث مقولات: الأمام والجديد والأقصى. وهذه المقولات مرتبطة ب «اللا» وال «ليس-بعد» ارتباطها بأساس العملية الجدلية (الصيرورة) وقوامها وهي المادة. فاللا - التي تمثل الاحتياج والافتقار والقوة الدافعة في داخل الآن - هي التي تمثل «الأمام». وال «ليس-بعد» - وهي زمانية بطبيعتها وتعبر عن المستقبل الذي ينمو ويتبرعم ثم يزدهر في التاريخ - تتمثل دائما في «الجديد» الذي يمكن أن يتفتح في المستقبل ويتجه إلى «الأقصى» الذي هو غاية العملية الجدلية.
والأمام هو ذلك الجزء المتقدم من الزمان الذي سيحسم فيه المستقبل، والذي نحيا فيه ونعمل. ولهذا فإن الأمام يقع دائما في الآن، وبتعبير أدق في «آن-اللا» التي تتميز دائما بالخروج من نفسها والاندفاع إلى الأمام، بحكم ما فيها من نقص أو افتقار واحتياج وجوع. ومع أن «اللا» المتعلقة «بالأمام» تكمن دائما في اللحظة المعيشة المباشرة، أي في اللحظة المعتمة أو المظلمة التي لم تبلغ مستوى اللحظة المجربة، ومع أن هذه «اللا» لا تملك ذاتها بعد، وأن الوجود أو الكينونة التي تنطوي عليها ونعبر عنها بفعل «أكون» أو «يكون» لم يملك ذاته أو أساس وجوده بعد، فإن هذه اللحظة المعيشة تظل على علاقة بالجديد، لأنها هي الموضع الوحيد الذي يمكن أن نجد فيه «اللحظة المواتية» التي تفرض علينا أن نغتنمها ونحسم فيها موقفنا واختيارنا، ولا ندعها تفلت منا لأنها قد تفلت إلى الأبد فنتحسر عليها إلى الأبد. وكل لحظة يعيشها الإنسان تحت الشعار المعروف «استمتع بيومك
Carpe diem » هي في الواقع لحظة أو «آن» يتسم ب «اللاتملك»، ويمكن أن تكون هي موضع التوسط «الجدلي» نحو «الأمام» وبخاصة في فترات التحول الحاسمة، هذه الفترات التي نشعر فيها بأن الأمور لا يمكن أن تستمر على الصورة المعتادة، كما نحس أن الحالة الحاضرة تؤذن بحالة أخرى قادمة، وأن الوجود الآني هو المعبر إلى هذه الحالة التي تنقلنا إلى الأمام.
86 (6) الجديد
Novum
أما «الجديد» فهو المضمون المتجدد على الدوام للمستقبل من خلال الإمكان الواقعي، وهو ما يوجد في الوعي ثم ينتزعه الإنسان من المستقبل بإرادته وبما يريد أن يكون، أي «من خلال اتحاد الشجاعة والمعرفة، فالمستقبل لا يأتي بنفسه للإنسان ولا يهبط عليه هبوط القدر.»
87
هذا الجديد هو الذي يتأسس على الإمكان الواقعي لما لم يتم الوعي به بعد، وما لم يصر بعد، وهو الذي يعد بمستقبل حقيقي لم يسبق وجوده من قبل، بشرط أن يلقي الضوء الكافي على شروطه النظرية والعملية، وتتوارى شروطه غير الكافية أو المظلمة. والجديد الواعد بالخير لا يكون جديدا جدة مطلقة، إذ سبقته تشكلات تاريخية وأحلام، فلا بد أن يكون قد تمثل في الماضي على هيئة حلم أو تكون أشكاله المثمرة قد تفتحت خلال التاريخ السابق، وليس المقصود بالماضي هنا تقديس القديم أو «تصنيم» التاريخ بالمعنى الذي يقصده المروجون لأسطورة الأصول والمنابع الأولى وأصحاب النزعة التاريخية الذين يتعبدون أصنام التاريخ. وإنما المقصود هو الماضي بمعناه المستقبلي الحي، كما يتمثل في الأعمال المبدعة التي تتخطى زمانها وتبدو في كل عصر لاحق في صورة جديدة تكملها وتلقي المزيد من الضوء على روعتها. والواقع أن هذا هو المعيار الحقيقي والعنصر الأساسي المكون لكل ما يستحق أن يسمى بالميراث الحضاري، ففيه يولد القديم من روح الجديد الكامن فيه، وتكون العودة إليه دائما عودة منتجة وواعدة بشيء جديد في مستقبل جديد، وكأن الماضي الحقيقي سفينة تندفع بكل ما عليها من أحمال أصيلة نحو الشاطئ الذهبي لأرض اليوتوبيا. وبمقولتي «الأمام» و«الجديد» السابقتين يعارض بلوخ كل الفلسفات التي لا تأتي بجديد، والفلسفات التي تضع التقدم في شكل دائري، كما يعارض بهما أيضا النزعة الحيوية عند برجسون والمعرفة التي تقوم على التذكر من أفلاطون إلى هيجل، لأن كل هذه الفلسفات تخلو في رأيه من الجديد.
88 (7) الأقصى
Ultimum
وينطوي مفهوم «الجديد» على مفهوم «الأقصى» أو النهائي الأخير، وإن جرد بلوخ هذا الأخير من معانيه الأخروية المتعالية
89
وجعله جزءا لا يتجزأ من المنظور المستقبلي الذي تتجه إليه عملية الصيرورة الجدلية الهائلة التي تجرف الوجود والموجود على السواء ولا تتوقف أبدا عند الماضي، بل تفهمه فهما مستقبليا، وتتجه نحوه مدفوعة بالقصد «الذاتي» والنزوع «الموضوعي» اللذين يمثلان جناحي الإمكان الكامن في الصيرورة نفسها. هذه الصيرورة التي يمكن أن تنتهي إلى العدم أو إلى الجحيم كما حدث مرارا في الكوارث التاريخية، أو إلى «الكل» أو النعيم في صورها الدينية والفنية المختلفة. والمهم هو أن تؤدي هذه الصيرورة «للجديد» التاريخي، أي للبعد الذي يجد فيه «الأمل الفعال» مجاله وتربته الخصبة، وأن يمتلئ عالم الصيرورة بالاستعداد والنزوع لإظهار شيء يمكن أن نسميه «الجديد» الحاسم الذي سبقه أكثر من جديد على الطريق إلى ما يمكن أن نسميه «الكل اليوتوبي» أو ماهية الوجود وأساسه.
لقد كاد الحدث اليوتوبي الهائل - الذي لا يزال يتم في العالم - أن يبقى بلا ضوء يسلط عليه. وها هو ذا الرحالة الحالم يندفع بكل ما لديه من طاقة وما ادخر من زاد المعرفة ليجوب أرجاء الأرض المجهولة من أقصاها إلى أقصاها، لا ليحدد خطوط العرض والطول، بل ليتحسس أبرز المعالم ويرسم لها لوحات غنية بالألوان والدلالات التي تدخل في إطار النسق المرن المفتوح، وتسري فيها الأفكار المحورية التي تلخصها كلمات مثل التوقع، والأمل، والقصد والإمكان الذي لم يتحقق بعد.
لا بد في نهاية هذا الفصل من التنويه بأن هذه المقولات لم يعرفها بلوخ بشكل مستقل وتفصيلي، باستثناء مقولتي ال «ليس-بعد» و«الإمكان». وقد تناول الأولى في إطار البناء الأنثروبولوجي لفلسفة الأمل الذي يقوم على مقولة ال «ليس-بعد»، وتتبعها منذ نشأتها الأولى في الوعي الذاتي حتى تطورها واشتقاق البناء الأنطولوجي منها، وهو البناء الذي يقوم على مقولة الإمكان. وقد خصص بلوخ لهذه الأخيرة فصلا مستقلا في «مبدأ الأمل» وشرحها شرحا مستفيضا، وتناول أبعادها القديمة والحديثة، وقسمها تقسيمات دقيقة. أما باقي المقولات فلم يتناولها بمثل هذا التفصيل، على الرغم من استخدامه لها في كل صفحات «مبدأ الأمل» بطريقة تكشف عن أن هذه المقولات ما هي إلا توابع للمقولتين الأساسيتين، أو بمعنى آخر أنها - أي المقولات - هي الهدف الذي تتجه إليه هاتان المقولتان، لأن ما لم يوجد في الوعي أو الذات البشرية، وما لم يتحقق بعد من إمكانات كامنة وقابلة للتطور في الواقع المادي لا بد أن يسكن في «الأمام» - بالمعنى الآني الذي تم التعريف به - وأن يتجسد في «الجديد» المقبل والقابع في المستقبل، وأن تكون المادة في الوعاء الذي يحوي كل هذه الإمكانات ويضمن تحقيقها، وأن يتجه كل هذا ناحية الأقصى أو الهدف النهائي للأمل وهو «الكل اليوتوبي».
ولا يمكن أيضا حصر عدد المقولات التي تضمنها نسق بلوخ الفلسفي على النحو الدقيق الذي نجده عند فلاسفة مثل أرسطو أو كانط أو هيجل أو غيرهم. فباستثناء مقولتي ال «ليس-بعد» و«الإمكان» لم يقدم دراسة منهجية دقيقة عن باقي المقولات، ولم يحصر عددها، ولذلك توجد اختلافات كثيرة بين الباحثين حول هذه المقولات سواء في عددها أو أسمائها.
وأخيرا لا بد من التنويه إلى أنه لا يمكننا أن نتفهم مقولات بلوخ إلا إذا تصورناها متعلقة بالوجود في حالة الصيرورة، وفي هذه الحالة وحدها - أي في حالة تعلقها بالوجود الواقعي المتحول - يمكن أن تعبر عن نماذج موضوعية، وذلك بانخراطها في خضم العملية الجدلية التي تتكون فيها أشكال الوجود، وبتقدمها عليها. وهي لا تكتفي في بحثها عن هذه الأشكال الموضوعية بأن تعبر عن شيء أو تعكسه، وإنما تقوم كذلك بتكوين أو تشكيل نفسها بصفة مستمرة كأشكال موضوعية لعالم الصيرورة التاريخية في مجموعها المتكامل. بهذا المعنى وحده يمكن أن نتلافى سوء الفهم الذي يمكن أن نقع فيه عندما نتصور أن المقولات أشكال ثابتة أو ساكنة، فكلما فهمناها فهما جدليا أمكننا كذلك أن نتصور غناها بالمضمون وقدرتها على أن تقول لنا الشيء الكثير عن نفسها وعن الوجود المتحرك نحو الجديد اليوتوبي.
الفصل الثاني
البناء الأنثروبولوجي للأمل
إن جوهر فلسفة بلوخ وبناءها النظري يقومان على جانبين أساسيين، أحدهما أنثروبولوجي والآخر أنطولوجي، ويعد الأول الجذر الأساسي الذي يقوم عليه الثاني، ويرتكز الجانب الأنثروبولوجي على مقولة ال «ليس-بعد» التي يستشعرها الإنسان في وعيه بالاحتياج والافتقار إلى شيء لم يملكه ولم يوجد بعد. كما يقوم الجانب الأنطولوجي المترتب عليه على مقولة الإمكان وما تكشف عنه من إمكانات كاملة في الواقع ولم تتحقق بعد، ولكن كيف يمكن التعرف على هذا الذي لم يوجد بعد؟ وكيف يتسنى له أن يتحقق في الواقع حتى الآن؟ وكيف يتيسر إمكان تحقيقه تحقيقا عينيا ؟ إن هاتين المقولتين «الليس-بعد والإمكان» تكمنان في الذات الإنسانية والعالم الطبيعي معا. فكيف يمكن التعرف عليهما؟ وكيف يتم الوعي بهما في هذين المجالين؟
يتضح هذا عندما نعرف أن العالم الموضوعي يتصف دائما بأنه عالم لم يكتمل بعد. وينعكس هذا على الذات الإنسانية في صورة سخط على الواقع ورغبة في تجاوز المعطى الذي لم يصل بعد إلى حد إرضاء الذات وإشباع رغباتها. فهناك علاقة جدلية بين الذات الإنسانية وذلك العالم الموضوعي، وهذه العلاقة التي يدور حولها مبدأ الأمل، هذا المبدأ الذي تطور عن جذرين أساسيين أحدهما أنطولوجي والآخر أنثروبولوجي. ويتطلب عرض البناء النظري لفلسفة بلوخ البداية بتناول البناء الأنثروبولوجي لأنه الأساس الذي يقوم عليه البناء الأنطولوجي. ونعود الآن إلى السؤال كيف يمكن معرفة ما لم يوجد داخل الذات البشرية؟ وكيف يكتشف ما يطلق عليه اسم الوعي بال «ليس-بعد» داخل الوعي؟
واصل بلوخ عمله حتى اكتشف في باطن الإنسان عالم «الرغبة» الذي انبثق منه ما سماه الوعي بال «ليس-بعد» أو «ما لم يصبح بعد»، ثم وضع يده على الأساس الأنطولوجي لتفسيره الجدلي المادي للعالم فيما سماه بمقولة «الإمكان» أو «ما لم يتحقق بعد».
فالرغبة، وهي الصفة التي يشترك فيها كل البشر - لم يتم بحثها، ولم يتم الوعي بها، على الرغم من أنها تملأ وجدان الناس جميعا، كما تملأ أفق كل موجود. لقد عجزوا حتى الآن عن إدراك مفهومها ومعناها، هذه المنطقة المزدهرة بالأسئلة والمشكلات لم تزل حتى الآن خرساء في تاريخ الفلسفة. فالحلم المتجه إلى الأمام لم يتأمله أحد بصورة كافية، والقادم المنتظر بأسره قد ظل - في رأي بلوخ - حتى عهد ماركس لا يسترعي انتباه العالم، ولا يجد له مكانا، مع أنه يستحق أن يشغل وضع المركز فيه.
الواقع أن الوعي الإنساني (بما في ذلك اللاوعي وما قبل الوعي)، بوصفه تأمل المادة لنفسها، هو أول ما يعكس مجال الإمكان لما لم يوجد بعد. ومظاهر الانعكاس ثلاثة عند بلوخ؛ وهي التوقع، واليوتوبيا، والفانتازيا الموضوعية. وهذه المظاهر الثلاثة ليست مفتعلة ولا من قبيل الأوهام التي يقع فيها أو يسترسل فيها التفكير الحالم، ولكن لها أساسها في العالم الموضوعي - كما سيتبين بعد قليل - كما يمكن تعقب أصلها في الذات البشرية.
ينطلق البناء الأنثروبولوجي لفلسفة الأمل من نظرية هامة من نظريات علم النفس، ألا وهي نظرية الدوافع التي يرى بلوخ أنها الأصل في السلوك البشري، وكذلك يهتم بإبراز الوعي الذي يظهر وراء الدوافع. والجوع من أهم هذه الدوافع، فأول ما يعيه الإنسان هو الإحساس المؤلم بالعوز والحاجة، لأنه لا يملك ما يجب أن يملكه لكي يعيش راضيا. وفلسفة بلوخ تتعرف على آثار الوعي الماضي بهذا الافتقار، وتتبعه في تقدمه للأمام. ويبدأ هذا منذ اللحظة الأولى للميلاد مع الطفل الرضيع، الذي يشعر بالجوع فيصرخ متلهفا على ثدي الأم لكي يسد حاجته الملحة، وكلما امتد به العمر شعر شعورا متجددا بما لا يملكه، وازداد إحساسا بأنه لم يكتمل بعد.
نعود إلى السؤال الأول مرة أخرى: كيف يستشعر الإنسان أو يدرك ما لم يملكه بعد؟ لقد بدأت رحلة بلوخ من البذور الأولى لهذا الإدراك، وذلك لكي يتحسس خطى الوعي البشري منذ بدايته الأولى، أي قبل أن يكتمل الوعي ويتطور وينضج ويظهر للنور، كما اقتفى آثار الحلم البشري ليكتشف أن الحلم بحياة أفضل يداعب خيال الطفل منذ اللحظات الأولى للوعي والإدراك. والحلم هنا ليس هو الحلم الذي يراه النائم أثناء الليل، ويتناوله علماء النفس بالتحليل والتفسير، فهذا النوع من الأحلام التي يغيب عنها الوعي والإرادة ليست من قبيل الأحلام التي تسترعي انتباه بلوخ. بل إن ما يعنيه هو الحلم كمقولة معرفية، أي الحلم الذي يتم في وضح النهار ويعي واقعه ويتسلح بإرادة تغييره. إنه الحلم المبدع الخلاق الذي يؤدي فيه الخيال البشري والإرادة البشرية دورا أساسيا في كل عصور التغيير، وكل الإنجازات العظيمة التي تمت في التاريخ البشري سبقتها أحلام كثيرة رسمت ملامح هذا التغيير ووضعت خطوط تلك الإنجازات.
لقد قامت فلسفة بلوخ في جانبها الأنثروبولوجي على وصف ظواهر الوعي الذاتي للإنسان وتجاربه الأولى وتتبع أحلامه، بوصفها إحدى مظاهر هذا الوعي. ولفهم نسقه الفلسفي يجب الحديث أولا عن الوعي وطبقاته ومعوقاته التي حالت حتى الآن بين الوعي بال «ليس-بعد» وبين الظهور إلى النور.
أولا: نشأة الوعي
يتتبع بلوخ نشأة الوعي البشري منذ بدايته الأولى عند الطفل. ففي هذه المرحلة المبكرة من العمر تنم الأحلام والأمنيات غير الواضحة عن تمرد الطفل على عالمه الصغير، ويتمثل هذا في تدميره لكل ما يعطى له من ألعاب بدافع حب الاستطلاع واكتشاف حقيقتها، ثم يلقي بها جانبا للبحث عن المزيد. ذلك أن ما يريد الطفل اكتشافه لم يوجد بعد. ويكبر الطفل ويضيق بغرفة الألعاب، ويذهب مبكرا إلى النوم لتأخذه الأحلام إلى ما وراء عالمه الواقعي، متجاوزا بأحلامه المكان والمجتمع معا. ويستشهد بلوخ بالعديد من الحكايات الشعبية
1 - من التراث الألماني والعالمي - التي تتجاوز كل العلاقات الزمانية والمكانية والاجتماعية، كما تلغي قوانين المنطق الأساسية، وتستغني عن الشروط الموضوعية للوقائع والأحداث، بحيث يصبح كل مستحيل ممكنا على مستوى الخيال والحلم. إن لهذه الحكايات أثرا كبيرا على خيال الطفل في المراحل المبكرة من عمره، فالخيال - كملكة إبداعية. له من الإمكانيات الهائلة ما يجعله عاملا فعالا في صعود أو ترقي الجنس البشري.
وفي الثالثة عشرة من عمره يبدأ الطفل في نسج الأساطير والتحدث عن أشياء لم يجربها بعد، كما يبدأ في الحلم بحياة أفضل من تلك التي يوفرها له والداه. وعندما يبلغ السابعة عشرة من عمره، وهي أكثر فترات العمر اضطرابا، يرسم الطفل - الذي صار شابا - صورة ذهنية للمستقبل. ويشبه بلوخ الأحلام الفجة في هذه الفترة القلقة ببدايات الأحلام البرجوازية التي لم تبلغ درجة النضج. ويمضي بلوخ في تتابع آثار الحلم البشري بأبعاده وأنواعه المختلفة، فهناك أحلام حمقاء وأخرى مزدهرة مفعمة بالألوان. وهناك أحلام الرجل العادي - التي لا تتعدى الترقي الوظيفي في مجال العمل أو الحلم بالمغامرات الجنسية - وأحلام الرجل المنعزل الذي ينسج حكايات تدور حول ذاته. وهناك أحلام الطبقة الفقيرة المحرومة التي تظهر فيها الأماني الحقيقية أكثر مما تظهر لدى طبقة الأغنياء، لأن هذه الأخيرة ليس لديها سبب يدعوها للثورة على الواقع السائد، ولأن كل ما تحلم به هو اختراع أشياء تتكبر بها على الطبقات الأدنى منها.
وفي المرحلة المتأخرة من العمر تتراجع الأماني المثيرة، فبينما يكتفي المراهق بالتمرد على المجتمع وعصيان تقاليده، نجد الرجل الناضج يكرس قدرته لمحاربة هذا المجتمع، وأما كبار السن فيضيقون بالعالم من حولهم، وإن كانوا لا يقفون ضده بل يبقون في حالة عويل ونواح عليه. وأما مرحلة الشيخوخة فيسودها الشعور بوداع الفرد للحياة، وتظهر فيها أمنيات العودة إلى الشباب والاستغاثة بذكرياته ومحاولة التأنق والسلوك مسلك الشباب. ويشبه بلوخ هذه المرحلة من العمر بالمجتمعات البرجوازية التي تستميت في التظاهر والتزين لتبدو في أجمل صورة. وتعد هذه في نظره مرحلة مرضية في تطور الفرد والمجتمع على السواء، لأنه ينظر إلى الشيخوخة نظرة أخرى ويضعها في بعد هام من أبعاد التجربة الاجتماعية؛ ذلك أن الشيخوخة هي حصاد ما يسميه بلوخ ب «العقل الجليل». فالمجتمع المزدهر لا يخاف من النظر إلى النهاية كما هو الحال مع المجتمع البرجوازي الذي يخدع نفسه ويتزين هربا من مواجهة النهاية المحدقة به. ويستشهد بلوخ بما يقوله فولتير (1694-1778م) في هذا المعنى إذ يرى أن مرحلة الشيخوخة أشبه بالشتاء، وهي بالنسبة للمثقف مرحلة جمع الأعناب وعصرها، ولا يعني هذا استثناء لمرحلة الشباب وإنما يتضمنها أيضا بعد أن وصل إلى مرحلة النضوج.
2
وهكذا تكون مرحلة الشيخوخة مرحلة اجتماعية جديدة، خالية من غرور الشباب وحدته، مرحلة أكثر حكمة وقدرة على رؤية كل هام وأصيل، ونسيان العارض والزائل.
كيف نشأ هذا الوعي وكيف تطور؟ يقدم بلوخ نظرية في نشأة الوعي، قوامها أن الدوافع وراء نشأته، وأن التجدد المستمر للدوافع وراء تطور الوعي على مستوى الذات البشرية والعالم الخارجي معا. فالدوافع هي التي تحركنا إلى الأمام، وهي تعبر عن نفسها في شكل صراع ورغبة في تحقيق شيء محدد في الخارج، وإذا أشبعت هذه الرغبة، سرعان ما تتجدد وتتولد رغبات أخرى جديدة. وتنشأ الرغبة في البداية نشأة بيولوجية قبل أن تأخذ بعدا تاريخيا، «ففي الطفولة لا يملك الإنسان إلا جسده وثدي أمه (وهو في هذه اللحظات الأولى لا يكاد يميز أحدهما عن الآخر). ثم يبدأ في التوجه إلى العالم من حوله ويشرع في أخذ مكان فيه. وتكون البداية بالرغبة في امتلاك أشياء مختلفة، ملكية الأم، والأب، والأخوات والإخوة، واللعب، وفي أوقات لاحقة يشرع في تحصيل المعلومات، ثم يسعى للحصول على وظيفة، ومكانة اجتماعية، وزوج، وأطفال، وأخيرا يشرع في امتلاك شيء من مقتنيات ما بعد الحياة.»
3
ويشترك كل من الإنسان والحيوان في هذه الرغبات، وبينما تقتصر رغبات الحيوان على كل ما هو حسي، نجد الإنسان وحده هو القادر على رسم هدفه وتحديده، وهو أيضا الكائن الوحيد القادر على التمني الذي ينشأ من تخيل ما هو أفضل، وعادة ما تكون الأمنيات صورا مزدهرة ومفعمة بالألوان المشرقة. إن الإنسان تحركه مجموعة من الدوافع المركبة. لكن هذه الدوافع ليس لها وجود مستقل عنه، فهو دائما يقف وراءها لإشباعها، وعندئذ تظهر دوافع ورغبات أخرى إلى ما لا نهاية له. إن الإنسان يشعر دائما بالافتقار كما لا يشعر به مخلوق آخر، وقد تطورت الدوافع مع تطور التاريخ وظلت على الدوام نهمة لا تشبع.
4
إذا كان الوعي ينشأ عن الدوافع فما هي هذه الدوافع؟ هل هي تلك التي يخضعها علم النفس للدراسة والتحليل؟ وهل هناك اختلاف بين ما يهدف إليه بلوخ من بحثه في الدوافع، وبين ما توصل إليه علماء النفس في نظرتهم إلى الدوافع؟ الحق أن الاختلاف لا يكمن في عدد الدوافع أو نوعيتها، وإنما يكمن في تحديد الدافع البشرى الأساسي الأول. والاختلاف حول هذا الموضوع لا يقتصر على بلوخ وعلماء النفس؛ إذ نجد علماء النفس مختلفين فيما بينهم حول تحديد هذا الدافع الأول. فالدافع الجنسي هو محور إنسان فرويد (1856-1939م)، وإلى جانبه توجد دوافع أخرى للذات أو الأنا العليا التي تقف معارضة للقوى الجنسية، وتنشأ العقد النفسية من كبت الأنا للدوافع الجنسية وطمسها أو قمعها في اللاوعي بحيث تختفي من وعي الأنا. وكل ما أراده فرويد من التحليل النفسي هو إظهار الكبت واللاوعي إلى النور للتمكن من قهر الاضطرابات العصبية والنفسية والسيطرة عليها.
5
وليس الهدف هنا الاستطراد في الحديث عن اللاوعي والتحليل النفسي الفرويدي، ولكن الهدف هو بيان الاختلاف بين «لا وعي التحليل النفسي» ووعي ال «ليس-بعد».
إن التقدم الذي يحرزه علماء النفس في أبحاثهم لإظهار اللاوعي إلى النور ورفعه إلى مستوى الوعي لا يخرج عن تفسير ما هو موجود بالفعل، أي ما كان مكبوتا في اللاوعي وجاء الوعي ليطلق سراحه. وبذلك يمكن القول إنه لا جديد في الوعي الفرويدي. وها هو ذا إريك فروم يقر بأن الإنجاز الأساسي لفرويد في التحليل النفسي هو الكشف عن التعارض بين السلوك والشخصية، بين القناع الذي ألبسه والحقيقة المختفية وراءه. وتوصل فرويد إلى أسلوب «التداعي الحر، تحليل الأحلام، التحويل، والمقاومة» هدفه الكشف عن الرغبات الغريزية (الجنسية أساسا) التي تم كبتها في الطفولة المبكرة. وحتى بعد التطورات اللاحقة في نظريات التحليل والعلاج النفسي التي أكدت أهمية الصدمات التي حدثت في مجال العلاقات مع الآخرين، وليس في المجال الغريزي فحسب، فإن المبدأ ظل هو أن ما تم قمعه هو الرغبات والمخاوف الصدمية المبكرة، والسبيل للشفاء من الأعراض والأمراض بشكل عام هو الكشف عن هذه الأمور المكبوتة، وبتعبير آخر، فإن ما جرى قمعه هو العناصر الطفولية واللاعقلانية الفردية في التجربة.
6
ويظهر هذا بشكل أوضح عند يونج (1875-1961م) الذي أحال مضمون اللاوعي إلى النماذج الأولية؛ إذ يرد «علم النفس التركيبي» عنده الاضطرابات العصبية - على حد تعبير بلوخ - إلى ليل أسلافها. وبينما يحلل علم النفس التحليلي الرمز إلى أجزاء أساسية، يقوم علم النفس التركيبي بتكثيف الرمز إلى تعبير يمكن إدراكه وفهمه.
7
وهكذا نرى أن اللاوعي الفرويدي فردي مملوء بمجموعة من الدوافع المكبوتة المكتسبة بطريقة فردية من الماضي القريب، في حين أن اللاوعي اليونجي جمعي وبدائي، وكلاهما لا يتضمن شيئا جديدا، وإنما يهرب من الحاضر ويدمر المستقبل. ولا يختلف الأمر عن ذلك كثيرا عند آدلر (1870-1937م) - مؤسس علم النفس الفردي - فكل شيء عنده ينشأ منذ البداية بصورة فردية من خلال اللاوعي . وعلى الرغم من أن الدافع البشري الأساسي عند آدلر قد أصبح هو إرادة التسامي والعلاء، إلا أنه لا يعد من الدوافع الأساسية في نظر بلوخ.
إن كل نظريات علم النفس لم تبدأ من أبسط الدوافع البشرية وأهمها على الإطلاق، ألا وهو دافع الجوع. وهذا الدافع الذي لا بد من إشباعه أولا ليحفظ الفرد حيا - والذي استبعدته نظريات علم النفس من أبحاثها - يسميه بلوخ دافع المحافظة على النفس
Self-Preservation
إن الدوافع الأساسية عند كل من فرويد ويونج وآدلر، هي عند بلوخ بمثابة أوثان أو أصنام مطلقة انتزعت من الجسم الإنساني الحي الذي يحرص قبل كل شيء على حقه في البقاء، وهذه الدوافع لا تناقش الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، مع أن صرخة الجوع هي الدافع الأكثر إلحاحا، الذي يظهر بشكل عيني مباشر، والجوع دافع لا يمكن تجنبه، ناهيك عن استحالة كبته في اللاوعي: «إن المعدة هي المصباح الأول الذي يجب أن يصب فيه الزيت إذا أريد لرحلة الحياة أن تبدأ.»
8
وتأسيسا على النقد السابق يصف بلوخ علم النفس الفرويدي بأنه علم نفس برجوازي، لأن الشهوة التي يعاني منها أفراد الطبقة البرجوازية - وهم زوار فرويد ومرضاه - هي التي جعلته يضع الدافع الجنسي في مقدمة الدوافع البشرية. إن هذه الطبقة لم تعان الفقر ولا تعرف حقيقة الجوع، وصرخته القوية لن يعرفها سوى أفراد الطبقة الدنيا الذين ليسوا من المترددين على فرويد ولا يخضعون لتحليله النفسي، أضف إلى هذا أن الحافز على الصراع الذي تخوضه الطبقة الكادحة لم يأت من الشهوة الجنسية كما تصور فرويد، ولا من العلو على الشعور بالدونية وعلى قناع الشخصية الذي لا يلائمها كما تصور آدلر، ولا من النكوص والتراجع للعصور الأولى كما تصور يونج. فليس هناك تصور جنسي للتاريخ ولا تفسير للعالم من خلال الشهوة وانحرافاتها، وإنما يكون التفسير الصحيح للتاريخ على أساس الاقتصاد وبنائه الفوقي. والواقع أن العامل الاقتصادي هو لب الموضوع، وإذا كنا لا نستطيع أن نقول إنه هو العامل الوحيد، فهو العامل الأساسي الذي يعبر عن «المصالح الأولية » التي تحرك التاريخ.
هكذا يتضح أنه ليست هناك دوافع مطلقة، فكلها تخضع للتغير التاريخي بحيث تنشأ دوافع جديدة مع أهداف جديدة لكل عصر تاريخي. ولا يمكن للإنسان أن يرتد للبدائية الأولى مرة أخرى بعد أن روضته التغيرات التاريخية. قد يتحول إلى البربرية مرة أخرى، لكنها بالتأكيد ليست البربرية الأولى، بل نوع آخر جديد. ولو نظرنا إلى هؤلاء البشر الذين نطلق عليهم - في أيامنا هذه - البدائيين، لوجدنا أنهم ليسوا المخلوقات البشرية القديمة، بل يمثلون بقايا فاسدة خلفتها حضارات كبيرة.
9
إن الدوافع الأساسية - كما سبق القول - ليست مطلقة في كل زمان ومكان، فكل عصر تاريخي يفرض دوافعه طبقا لمتطلباته الأساسية، ولكنها - أي الدوافع - لا تنفصل عن الوجود الاقتصادي للبشر في أية مرحلة تاريخية. وإذا كان البشر يشتركون مع الحيوان في الإحساس الملح بالجوع، فإن هذا يؤكد من ناحية أن العوامل والمصالح الاقتصادية في الإطار والمرجع النهائي للدوافع، كما يؤكد من ناحية أخرى أن هذه العوامل والمصالح تتغير تبعا لتغير أشكالها التاريخية، كالتغير في أساليب الإنتاج والتبادل، بل إن هذه الحاجة الملحة نفسها - وهي الجوع - تتغير أيضا تبعا للأساليب التي تلبى بها، كما أن الإنسان الذي يسعى من أجل البقاء على الحياة، ويعيد بناء نفسه من خلال الغذاء وإنتاجه، هو نفسه كينونة متغيرة تاريخيا من خلال العمل، وليس التاريخ إلا تحولات الإنسان، وتحولات الذات المتطورة.
10
وإذا كانت كل الدوافع - باستخدام لغة علم النفس - لا بد من إشباعها، فلا بد أن يكون السؤال الآن: كيف يتم إشباع الجوع؟ كيف يتحرك هذا الدافع - من مجرد إحساس داخلي مؤلم - فيمضي قدما ليبدأ أولى خطواته في العالم الخارجي نحو الإشباع؟ عندما يزداد الجوع يتغير شيء ما فجأة، يتمرد جسد الذات ويتجه للخارج، لا بحثا عن الطعام فقط، بل بحثا عن تغيير الوضع الذي سبب لمعدته الخواء. وتعلن الذات المتمردة رفضها للوضع السيئ القائم فتقول له «لا»، كما تقول «نعم» لحياة أفضل. هنا تتحول الحاجة إلى عامل ثوري، إلى أداة للتغيير الذي يبدأ دائما من الجوع، هذا الجوع الذي تحول بعد أن ازداد خبرة ووعيا إلى قوة مدمرة لسجن الحاجة.
11
بهذا لا تكتفي الذات بالمحافظة على نفسها حية، ولا تقتصر على النضال دفاعا عن حقها في البقاء، بل تصبح قوة مدمرة لكل ما يعوق بقاءها. ويمتد حفظ الذات من الفناء إلى الخارج فيطيح بكل ما يقف في طريقه. إن جوع الطبقة الدنيا وحرمانها يخرج من نطاق ذاته ويمتد للعالم الخارجي لإزالة أسباب معاناته. وتتمثل محاولة إشباع الدافع في العمل البشري الذي يهدف إلى إرضاء الحاجات وإشباعها. وهكذا يعرف الإنسان خطته ويضعها بنفسه ويتوقع تحقيقها، وفي هذه اللحظة يتشكل العنصر المفعم بالأماني في الأحاسيس المتوقعة التي تنشأ دائما من الجوع. وتأتي أحلام اليقظة من الشعور بالافتقار لشيء ما في العالم الخارجي، فتكون أحلاما بحياة أفضل. ومن هذه الأحلام ما هو مليء بالخرافات بحيث يمكن اعتباره هروبا من الواقع، أما أحلام اليقظة الحقيقية التي نقصدها فتمد البشر بالشجاعة والأمل، لا بالنظر بعيدا عن الواقع، ولكن بالغوص داخله.
وتدعو أحلام اليقظة الإنسان إلى ما يسميه بلوخ «المغامرة إلى الماوراء»،
12
والسير خطوة أو خطوات إلى الأمام. ويدل هذا على شيئين أساسيين: أولهما أنه لم يسقط شيء خارج الوعي، وبالتالي فليس هناك شيء مكبوت من الناحية السيكولوجية، وثانيهما أنه ليس فيها ارتداد إلى ماضي الأسلاف والانطلاق من الإنسان البدائي.
13
بهذا تكون المغامرة إلى الماوراء هي البحث عن الجديد دائما، ومن ثم فليس لها مكان في اللاوعي الذي هو مجرد تعرف على ما كان موجودا من قبل. والذي يدفع الذات البشرية لأن تمتد من ذاتها إلى العالم الخارجي وتندفع إلى الأمام هو ما يسميه بلوخ بال «ليس-بعد» أي الوعي بما يفتقر إليه الإنسان ولم يوجد بعد في العالم الخارجي. إنه استشراف الجديد الذي يلوح في الأفق. وهذا الجديد ليس موجودا في الماضي، بل هو الأمل الذي يحمله المستقبل.
هنا يجب أن نتساءل: هل يعني هذا أن كل الأحلام لديها القدرة على «المغامرة إلى الماوراء»، وبالتالي القدرة على التغيير؟ من المؤكد أن تأتي الإجابة بالنفي. فلو نظرنا على سبيل المثال إلى الأحلام التي أخضعها علم النفس للتحليل لوجدناها من نوع مختلف تماما. لذلك يضع بلوخ تفرقته الدقيقة بين نوعين من الأحلام هما الأحلام التي يراها الإنسان أثناء نومه في الليل، أي تلك التي لا يستحضرها المرء بإرادته، والأحلام الأخرى التي يرسمها الخيال البشري في حال يقظته، وتعي الذات حدودها، وفي هذين النوعين من الأحلام يتم إشباع الرغبات بصورة مختلفة. (1) الوعي في أحلام الليل
لا يكف الإنسان عن الحلم سواء في الليل أو النهار، فالنزوع لتحسين قدرنا لا ينام حتى في نومنا، فكيف لا يكون فاعلا في يقظتنا؟ إن الليل هو أول ما يخطر ببالنا عند ذكر كلمة الحلم، وكأن لهذه الكلمة أصولا ليلية. وكلمة الحالم تفترض مسبقا الشخص النائم حيث ينعدم نشاط الحواس الخارجية. والنائم لا يحلم ليستيقظ، فالحلم دليل على استغراق الحالم في نومه، الذي لا ينهض منه قبل بداية الوعي بواسطة منبه داخلي أو خارجي. وهذا النوع من الأحلام الذي يتم في الليل يكون في الغالب إشباعا لرغبة كامنة في اللاوعي. وربما يتضمن هذا النوع من الأحلام بعض الصور المعبرة عن الرغبة في حياة أفضل ولكنها وإن جاءت بشكل مشوش وغير متجانس، تمثل عنصرا أساسيا في الوعي اليوتوبي.
14
ذلك أن الأحلام التي تتم في الليل تتغلب عليها صور خيالية مختفية طويلا في أعماق الأنا، بحيث إن الحلم يكتنفه الغموض وعدم الوضوح، ويتقنع في شكل رمز خفي، ولما كان الشخص الحالم لا يفهم العنصر الرمزي الكائن فيه، لذلك كانت مهمة التحليل النفسي هي تفسير رموز هذا النوع من الأحلام التي تتنوع وتتباين في أشكال مختلفة منها الأحلام بالسعادة، والأحلام بإشباع الرغبات - وهي الأحلام الغالبة - فضلا عن أحلام القلق النفسي.
ويرجع فرويد المصدر الأساسي للقلق إلى لحظة الميلاد وانفصال الطفل عن الأم حين يجد نفسه وحيدا مهجورا بلا حماية. وهذه اللحظة في رأيه هي سبب القلق النفسي، وربما أمكن رد أصل القلق وأحلامه إلى لحظة الميلاد. ولكن بلوخ يقدم تفسيرا آخر للقلق غاب عن أصحاب مدرسة التحليل النفسي، وهو تفسير يقوم في جوهره على المعوقات الاجتماعية التي تحول دون إشباع دافع المحافظة على النفس - الذي سبق الحديث عنه - لذلك يأخذ بلوخ على فرويد تفسيره للقلق النفسي دون النظر إلى البيئة الاجتماعية والظروف التي ليس لها علاقة بالشهوة الجنسية. وليس أدل على هذا من اعتراف فرويد بهذا المعني عندما قال: «ليس الكبت هو الذي يسبب القلق، وإنما القلق هو الذي يسبب الكبت.» ويؤكد بلوخ أن الجوع والوضع الاقتصادي السيئ بالإضافة إلى القلق الوجودي، هي الدوافع الإيجابية والموضوعية للقلق، وهذا القلق في رأيه لا يكون إلا في مجتمع برجوازي يقوم على أساس مبدأ المنافسة الحرة، أي على أساس علاقات الصراع حتى داخل الطبقة الواحدة في المجتمع. أوجد هذا الصراع بين الأفراد قلقا متواصلا لا يحتاج لتفسيره إلى التذرع بالشهوة الجنسية أو بالرجوع إلى لحظة الميلاد. إنه وضع موجود في العالم الخارجي. وهناك شواهد تاريخية تبرهن على صدق هذا التفسير، وكلنا يعرف ما سببته الحربان العالميتان الأولى والثانية، والقلق الذي سببته الفاشية والذي لا يحتاج تفسيره إلى الرجوع للحظة الميلاد والصدمة الأولى للطفولة.
15 (2) الوعي في أحلام اليقظة
إن أحلام اليقظة هي موضوع اهتمام بلوخ، وتكاد أن تكون بالنسبة له بمثابة مقولة معرفية مختلفة اختلافا واضحا عن النوع الأول. إن أحلام اليقظة صور فنية مختارة بحرية تنشأ عن أماني غير متحققة. وهي لا تشبه أحلام الليل لأنها تتضمن حافزا محددا ومتواصلا نحو التحقيق الفعلي لما هو متخيل. إنها تعيد تركيب الواقع بخيال مبدع خلاق لتجعله مقبولا. ولذلك يعارض بلوخ مدرسة التحليل النفسي التي تحيل كل الأحلام إلى نوع من التنفيس عما هو مكبوت. وتتميز أحلام اليقظة بمجموعة من الخصائص: (أ)
وضوح الطريق، بمعنى أن الأنا الحالمة ترسم معالم هذا الحلم بوضوح، وتبدأ رحلتها من أي نقطة تشاء وتنتهي حيثما تريد. فالحالم يحدد الطريق الذي سوف يسلكه لتحقيق حلمه، ولكنه لا يبعد كثيرا عن الواقع، ولا تغلبه صوره الخيالية، أي أن الرحلة إلى الما وراء لا تأخذه بعيدا عن هذا الواقع وإنما تدفعه إلى تجاوزه. وفي أحلام اليقظة تتنوع فرص الاختيار، وتنتقل الذات الحالمة من حلم إلى آخر في حرية تامة، بينما الحالم في الليل لا يعرف ما يأتيه به اللاوعي أو ما تحت الوعي. (ب)
الأنا الواعية، تتميز الأنا في حلم اليقظة بالقوة لا الضعف، بل إنها تكون في كامل يقظتها ووعيها وعلى الرغم من أن أحلام يقظتها تستحوذ عليها، فقد تحررت من الرقابة الأخلاقية للأنا العليا. وعلى العكس من ذلك نجد «الأنا» الحالمة في الليل ضعيفة وغائبة عن الوعي، تفرض عليها «الأنا العليا» رقابتها وسلطتها. وعندما تتيقظ وتعود للوعي لتحيا في سياق حياتها وعالم يقظتها تنفصل عن الحلم انفصالا تاما. ومعنى هذا أن «أنا» حلم اليقظة ليست معزولة عن حلمها ولا نائمة ولا تخضع لرقابة الأنا العليا كما هو الحال في الحلم الليلي.
16 (ج)
إصلاح العالم، إن كل أحلام اليقظة تتجه إلى ما هو أفضل، أي إلى الحلم بعالم أفضل. من هنا تأتي محاولة تحقيق هذه الأحلام، التي هي مختلفة بالتأكيد عن أحلام مرضى الشيزوفرينيا (الفصام) والبارانويا (جنون الاضطهاد)، الأولى كحالة نكوص والثانية كحالة إسقاط. وعلى الرغم مما بين الحالتين من اختلافات، إلا أنهما يمثلان حالة هروب من الواقع بالاسترسال في التخيل. ومع ذلك فإن اليوتوبيين لديهم شيء من البارانويا، لأن كل مبدع حقيقي لديه مئات الصور الخيالية غير الواقعية، ولكن أهم ما يميز حلم اليقظة عن هذا النوع من الأحلام المرضية، هو قدرته على الاتصال بالعالم الخارجي، لأنه منفتح على العالم عن طريق صور خيالية مفعمة بالتمني، هي بمثابة عالم مخطط بشكل أفضل، عالم بلا يأس أو خيبة أمل.
17
والواقع أن فرويد نفسه يشيد بأحلام اليقظة في مجال محدد على الأقل حيث يقول: «أحلام اليقظة هي المادة الأولية للإنتاج الأدبي، فالكاتب يأخذ في تحويرها وتنكيرها أو اختزالها حتى يخلق منها المواقف التي يضمنها قصصه ورواياته ومآسيه.»
18
وهكذا لمس فرويد حقيقة الإبداع اليوتوبي في هذه المسألة، أي حقيقة اتجاه الوعي إلى الجديد الخير
The good new .
ويؤكد بلوخ أن حلم اليقظة يجمع بين نقيضين، ويؤلف على حد تعبيره بين السطح والعمق، بين الامتداد
Expanse
في القبة الزرقاء (ويقصد بها التحليق بالخيال إلى عنان السماء) وبين النظرة الأرضية أو النظرة العينية إلى الواقع الأرضي. إن حلم اليقظة يفترض كل أشكال المغامرة «إلى الماوراء»، فهو حلم متحرر من كل القيود، ينتهي في أحيان كثيرة إلى أعمال فنية، ويجعل الممكن الموضوعي مرئيا، ويربط الخيال بالواقع بشكل عيني، حيث يمتد الخيال إلى خارج الذات ويتعلق بالواقع بطبيعة الحال، فينظر إلى الأمام ويستشرف المستقبل، ويظهر هذا في العمل الفني كتجربة خيالية لتحقيق الممكن الموضوعي في أكمل شكل. وهو لا يصدق على العمل الفني وحده، إذ يذهب العلم أيضا إلى أبعد من العلة الظاهرية خلال عملية التوقع. لقد حلم كيلر (1571-1630م) بكمال العالم، واكتشف القوانين الثلاثة لحركة الكواكب السيارة. وبذلك تقدم حلمه إلى الأمام، وتخيل صورة العالم في المستقبل، فاستنبط صورة العالم المنظم الشامل بطريقة منسجمة.
19 (د)
الرحلة إلى النهاية، إن حلم اليقظة يرفض أن يكون مجرد حلم مفعم بالخيال وفانتازيا النهار، مثل حلم الليل، تبدأ بالرغبات، ولكنها تذهب بها إلى مكان إشباعها وتحقيقها، أي إلى المستقبل، وإرادة السفر إلى النهاية، يتخللها دائما وعي يوتوبي يظهر في الحلم بحياة أفضل ويتجلى في أعمال فنية. إن الخيال الذي يهدف إلى إصلاح العالم نجده في معظم الأعمال الأدبية والفنية. فالأعمال الكبرى في كل عصر تحتوي على شيء جديد حقا، ومن الأمثلة على ذلك أوبرا «الناي السحري» لموتسارت و«الكوميديا الإلهية» لدانتي وغيرهما من الأعمال الكثيرة التي تحتفظ بشبابها الأبدي. والمهم كما يقول جوته هو «الإشعاع البعيد
Far radiating » لنوعية هذه الإبداعات الخيالية التي أبقت الوجود مفتوحا على الواقع المعطى وظلت نافذة مفتوحة على المطلق. وكمون المطلق في الأعمال الأدبية العظيمة لم يجعلها أقل واقعية، بل على العكس جعلها أكثر واقعية، من خلال مزج كل شيء واقعي بال «ليس-بعد»، أي بالتطلع إلى ما لم يتحقق بعد، ومعنى هذا أن الإبداعات الخيالية لأحلام اليقظة تفتح نوافذ على إمكانيات العالم التي يمكن أن تتخذ شكلا معينا في المستقبل.
20
هناك إذن اختلافات بين نوعي الحلم في شكل إشباع الرغبة ومضمونها فمن ناحية الشكل يتسم حلم الليل بالنكوص، إنه في العادة مشوش وغير متجانس. وعلى النقيض من ذلك تكمن الصورة الخيالية لحلم اليقظة في المستقبل، ويتوسطه الممكن الموضوعي - الذي سنتحدث عنه فيما بعد - أي الممكن الذي له أساس في العالم الخارجي. أما عن مضمون حلم الليل فهو التخفي والاحتجاب، على حين أن مضمون «فانتازيا النهار» أو حلم اليقظة مفتوح، مبدع، وتوقعي، ويمتد المحتوى الكامن فيه من داخل الذات إلى العالم الخارجي، متقدما بخطوات واسعة نحو المستقبل. إنه - بالمصطلح الهيجلي - «يتخارج» أو يأتي بنفسه خارج نفسه، مسلحا بإرادة تغيير الوضع الخارجي إلى ما هو أفضل، وهو في النهاية حلم عيني مرتبط بالواقع وله هدف يسعى إليه ويتجه نحوه ليصنع التقدم. (3) انفعالات التوقع
والآن كيف تنتقل أحلام اليقظة من مجرد كونها أحلاما تحلق في سماء الخيال، إلى أرض الواقع؟ كيف تتجه من الذات الحالمة إلى الموضوع أو العالم الخارجي، ومن الخيال إلى التحقق في المستقبل؟ الإجابة على ذلك هي التوقع، فكل ما يتوسط هذه الثنائيات هو التوقع، كما يسميه بلوخ، محاولا أن يتعرف على الأشكال التاريخية التي جسدت الوعي اليوتوبي الذي يميزه التوقع، ومبينا أن التوقع خاصية متميزة للوعي بالنقص أو العوز والافتقار. وإمكان التغلب على هذا النقص يعبر عن نفسه على جميع مستويات الوجود الإنساني باعتباره حافزا ثم سعيا ثم شوقا، إذا ارتبط بهدف غير محدد سمي بحثا، وإذا ارتبط بهدف محدد سمي دافعا. وإذا بقي هذا الدافع بغير إشباع وظل مع ذلك واعيا بهدفه نشأت الرغبة ومن بعدها الإرادة. لكن الرغبة ليست يوتوبيا، واليوتوبيا ليست رغبة فوضوية، إنها رغبة تشكل الحلم، ومضمونها النزوع للتحقق والامتلاء والإشباع، وهي رغبة منظمة وموجهة في بناءات مستقبلية خيالية.
ويضع بلوخ تفرقة هامة بين حالة الوجود
State of being
كشعور عضوي فيزيقي (كأن يشعر الفرد بأنه مريض أو في صحة طيبة) وبين المزاج
mood
كحالة نفسية مزاجية.
21
وتختلف حالة الوجود (أو الكينونة) عن المزاج الذي هو عبارة عن مشاعر انفعالية تجربها الأنا، أو تنتاب الفرد عندما تكون روحه المعنوية غير مستقرة. فهذه الحالة الأخيرة - أي حالة المزاج - هي الحافز أو المثير لمجموعة خاصة من انفعالات تجعل حلم اليقظة بمثابة حالة مزاجية توسطية أو وسط مزاجي
mood-medium
ويطلق بلوخ على هذا النموذج الخاص من الانفعالات اسم الانفعالات المتوقعة أو انفعالات التوقع
Expectant emotions . وأهم ما يميزها أنها تتجه إلى الأمام وتشير للمستقبل الوشيك الحدوث. وهي تنقسم إلى انفعالات سلبية وأخرى إيجابية. (أ) انفعالات التوقع السلبية
تتكون هذه المجموعة من الانفعالات السلبية من انفعالات ثلاثة هي القلق والخوف واليأس، ومن المعروف أن هذه الانفعالات الثلاثة موجودة عند كير كيجورد (1813-1855م) الذي أقام تفرقته المشهورة بين المفاهيم الثلاثة السابقة عندما حدد الوجود بأنه خاضع للقلق، بل هو الصورة التي تميز الوعي، وأن اليأس هو الصورة التي ينتهي إليها هذا الوعي، لأن الوجود معناه أن نعاني اليأس والقلق حتما، وكل هذا وذاك مرتبط بالواقع وبإمكان الخطأ، فالفرد مضطر إلى أن يختار، ولكي يختار لا بد له أن يعاني اليأس ومن المحال أن يفلت منه.
22
وبذلك حدد كير كيجورد القلق تحديدا ميتافيزيقيا يتعلق بالاختيار والحرية.
وبطبيعة الحال فإن هذا القلق الوجودي ليس هو المقصود في هذا النوع من الانفعالات السلبية التي يقصدها بلوخ لأنه ليس قلقا منتجا، بمعنى أنه لن يكشف للإنسان غير ذاته، كما أنه قلق يرتبط بالخطيئة والحرية وينطوي على الخوف: «كثيرا ما درست طبيعة الخطيئة الأولى، لكن المقولة الأساسية منها قد أغفلت، وهذه المقولة هي: القلق، فهو ما يحددها بالفعل، ذلك لأن القلق هو رغبة فيما يخشاه المرء، إنه نفور من تعاطف، القلق هو القوة الغريبة التي تمسك بزمام الفرد ولا يستطيع منها فكاكا، ولا هو يريد ذلك، لأن الفرد خائف، لكن ما يخشاه المرء ينجذب نحوه، والقلق يجعل الفرد بلا حول ولا قوة.»
23
وعلى الرغم من تحليل كير كيجورد لهذه المفاهيم أو الانفعالات الثلاثة، إلا أنه لم يضعها في إطار أوسع وأشمل، وهو الإطار الأنطولوجي، ليصوغ منها نظرية عن تركيب الوجود كما هو الحال عند هيدجر (1889-1976م) فهذا الأخير جعل القلق حالة من حالات «التوجد» التي ترجع الإنسان إلى الشعور بوجوده الوحيد الملقي به هناك، كما تدفعه على «التصميم» على تحقيق وجوده الذاتي الأصيل. ويطرح هيدجر في كتابه «الوجود والزمان» هذه الأسئلة: «مم نخاف؟ وما معنى أن نخاف؟ ولماذا تخاف؟» والإجابة على هذه الأسئلة تكشف عن تركيب الشعور بالموقف الأصلي،
24
وهذا الموقف الأصلي عند هيدجر هو «الوجود-هناك» والشيء المخيف كائن دائما داخل هذا العالم. أما القلق فهو جزء لا يتجزأ من تركيب «الآنية» (أو الدازاين
Da-Sein
التي يصعب ترجمتها) يقول في الوجود والزمان: «إن الظاهرة التي تكشف عن تركيب الآنية - إذا أدركت في كليتها - هي القلق، والواقع أن القلق يعبر عن أعمق شعور الآنية، الشعور الذي هو مبدأ المشاعر الأخرى جميعا ومنبعها (الإرادة، التمني، الرغبة، الميل، الدافع) ولكنه يبقى - في العادة - محجبا أو كامنا تحت مظاهر الهم.»
25
وإذا كان الخوف يتعلق دائما بموضوع محدد، هو هذا الشيء أو ذاك، فإن القلق - على العكس من ذلك - لا يبدو راجعا إلى موضوع محدد. إنه يفترض وجود خطر يتهددنا، بيد أن هذا الخطر لا يوجد في أي مكان، وعبارة عدم الوجود في أي مكان ليس معناها «لا شيء» وإنما معناها استبعاد كل تعين في هذا الشيء أو ذلك فحسب، والواقع أن العالم بوصفه كذلك على نحو مباشر هو الشيء الذي تقلق أمامه الآنية. لكن ليس معنى هذا أننا ندرك في القلق دنيوية العالم إدراكا صريحا باعتبار أنها الواقع الذي يهددنا، وإنما القلق يعود بالآنية إلى «وجودها في العالم»، وهو يعزلها أمام نفسها ويجعلها تشعر بهذه العزلة شعورا قويا إلى أقصى حد.
26
لقد أرجع فرويد - كما سبق القول - انفعال القلق إلى لحظة الميلاد، وعارض بلوخ هذه الفكرة الفرويدية معارضته لفكرة أن القلق ينشأ من تلقاء نفسه. وقد فسر هذا الانفعال السلبي بإرجاعه للظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالفرد، والمسئولة قبل كل شيء عما يعانيه الإنسان؛ ولذلك كان من الطبيعي أيضا أن يعارض بلوخ الفيلسوف الوجودي هيدجر ويأخذ عليه أنه جرد انفعال القلق من التوقع، بل ويتهمه بالجهل بعلم الاجتماع مما دفعه إلى جعل العدم جزءا لا يتجزأ من وجود الإنسان «القلق» الذي يفترضه دائما ملقى به في العالم بشكل يتعذر تغييره.
27
بهذا المعنى نظر بلوخ إلى ما أطلق عليه اسم انفعالات التوقع السلبية الثلاثة (القلق - الخوف - اليأس) نظرة أكثر شمولا من التحليل النفسي ومن فلسفات الوجود حين وضع هذه الانفعالات في إطار أنثروبولوجي ويوتوبي. ففي رأيه أن القلق - الذي نشأ من الظروف الخارجية التي سبق الحديث عنها - هو انفعال توقعي وإن يكن لا يزال سلبيا غير واضح المعالم، أي أنه توقع شيء غامض وغير محدد في العالم الخارجي، ولا يشير بعد إلى شيء بعينه. إنه على العكس من الانفعال التوقعي السلبي الثاني وهو الخوف الذي ينتاب الفرد ويتملكه من شيء محدد في الخارج، ولكن المفاجأة التي تحدث بفعل هذا الانفعال يجب ألا تجعلنا نغفل عن إدراك أنه من نوع الانفعالات المتوقعة، إذ بدون التوقع لا يستطيع أي تهديد خارجي أن يغرس الفزع في نفوسنا. ولا شيء يجعلنا نفقد الحس في لحظة الخوف إلا توقع الخطر. ولا يمكن أن تظهر المفاجأة التي تصاحب الفزع بدون الاستعداد لها بالتوقع، وأكثر حالات الخوف تطرفا وأصعبها هي التي تظهر انفعالا متوقعا سلبيا ومطلقا هو اليأس. فاليأس - وليس القلق - هو الذي يشير بحق إلى اللاشيئية أو العدم
Nothingness
واليأس هو ذروة سلسلة الانفعالات التوقعية السلبية ونهايتها.
28
نخرج من هذه المقارنة بأن مفهوم القلق عند بلوخ يختلف اختلافا تاما عنه عند كير كيجورد وهيدجر - على الرغم من فضلهما الذي لا ينكر في تأسيس مفهوم القلق من الناحية الميتافيزيقية - ومع ذلك فإنه من الواضح أنه عند كير كيجورد مرتبط بقلق الذات الفردية الوحيدة بسبب إخفاقها في الوصول إلى المطلق، وهو عند هيدجر مرتبط بتصميم الآنية - أي الموجود الملقى به في العالم - على تحقيق إمكانات وجودها الذاتي الأصيل في مواجهة حتمية الموت ومأساويته. أما عند بلوخ فهو وإن استفاد - بغير شك - من هذه الأفكار الأساسية فإن منطلقه وهدفه مختلفان أتم الاختلاف. إن القلق عنده ليس قلقا باطنيا ولكنه كفاح دءوب في سبيل تحقيق الأمل الكامن في الإنسان وفي الواقع المادي، كما أنه ليس قلق الذات الفردية المتوحدة أو الملقى بها في العالم كما هي عند كير كيجورد أو هيدجر، وإنما هو قلق ال «نحن» المتجهة إلى الأمام والتي تناضل في سبيل «مملكة الحرية». (ب) انفعالات التوقع الإيجابية
إن انفعالات التوقع الإيجابية هي الهدف الذي يريد أن يصل إليه بلوخ من بحثه في الانفعالات، ويسميها بلغته القصد اليوتوبي. فهي التي تتوسط بين حلم اليقظة وإمكانية تحقيق هذا الحلم في الواقع، أو التطلع إلى تحقيقه في المستقبل، وأول انفعالات التوقع الإيجابية هو الأمل الذي يقوم بدوره في القضاء على كل التوقعات السلبية. إن الأمل يحجب القلق ويتخلص منه، وهو الذي يحطم الخوف ولا يسمح للإخفاق أو اليأس أن تكون له الكلمة الأخيرة. للأمل إذن مفهوم قصدي، فهو انفعال يناضل ويلقي بنفسه في العدم أو اليأس لينتزعه منهما أو من بين براثنهما، ويتجه ناحية الضوء والحياة، مؤكدا أنه ما زال في الأفق بصيص إنقاذ وخلاص. ثم يأتي الانفعال التوقعي الإيجابي الثاني وهو الثقة
Confidence
في هذا الأمل، الثقة التي تعارض اليأس وتحوله إلى انفعال إيجابي، وبعد أن كان اليأس يتحسس طريقه في اللاشيئية أو العدم، تأتي الثقة لتتجه به إلى الكل
ALL
اليوتوبي، وهكذا تمتد كل المقاصد الموجهة للمستقبل
Future Orientated Intentions
وهي الانفعالات والأفكار المتوقعة داخل الوعي بال «ليس-بعد»، أي داخل طبقة الوعي التي تتألف هي نفسها من انفعالات توقعية غير متحققة ولا مشبعة كما تقول لغة علم النفس. ومعنى هذا أن أحلام اليقظة التي تنطوي على إمكانيات مستقبل حقيقي تتقدم داخل الوعي بال «ليس-بعد» أي داخل ما لم يصر ولم يتحقق (لم يشبع) بعد، داخل ميدان اليوتوبيا.
29
وقد نجح بلوخ في الربط ربطا خصبا بين الماركسية والتحليل النفسي، على الرغم من نقده له وإلحاحه على ضرورة أن يتجه - باعتباره نظرية في اللاوعي - إلى البحث في الوعي المنسي عن النزعات الدافعة إلى الأمام والجديد، كما نجح في أن يستفيد من الماركسية التي تتميز عن غيرها من الفلسفات بأنها لا تلتفت إلى الماضي، بل تندفع إلى المستقبل وتؤكد ذلك نظريا وعمليا. ذلك أن مادية مارك الجدلية لم ترد مادة العالم لا إلى الآلة المنضبطة ولا إلى الذرة أو القرد، بل ردتها إلى العلاقة الاقتصادية الاجتماعية بين البشر، وبينهم وبين الطبيعة، وأكدت الارتباط والتشابك بين الوعي والوجود الاجتماعي، وأصرت على أن الإنسان هو جذر الأشياء جميعا.
وفي حقيقة الأمر لم يكن بلوخ أول من ربط بين الماركسية والتحليل النفسي، فقد سبقه في هذا المجال كثيرون منهم عالم النفس والفيلسوف إريك فروم (1900-1980م) الذي جمع بين التحليل النفسي الفرويدي والرؤية الماركسية؛ مما جعله يأخذ على فرويد ومدرسته تغافلهما عن الظروف الاجتماعية وما لها من آثار كبيرة على نمو الإنسان وشخصيته، فهو قد انطلق أيضا من نقده لنظرية الدوافع التي تضع الغرائز وخاصة الغريزة الجنسية في مقدمة الحياة النفسية، واتخذ من الحاجة مدخلا لفهم النفس الإنسانية، وأخذ يحلل حاجات الإنسان النابعة من ظروف وجوده. فإذا كان بلوخ يرى أن أول ما يواجه الإنسان هو الحاجة والافتقار، فإن فروم حددها بخمس حاجات هي الانتماء، والتعالي أو التجاوز، والارتباط، والهوية، ثم الحاجة إلى إطار توجيهي.
30
وكلاهما - أي بلوخ وفروم - يرى ضرورة بناء مجتمع جديد يخرج الإنسان من عالم لم تكتمل فيه إنسانيته بعد. والخلاصة أن نظرة فروم لهذا العالم الأفضل ظلت محصورة في نطاق التحليل النفسي، بينما تجاوز بلوخ هذا وانطلق إلى آفاق أرحب.
ثانيا: طبقات الوعي
يتصور بلوخ أن هناك عتبتين للشعور أو حدين قصيين للوعي، أحدهما خاص بالأشياء التي تم الوعي بها، ثم تضاءل هذا الوعي وسقط في النسيان. أما الحد أو العتبة الأخرى للوعي فتقع في الجهة المقابلة، وفيها تشرق على الوعي أمور لم تتضح بشكل كامل بعد. وفي الحالتين يوجد نوع من الشعور الذي يمكن - مع تركيز الانتباه وبذل الجهد - أن يتضح شيئا فشيئا، سواء بالنسبة لتذكر ما سقط في الأعماق، أو استشراف ما لم يحدث بعد.
ويحمل ما قبل الوعي معنيين، أولهما هو اللاوعي بالمعنى الفرويدي، أي المكبوت أو المنسي، كما يعبر عن ذلك الحلم الذي يراه النائم أثناء الليل وما فيه من نكوص إلى الماضي وتوقف الوعي
No-Longer-Conscious . وثانيهما هو الوعي بال «ليس-بعد» الذي يعنيه بلوخ ويختلف اختلافا كليا عن اللاوعي الفرويدي. إنه الوعي بشيء ما جديد لم يأت بعد، وحلم اليقظة يشير إلى هذا التحديد الحاسم للوعي بال «ليس-بعد» أو بمعنى آخر بالوعي بالمستقبل. فهو المجال الفعلي لتفتح الجديد. والوعي بال «ليس-بعد» هو نموذج للوعي بشيء ما يرجح حدوثه بناء على شروط ذاتية وموضوعية محددة.
31
إن ما يقصد بما قبل الوعي أو بما لم يتم الوعي به شيء مختلف تمام الاختلاف، فهو يدور على مستوى فلسفي (معرفي وأنطولوجي) يتصل أوثق اتصال بفلسفة بلوخ وأفكاره المركزية عن اليوتوبيا والأمل والمستقبل وتوقع ما لم يأت بعد وينبغي أن يأتي. بل إنه ليتعارض تعارضا تاما مع نفس المفهوم في التحليل النفسي لفرويد وفي علم النفس التحليلي ليونج اللذين يهتمان قبل كل شيء بالماضي المترسب في باطن الفرد أو باطن الجماعة. أضف إلى هذا أن الكلام عما يسبق الوعي لا ينفصل عن الكلام عما «لم يوجد بعد»، وكلاهما متكامل ومتحد مع فلسفة بلوخ الجدلية التي لا تتوقف عن استشراف آفاق المستقبل والأمل في غد أفضل.
وعلى الرغم من اختلاف مفهوم ما قبل الوعي عند بلوخ عنه عند علماء التحليل النفسي، إلا أنه يوجد من هؤلاء العلماء - مثل إريك فروم - من يقول بأن اللاوعي أو اللاشعور لديه معرفة يستطيع عن طريقها أن يدرك حقائق الأمور، فكما أن لنا حواس هيئت لنرى بها، ونسمع ونشم ونلمس، عندما نحتك بالواقع، كذلك هيئ لنا عقل لندرك به الواقع، أي لنبصر الحقيقة، خصوصا الحقيقة الكامنة في النفوس، بصيرة تنفذ في حقيقة أنفسنا وغيرنا وفي العالم من حولنا. وهذه الفكرة لها دلالاتها في الأحلام التي تتميز ببصيرة نافذة، وفي أنواع عديدة من السلوك والاستجابات.
32
والواقع أن بلوخ لم يكتشف فكرة «اللاوعي» وعلاقته بالوعي ولم يدع ذلك، لأن هذا الاكتشاف يرجع إلى سنوات طويلة ماضية، إلى ما يقرب من قرنين من الزمان. فمن المعروف في تاريخ الفلسفة أن ليبنتز (1646-1716م) قد سبق إلى اكتشاف منطقة اللاوعي التي تشبه التيار التحتي الذي يسيل تحت أمواج الحالات والأحداث النفسية الواعية. ويوجد هذا الاكتشاف في كتابه «رسائل جديدة عن العقل الإنساني» الذي نشر لأول مرة عام 1765م وكان في الأصل ردا على كتاب جون لوك (1632-1704م) عن العقل الإنساني عام 1690م. ومن المعروف أيضا أن ليبنتز ينتقد فيه رأي لوك بأن المعرفة كلها مستمدة من التجربة، وفق عبارته المشهورة «لا شيء في العقل إلا وقد سبق وجوده في الحس.» ولذلك يتساءل ليبنتز إن كانت الحقائق كلها تعتمد على التجربة أم أن ثمة حقائق تستند إلى مصدر آخر: «صحيح أن الحواس ضرورية لكل معارفنا الحقيقية، ولكنها لا تكفي لكي تزودنا بجميع هذه المعارف.»
33
وينطلق ليبنتز - في رده على لوك - من هذه الفكرة البسيطة؛ فهناك أشياء صغيرة غير ملحوظة تند عن إدراكنا، ولكنها تؤثر علينا. وهذه الفكرة تقوم بدورها على فكرة أخرى يفترضها مذهب ليبنتز الواحدي (أو الكلي) الذي يترابط فيه كل شيء مع كل شيء. فالعالم لا يحتوي على أي ثغرات. وإذا تصورنا في الظاهر أنها موجودة، فإن تلك الأشياء الضئيلة غير الملحوظة تشغلها. ومن المعروف أن فكرة ليبنتز هذه تدين في وجودها لاكتشاف حساب التفاضل (الذي توصل إليه مع نيوتن في وقت واحد تقريبا مع فارق زمني ضئيل) بجانب اكتشاف الكائنات الدقيقة تحت المجهر في أيامه، مما عزز مذهبه المعروف عن المونادات التي تتألف منها الجواهر أو الموجودات جميعا. كذلك يوجد في خلفيتها - أي خلفية تلك الفكرة - الرأي السائد في الفيزياء بوجود دفعات للحركة متناهية في الصغر، ومن ثم اعتقد فيلسوف الذرات الروحية بوجود دفعات متناهية في الصغر في الحياة النفسية والعقلية هي التي تستدعي مختلف الأفكار والإحساسات. ويقدم ليبنتز مثلا على ذلك بهدير البحر الذي يصل إلى أسماعنا، فلا بد لسماع هذا الهدير من سماع أصوات الأمواج التي يتألف من مجموعها هذا الهدير. ولهذا يتحتم أن تؤثر علينا حركة كل موجة على حدة تأثيرا ما، كما يتحتم علينا أن ندرك على نحو من الأنحاء كل صوت على حدة مهما يكن شديد الخفوت، وإلا لما تأثر الواحد منا أي تأثر بمائة ألف موجة، لأن مائة ألف لا شيء لا يمكن أن تصنع شيئا.
34
هنالك إذن - حسب رأي ليبنتز - تأثيرات على وعينا تعتبر في ذاتها غير قابلة للإدراك. وهو يطلق على هذه التأثيرات - المتناهية الدقة والضعف بحيث لا يمكن الإحساس بها - اسم الإدراكات غير الملحوظة، ومجمل القول أن لهذه الإدراكات غير الملحوظة في العلوم العقلية أو الروحية نفس الأهمية القصوى التي للأجسام غير الملحوظة في علم الفيزياء. ومن الخطأ كما يقول ليبنتز نفسه في كلتا الحالتين أن نسقطها من حسابنا، أو أن نتجاهلها بحجة أنها تقع خارج مجال حواسنا.
35
ويصدق على الأفكار المنسية ما يصدق على الإدراكات غير الملحوظة. فبفضل هذه الإدراكات تترسب في باطن الإنسان انطباعات وآثار من أحواله وتجاربه السابقة. وهذه الآثار هي التي تقوم بوظيفة الربط بين الأحوال السابقة وبين الحالة الراهنة، وهذه الآثار تظل كذلك كامنة في باطن الإنسان «حتى ولو لم يلحظ هو نفسه وجودها، أي حين لا يتذكرها بصورة واضحة.»
36
والأهم مما سبق أن هذا الجانب من اللاوعي في الحياة النفسية والعقلية لا يتعلق بالماضي وحده، وإنما الماضي والحاضر وحدة واحدة، وهذا هو الذي عبر عنه بوجه خاص في كتابه عن «المونادولوجيا» كما عبر عنه في كتابه «رسائل جديدة عن العقل الإنساني» في قوله: «... بل نستطيع القول بأن الحاضر، بفضل هذه الإدراكات الضئيلة، يحمل المستقبل في أحشائه كما يمتلئ بالماضي، وأن كل شيء مرتبط بكل شيء.»
37
ويمكن القول إن علاقة «اللاوعي» - أو بالأحرى ما لم يتم الوعي به - بالمستقبل واستشرافه أقوى من علاقته بالماضي وإعادة تذكره، ولهذا يصح السؤال عن السبب الذي جعل الباحثين بعد ليبنتز يصرفون اهتمامهم إلى الماضي الذي لم يعد الإنسان يدركه أو يعيه بدلا من الانتباه إلى هذا الجانب المتعلق بالمستقبل. وكانت النتيجة ضياع فكرة الكلية التي تضم الماضي والحاضر والمستقبل، وتركيز الاهتمام على «ما لم يعد هناك وعي به»، أي بالرواسب والآثار الماضية «المكبوتة» في اللاوعي، أكثر بكثير من الانتباه إلى أهمية «ما لم يتم الوعي به بعد» أو بالوعي المسبق، أي بالرؤى والحدوس المستقبلية التي توجه الوعي إلى الجديد اليوتوبي الذي يتخلق في أحشاء الواقع الموضوعي، وقد حدث هذا على الرغم من تأكيد ليبنتز المستمر في نصوصه العديدة على أن الحاضر ينطوي في ذاته على المستقبل، وأن الله الذي يرى كل شيء يرى كذلك ما سوف يكون فيما هو كائن، وأنه يمكن من الناحية المنطقية الخالصة أن نستنبط من المعرفة التامة بموضوع واحد المعرفة الشاملة بكل شيء، هذا فضلا عن مبدأ «النزوع» الكامن في كل المونادات أو الجواهر البسيطة، والذي يدفعها على الدوام إلى المزيد من الكمال في الإدراك، أي يدفعها إلى التغير. ولا شك أن هذه العناصر كلها قد أثرت تأثيرا كبيرا على فلسفة بلوخ، سواء في ذلك فلسفته في الوعي أو فلسفته في المادة. وإذا كان بلوخ لم يكتشف فكرة اللاوعي وعلاقته بالوعي، فيبقى له الفضل في التوسع في مفهومها وإلقاء الضوء على العلاقة بينهما، وتحليل دور اللاوعي السابق للوعي في تحسس المستقبل القادم والإعداد له والتوجه نحوه.
إن ما يسبق الوعي يتعلق على الدوام بما لم يوجد بعد، ومعنى هذا أنه يتعلق دائما بالواقع. والأمران مرتبطان ارتباطا لا تنفصم عراه، فالكلام عن الوعي مرتبط بالوجود والعكس أيضا صحيح، وما قبل الوعي هو الوجه النفسي لما «لم يوجد بعد» وينتظر التحقيق عن طريق الوعي والإرادة البشرية. ولذلك لا يمكن الانتباه إلى ما قبل الوعي ولا يتيسر الوعي به إلا إذا نضجت الظروف المادية التي تتيح ذلك. وليست كل الحدوس والأفكار ولا كل الأعمال ممكنة في كل الأوقات، وكثيرا ما تتم الأعمال العظيمة التي تسبق عمرها بغير قصد واع من أصحابها، وربما تم إنجازها ثم تعجبوا بعد ذلك كيف أمكنهم إتمامها ولم يصدقوا أنها كانت أصلا ممكنة التحقيق. وهذا يوضح أن الإنسان يلقي على نفسه دائما تبعات ومهام «يمكنه» أن يحققها في المستقبل، كما يمكنه أيضا أن يهملها أو يتهرب منها إذا خانته الإرادة أو تسرع في أدائها قبل أن تتهيأ الظروف التي تساعد على نضجها.
إن ما قبل الوعي هو الوعي المسبق بوجود في طريقه إلى التحقق. وهو يتمثل في خواطر ورؤى وحدوس تلمع كالبرق الخاطف في أحلام اليقظة التي تحلق بصاحبها إلى آفاق المستقبل، وتكمن الصعوبة الحقيقية في اجتياز مراحل الطريق الذي يؤدي بالإنسان إلى الوعي بما لم يتم الوعي به وتحقيق الجديد الذي لم يوجد بعد، وتحقيق هذا الجديد يستند إلى «ممكن واقعي» ألم به إلمامة خاطفة في صورة الرؤى والحدوس التي سبق ذكرها؛ ولذلك يمكن القول إن ما لم يتم الوعي به بعد هو الوعي المسبق بالجديد القادم، أو هو «المكان النفسي» - إذا صح هذا التعبير - الذي تتم فيه ولادة الجديد. أما أنه لا يزال في مرحلة الوعي المسبق، فلأنه هو نفسه ينطوي على مضمون شعوري لم يظهر له تمام الظهور، ولأن الجديد الذي يكمن في هذا المضمون لا يزال يشبه بزوغ الفجر الذي ستنشق عنه شمس الجديد. لذلك يكون حلم اليقظة دائما في حالة إحساس مسبق وغير واع تمام الوعي بالجديد الذي بدأ يتخلق في الوعي وفي الواقع الموضوعي على السواء؛ مما يدل على اتجاه الحلم إلى المستقبل. ويفترض الوعي المسبق بالجديد، أو ما يسميه بلوخ بوعي ال «ليس-بعد» تجربة الواقع والتأثر به، وهذا التأثر يشتد عادة في مرحلة الصبا والشباب من حياة الإنسان التي يكثر فيها الاسترسال في أحلام اليقظة والتحليق على أجنحة الشوق والتمني.
ويشتد الوعي بال «ليس-بعد» في عصور معينة يمكن أن نسميها بالعصور الشابة التي تتطلع للتغيير والتجديد. وعصر النهضة مثال واضح على هذا التغيير الشامل في جانبه الأيديولوجي والعلمي والثقافي على وجه الخصوص؛ إذ صاحبه تحول المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع برجوازي حديث، أي رحيل مجتمع وتوقع آخر جديد. كما اشتد الوعي بال «ليس-بعد» في حركة العصف والدفع
38
الأدبية في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وهي حركة عبرت عن انطلاقة متفجرة للعبقرية الفردية وعصر الأماني المشرقة. «لم يعد اللاوعي متناهي الصغر ولا ضئيلا مثل اللحميات الصغيرة التي أشار إليها ليبنتز.»
39
بل ارتفع صوته وعبر عن نفسه بحماس الشباب، ففترة الشباب في السنوات الخضراء المليئة بالقوة والحيوية المتطلعة إلى الحياة والحرية، وهي سنوات التغيير والحلم المتطلع إلى الأمام. والتغيير الذي حدث في هذه الفترة ليس شعورا فسيولوجيا فحسب، ولكنه فترة جيشان مفعمة بالانفعال، يشعر فيها الشاب أنه مدعو لشيء ما يحدث داخله وكأن سحابة راعدة تبدو حبيسة داخله وتتوق للخروج من سجن الاطراد والسأم في العالم الخارجي الخانق. ويرى بلوخ في جوته الشاب أعظم مثال على هذا، خاصة في مسرحية «بروميثيوس» والنسخة الأولى من فاوست المعروفة باسم «فاوست الأولى» ورواية «سنوات الطلب لفهلم ميستر»
40
وها هو مثال حي من مونولوج فاوست المشهور، الفصل الأول، المشهد الأول الذي يتطلع فيه لتجديد شبابه ومعرفة كل ما فوق السماء وتحت الأرض، مخاطبا روح الأرض:
أنت، أي روح الأرض، أنت أقرب إلي،
وها أنا ذا أشعر كأن قواي قد نشأت،
وصرت أتوقد كما لو كنت تجرعت من خمر جديدة،
وأستشعر الشجاعة على خوض غمار العالم،
وعلى تحمل متاعب الأرض وسعادة الأرض،
وعلى مغالبة العواطف، وعلى علم الفزع من تهديد تحطم السفن.
41
ومراحل التحول التاريخي السياسي والحضاري تتسم بالفوران والغليان اللذين يميزان مرحلة الشباب ، ويحلق في سمائها الخيال والأمل وانتظار الجديد. هذه المراحل تمثل البعد التاريخي الذي يظهر فيه الوعي المسبق أو الوعي بال «ليس-بعد»، ويضيء ظلام الآن بالمشروعات والأحلام في مستقبل أفضل. وليست هذه المشروعات والأحلام مجرد خيالات مقطوعة الصلة بالواقع، لأنها تستند إلى النزعات والاتجاهات التي بدأت تظهر وتتشكل بعد أن كانت كامنة في ثنايا الواقع نفسه ولم تساعد الظروف والعلاقات الاجتماعية والتاريخية السائدة على نضوجها.
وينعكس الوعي المسبق بالجديد في الإنتاج العقلي والإبداع الفني والأدبي الذي يتميز بالقدرة على استشعاره (أي الجديد) وتشكيله وتوضيحه، بل هو دليل وبرهان عليه. ويمر الإبداع في هذه الحالة بثلاث مراحل تتسع فيها حدود الوعي وتتضح هوامشه المظلمة. وأولى هذه المراحل هي مرحلة الحضانة أو الإعداد
Incubation ، والثانية هي مرحلة الإلهام أو الحدس
Inspiration ، والثالثة هي مرحلة الإظهار والشرح
Explication .
42
وتكون المرحلة الأولى أشبه بحالة ضبابية يغلفها الغموض، ولا يحس الوعي فيها إلا بنوع من الاحتياج أو الافتقار الذي وصفه من قبل «باللا»، مما يدفعه إلى تحسس الهدف الذي يبدو على البعد وكأنه يتحرك في الضباب، وتتميز هذه المرحلة بأنها تقصد قصدا قويا للخروج من حالة الحضانة أو الإعداد إلى مرحلة الظهور. ومع أنها تتسم بالتناقض إلا أنها تتسم كذلك بالنزوع القوي إلى الوضوح والتحرر من هذا التناقض. ولأن التوقع فيها حاضر دائما، فإن نوع الخطاب المناسب هو صيغ التعبير عن الاحتمال والترجيح والظن. وربما تطول هذه المرحلة أو تقصر، ولكن مرحلة أخرى تأتي بعدها بصورة مفاجئة، وتحمل معها النور الكاشف كالبرق الخاطف أو الإشراق المفاجئ للنور، وهي مرحلة الحدس أو الإلهام التي يظهر فيها الحل فجأة وبغير توسط. وتسميتها بالإلهام أو الحدس إشارة إلى هذه المفاجأة، وتسودها حالة من الإحساس بالتحرر من فترة حضانة أو إعداد طويلة، كما يصاحبها شعور ساحر بالنشاط والفعالية.
43
والإلهام هنا لا يفسر بالتفسيرات البدائية السحرية أو الرومانسية أو المتعالية، لأن المنتج المبدع ليس من المشتغلين بعلوم السحر كما كان الحال في العصور الوسطى، ولا هو ناطق بلسان القوى الغيبية العليا كما كان الحال في نظرية الفن منذ أفلاطون حتى الرومانسيين، فهذا التفسير الأسطوري المتعالي للإلهام هو تفسير غيبي عاجز وعقيم ولا يقربنا من جوهر العملية الإبداعية، أضف إلى هذا أن النكوص إلى الماضي لا يحتل مكانا في العملية الإبداعية. فالواقع أن الإلهام تجربة مشرقة وقابلة لأن تدرك في ذروة الوعي، كما تتجلى عند ديكارت عندما اكتشف مبدأ الكوجيتو الذي يقول عنه: «لقد هبط علي نور اكتشاف عجيب في 10 نوفمبر 1619م.»
44
ولكن الإلهام لا يأتي من الوعي وحده، وإلا كان ذلك شيئا غريبا على فلسفة بلوخ، إنما يرجع دائما إلى نوع من الالتقاء بين الذات والموضوع، أو من الحوار بين الوعي في حالته السابقة وبين الواقع. فالوعي ينتبه لألوان النزوع الموضوعي الكامنة في الواقع أو يحدس بها على أقل تقدير، ولا بد من وجود الشروط التي تهيئ الظروف الملائمة لهبوط الإلهام الكاشف، وهي شروط تاريخية (اجتماعية واقتصادية) ذات طابع تقدمي. فلولا بدايات الوعي الثوري عند الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر لما أمكن التعرف على الجدل المادي، ولبقي مجرد فكرة سطحية عاجزة عن اختراق وعي الجماهير الكادحة. ومن الممكن الاسترسال في ذكر الأمثلة التي تبين أن بروق الإلهام الخاطفة التي تفاجئ الفرد العبقري تنقدح شرارتها على أرض الواقع نفسه وتستمد مادتها من مضمون هذا الواقع التاريخي الذي ينزع إلى الجديد ويتجه نحوه، وينتظر التشكيل والتعبير الواضح عنه عند المفكر والأديب والفنان المبدع. وكأن الزمن نفسه - حتى قبل أن تهب عواصف التحول والتغيير - هو الذي يكلفه بذلك ويترك له أمر صياغته بما يتفق مع طاقاته ومواهبه، لسبب بسيط هو أنه أقدر الناس على الاستماع لصوت الجديد ورؤية إشاراته وعلاماته.
هكذا يكمن توهج الإلهام في لقاء عبقرية خاصة أو موهبة خلاقة مع عصر يحمل مضمونا خاصا ومستعد للتغيير. فالإبداع «ليس سوى استجابة لظرف تاريخي محدد، وفي وضع ثقافي وسياسي معين، وفي مرحلة تاريخية بعينها (...) والوعي بالموقف الحضاري الكلي الذي يوجد فيه المبدع هو الشرط الأول للإبداع. وللموقف الحضاري أبعاد مختلفة يتفاعل معها المبدع وتتفاعل هي فيه. وعادة ما تكون هذه الأبعاد الحضارية ثلاثة وتشير إلى جدل الزمان بين الماضي والحاضر والمستقبل.»
45
لا بد إذن من توافر الشروط الذاتية والموضوعية للتعبير عن الجديد بحيث يستطيع هذا الجديد أن ينطلق خارجا من مرحلة الحضانة. والشروط الموضوعية هي دائما ظروف اجتماعية-اقتصادية تلتقي مع ذات لها إرادة مبدعة تدرك هذه الشروط وتعبر عما فيها من إمكانات. ويأتي الإلهام من متطلبات العصر التي تعي نفسها في العبقرية الفردية. ومن الطبيعي أن يؤكد بلوخ على ضرورة التزامن مع اللحظة التاريخية الحاسمة كخاصية أساسية لتكوين العبقرية، أي لا بد من التقاء الذاتي والموضوعي. وربما يكون من أوضح الأمثلة على ذلك أدباء ومفكرو عصر التنوير السابقون على الثورة الفرنسية، والأدباء العظام الذين جددوا الأدب الروسي الحديث قبل الثورة الروسية، وبعض أعلام أدبنا وفكرنا العربي الحديث الذين أسهموا في تأسيس ما يسمى بالنهضة العربية أو ما يسمى بعصر التنوير العربي.
وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة من مراحل الإنتاج والإبداع، وهي مرحلة العرض أو الشرح. فمن الطبيعي أن الإلهام (أو الحدس) المفاجئ لا يكفي لإتمام عمل فني أو فكري، لأنه مجرد بداية ونقطة انطلاق على طريق البناء والجهد الشاق الذي تستلزمه الصياغة والتشكيل والتفصيل ... إلخ، حتى يصبح العمل واقعيا حيا يمكن أن يؤثر على الواقع. وقد عبر كثير من المبدعين عن عجز الإلهام وحده عن إقامة عمل متكامل، وبينوا أن الفكرة المحورية التي هبطت عليهم بما يشبه الكشف المفاجئ قد استلزمت منهم بعد ذلك جهد عمر كامل لتوضيحها وتفصيلها وعرضها في بناء متكامل. فيجب ألا يكون هناك فجوة بين الرؤيا والعمل، وذلك على نحو ما يعبر فان جوخ بقوله: «إن الشعاع الأول للانطباع لا بد أن يشارك في عملية الرسم.» والعبقرية كما يقول شوبنهور تشبه شخصا يصيب الهدف البعيد الذي لا يملك الآخرون القدرة على رؤيته. فالعبقرية هي إظهار درجة عالية من الوعي بال «ليس-بعد» في الذات وفي العالم، بمعنى أنها وجود يتوسط ما قبل الوعي وما ظهر أخيرا وتشكل في العالم، وينطبق هذا على كل من العبقرية العلمية والأدبية، لأن ما يميز كلا منهما هو تشكيل ما لم يتشكل بعد. فالعبقرية كوعي متقدم تنطوي على حساسية عالية لإمكانات لحظة التغيير الحاسمة في العصر. ويكمن الوعي بال «ليس-بعد» في التوقع العيني، فكل عمل أدبي يظل مدفوعا تجاه الجانب الآخر الخفي أي تجاه تصوره للمستقبل الذي لم يظهر بعد في عصره، ولهذا السبب وحده تتضمن الأعمال الكبرى شيئا ما تقوله لكل المراحل التاريخية. والأعمال العبقرية لا تعبر عن يومها وإنما تلقي الضوء على وجه المستقبل. فالعمل الفني الناجح ينطلق من الإلهامات والحدوس المنبئة بالجديد ليصورها في صور وأفكار ورموز ومواقف وصيغ حية. والأعمال الفنية في حقيقتها بناءات نموذجية قلقة للحقيقة التي لم تزل غائبة. وأخيرا فإن العملية الإبداعية هي قمة الوعي، وهي اللون الأزرق فوق هذه القمة لأنه اللون المضاد للظلام، ولأن الذي لم يصبح بعد يشير إلى التقدم للأمام، إلى شروق فجر جديد.
46
في النهاية يمكن القول إن الوعي المسبق بالجديد القادم أو ما يسميه بلوخ الوعي بال «ليس-بعد» حاضر في وعي البشر على الرغم من عدم شعورهم به في معظم الأحيان، ولكنه يظهر في أحلام اليقظة وفي النشاط المبدع. ويمكن القول أيضا إن بلوخ نفسه من خير الأمثلة على استشعار الوعي بال «ليس-بعد»، وإن الفكرة المحورية في فلسفته (التي سبق الحديث عنها والتي تهبط على المبدعين بما يشبه الكشف المفاجئ وتستلزم منهم بعد ذلك جهد عمر كامل لتوضيحها وتفصيلها وعرضها في بناء كامل) هذه الفكرة المحورية - وهي فكرة الأمل اليوتوبي - بدأت تراوده في مرحلة الصبا بما يشبه الوعي المسبق أو الوعي الذي لم يتم الوعي به بعد. وقد استطاع في مرحلة الشباب أن يشرحها شرحا مفصلا ومفعما بالحيوية والقوة والجيشان في كتابه الأول «روح اليوتوبيا»، ثم تتابعت أعماله التالية كالدوائر التي تحيط بنقطة المركز وتمتد لآفاق أوسع وأبعد، دون أن تغيب عنه تلك الفكرة المحورية التي استشعرها لأول مرة بصورة غير واعية فيما وصفه هو نفسه بالوعي المسبق أو الوعي الذي لم يتم الوعي به أو الوعي بال «ليس-بعد». ولم يتوقف بعد ذلك طوال حياته الطويلة عن إلقاء أضواء الوعي الواضح عليها وتجميع خيوطها وعناصرها في نسق حي شامل.
ثالثا: معوقات الوعي بال «ليس-بعد»
يجد هذا الوعي مقاومة شديدة في محاولة الظهور إلى النور، كما يختلف نوع هذه المقاومة وأسلوبها؛ فالموضوعات أو الرغبات المكبوتة - بلغة علم النفس التحليلي - لا تجد طريقها إلى الوعي، لأن ثمة مقاومة تدفعها دائما إلى ما تحت الوعي، وما يتسرب منها يأتي في شكل أحلام ليلية. ويجتهد التحليل النفسي في تفسير هذه المقاومة وتحديدها لرفع موضوعات ما تحت الوعي إلى مستوى الوعي. ولما كانت هناك مقاومة للاوعي فهناك كذلك مقاومة للوعي بال «ليس-بعد». ولكنها ليست مقاومة داخلية، كما هو الحال في طبقة الوعي الباطن، بل ليست موجودة في الذات الإنسانية على الإطلاق. إن ما يعوق الوعي بال «ليس-بعد» عوائق خارجية، إذ تعيش الأفكار في تجانس وتوافق طالما بقيت في نطاق الأفكار والخطط، ولكنها لا تكاد تخطو خطوة واحدة في اتجاه الواقع حتى تبدأ الصعوبة؛ صعوبة الإقدام على الجديد.
47
ويرى بلوخ أن النواة الناصعة للوعي تحيط بها هوامش معتمة لا تمتد إلى الماضي فحسب، وإنما تمتد كذلك إلى المستقبل، وبينما يهبط اللاوعي عند فرويد إلى الأعماق المظلمة تحت «عتبة الوعي»، فإن اللاوعي الذي يقصده بلوخ ويسميه ما قبل الوعي يعلن عن نفسه - كتباشير الفجر - في أعلى الهامش المظلم المحيط بالوعي، ويفاجئ الإنسان ويستحوذ على انتباهه في أحلام اليقظة على وجه الخصوص، وهذا الذي يسبق الوعي - من هواجس ورؤى وخواطر - لا يجد الاهتمام الكافي، وربما يلقى مقاومة شديدة. ولكن هذه المقاومة تختلف تمام الاختلاف عن المقاومة التي تقابل بها الرواسب والعقد «المكبوتة» من قبل الوعي وما فوق الوعي في التحليل النفسي، كما أنها - أي هذه المقاومة - تتم أصلا على مستوى غير سيكولوجي، فالمريض النفسي أو العصابي يهرب من الوعي الواضح بالمكبوت في لاوعيه الباطن بحيث يكون العلاج في هذه الحالة هو الارتفاع به إلى مستوى الوعي الذاتي الواضح، أما المقاومة التي يلقاها ما قبل الوعي فمن نوع آخر ولها أسباب أخرى.
من أهم العوائق التي تحول دون ظهور الوعي بال «ليس-بعد» العائق التاريخي أو بالأحرى العائق الاجتماعي والاقتصادي الذي يسلم بوجود التام والكامل منذ البداية، الأمر الذي يجهض كل محاولة للتقدم نحو الجديد. فهناك توقعات كثيرة ورؤي جسورة دخلت الوعي واستنارت بوعي ال «ليس-بعد»، ولكن العائق الاجتماعي والاقتصادي حال دون تحقيقها. ويعتقد بلوخ أن المجتمعات التي أخذت بفكرة اللامتناهي - مثل المجتمع الإغريقي - قد سادتها أفكار استاتيكية أو سكونية، لأن المعرفة في هذا المجتمع كانت معرفة تأملية استنباطية ولم تكن بطبيعتها معرفة عملية وفعالة، فحساب الكم اللامتناهي في الصغر لم يعرفه اليونان ولم يكن من الممكن أن يعرفوه على الرغم من أن زينون قد اقترب منه. ذلك لأن أصغر كم في هذا الحساب لا يتصور على أنه سكون، بل على أنه حركة متناهية في الصغر، ولذلك بقيت فكرة العمل غريبة على هذا المجتمع القائم على طبقتي السادة والعبيد، حيث يتفرغ المادة للتفكير والتأمل، أما العمل فهو مهنة العبيد والأسرى.
48
ويحاول بلوخ تفسير غياب فكرة العمل عن المجتمع اليوناني بالرجوع إلى الإبستمولوجيا أو النظرية المعرفية السائدة في هذا المجتمع والتي اهتمت بفكرة الكيف والماهية والغاية ... إلخ، ويتضح هذا في تفوق المجتمع اليوناني في العلوم النظرية، وتقليله من شأن العلوم القائمة على العمل والتجريب. وهكذا كانت كل محاولة للاقتراب من الجديد تصطدم بهذه المعرفة التأملية السكونية.
كانت النزعة الرومانسية أيضا من أهم العوائق التي واجهت الوعي بال «ليس-بعد»، فقد استعبدها الماضي، حين اعتبرت أن الكمال كله كان في الماضي، في القديم، في الأصل والمنبع، وهي المسئولة عن الارتداد الشديد نحو الماضي الذي راحت تتغنى به بدلا من الاتجاه نحو المستقبل. وعلى الرغم من الاعتراف بثورية الحركة الرومانسية على مستوى الإبداع المعتمد على الأعماق المظلمة الدفينة، فلا شك أن الحنين إلى الماضي الضائعتلك هي العناصر التي يقوم - وهو من أهم سماتها العامة - قد شل حركتها الثورية والاجتماعية والسياسية، وعطل اندفاعها إلى الأمام نحو آفاق المستقبل. ولهذا سقط الأديب الرومانسي - الذي لا ينكر أحد تقدميته وثوريته على المستوى الإبداعي - سقط في قبضة الماضي الذي تصور أنه هو العصر الذهبي وغنى له أعذب أغانيه المفعمة بالأسى والشجن.
49
وحتى التوقع الذي يميز النزعة الرومانسية فقد طريقه في شعاب الماضي القديم والوسيط والأسطورة ووضع الماضي في مقابل المستقبل؛ لهذا لم تكن مفاجأة أن فترة الإنتاج والإبداع العقلي والفني في النزعة الرومانسية قد حركت الوعي بال «ليس-بعد» في الاتجاه المعاكس، أي الاتجاه لقيمة الأسلاف؛ ومن ثم لم يكن للمستقبل هنا مكان. ويعارض بلوخ هذا الاتجاه مؤكدا أن الأنبياء أنفسهم لم يسلموا بأن العالم كامل منذ البداية، ولم يقولوا إن كل شيء كان طيبا في الماضي، بل بشروا بالسماء الجديدة والأرض الجديدة. ويأتي رفض بلوخ لبعض جوانب الحركة الرومانسية من منطلق رفضه لفكرة التذكر التي سادت العلم من أفلاطون حتى هيجل، وإيمانه بأن هذه الفكرة من أكبر المعوقات التي حجبت الوعي بال «ليس-بعد» عن النور طوال التاريخ الفلسفي.
50
وهناك بالإضافة إلى ما سبق معوقات أخرى عديدة، فالتحليل النفسي - على سبيل المثال - هو أحد هذه المعوقات، إذ تطور في طبقة أحيلت للتقاعد، وهي الطبقة البرجوازية التي كانت موضع دراسة فرويد. والمجتمع البرجوازي لا يهتم بالتفكير في الغد، إنه مجتمع بدون مستقبل، يفتقر للباعث المادي الذي يجعله يفصل الوعي بال «ليس-بعد» عن الوعي الذي لم يعد يعى. كما يعارض بلوخ فكرة العودة للمراحل البدائية عند يونج، لأن اللاوعي البدائي يهدد المستقبل، وما يظهر منه إلى النور هو نوع من النكوص، فعلم النفس البرجوازي - كما يسميه بلوخ - لم ينتبه إلى الجديد بوصفه أهم سمات الوعي بال «ليس-بعد».
كانت اليوتوبيات الاجتماعية أيضا من معوقات الوعي بال «ليس-بعد»، بما في ذلك اليوتوبيات التي غلب عليها التوقع - مثل يوتوبيات مور وكامبانيلا وبيكون - فكلها لم تكن قادرة على التطور بسبب النزعة السكونية التي سادتها، والأصل البرجوازي الذي صدرت عنه، وعدم معرفة أصحابها بالممكن الواقعي الذي كان ماثلا على أيامهم في العالم المادي والاجتماعي. لقد تسبب هذا كله في عدم ظهور مفهوم الجديد، كما أدت هذه الروح السكونية إلى قمع النظرة التقدمية في مذهب ليبنتز، وفي فلسفات الصيرورة والتقدم مثل فلسفة هيجل الجدلية. ويستشهد بلوخ على هذا بنص شهير لهيجل من الظاهريات يعكس تأثره - أي هيجل - الواضح بالثورة الفرنسية، ويوحي في ظاهره بأن الجدل الهيجلي يفسح مجالا للجديد المقبل، وإن كان في واقع الأمر يدور في دائرة التذكر والرجوع إلى الواحد المطلق: «وكما أن النفس الأول الذي يلتقطه الطفل - بعد فترة طويلة من التغذي في صمت - يكسر استمرار النمو المتصل، مما يعد وثبة أو طفرة كيفية مرتبطة بميلاد الطفل، كذلك فإن العقل المتطور ينضج ببطء وفي صمت نحو شكل جديد ويفكك بنية عالمه السابق بحيث تدل أعراضه المنعزلة على الاهتزاز الذي أصابه من تلك التفاهة والملل الذي يتسرب إلى العقلية السائدة، مع الشعور الغامض بأن ثمة شيئا مجهولا يوشك أن يقع بما يعلن عن وجود شيء سيتحقق في المستقبل القريب. هذا التصدع والانهيار التدريجي الذي لم يغير شيئا من ملامح الكل يقطعه انفتاح مفاجئ أشبه ما يكون بسطوع بناء جديد لعالم جديد.»
51
وثمة نص آخر من مقدمة الظاهريات أيضا يبين كيف أن مشروع الجدل الهيجلى العظيم قد ظل محاصرا بطوق الحقيقة المطلقة الساكنة أو الثابتة: «إن الظاهرة هي النشوء والزوال الذي لا يمكن أن يقال عنه إنه ينشأ ويزول، وإنما يكون في ذاته ويؤلف واقع حياة الحقيقة وحركتها، والمختزن في هذه الحركة الكلية المتصورة بوصفها سكونا، وذلك الذي يميز نفسه في داخلها ويهب الوجود الخاص، هو ذلك الذي يتذكر، ووجوده هو معرفته بذاته.»
52
ويقف بلوخ وقفة قصيرة - من بين الفلسفات المعاصرة - عند فلسفة برجسون التي يجد فيها أحد عوائق الاندفاع إلى الجديد، لأنها خالية من التوقع، ولأن الاندفاع الحيوي عند برجسون هو تغيير الاتجاه بشكل مستمر كما في المنحنى في دورة مستمرة يبقى فيها الجديد هو نفس القديم، وما يسمى بالحدس يدخل في ديمومة مستمرة حيث كل شيء يجب أن يكون جديدا دائما ومع ذلك لا يحقق الجديد الفعلي بسبب فكرة اللانهائية الشاملة التي تحيط به من كل الأنحاء مجردة عن أي هدف محدد تسعى إليه. لذلك يبقى كل شيء في الواقع مرتبا ومعدا من قبل؛ فليس ثمة ميلاد حقيقي جديد ولا مغامرة إلى الماوراء، بل إن برجسون ليعارض فكرة التقدم نحو الهدف؛ ولهذا لا يختلف التجدد لديه كثيرا عن التذكر، فهو دائما موجود، ودائما ما يعود لكنه في الواقع يصطدم بالثبات المحيط به.
حالت كل هذه المعوقات التي أشرنا إليها دون ظهور الوعي بال «ليس-بعد» للنور، فظل هذا الوعي مجهولا حتى الآن ولم يكتشف بعد. وقد سبق أن رأينا أن المقابل له في العالم المادي هو «ما لم يصبح بعد» وكلاهما مرتبط بمقولات حقيقية هي: الأمام والجديد والممكن الموضوعي هذه المقولات - التي يتعذر أن تندرج تحت نظرية التذكر - لم يكن لها وجود فعلي قبل ماركس. فالماركسية - في رأي بلوخ - هي أول من وضع مفهوم المعرفة داخل العالم، وأول من وضع المستقبل داخل قبضتنا العملية والنظرية. ومعنى هذا أن الوعي بال «ليس-بعد» ظل مجهولا، لأنه لا يأتي عن طريق التذكر وإنما يأتي عن طريق الحدس. ولهذا يمكن القول إن عصرنا الحاضر فقط هو الذي يملك الشروط الاجتماعية والاقتصادية لنظرية الوعي بال «ليس-بعد» وما يرتبط بها في العالم المادي وهو الذي يسميه ما لم يصبح بعد.
53
وقد يبدو في كلام بلوخ عن الماركسية الكثير من الشطط والمبالغة. ولكن المهم أنه لم يبق مجرد كلام ولا مجرد مزاعم طموحة، وإنما هي أفكار حاول أن يضع لها أساسا أنطولوجيا متينا تقوم عليه، وهذا بطبيعة الحال هو الجانب النسقي الذي يستحق الانتباه.
أمكن تمييز الوعي بال «ليس-بعد» عن اللاوعي، والتعرف على المعوقات الفكرية والاجتماعية التي حالت دون ظهوره إلى النور. فكيف يمكن اكتشاف هذا ال «ليس-بعد» في أنفسنا وفي العالم الخارجي؟ يكتشف الوعي بال «ليس-بعد» عن طريق الحدس لا عن طريق التذكر ، ولكن كيف يمكن اكتشاف هذا الحدس؟ يرى بلوخ أن الوعي بال «ليس-بعد» هو وظيفة يوتوبية وهو يكتشف بالتوقع، لأن التوقع هو ما يميز النظرة إلى الإمام
Forward glance
وهو يفرق بين نوعين من التوقع
Expectation : توقع مرضي، كما في الحالات التي يصاحبها اضطرابات عصبية وتقلصات مثل حدة الإدراك (الاستبصار) التي توصف بأنها توقع، وإن لم تكن في الواقع سوى نتيجة اضطرابات عصبية ونفسية، ومثل هذا النوع المرضي له تاريخ طويل تمتد جذوره في العصور القديمة والوسيطة، كما يرتبط بالشعوذة والخرافة والمعجزة، وذلك قبل أن يبدأ في الخضوع للدراسة العلمية المنظمة فيما يسمى اليوم ب «ما وراء علم النفس»
. وهناك ظواهر عديدة تعتمد على استنتاج أشياء حدثت مرات عديدة في الماضي ويمكن أن تتكرر في المستقبل. وهذا النوع من التوقع لا يحمل جديدا ويسميه بلوخ التوقع التراجعي الذي يكون المستقبل فيه كاذبا أو خادعا. وهناك توقع منتج: وهو ضرب من الحدس، يختلف اختلافا كاملا عن الغريزة، وهذا النوع من التوقع يبدأ مع مرحلة الشباب التي تتصف بالنزوع للتغيير والتمرد على الواقع القائم، كما تتميز بالإبداع العقلي. إنه توقع واع نفسه ومنفتح على العالم الخارجي، كما أنه يحدث للإنسان وهو في كامل وعيه ويقظته، ويضرب بلوخ أمثلة على ذلك من ثورة الفلاحين في ألمانيا عام 1525م، ومن جماهير الثورتين الفرنسية والروسية الذين امتلأت نفوسهم بصور وأخيلة حفزتهم على الثورة
driving images
واستنارت بالمستقبل الحقيقي، أي بمملكة الحرية. ويعارض بلوخ المستقبل الذي يزعمه البعض عن طريق النبوءات الغيبية، فبيكون - على سبيل المثال - لم يكن نبيا، وإنما هو يوتوبي على درجة عالية من الفطنة، ولذلك أدرك الإمكانات الموضوعية الكامنة في واقع عصره فكانت «أطلنطا الجديدة»، التي لم تقم على نبوءات غيبية وإنما استشرفت الإمكانات العلمية والتكنولوجية التي كانت بذورها كامنة في عصره.
54
إن النظرة إلى الأمام التي تميز الوعي بال «ليس-بعد» - كما سبق القول - تسعى لإظهار الحلم إلى النور، وعندئذ يكون التوقع صريحا. ويبدأ الأمل في الازدهار ويصبح هذا الأمل نفسه وظيفة يوتوبية. ولا يكون مضمون الحلم في هذه الحالة أفكارا خيالية مصطنعة مثل فكرة «الجبل الذهبي»، وإنما يكون أفكارا تنزع إلى التحقق، وتضع مادتها الخام في مستقبل أفضل ومختلف تمام الاختلاف عن الواقع القائم. هذه الأفكار الخيالية التي تحدد الوظيفة اليوتوبية تتوقع الممكن الواقعي
a real possible
وبذلك لا تكون الوظيفة اليوتوبية مجرد تفكير مفعم بالأماني
Wishful thinking ، لأن هذا النوع من التفكير قد أساء لليوتوبيات لقرون عدة. فاليوتوبيا المجردة مضللة أو هي تحقق وظيفة يوتوبية فجة وغير ناضجة وغير متطورة، ولا تقوم على أساس صلب. وفضلا عن ذلك فليس لها علاقة بالممكن الواقعي، ولا تتجه اتجاها حقيقيا إلى الأمام أو إلى ما هو أفضل.
55
والكفاح الحقيقي ضد الفجاجة والتجريد هو الإخلاص للوظيفة اليوتوبية التي تضع عينها على الواقع الفعلي وعلى الإمكان الحقيقي الموضوعي. وهذا هو نضوج الوظيفة اليوتوبية الذي لا يضلل أبدا.
56
فمما لا شك فيه أن خيال الإنسان وإرادته المبدعة لهما وظيفة هامة في صيرورة التاريخ.
إن نقطة الاتصال بين الأحلام والواقع هي ارتباط الوظيفة اليوتوبية ل «ليس-بعد» بالممكن الواقعي، ويرى بلوخ أن الماركسية هي التي دفعت الأحلام إلى الأمام وشددت على ارتباطها بالواقع العيني، وأدركت الأمل على ضوء جدل مادي متعال. وهذا يؤكد أيضا أن الوظيفة اليوتوبية متعالية بدون علو لأن اليوتوبيا بطبيعتها متعالية، ولكنه ليس تعاليا بالمعنى الديني أو الصوفي أو المثالي المألوف، وإنما تعلو على الواقع الحاضر نحو واقع آخر أفضل، ويدعمها التقدم ويلازمها، بحيث تكون دائما في حالة أمل وتوقع موضوعي لما لم يصبح بعد بشكل أفضل. يضاف إلى هذا أنها نوع من الفعالية الحية يمكنها إدراك الأمل المتوقع الذي يتحقق بالتخطيط الإرادي، إذ لا بد أن تكون الإرادة والإصرار وراء الأمل. وعلى هذا فإن مضمون الأمل المستنير الواعي، والوظيفة اليوتوبية الإيجابية؛ هو مضمون تاريخي وثقافة إنسانية تجسد الفكر اليوتوبي العيني.
ومن هنا يعارض بلوخ النزعة المثالية الألمانية المتعالية عند كل من كانط وفشته، تلك النزعة التي أعلت من شأن العقل والأنا وقوتهما المطلقة، فعالم المعرفة المثالية ليس عالما يوتوبيا بأية صورة من الصور وقد ارتبطت البرجوازية الألمانية بالذات المثالية. وعلى الرغم من أن العامل الذاتي له دور إيجابي في الوظيفة اليوتوبية، إلا أنه لا يكفي وحده، ولا بد أن يكمله العامل الموضوعي لكي يكون التوجه اليوتوبي إلى الممكن الواقعي أمرا ممكنا. صحيح أن خيالات الأمل وصوره الذاتية لها أساسها في الواقع الموضوعي، ولكن التوقع والأمل والقصد المتجه إلى إمكان لم يتحقق بعد ليست هي وحدها السمات الأساسية للوعي الإنساني. إن هذا الوعي - إذا فهمناه فهما عينيا صحيحا - هو تحديد أساسي في إطار الواقع الموضوعي في مجموعه، وكما أن التوقع الذاتي يتخلله ال «ليس-بعد» فكذلك يصدق نفس الشيء على الواقع الموضوعي.
57
هكذا نرى أن العامل الذاتي لا يمكن أن يتخطى القوانين الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية بل إن هناك تفاعلا جدليا بين التناقضات الموضوعية والتناقض الذاتي. ولكن ما علاقة الوعي بال «ليس-بعد» ووظيفته اليوتوبية ببعض النزعات أو المذاهب التي حاولت أن تطوع هذا الوعي لمصلحتها الخاصة فوجهت الوظيفة اليوتوبية للاتجاه المضاد؛ مما أدى إلى نشأة الوعي الزائف ووظيفته اليوتوبية المضللة؟ لا بد للإجابة على هذا السؤال من النظر في بعض المذاهب والنزعات (أو الاتجاهات) التي زيفت الوعي اليوتوبي نتيجة علاقتها الفاسدة بال «ليس-بعد». (1) علاقة الوظيفة اليوتوبية بمذهب المصلحة
حاول أصحاب مذهب المصلحة أو المنفعة أمثال ما ندفيل (1670-1733م) وآدم سميث (1723-1790م) الربط بين الوظيفة اليوتوبية ومصلحة الطبقة البرجوازية، وهي محاولة يائسة لإظهار رجل الاقتصاد الرأسمالي كما لو كان يوتوبيا، طبقا للمبدأ الذي روج له آدم سميت وزعم فيه أن المصلحة الخاصة تحقق في النهاية المصلحة العامة. فمن المعروف أن آدم سميت قدم في كتابه «ثروة الأمم» مذهبا في الاقتصاد السياسي يقوم على الاقتصاد الحر الذي يخضع لحرية العرض والطلب ويحكمه قانون خفي يطلق عليه اسم المنفعة أو المصلحة، ومفاده أن مصالح الأفراد الخاصة - ويعني بالأفراد الطبقة الرأسمالية أو طبقة أصحاب الأعمال - تتوافق في نهاية المطاف مع المصلحة العامة للشعب. وقد ترتب على هذا المذهب اهتمام القلة الرأسمالية بعامل الربح وإهدارها لحقوق الأغلبية من العمال، وكأن الصورة المفعمة بالأماني في هذا المذهب هي حرية الربح التي ليس لها حدود، وتحقيق الثروة عن طريق ما يسمى بفائض القيمة - طبقا للتحليل الماركسي لرأس المال - الذي ينتزع من العمال بحيث يتحول جهدهم وعملهم إلى سلعة تخضع للعرض والطلب، وتصبح الكائنات البشرية ذاتها سلعا تباع وتشتري ولا شك أن المذهب - الذي لا يراعي الحد الأدنى لحقوق العمال - لا يقوم على أية نزعة إنسانية، وإنما يقوم على خداع زائف وسافر لما يدعيه من تطابق المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة. وكان من الطبيعي أن يرفض بلوخ هذه العلاقة ويدين مذهب آدم سميت في الاقتصاد وينكر أية علاقة لهذا المذهب الذي تحكمه الأنانية بالوظيفة اليوتوبية، ويؤكد في النهاية أن الوعي الناتج من هذه العلاقة لا بد أن يكون نوعا من الوعي الزائف.
58 (2) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالأيديولوجيا
اختلفت الآراء حول علاقة اليوتوبيا بالأيديولوجيا، فالأولى تنطوي على رفض الواقع الفعلي والرغبة في تجاوز النظام القائم إلى آخر أفضل منه، بينما تنطوي الثانية - الأيديولوجيا، كما يدل تاريخ الكلمة - على معاني متعددة اختلفت من عصر لآخر. فهي عند كارل مانهايم لها معنيان متميزان وقابلان للانفصال، وهما المعنى الجزئي والمعنى الكلي. «فالمعنى الجزئي يكون هو المقصود ضمنا عندما تدل الكلمة على أننا نتخذ موقفا متشككا تجاه الأفكار والتصورات التي يتقدم بها خصمنا؛ إذ نعتبرها تمويهات واعية تخفي الطبيعة الحقيقية لوضع لن يكون الاعتراف بحقيقته متفقا مع مصالح هذا الخصم. أما التصور الكلي الأكثر شمولا للفظة الأيديولوجية فيشير إلى أيديولوجيا عصر ما أو أيديولوجيا جماعة تاريخية-اجتماعية محددة، كأيديولوجيا طبقة مثلا، عندما يكون هدفنا هو توضيح سمات وتركيب البناء الكلي لعقلية ذلك العصر أو هذه الجماعة.»
59
وفي رأي مانهايم أيضا: «إن الماركسية هي أول من جمع بين التصور الجزئي والكلي للأيديولوجيا، كما كانت أول من منح التأكيد المناسب لدور مركز الطبقات واهتماماتها في تطور الفكر، ولأن جذور الماركسية موجودة في الفلسفة الهيجيلية، فقد استطاعت الماركسية أن تتجاوز المستوى السيكولوجي في التحليل وأن تضع المشكلة في سياق فلسفي أشمل.»
60
وعلى الرغم من التاريخ الطويل للفظة الأيديولوجيا ومعناها والذي يسبق الماركسية سبقا تاريخيا، إلا أنه استقر في أذهان معظم الناس المعنى الذي أضفته الماركسية على الكلمة، وهي أنها تبرير وإقرار لوضع قائم بالفعل لصالح الطبقة الحاكمة. بهذا المعنى يعد كلا المفهومين - أي اليوتوبيا والأيديولوجيا - على النقيض من الآخر. أحدهما - اليوتوبيا - ينشد الثورة على الأوضاع القائمة ويلتحم بحركة التاريخ المتغيرة وينغمس في صيرورته. والآخر - الأيديولوجيا - ينشد السكون ويقر أوضاعا ثابتة، بل ويصوغ لها منظومة من الأفكار التي تضمن استمرارها وثباتها.
ويتبنى بلوخ وجهة النظر الماركسية التي تقول إن الأيديولوجيا نشأت نتيجة لمبدأ تقسيم العمل والفصل بين العمل الذهني والعمل اليدوي مما نتج عنه الوعي الزائف (...) ولم تقم الأيديولوجيا إلا لتكون لسان حال الطبقة الحاكمة، ولتختلق من المبررات ما يخدم مصالح تلك الطبقة ويضفي الشرعية على كل ما تتمتع به من امتيازات، بل ولتبرر أيضا الظروف الاجتماعية القائمة وتتجاهل الظروف الاقتصادية التي سببت معاناة الطبقة العاملة،
61
وتلك هي العناصر التي يقوم عليها مجتمع الطبقة. ويري بلوخ أن الأيديولوجيا - بهذا المعنى - قد شوهت وحرفت الوظيفة اليوتوبية للوعي بال «ليس-بعد». فالأيديولوجيا بوصفها منظومة للأفكار والمعتقدات التي تبرر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة لمصلحة الطبقة الحاكمة تتعارض وظيفتها مع الوظيفة اليوتوبية التي هي تطلع للمستقبل، وقدرة على اكتشاف إمكانات لم توجد بعد على أرض الواقع. فاليوتوبيا عند بلوخ ليست مرادفة للواقع المعطى، وهو لا يقسم الوجود إلى قسمين: واحد فعلي واقعي، والآخر يوتوبي، وإنما الحقيقة هي تجسدهما معا، لذلك فأي نسق عنده يجب أن يظل مفتوحا ويتيح مكانا لما لم يتم ولم ينته وما يزال كامنا وهو اليوتوبي الذي يسعى دائما لتقويض وهدم ما هو زائف، وبذلك ينتج واقعا قادما مختلفا. لقد بقيت فكرة «اليوتوبيا الواقعية أو العينية» هي مركز تفكير بلوخ في فلسفة التاريخ حتى تمكن من تدعيمها على أسس أنطولوجية ومعرفية وأنثروبولوجية خالصة جعلها محور نسقه المفتوح.
وعلى الرغم من التعارض السابق بين كل من المفهومين (الأيديولوجيا واليوتوبيا)، فهناك - كما يقول مانهايم - علاقة جدلية بين اليوتوبيا والنظام الموجود: «والمقصود بهذا أن كل عصر ينجب في فئات اجتماعية مختلفة المواقع تلك الأفكار والقيم التي تحتوي بشكل مكثف على الميول غير المتحققة والرغبات غير المشبعة التي تمثل احتياجات ذلك العصر، حينذاك تصبح هذه العناصر الفكرية هي المادة المتفجرة لتحطيم حدود النظام الموجود. وهكذا ينجب النظام الموجود يوتوبيات، وهذه بدورها تحطم حدود النظام القائم وتجعله حرا في التطور باتجاه نظام الوجود التالي.»
62
أما عن علاقة الأيديولوجيا بالوظيفة اليوتوبية عند بلوخ، فقد أسفرت عن ظاهرة حقيقية وهامة، هي ما يطلق عليه اسم الفائض الثقافي،
63
لأن خلود بعض الأعمال الكبرى في الفن والعلم والفلسفة عبر الحضارات المختلفة يدل على بقاء شيء ما يسمو على الوعي الزائف الذي طالما حاول استغلال هذه الأعمال لتبرير أوضاع وعلاقات السلطة السائدة في مجتمع معين. إن أمثال هذه الأعمال موجهة إلى المستقبل، ومن الممكن نقلها من تربتها التاريخية والاجتماعية الأولى واستيعابها في تربة ثقافية أخرى.
ويضرب بلوخ أمثلة كثيرة على ذلك مثل الأكروبولس وهو الأثر اليوناني الهام الذي ينتمي إلى مجتمع السادة والعبيد، وكاتدرائية استراسبورج التي تمثل المجتمع الإقطاعي. ومع ذلك فلا هذه ولا ذاك قد اختفيا مع اختفاء الأساس الاجتماعي الذي ينتميان إليه. كذلك الأعمال الفلسفية الكبرى التي تتميز بارتفاع درجة الوعي فيها. إنها تسمح بنظرة أبعد داخل المستقبل، فكل هذه الأعمال تتسم بالشباب الدائم وتنطوي دائما على منظور جديد.
64
وإذا كانت الأعمال الفنية تعكس أيديولوجية عصرها، فإنها تحتوي على «فائض يوتوبي» يزيد عن هذه الأيديولوجية ويتجاوزها وينتقد الوعي السائد فيها - وهو غالبا ما يكون وعيا زائفا يهدف إلى تدعيم الوجود الاجتماعي القائم - لصالح وعي يوتوبي يتخطى العصر الواقع. فالفنان يرسم النموذج الذي يفتقده في عصره ويحاول أن يعبر عنه تعبيرا ينفذ إلى الوعي ويؤثر على الواقع أو يشق صدره على حد قول بلوخ. ولن يتم له ذلك حتى يكون نموذجا يوتوبيا يصور الجديد القادم الذي ولد - كما سلف القول - في منطقة الوعي المسبق أو: الوعي بال «ليس-بعد» ثم نما واكتمل في منطقة الوعي.
وبالتالي فإن الأيديولوجيا التي ينظر إليها من هذا الجانب لا يمكن أن توصف بأنها وعي زائف. والخلاصة أن الأيديولوجية الثورية الاشتراكية - فيما يرى بلوخ - هي وحدها التي تملك الوعي الحقيقي الذي يضع عينيه على الواقع الحاضر والمستقبل معا. فكما يقول ماركس في خطابه إلى روجا عام 1843م: «إن شعارنا يجب أن يكون إصلاح الوعي، لا عن طريق المعتقدات القاطعة
dogmas ، بل عن طريق تحليل الوعي الغامض الذي ما زال غير واضح لنفسه. عندئذ يتضح أن العالم قد ظل وقتا طويلا يمتلك حلم المادة
dream of matter
وقد أصبح الواجب الوحيد عليه أن يمتلك الوعي بها لكي يمتلكها هي نفسها امتلاكا واقعيا، وسوف يتضح أيضا أن المسألة ليست مسألة انقطاع فكري بين الماضي والمستقبل بل مسألة استمرار ومواصلة أفكار الماضي، فحتى الأيديولوجيات المرتبطة بالمجتمعات الطبقية لديها جانب يتجاوز وعيها الزائف ويفوقه، وهذا الجانب هو الفائض الثقافي.»
65
يأخذ بلوخ إذن من الأيديولوجيا هذا الموروث الثقافي الذي لم يوجد في مجتمعه ولمجتمعه فقط، وإنما وجد ليعاد إنتاجه وقراءته في ظل مجتمعات وعصور وحضارات أخرى. وهكذا يبقى من الأيديولوجيا مشكلة الموروث الثقافي، وكيف أن الأعمال المتميزة الباقية من البناء الفوقي تعيد إنتاج نفسها بشكل تقدمي في وعي ثقافي جديد حتى بعد انتهاء أساسها الاجتماعي، وكل ثقافة كبرى لديها فائض ثقافي علاوة على أيديولوجيتها في الزمان والمكان المحددين. والوظيفة اليوتوبية هي التي تعيد إنتاج هذا الفائض في إبداعات وتفسيرات وقراءات جديدة. لكن هذه الوظيفة اليوتوبية ليست ساكنة ولا ثابتة، بل لا بد لها أن تكون متغيرة ومتحولة في التاريخ لتواكب صيرورة الواقع الفعلي، وتلحق بالتغيرات التاريخية، حتى لا يفرز العنصر اليوتوبي عالما خاليا من أي جديد، عالما لا يكون المستقبل فيه سوى تكرار للماضي. وإذا كان سقوط الأيديولوجية - كما يقول مانهايم - يمثل أزمة لطبقة معينة فقط، فإن زوال العنصر اليوتوبي زوالا تاما من الفكر والفعل البشريين سوف يعني أن الطبيعة البشرية والتطور الإنساني سيتخذان طابعا جديدا كل الجدة. إن اختفاء اليوتوبيا سيخلق وضعا ساكنا جامدا لا يكون الإنسان فيه أكثر من شيء ساكن جامد، وستواجهنا حينذاك أكبر ظاهرة متناقضة تخطر على البال أو في الخيال: وهي أن الإنسان الذي فاز بأكبر سيطرة على الوجود، يصبح - حين يترك بلا مثل عليا - مجرد مخلوق عشوائي، وإذا تخلى عن اليوتوبيات فإنه يضيع إرادته في صنع التاريخ، ويضيع معها قدرته على فهم التاريخ.
66 (3) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالنماذج الأولية
67
تتميز الوظيفة اليوتوبية للوعي بال «ليس-بعد» بالثنائية شأنها في ذلك شأن كل شيء آخر، فنحن نرى التقدم والتخلف في حركة متزامنة. ويستشهد بلوخ بفاوست جوته عندما يقول الشيطان مفيستو لفاوست: «إذن فاهبط إلى الأعماق! أو يمكنني أن أقول ارتفع، فالأمر سيان.» وهو يذكر هذه العبارة ليزداد اقتناعا بأن المبدأ اليوتوبي هو مبدأ جدلي موجود منذ القدم في كل أشكال الحضارة ومظاهرها وفي كل فروعها، ولذلك فهو يتتبع هذا المبدأ في كل شيء ويبحث عن الأمل المغمور في النماذج الأولية التي تتضمن عناصر يوتوبية لم تتحقق بعد.
68
وينتقد بلوخ النماذج الأولية عند يونج الذي تصورها ثابتة وساكنة مع أنها في حقيقة الأمر متحركة غير ثابتة، وإنما تتخذ في كل عصر تاريخي أشكالا متجددة ذات معنى يوتوبي دال على مضامين العصر ومتجاوز لها إلى الأمام والمستقبل.
69
ويعود بلوخ لفاوست جوته مرة أخرى، عندما يرى هيلين في كل امرأة:
ينبغي لك أن تشاهد نموذج النساء جميعا،
بهذا الشراب في جوفك ستشاهد
هيلانة في كل امرأة تراها.
70
والمعروف أن هيلين هي النموذج الأصلي للجمال، ويتحرك هذا النموذج الذي كان قد هبط إلى غياهب الماضي، واستحضره الشيطان من مكمنه ليرتفع به إلى أعلى في عصر فاوست المختلف عن عصره؛ مما يدل على أن من الممكن أن تصبح المادة اليوتوبية عينية في النماذج الأولية، وهذا المظهر اليوتوبي يجب أن ننظر إليه نظرة لا تعود به إلى الخلف ولكن تدفعه وتقوده إلى الأمام، إلى المستقبل.
ويتوقف بلوخ عند النماذج الأولية للنزعة الرومانسية التي جعلتها تركن إلى الماضي وتتسم بالحنين الدائم إليه، وترتدي قناعه فحسب، ولم تتخذ منه قوة دافعة للمستقبل، بل ارتبطت إلى حد كبير بنظرية المثل الأفلاطونية - على الرغم من الاختلاف بينهما - حيث استعارت الأولى من هذه الأخيرة فكرة إعادة التذكر. فالمثل عند أفلاطون سماوية متعالية، أما في الرومانسية فهي نكوص لعصور سابقة، ولهذا تحولت العلاقة بين الوظيفة اليوتوبية والنماذج الأولية إلى علاقة تراجعية أو رجعية
Reactionary ، تتميز بالنظر إلى الوراء. وتحول الانتباه عن الحاضر الفعلي وقوته الدافعة إلى الأمام إلى الماضي فمنع انفتاح الحاضر والماضي معا على المستقبل.
71
ويعتبر بلوخ أن هذا سوء فهم من الرومانسيين للنماذج الأولية، لأن البعد اليوتوبي في هذه النماذج لا يمكن تحقيقه من خلال العناصر الأصلية، وإنما يتحول خلال التاريخ ويمضي في مساره بعيدا عن الأصل. وتحتاج كل النماذج الأولية إلى معالجة يوتوبية، وبذلك يظهر نموذج جديد بعيد عن الأصول الأولية ويدخل في مضمون جديد بالكامل. إن النماذج الأولية موجودة في كل الأعمال الأدبية والأساطير والديانات والمأثورات الشعبية، فرائعة جوته «فاوست» - على سبيل المثال - مليئة بهذه النماذج، خاصة في الجزء الثاني. ولكنها ليست نسخا من التجربة الأولى. وكل عصر يستخدم المضمون ويعيد توظيفه من جديد ويفض الغلاف الذي يحيط بالأمل الكامن في هذه النماذج وربما يتضح هذا في السيمفونية السابعة لبتهوفن، وفي أوبرا «الناي السحري» لموتسارت وغيرها من الأوبرات التي تناولت موضوعات قديمة برؤية جديدة مثل «أوديب» و«أنتيجون» و«أليكترا» حيث استخدمت المجازات والرموز الأولية وسيلة للتنوير.
72
الوظيفة اليوتوبية إذن، أو وظيفة الوعي بال «ليس-بعد»، هي رسم ما قد كان وما يزال جديرا بأن يبقى في المستقبل. وهي تفصح عما لم يتكشف في الماضي، ولا تكشف فقط عن الفائض الثقافي، بل ترجع أيضا للخلف - بالمعنى الثنائي السابق - لتكشف عن توقع قديم لوعي ال «ليس-بعد»، بوصفه مادة لم تتحقق بعد. إن المرساة التي تغرق أسفل القاع هي نفسها مرساة الأمل، وما يغرق للأعماق يملك ما ينهض به إلى أعلى. وهذه الطبيعة الثنائية للوظيفة اليوتوبية تثبت قيمتها عندما تحول النماذج الأولية إلى علامات حقيقية أو رموز واقعية تنتزع هذا الجزء من الماضي ومن الأسطورة وتعيد توظيفه في مسار التاريخ. (4) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالمثل العليا
يحدد بلوخ المثل الأعلى بأنه هدف يتطلع إلى الكمال ولا يرضى عنه بديلا. وإذا كان في حياتنا اليومية العديد من الأهداف، فإن المثل الأعلى يختلف عنها جميعا بطموحه إلى الكمال. ولأن كل هدف هو في البداية هدف متخيل في العقل، فإن ذلك يتطلب من الإرادة البشرية الكفاح والنضال من أجل تحقيقه. فالمثل العليا ليست أهدافا جاهزة للتحصيل وإنما هي من ذلك النوع الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بقرار حاسم من إرادة الإنسان، وبرغبة منه في السعي الدائم والنضال من أجل تحقيقها أو الوصول إليها.
73
وتكشف الوظيفة اليوتوبية عن نفسها في المثل العليا، لارتباط هذه الأخيرة ارتباطا وثيقا بمضمون الأمل الموضوعي. فالمثل العليا تفوق كلا من الأيديولوجيات والنماذج الأولية في قابليتها للفهم، كما تفوقهما في وضوحها وغناها بالمضمون. والمثل العليا أكثر ارتباطا بالواقع المادي، كما أن التوقع فيها واضح ومكشوف مما يجعلها قابلة للمعالجة اليوتوبية. وتكشف المثل العليا منذ البداية عن الأمل الكامن فيها، بينما تتضمن النماذج الأولية عنصرا توقعيا غير واضح، وتهبط بالأمل إلى أعماق سحيقة القدم. هذا فضلا عن أنه لا يوجد حتى الآن تصنيف متفق عليه للنماذج الأولية، بينما يوجد العديد من المثل العليا.
وترتبط المثل العليا دائما بما هو أسمى، أي بالعالم الممكن باعتباره وسيلة لتحقيق غايتها. وغاية بلوخ هي الوصول إلى الشكل الأسمى للخير الأسمى في المجال السياسي والاجتماعي، وهو المجتمع الخالي من الطبقات. لذلك تصبح مثل الحرية والمساواة والإخاء البشري وسائل لتحقيق هذه الغاية. ومن ثم أخذ بلوخ على الفلسفة المثالية الألمانية أن المثل العليا فيها - عند كانط وهيجل خاصة - متعالية على الواقع المادي ويتعذر الوصول إليها. ولذلك بقيت المثل الأخلاقية معلقة في السماء، كما بقيت المثل العليا الجمالية مجرد متعة جمالية يستمتع بروعتها فحسب.
ويتتبع بلوخ المبدأ اليوتوبي في المثل العليا عند كل من كانط وهيجل. فالمثل العليا عند كانط ظهرت في القانون الأخلاقي كسلطة مباشرة نهائية تتصارع مع الدوافع الطبيعية، وفهمنا للقانون الأخلاقي اضطرنا إلى افتراض كائن أسمى يضمن قيام علاقة متكافئة بين الفضيلة والسعادة، ولكن فكرة هذا الكائن الأسمى نبعت من الأخلاق نفسها دون أن تكون هي الأصل في ظهور الأخلاق.
74
وظهرت المثل العليا مرة أخرى كأمل وغاية منشودة في هذا الثالوث: الحرية، الخلود، الله. وهنا يظهر المثل الأعلى كأمل أو خير أسمى للعقل العملي، ومع ذلك يبقى الثالوث عقائد تستند إلى الإيمان العملي دون أن تستحيل إلى موضوعات تقوم على المعرفة العلمية، أي أن ما سلم به العقل النظري باعتباره مجرد إمكانية أو مثل أعلى قد استحال على يد العقل العملي إلى عقيدة تدعمها الحاجات المشتركة لكل إرادة عاقلة.
75
ظهرت المثل العليا مرة أخرى في استطيقا كانط في صورة كمال طبيعي - بدون الخير الأسمى - أي في صورة مناقضة للمثل العليا الأخلاقية التي ابتعد عنها كانط في الفن لأنه يرى أن الإلزام الأخلاقي في الفن سخف شديد.
76
ومعنى هذا أن البعد اليوتوبي عند كانط لا يتمثل إلا في الفن الذي هو نشاط بشري تلقائي حر منزه عن الغرض أو الغاية، وخال من الصراع مع الدوافع الطبيعية كما هو الحال في المجال الأخلاقي. وبهذا يتجسد الكمال عنده - أي عند كانط - في أشكال عديدة كأمل للمستقبل، ولكن هذا الأمل مقصور على الجمال الفني وحده ومقطوع الصلة بالواقع السياسي الاجتماعي. وهكذا تنتهي المثل العليا عند كانط إلى أن تكون مجرد مثل فنية خالصة لا تتصل من بعيد أو قريب بالواقع الاجتماعي والسياسي.
أما عن هيجل فإن المثل العليا بوجه عام تكمن في الفن وحده لا في بقية جوانب الواقع الاجتماعي والسياسي. فما دامت الفكرة عنده هي الحقيقة المطلقة، فإنه ينتج من ذلك اتحاد الحق والجمال لأن كلا منهما هو الفكرة. ولكنهما متمايزان أيضا، فالجمال هو الفكرة حين تدرك في إطار حسي وحين تدرك بالحواس سواء أكان ذلك في الفن أم في الطبيعة. أما الحقيقة فهي الفكرة حين تدرك في ذاتها أي بوصفها فكرة خالصة، وهي لا تدرك بما هي كذلك عن طريق الحواس بل عن طريق الفكر الخالص أي عن طريق الفلسفة.
77
إن المثل العليا عند هيجل تكاد تكون توهمات كمال خيالي لا سبيل إلى تحقيقه، حيث إن الفن كبناء تأملي يقوم بصورة مطلقة على المثل سواء أكانت شرقية رمزية أو إغريقية كلاسيكية أو غربية رومانتيكية (كالشرف والحب والوفاء والمخاطرة والإيمان).
78
فكل مرحلة من مراحل الروح هي مرحلة من مراحل الفكرة، وتسمى الفكرة في المرحلة الحالية باسم: المثل الأعلى. والمثل الأعلى هو تلك الصورة الخاصة للفكرة التي تدرك فيها بطريقة حسية، إنه الفكرة لا في ذاتها بل كما تتجلى في عالم الحس.
79
ويستشهد بلوخ بنص من هيجل يبين أن المثل العليا بوجه عام لا وجود لها إلا في الفن لا في بقية جوانب الواقع، لا سيما الواقع السياسي والاجتماعي، إذ تبقى المثل في الميدان الأخير مجرد توهمات خيالية لكمال خيالي. ولهذا تذكرنا التجليات الجمالية للمثل العليا عند هيجل بالأنتيليخيا أو الكمال الأول عند أرسطو: «ولهذا ينبغي ألا تكون حقيقة الفن مجرد مطابقة تامة كما هو الحال في الفن الذي يحصر نفسه في محاكاة الطبيعة، وإنما ينبغي أن يتجانس الخارج مع الداخل الذي يتجانس مع ذاته وعن طريق هذا وحده يمكنه أن يكشف عن ذاته بما هي ذاته في الخارج. وعن طريق إرجاع كل شيء شابته العرضية والخارجية في سائر جوانب الوجود إلى هذا التجانس بمفهومه الحق، فإن الفن يستبعد من الظاهرة كل ما لا يتطابق مع هذا المفهوم، ومن ثم يبرز الفن المثل الأعلى عن طريق التطهير وحدة.»
80
ومن الواضح أن هيجل لا ينظر هنا إلى المثل الأعلى للفن وكأنه مقطوع الصلة بالواقع في مجموعه، وإنما يقصد درجة عالية من الواقع بلغت حد الكمال النسبي في داخل الظواهر. ولا شك أن البعد اليوتوبي هنا غائب لأنه لا يقصد الواقع الذي لم يتحقق بعد أو الواقع الذي لا يزال في سبيله إلى الكمال الذي سيتحقق بصورة واقعية. وعلى الرغم من وجود التوقع عند هيجل بشكل أكثر أصالة مما سنجده عند كل من فرويد وآدلر، فإننا ومع ذلك نفتقد عنده البعد اليوتوبي، إذ إن الوظيفة اليوتوبية للمثل العليا الفنية تقتصر على التصحيح والمطابقة للفكرة لا على التفتح ناحية المستقبل من خلال توسيط الواقع لتحقيق الكمال في هذا العالم.
81
وكثيرا ما يتدخل الوعي الكاذب في تكوين المثل العليا، ويظهر هذا على سبيل المثال في حالة الكبت التي يتناولها فرويد بالتحليل النفسي حيث الأنا العليا هي مصدر تكوين المثل التي تمارس رقابة الأنا العليا الأخلاقية على الأنا؛ لهذا لا نجد أثرا لأشكال المثل العليا المستقبلية المشرقة عند فرويد. وعندما يتناول آدلر هذه الأشكال المشرقة نجده يقع في نفس الخطأ ويتجه أيضا إلى الماضي وينظر بعين الاعتبار للمثل الأعلى الموجه
Guiding-Ideal
لمحاولة تغيير القناع الشخصي بآخر مثالي واكتساب الشعور بالسمو - وهو ما يسمى بعقدة النقص ونظرية التعويض عن النقص بالعلاء والتسامي - وتبعا لهذه النظرية تحدد كل المثل العليا طبقا لما هو أخلاقي، ولذلك فإن أكثر المثل الموضوعية والفنية مفتقدة هنا. وتتدخل السلطة المستبدة - التي تتمثل في سلطة الأنا العليا - في تشكيل المثل العليا عند فرويد وآدلر، ولذلك يبقى كلاهما في مجال الإلزام. غير أن الإرادة التي تتطلع دائما إلى الأمام لا بد أن تكون إرادة حرة، أي إرادة تتجه إلى الجانب المشرق والمضيء وأحلام اليقظة الحرة تكشف عن هذا الجانب المشرق، وحتى إذا ظلت المثل العليا مجرد صور في خيالنا فهي دائما تنشد الوصول للغاية أي تنشد الكمال.
82
ويهاجم بلوخ المثل البرجوازية في القرن التاسع عشر والمتمثلة في الحق والخير والجمال. وعلى الرغم من أن روايات هذا العصر عبرت عن رفضها لهذه القيم مثلما فعل كل من الأديب الألماني والكاتب الروائي تيودور فونتانه (1819-1898م)، والكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن (1828-1906م)، فإن كليهما - في رأي بلوخ - لا يقدم لنا عالما جديدا بدلا من العالم القديم المتهم. ويهاجم بلوخ أيضا كل المثل الشكلية التي تتسم بالتجريد والسكون. فالمثل العليا لا بد أن تكون ذات فعالية، ولا بد أن تتجه إلى الواقع. ومع النزعة الاشتراكية فقط أصبحت المثل عينية ، وصار المثال السياسي الأسمى هو «مملكة الحرية» كمملكة عينية وفصل أخير في تاريخ العالم. إن الماركسية ترفض المثل العليا كما عبر عن ذلك ماركس في قوله إن الطبقة العاملة ليس لها مثل عليا تنشد تحقيقها ويفسر بلوخ هذه العبارة (التي تبدو غريبة) بقوله إنها لا تتعارض مع نزوع هذه الطبقة لتحقيق أهداف عينية، وإنما تتعارض فحسب مع الأهداف المجردة ومع المثل العليا التي لا تمت بصلة للتاريخ ومساره الجدلي. ومن ثم أصبحت الاشتراكية نفسها على يد ماركس مثلا أعلى عينيا يسعى للتحقق في كل مرحلة من مراحل التطور. ولهذا فإن طموحها لا يرضى بغير تحقيق المثل الأعلى الذي كان مجردا من قبل.
83
وطبيعي أن يكون هذا المثل الأعلى سياسيا، وأن يتجسد في مملكة الحرية باعتبارها تمثل الخير الأسمى أو الأقصى الذي يعد غاية التاريخ. (5) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالمجاز والرمز
تجد الوظيفة اليوتوبية أساسها الأعمق في طبيعة الوعي الذي تكونه اللغة وتساهم في تحديده. فاللغة - حتى على مستوى التواصل والإخبار العادي - لا تقتصر على الإشارة إلى المعطى الذي تحيل إليه العبارة، وإنما تجاوزه على الدوام إلى معاني ومضامين أخرى لا تسميها تلك العبارة بشكل محدد، ولا تعنيها بصورة مباشرة. والمعروف أن اللغة بوجه عام هي مجال التفاهم بين البشر، وهي إذ تحقق هذا التفاهم أو التواصل إنما تكون كبنية موضوعية تحددها الكلمات بدلالاتها المصطلح عليها وتثبتها قواعد النحو بحيث يتخذ التفاهم أو التواصل صورته الموضوعية، ويستحيل توصيل أي تجربة إلا عن طريق اللغة.
ومع ذلك فاللغة تعرف مستويين على أقل تقدير، أحدهما المستوى العام الذي يتحد بالكلمة المنطوقة والبنية النحوية في اللغة، ويمكن أن يفهمه كل من يفهم هذه اللغة. هذا المستوى هو الأساس الأول لكل لغة، غير أن هنالك مستوى آخر يقع تحت المستوى السابق ويرتبط به على الدوام، وهو يتعلق بالمعاني التي يفهمها كل فرد على حدة من خلال تجاربه الخاصة، بحيث يصبح للمعنى الواحد معان أو دلالات مختلفة من مستمع إلى ثان وثالث ورابع ... إلخ. ومن هنا جاءت أهمية التفسير أو التأويل ووظائفه الخلاقة التي تدور حولها اليوم فلسفات التأويل (الهيرمينوطيقا) ومناهجها الخصبة التي تكشف عن مدى تعدد دلالات النص الواحد بتعدد قراءاته وقرائه.
وتكمن الدلالة بصورة أساسية في «القصد» اللغوي الذي يتجه فيه متكلم إلى مستمع لإبلاغه بشيء له معنى، وقد حدد عالم اللغة «كارل بيلر» هذا المعنى من خلال تحديده لبنية اللغة التي تقوم في رأيه على علاقة دلالية (أو سيمانطيقية) ثلاثية، فالعلاقة اللغوية تكون رمزا بفضل إحالتها إلى موضوعات أو حقائق موضوعية معينة، وتكون شاهدا بفضل اعتمادها على المرسل الذي تعبر عن دخيلته، كما تكون علامة بفضل تأثيرها على السامع وتغييرها لمسلكه الخارجي أو الداخلي.
84
وعندما نضع ما نتكلم عنه في سياق العبارة ونقوم بتوصيله إلى المخاطب أو السامع، فإننا نوصل إليه معنى عاما ومفهوما يمكن بدوره أن يدخل في سياق عبارات أخرى تكمله وتضيف إليه، أو تعدله وتغير منه. بذلك تكون اللغة - في مستوى الدلالة الأعم الذي أشرنا إليه - نظاما مفتوحا على دلالات أخرى متنوعة، وبذلك أيضا يكون العالم الذي يتكون في اللغة وبها أشبه بنسيج طيع مرن، يمكن أن تضاف إليه خيوط جديدة باستمرار ويكون ما سميناه «بما لم يتم الوعي به» ماثلا فيها على الدوام، لأن العبارة من حيث هي بنية موضوعية أشبه بالبؤرة أو النواة التي تطلق المعاني من داخلها كما تستوعبها من الخارج. ويترتب على هذا أن العبارة بعلاقتها الدلالية الثلاثية لا تقبل أن تحدد بصورة نهائية، ولا تكون أبدا ذات معنى واحد ثابت، وإنما تظل عبارة مفتوحة متعددة المعاني، أو تظل على الطريق إلى ذاتها لم تتوحد معها بعد، وقد تتوحد معها من خلال عملية التفسير أو التأويل التي لا تتوقف. هكذا يمكن القول إن البنية الدلالية للغة تعمل في الوقت نفسه على تكوين البنية الأنطولوجية لما «لم يوجد بعد»؛ ومن ثم تصبح الأنطولوجيا «الصورية» فرعا من فلسفة اللغة، تملأ إطارها الأنطولوجيا «المادية» بمضامين العالم الطبيعي والعالم التاريخي.
85
وإذا كانت اللغة في ذاتها ولذاتها دلالية، فإن الموجود الذي يخرج من وجوده الأخرس (الذي يوصف منذ هيجل بأنه وجود في ذاته) ليصبح بالنسبة إلينا حاملا لدلالة، لا بد أن يكون له طابع مجازي فهو يدل على ذاته كما يدل في الوقت نفسه على شيء آخر أكثر منه وعلى شيء آخر غيره: «فمن خلال تعبير التشبيه عن الشيء الواحد عن طريق شيء مختلف - مع العلم بأن هذا الشيء المختلف يمكن أن تتسع وجوه اختلافه وتتعدد تعددا كبيرا - فإنه (أي التشبيه) يوصف بأنه مجازي. وإن «شرف» المجاز وتماسكه الداخلي يكمن على وجه التحديد في هذا التعدد الدلالي الدال بذاته، وفي هذا الشيء غير المحدد بالضرورة الذي ما يزال التشبيه ينطوي عليه ثم في السلسلة المتصلة من الإحالات إلى كل ما يمكن أن «يطابق» فعل الدلالة، بل إلى كل أشكال هذا التطابق في العالم.»
86
تعتمد المقولة التي سميناها في الفصل السابق «ما قبل الظهور» على هذه الدلالات المختلفة التي يمكن أن يوحي بها الشيء الواحد، خصوصا خلال التعبير المجازي؛ فهي تحاول أن تظهرنا على شيء لم يوجد بعد ومن ثم يعبر عنه - عن طريق التشبيه والاستعارة مثلا - بشيء آخر. ولما كان ذلك الذي «لم يوجد بعد» أمرا لم يثبت ولم تتحدد الصورة التي سيكون عليها في المستقبل، فلا بد أن يكون تعدد دلالاته في هذه الحالة شيئا طبيعيا، لأنه يجعل مجال الفهم والواقع المنتظر مفتوحا، ويسمح - إذا جاز هذا التشبيه - بإعادة ترتيب الأحجار التي يتكون منها بناء العالم. ومن هنا يظل عالم الأشياء - وهو في ذاته عالم أخرس - حافلا بالألغاز والأسرار في نظر العقل. ولا بد للعقل أن يتحسس المعاني المختلفة التي يمكن أن تحل له مغاليق اللغز أو تفتح خزائن أسراره. ولا بد أيضا أن تتعدد الحلول والمفاتيح بحسب السياقات التي توضع فيها الأشياء والموجودات، بل إن كل حل يوجد معه سياقا جديدا ويوحي بحل جنيد.
87
ويفرق بلوخ تفرقة دقيقة بين المجاز والرمز. فالمجاز هو المتعدد المعاني الذي ينطوي على الشبيه والمخالف في نفس الوقت، أما الرمز فهو الذي يقوم بعملية التوحيد تحت معنى واحد. ولا بد من الشعور فيها جميعا بالمضامين اليوتوبية ورفعها إلى مستوى الوعي الواضح، وتلك هي الوظيفة اليوتوبية التي تتحقق في الأعمال الفنية الكبرى والأصيلة: «إن التشبيه هو علامة على شيء ما يزال بالنسبة لنفسه علامة، أي بعبارة أوضح هو علاقة ما لم يتكشف لنفسه في الموضوعات ذاتها، وما لم يتحد مع نفسه تماما ولم يتحقق في العالم تحققا واقعيا كاملا، وطالما بقي العالم على هذا النحو في حالة عدم اكتمال، أي في حالة تجربة مستمرة لماهيته التي لم تتحقق تماما أو لم تبرز إلى الوجود بصورة واقعية ، فإن المجازات والرموز ستظل تشارك هنا وهناك، بدلالاتها على صيرورة العالم أو على هدفه وغايته في كل أحوال العالم وأشكاله؛ بهذا يمكن القول بأن هذه الأشكال نفسها تحتوي على مجازات ورموز، أعني أنها تحتوي على مجازات واقعية ورموز واقعية.»
88
هكذا تتعدد معاني العالم ودلالاته. فكل شيء يمكن أن يعبر عن شيء آخر غيره. وإذا كان هذا يصدم مبدأ الهوية (أو الذاتية) ويمحو الفروق التي تميز الموجودات عن بعضها ويضيع معالمها المحددة، فلا بد أن نسلم من وجهة النظر الجدلية بأن الهوية النهائية لا وجود لها، وأن كل شيء يمكن أن يكون غيره. وفي هذه الحالة يكون التعبير المجازي (كالتشبيه والاستعارة) وظيفة يوتوبية أو علامة على علامة أخرى، أي على شيء لم يكشف بعد عن حقيقته، ولم يتحد بذاته، ولم يصبح واقعا متحققا. ومن ثم يكون العالم في وضعه القائم عالما ناقصا ولم يبلغ تمامه، لأنه لم يزل في حالة تجربة مستمرة ولم يزل في سبيله إلى تحقيق ماهيته بصورة واقعية. ولهذا السبب أيضا تشارك التعبيرات المجازية بدلالاتها المتعددة في التعبير عن صيرورته المتصلة وتحولاته وأشكاله التي لا تتوقف، بل من الجائز أن نصف أشياءه وموضوعاته «الواقعية» بأنها في حد ذاتها مجازات واقعية أو رموز موضوعية
89
وذلك مصداقا للبيت الشهير الذي يرد في خاتمة «فاوست» جوته:
كل فان هو رمز فحسب،
وكل ما لا يمكن الوصول إليه سيصير هنا حادثا.
90
فكل ما يراه في الواقع رموز على الأبدي الفعال في الكون، وكل ما في الكون مجاز حي واقعي. ولأن العالم ناقص ولم يكتمل في صورته النهائية، ولأن كل شيء فيه متصل بكل شيء فإن وجوده ذاته يمكن أن يوصف بأنه دلالة، وحتى لو تصورناه أخرس لا ينطق وساكنا لا يتحرك، فإنه سيكون «علامة» تنطق وتعبر عن حالة. ولكننا نعلم أنه ليس أخرس ولا هو ساكن، وأن كل شيء فيه «يدل» على هويته التي لم تتحقق بعد، وهي الهوية التي يمكن أن نصفها بأنها «كلية العالم» أو «وحدته الكلية»، كما يمكن أن نقول إن كل شيء مفرد فيه هو «شفرة» تشير إلى كل شيء عداه «وتدل» عليه، وأن هذه الكثرة المجازية التي لا نهاية لها تعبر عن وحدة ظواهره المتنوعة وتماسكها.
بعد عرض علاقة الوظيفة اليوتوبية ببعض المذاهب المختلفة - التي حاولت أن توظفها بشكل أبعدها عن هدفها الحقيقي - نكون قد ألقينا الضوء على التحديد الأنثروبولوجي الذي اشتق منه بلوخ التحديدات الأنطولوجية التي مفادها أن في وجودنا «لا» يتحتم رفعها أو إلغاؤها، ونشعر أيضا أن ثمة مستقبلا تبدعه المخيلة، ولكن من المهم أن تكون صورة هذا المستقبل صورة واقعية وأن نتخيلها تخيلا موضوعيا، ونتكلم عنها في زمن المستقبل.
وعلى الرغم من اتساع أفق بلوخ الفكري الذي تجاوز الرؤية الماركسية، وعلى الرغم أيضا من أنه يتمتع بدرجة عالية من الحس التاريخي، إلا أنه يظل أسيرا لبعض الأفكار الماركسية التي لا تخلو من التزمتية. وربما يتضح هذا من موقفه من الأيديولوجيا، وتبنيه لوجهة النظر الماركسية التي ترى أن الأيديولوجية هي منظومة فكرية لم ينتج عنها سوى الوعي الزائف، وإنها بهذا المعنى ضللت الوظيفة اليوتوبية وعوقت اكتشاف الوعي بال «ليس-بعد». لقد تغافل عن أن كل عصر له أيديولوجيته، وأن لكل عصر منظومته الفكرية بالمعنى الكلي للفظ الأيديولوجيا عند كارل مانهايم، الذي يحتفظ كذلك بمعنى يوتوبي يتراكم مع الزمن، أن الماركسية نفسها لم تخرج في النهاية عن النطاق الأيديولوجي، كما بقيت في التحليل الأخير يوتوبيا تحاول أن تتحقق بشكل عيني، وآمنت إيمانا جازما بحتمية التطور التاريخي نحو مجتمع شيوعي يوتوبي، وبهذا المعنى يكون للأيديولوجيا نصيب في كل نسق فكري، وتكون لها وظيفة اجتماعية - ربما لا تقل أهمية عن الوظيفة اليوتوبية المتضمنة فيها بصورة غير مباشرة كما تقدم - تتمثل في القدرة على تفسير العلاقات الاجتماعية، وإدراك العلاقات بين الأشياء. والمهم أن هذه الوظيفة ليست ثابتة وإنما هي متغيرة في كل عصر تاريخي ولا يمكن التغافل عنها بأي حال من الأحوال.
ويتهم بلوخ كل المثل العليا في تاريخ الفلسفة بأنها مجردة وتأملية، وأنها مقطوعة الصلة بالواقع الفعلي، وأن الماركسية وحدها هي التي استطاعت أن «توسط» هذا الواقع لتحقيق مثلها الأعلى - أي الاشتراكية - التي هي بطبيعة الحال في رأي بلوخ والماركسيين هدف عيني. إلا أن هذا الاتهام للمثل العليا طوال تاريخ الفكر الفلسفي هو في مجمله نوع من المبالغة - على الرغم من استشهاده بالعديد من المذاهب الفلسفية وإثباته بالبراهين ما يدعم به مدى التجريد الكامن فيها - بل ويمكن اعتباره نوعا من التعميم الذي يجب ألا يقع فيه فيلسوف يتحرى الدقة العلمية في أحكامه على الأشياء، كما أنه نوع من المبالغة في قدرات النظرية الماركسية التي أثبت التاريخ عجزها عن التوسط مع الواقع الفعلي، ناهيك عن إخفاقها في تحقيق أي من أهدافها، بل ويمكن القول إنها لا تختلف كثيرا - على الأقل في جانبها التطبيقي - عن الأنساق الفلسفية السابقة التي قامت لانتقادها. ويبدو أن بلوخ نفسه قد تناسى أن طبيعة المثل العليا تفترض أن تكون من النوع المفارق أو المتجاوز للواقع، وكم أكد هو نفسه في أكثر من موضع أن الفكر بطبيعته متجاوز! وأخيرا فربما كانت الوظيفة اليوتوبية للدلالات اللغوية التي توحي بها المجازات والرموز أكثر وضوحا من غيرها، لأن هذه الدلالات تتضمن في طياتها صيرورة متصلة، وتحولات تتخذ أشكالا مختلفة، وإن كان هذا لا يتضح بشكل جلي إلا في الأعمال الفنية الكبرى والأصيلة. فهل الواقع هو صورة مماثلة للعمل الفني؟ وهذه المجازات والرموز التي استطاعت - عن طريق فض قشرتها اللغوية - أن تكشف عن هوية العمل الفني، هل ستستطيع - أي المجازات والرموز - أن تكشف عن الهوية الحقيقية الكامنة في الواقع الفعلي بعد فض قشرته؟ إنه سؤال مفتوح، والهدف منه هو تأكيد أن هذا الجانب من أكثر الجوانب الدالة على أصالة بلوخ.
الفصل الثالث
البناء الأنطولوجي للأمل
يحدد بلوخ أربعة تصورات أو مفاهيم أنطولوجية أساسية يصفها بأنها مفاهيم «مقولاتية» أو بالأحرى مقولات واقعية، تدل على حركة الواقع الجدلي للمادة والتاريخ، وتكشف عن صيرورتها نحو تحقيق الأمل اليوتوبي. هذه المفاهيم أو اللحظات الأساسية التي توضح حركة الواقع والعالم هي «اللا» التي يبدأ منها كل شيء، وال «ليس-بعد» التي تعبر عن اندفاع التاريخ نحو الكل، أو تعثره وسقوطه في «اللاشيء» أو «العدم».
هذه المفاهيم أو المقولات الأربع تمثل المصطلحات الأساسية في نسق بلوخ الجدلي وبنائه الأنطولوجي، كما ترتبط ارتباطا حميما بمقولة «الإمكان» وجدل «المادة»، بقدر ارتباطها بجدل الوعي البشري وأحلامه وتوقعاته عن المستقبل.
أولا: المفاهيم الأنطولوجية لمقولة ال «ليس-بعد» (1) مفهوم «اللا»
The Not
نبدأ «باللا» التي ذكرنا قبل قليل أن كل شيء يبدأ منها. وأبسط وصف لها هو أنها نقص شيء ما، وفي الوقت نفسه محاولة تلافي هذا النقص. ولذلك فهي الدافع أو الاندفاع نحو شيء مفتقد. هذا الدافع أو الاندفاع الكامن في كل ما هو حي هو الذي نصفه وصفا مكثفا بأنه «اللا»، فهو الحاجة، والسعي الدائب، والحافز المستمر، وهو الجوع أولا وقبل كل شيء. و«اللا» في هذه الحالة الأخيرة بالذات - أي في حالة الجوع - لا يمكن أن تكون «لا شيء» أو عدما. بل إن الأمر هنا يتطلب ضرورة التمييز الحاد بين «اللا» غير المحدودة و«اللاشيء» أو «العدم»
the Nothing
المحدد، إذ إنها تبين بوضوح أن «اللا» في هذه الحالة تتعلق بنقص شيء أو موجود ما وعدم امتلاكه، ولا تتعلق بال «لا شيء» أو العدم الذي يعني انعدام كل شيء.
1
وما يميز هذه المفاهيم الأنطولوجية التي نتناولها في هذا الفصل (وهي اللا والليس-بعد، والكل والعدم)، هو ارتباطها بالدوافع والانفعالات. ويتضح هذا عندما نتبين أن هذه المفاهيم الأنطولوجية، التي تبدو في الظاهر شديدة التجريد، إنما هي مرادفة للجوع واليأس من جهة، أو للطمأنينة والثقة في الخلاص من جهة أخرى. بذلك تكشف المفاهيم عن الانفعالات الأساسية التي تقوم عليها، كما تلقي الانفعالات الضوء على المفاهيم وتبين الأصل الأنطولوجي الذي انبثقت عنه وتغذت على نيرانه - على حد تعبير بلوخ - واستضاءت به قبل أن تضيئه.
وليست «اللا» نهائية مطلقة، لأنها «اللا» المتعلقة بمبدأ الوجود، بوجود معين هناك، كما تعلن عن نفسها بوصفها اللاتملك. إنها بداية كل حركة تجاه شيء ما، وليست «لا» مجردة أو نهائية وليست عدما، وإنما ترتبط بشيء أو موجود «هناك» تفتقده وتفتقر إليه وتسعى لامتلاكه والحصول عليه، ولذلك فهي في الأصل غير محددة ولا مؤكدة، إنها مجرد بداية، نقطة صفر وفراغ تنطلق منها الحركة المندفعة نحو الامتلاك والامتلاء. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تحتمل حضور ذاتها، وإنما تتعلق - بطريقة تتسم بالاندفاع - بموجود هناك أو شيء ما.
2
وإذا كانت الحاجة واللاتملك هما أول ما يواجه الإنسان في حياته، فإن ذلك يعني أن «اللا» مغروسة فيه، وجزء لا يتجزأ من تجاربه الأولى في الحياة. فهو يشعر بأنه في الحاضر الراهن ليس ما يمكن أن يكون عليه. ويلازمه هذا الشعور طالما أحس بالافتقار إلى شيء أو آخر ينقصه. وهذا ما يجعله يحتفظ «باللا» داخل وجوده، بذلك يكون السلب قد وجد في الإنسان قبل أن يوجد في المنطق الجدلي، وتكون هذه «اللا» هي المحرك الجدلي للواقع الطبيعي والوعي على السواء.
وإذا كانت الحاجة تلازم حياة الفرد على الدوام وتدفعه على العمل باستمرار، فقد كانت أيضا هي الدافع وراء سلوك الجنس البشري بأكمله. فالحاجة علمت الإنسان أن يفكر، وأن يصنع الأدوات، ويشعل النار، ويبني الأكواخ، والحاجة هي التي علمت البشر أن يتجمعوا في العشيرة والجماعة والدولة، والحاجة علمت الإنسان كذلك أن يدعو ويصلي كلما قصرت قواه وعجزت قدراته عن إشباع حاجاته. بذلك يكون «اللا-تملك» هو الدافع الأساسي وراء الحركة والتغيير، ويبقى «اللا» على الدوام متعلقا بالتملك الذي لم يتم الحصول عليه بعد، بحيث إن عدم التملك الذي يتصف دائما بالتكثف والنزوع هو الأصل المادي الديناميكي لكل ما يملك في المكان والزمان وهو الذي يدفع على الحركة ويغير الطبيعة، كما يفرض على الإنسان العمل على تغيير مادة التاريخ البشري.
3
إن «اللا» هي نوع من الفراغ أو الخواء، ولكنها في الوقت نفسه نوع من الاندفاع نحو الخروج من قبضة هذا الفراغ والخواء. فهي غير قادرة على أن تظل كامنة وموجودة في ذاتها، بل تسعى دائما للخروج من حالة الكمون، فكيف يتم لها ذلك؟ يتجلى هذا الخروج أو الاندفاع بوضوح في حالة الجوع أو الحرمان - كمثال يستشهد به بلوخ - حيث تتحول «اللا» إلى رعب من الفراغ
Horrar Vacut ، تتحول إلى حالة مقت شديد.
4
وتنطلق «اللا» الكامنة وتخترق الجوع لإشباعه. فهذا الجوع أو الحرمان أو الفراغ هو نقطة البداية لكل وجود مباشر. وتكمن البداية في ظلام «الوجود-هنا» الذي ما زال لم يتوسط مع ذاته.
إن الأصل والبداية لكل موجود هنا تكمن في الظلام الذي لم «يفض نفسه» أو لم يمر بعد بعملية التوسط الجدلي، أعني في ظلام «الآن» أو اللحظة المعيشة المباشرة. وليس هذا الظلام - الذي تبدأ منه كل حركة في العالم - بعيدا أو متواريا في ماض كوني سحيق القدم، وإنما هو ظلام مباشر وقريب وماثل في كل وجود «موجود هناك».
5
لذلك فإن نقطة البداية أو الأصل والأساس للعالم كله قائمة على التحديد في «الهنا والآن» الذي لم يخرج بعد ولم ينبثق من نفسه، أو لم يتحرك من مكانه على الإطلاق. كما أن «اللا» الكامنة فيه أو الملازمة له هي على التحديد «اللا» التي تحرك التاريخ، وتهيئ العمليات التاريخية لتحقيق أهدافها، دون أن تصبح هي نفسها تاريخية.
6
ومن ثم يجوز القول بأن الأصل هو المجهول الذي تتخلل حركته كل الأزمان والأشياء، وإن لم يبزغ هو نفسه من نفسه ولم يصبح شيئا بعد. ولذلك فإن كل لحظة معيشة - إذا كان لها عينان - لا بد أن تكون شاهدا على بداية العالم الذي يبدأ فيها، ولا زالت تتجدد في كل لحظة إلى أن تتحدد هذه «اللا» غير المحددة تبعا لمضمونها، ومن خلال التجارب اللانهائية لعملية الصيرورة التاريخية بأشكالها وتحقيقاتها المتجددة التي لا حصر لها، لأن كل لحظة هي نقطة الصفر في بداية العالم كما تتضمن تاريخ العالم.
إن عملية التكوين والتشكل المستمرة والمتجددة عبر صيرورة العالم والتاريخ - التي تفترض الجديد - لا تتوقف مع كون الشيء قد صار، وإنما تبقى الصيرورة مستمرة. لكن السؤال الآن: هل تأتي عملية الصيرورة دائما - وبالضرورة - بما هو جديد بحق؟ طبيعي أن العملية يمكن أن تتمخض عن الجديد جدة حقيقية ، كما يمكن أن تفرز المظاهر الخداعة التي تظهر على الأفق في صورة الجديد، دون أن تعبر عن مضمون الجديد الحقيقي الذي اتجهت إليه حركة العالم والتاريخ، ودون أن تثمر الثمرة التي نفتقدها ونشعر دائما بالافتقار لها، أعني الافتقار إلى ذلك «الشيء الواحد» الذي هو خير، ذلك الشيء الواحد الذي سيأتي معه بالحل والخلاص، أي اليوتوبيا.
7 (2) ال «ليس-بعد
Not yet »
هنا تتبدى «اللا» المتكررة والمستمرة في صورة ال «ليس-بعد» التي تخترق الصيرورة التاريخية وتتخطاها في وقت واحد، ويصبح الجوع هو «قوة الإنتاج في جبهة العالم الذي لم يتم أو لم يكتمل بعد.»
8
لكن كيف تتحول «اللا» الكائنة في «الهنا والآن» إلى ال «ليس-بعد» الكائنة بطبيعتها في المستقبل؟ إن الدافع أو الحافز على هذا التحول يكمن فينا نحن، يكمن في جوعنا وتعطشنا وشوقنا لتحقيق الهدف. إنه يأتي من «اللا» التي لا تملك أو التي تحس في كل لحظة إحساسا غامضا ومباشرا بأنها تفتقد شيئا وتفتقر إلى شيء، فنحن لا نعيش لأجل أن نعيش، وإنما نعيش لأجل هدف، ولأجل هذا الهدف لا نشعر بالاستقرار ولا الاطمئنان لأمر واقع، وإنما نشعر بالقلق الدائم بسبب هذه «اللا» النافذة في صميم كينونتنا القائمة. هذه «اللا» التي لا نتحملها ولا نطيقها فتتحول إلى ال «ليس-بعد» هي التي تدفعنا إلى الهدف التاريخي الذي نسعى إليه.
9
وليس هذا الهدف سوى الحياة الأفضل التي تختمر في داخلنا، والتي يرسمها الحلم فتتأهب وتكافح، وتجرب، وتغير وتنذر نفسها لتحقيق ما لم يتحقق بعد.
هكذا تعبر «اللا» عن السخط على الصورة التي صار إليها الشيء المفتقد، بوصفها القوة الدافعة الكامنة تحت كل صيرورة في العالم، والدافع المحرك إلى الأمام في مجرى التاريخ، ولذلك تظهر في كل تعريف يقدم للموضوع وكأن لسان حالها يقول بلهجة الإنكار: كلا ليس هذا هو المحمول الذي يحدد الموضوع تحديدا كافيا. ومن ثم يتبين أن «اللا» تجعل من نفسها «ليس-بعد» يوتوبية وفعالة على الدوام، وتتخذ صورة «السلب» الذي يدفع الحركة الجدلية قدما، وينمو خلال كل وضع قد يبدو إيجابيا وإن لم يكن كذلك تماما من منظور «الكل» الذي لا زالت تتطلع إليه، والذي يمكن عنده وحده أن تستقر «اللا» بعد تحقيق هدفها المنشود.
لقد غدت «اللا» هي ال «ليس-بعد» التي تمثل العنصر الهدام أو التناقض الذي يعمل على تدمير كل ما قد «صارت» إليه العملية الجدلية، لسبب بسيط هو أن كل مرحلة من مراحل التعريف أو التحديد لهذا الشيء الذي صار، لا بد أن تعوق تحقيق هدفها، لأن أي صيرورة نحو «الكل» لا تعبر عن التحقيق الكافي، ولا الإنجاز الناجح بحق، وتتمثل مناقضة الصيرورة في الذات والموضوع معا باعتبارهما وجهي الواقع المتحرك، فتتم في الذات البشرية أو في الوعي الذي يجد أن ما حققته الصيرورة غير كاف وربما يكون معوقا، كما تتمثل المناقضة الموضوعية تجاه ما يظهر من ذلك «الموضوع» نفسه الذي أفرزته عملية الصيرورة، من جهة ما ينطوي عليه من نزوع ناضج إلى تحقيق شكل الوجود المرتقب، أو بمعنى أدق نزوع أنضجته قوى الإنتاج وشروط الأوضاع التاريخية والاجتماعية بوجه عام. ومن ثم تصبح ال «ليس-بعد» أكثر تحددا وأقوى اندفاعا نحو تحقيق المهام التي تستوجب التحقيق، وأشد وعيا بالظروف الموضوعية التي تمكن من حلها والوفاء بها بطريقة موضوعية أيضا.
10
يذهب بلوخ إلى أبعد من ذلك عندما يربط الفكر بمقولة ال «ليس-بعد» ويدخله في قلب العملية الجدلية، وعندما يقول بأن على الفكر أن يكون دائما على أهبة الاستعداد وأن ينظر إلى الأمام، وأن ينظر فيما حوله، وأن يكون في قلب الحياة والأشياء وأن يتوسطها كذلك - بالمعنى الجدلي المفهوم من التوسط - بحيث يتجاوز الواقع باستمرار، ويعي دوره في التقدم إلى الأمام. وعلى هذا التجاوز والتقدم يتوقف كل شيء، فالفكر الذي يشده مغناطيس ويدفعه جوعه وشوقه للتقدم نحو الهدف، يكون فكرا مبشرا وأملا نذر نفسه لتحقيق ما لم يتحقق بعد.
11
الواقع أن الحافز على هذا الفكر موجود في «اللا» الكامنة داخلنا والتي لا تطيق هذا الكمون فتتحول إلى ال «ليس-بعد»، وكأن ال «ليس-بعد» هي المغناطيس الذي يجذب الفكر إليه، كما يدفعه للتزود بالمعرفة الجادة المنهجية الواعية، والتسلح بالمفاهيم الدقيقة المحددة، واللغة المقتصدة، والإرادة النشطة الفاعلة التي تعلم إلى أين ولأي هدف؛ لذلك وصف بلوخ هذا النوع من التفكير «بإبرة المغناطيس» التي تخطط للهدف المقصود وتحدد الطريق إليه بدقة متناهية.
12
هذا الفكر المتجاوز والمتقدم إلى الأمام يحتاج بطبيعة الحال إلى «أنطولوجيا» من طبيعة مختلفة عن أنطولوجيا الوجود العام الذي يرجع إلى الأصل ويريد الاستقرار فيه وإعادة كل شيء إليه كما نجدها عند هيدجر. ويطالب بلوخ بدراسة أنطولوجيا الوجود من خلال الموجود المتحرك الذي يحمل في داخله الموجود - الذي لم يتحقق - بعد (أو ال «ليس-بعد»)، الموجود المتحرك بأشكاله المتفتحة على معاني الوجود المتحرك أيضا إلى الأمام، لا الوجود العام الذي يلح دائما على تمييز نفسه عن الموجود الجزئي فيما يسمى بالفارق الأنطولوجي الأساسي بينهما كما يزعم هيدجر. ولهذا لا تنفصل نظرية الوجود هنا عن الموجود ومجاله الممكن، كما لا تستغني في كل تعبيراتها عن هذا الوجود عن الكلام عنه من جهة «الإمكان» التي تصلح دون غيرها للإحاطة بال «ليس-بعد» أو الموجود المستقبلي الذي لا يزال في مرحلة التشكيل والتفتح والسعي إلى التحقق.
13
إنها الأنطولوجيا التي لا تبعد الوجود الأعم في مكان مرتفع متعال على هذا الوجود، والتي تحدد ماهيات الوجود الأساسية من خلال الموجود المتحرك بأشكاله المفتوحة على دلالات الوجود. لذلك لا عجب أن تتجاهل أنطولوجيات الوجود مقولة الإمكان لأنها تتهيب المستقبل وتؤثر السلامة في رجوعها للقديم أو بالأحرى في انغلاقها فيه.
إن فكر ال «ليس-بعد» يبدأ بداية جديدة، ولكنه كذلك «يتوسط» تحقيق الهدف، وينطوي على مضمون مستقبلي. وهو يعبر عن نفسه بمثل هذه العبارة: «أنا أكون، لكني لا أملك نفسي، ولهذا فسوف نكون.» أو هذه العبارة: «نحن ذوات بلا أسماء، وطبيعتنا من نوع طبيعة كاسبر هاوزر،
14
نرحل في سفر مجهول على طريق لم نبدأه بعد.» فكأن الإنسان هنا كائن يعيش في الظلام الذي يلف لحظته المباشرة، إنه لم يفهم نفسه ولم يصل حتى إلى الوعي بحضوره، ولهذا السبب عينه نقول إنه كائن له تاريخ ممتد أمامه كما هو ممتد خلفه. إنه لا يزال مع عالمه كله على سفر، ورحلته هي رحلة اكتشاف، وفي هذه المرحلة يمكن أن يتشكل وجوده ويتفتح هدفه. ومعنى هذا أنه دائما على الطريق إلى أرض لم تكتشف من قبل، وربما لم يسبق لها وجود قبل أن تطأها قدماه ... وكلما نجح في إنجاز عمل خلاق أحس بأنه قد عبر الحاجز الذي كان يفصله عما «لم يتم الوعي به بعد»، وما «لم يصر بعد»، وشعر بأن العالم الحقيقي ينتظر من الإنسان الواعي أن يشق الطريق أمامه. والفلسفة التي تعي حقيقة ال «ليس-بعد» وتتحرك بفضلها هي التي تعبر عن هذا العالم وعن الطريق الموصل إليه: بدءا ب «اللا» التي دخلت التاريخ على صورة ال «ليس-بعد»، ووصولا إلى «الكل» أو على العكس إلى «اللا شيء» أو «العدم».
15
تلك هي أنطولوجيا ال «ليس-بعد»، أي أنطولوجيا «الموجود» الذي لا يزال يتشكل خلال عملية الصيرورة المتصلة، دون أن يفقد صلته «بالوجود» الجوهري أو الكلي الذي يقوم الموجود نفسه بدور «التوسط الجدلي» على الطريق الصاعد إليه. وغني عن الذكر أن هذا التوسط يتم من خلال الجهد الذي يبذله الإنسان والعالم، أو الوعي والمادة، فكلاهما منخرط - كما رأينا - بحكم صيرورته المتصلة في ال «ليس-بعد»، أي في اليوتوبي الممكن والواقعي على السواء.
والآن بعد أن تحولت «اللا» إلى ال «ليس-بعد» وانطلقت هذه الأخيرة في التاريخ، واندفعت إلى الأمام، فإلى أين تتجه وما هو هدفها؟ إنها تتجه إلى المستقبل، وهدفها كما قلنا هو الوصول إلى الكل اليوتوبي، ولكن هل تسير ال «ليس-بعد» دائما في المسار الصحيح، بحيث تدرك مباشرة وبشكل تلقائي هذا الكل اليوتوبي، وتبلغ بذلك قصدها وهدفها؟ أم يتعثر المسار فتصطدم «باللاشيء» أو «العدم» وفي هذه الحالة لا تبلغ ال «ليس-بعد» هدفها المنشود؟ (3) «الكل» اليوتوبي، واللاشيء أو «العدم»
إن ال «ليس-بعد» وحدها (أو كمجرد «ليس-بعد» فحسب) قد تستطيع في الواقع أن تؤثر على الصيرورة غير الكافية أو تغير منها. و«اللا» التي تحولت إلى «ليس-بعد» وتطلعت إلى تحقيق «الكل» تدخل في علاقة مع العدم من أجل أن يكون «الكل»، ويستشهد بلوخ بصدق الحقيقة التي عبر عنها «جوته» في قصيدته الصوفية الشهيرة «الحنين المبارك» من ديوانه الشرقي وهي «مت لكي تكون» إذ يظل «العدم» حاضرا في كل تغير يطرأ خلال عملية الصيرورة، سواء في صورة الإحباط والفشل، أو في صورة الاضمحلال والتلاشي. وفي كل الأحوال يظل «الكل» كذلك حاضرا، ولا سيما في حالة النجاح النسبي الذي يتجلى بوجه خاص في روائع الإبداع البشري.
16
ولو لم يكن الأمر كذلك لأصبح الماضي طي النسيان، ولما بقي شيء يمكن إنقاذه أو استمراره مما نسميه التاريخ. هنا تتأكد علاقة «اللا» وال «ليس-بعد» بالكل، وهي علاقة بهدف يسعى وراءه العالم المادي والتاريخ البشري اللذان سيظلان في حالة أشبه ما تكون بالمنفى أو بما قبل التاريخ حتى يتحقق ذلك الهدف وينطبق عليه التعريف الكافي للهدف الكلي.
أما علاقتها (أي اللا وال «ليس-بعد») بالعدم فهي علاقة تتحدد بأسلوب فهمهما لمعنى السلب، سواء أكان ذلك بالتخلص من الصيرورة غير الكافية وتفجيرها من الداخل للمضي قدما نحو صيرورة أكثر كفاية ومن ثم إلى الكل، أو بتكريس العدم وجعله وضعا نهائيا، وذلك عن طريق تحويله إلى أداة تدمير شامل بأيدي مستبدين يقتحمون التاريخ بين الحين والحين أو بالأحرى يوقفون مساره (كما حدث على يد طغاة مثل نيرون وهتلر على سبيل المثال) فالعدم هنا لم يعد هو العدم الجدلي الذي يقتضيه السلب «الإيجابي» المنتج الذي يسلب أو يرفع بدوره في مركب أغنى وفق قوانين الجدل المنطقي والتاريخي، وإنما هو تثبيت له وإيقاف لمسار كل تاريخ وكل تقدم جدلي.
17
لذلك يكون هذا العدم الأخير أبعد شيء عن العدم المتضمن في السلب الجدلي، الذي يسلب كل ما قد صار ليبلغ به مرحلة جديدة، ويلبي على الدوام حاجة ال «ليس-بعد» للسلب وسلب السلب بغية إزالة العوائق عن الطريق الموصل إلى الكل الحقيقي أو الجوهري، الذي ظهرت له في تاريخ الفلسفة من بارمنيدس إلى اسبينوزا بدائل «سكونية» كثيرة اتخذت اسم الطبيعة أو الكون، وأضفت عليها صورا أسطورية أو واحدية أو آلية،
18
وبعدت بذلك بعدا شاسعا عن صورته الجدلية المتحركة التي تفترض نقصه وعدم اكتماله ووضعه المؤقت لا وضعه القائم.
ولا شك أن الإحباط والفشل، أو العدم والموت الأخير، هما الخطر الدائم الذي يتهدد كل عملية جدلية، وهما - على حد تعبير بلوخ - التابوت الذي ينتظر على الدوام إلى جوار كل أمل.
19
ولكنهما كذلك الوسيلة الوحيدة لكسر كل سكون، وتخطي كل حالة بلغتها الصيرورة المستمرة. بذلك يحتوي اللاشيء أو العدم المتضمن في السلب الجدلي على جوانب إيجابية تحميه من تلك الأخطار، وتساعده على التجاوز والتخطي مهما كانت العقبات والتحديات.
هكذا يكون العدم - إذا أحسنا فهمه وفقا لجدل المادة والوعي المتقدمين دائما نحو «اليوتوبيا» - هو القوة المتنامية التي نفذت في التاريخ، كما قوت من الجدل المتقدم نحو الكل نفسه. والعدم - شأنه شأن «اللا» وال «ليس-بعد» و«الكل» - هو أحد المفاهيم أو المقولات الأساسية في أنطولوجيا جدلية متحركة نحو الكل اليوتوبي، لا أنطولوجيا ساكنة تتصور أنها «علم وجود» مستقر ومكتمل ... وكلما ازداد الوعي بهذا العدم المتغلغل في صيرورة
process
المادة والتاريخ، ازداد كذلك الوعي بجدلية الحركة الشاملة نحو الكل.
والمهم بعد كل شيء أن نميز العدم الزائف - الذي يتبدى في مظاهر القوة والمجد والجبروت السطحية التي أدت دائما إلى عدم سطحي وزائف مثلها - عن العدم الإيجابي المرتبط ب «ليس-بعد» مرجو، وب «كل» ينتظر تحقيقه والوفاء به، أي باليوتوبيا التي سيرسو العالم والتاريخ على شاطئها، صحيح أن وجود هذه اليوتوبيا سيظل متأرجحا بين إمكانين واقعيين: فإما العدم المطلق وإما الكل المطلق. ولكن تبقى اليوتوبيا - في شكلها الواقعي أو العيني - هي الإرادة التي تضع نفسها موضع الاختيار على طريق تحقيق الوجود الكلي. والمهم أن تبقى عاطفة هذا الوجود مشتعلة فيها، وأن تظل متعلقة بأمل ووجود لم يوجد بعد، ولم يحقق الخير الأقصى الكامن فيه، لا بوجود يتوهم أنه قائم على أساس وطيد لا ينقصه شيء والأهم من ذلك ألا تغفل هذه الإرادة عن «العدم» الذي لا يزال يعمل عمله المدمر في التاريخ، ولا تتجاهل الخطر الماثل فيه بالانتهاء إلى العدم النهائي الذي اندفع إليه وسقط فيه أكثر من مرة. ولذلك فلا بد لهذه الإرادة أن تكون متفائلة ومناضلة باستمرار، حتى لا تتردى في بحر بلا شاطئ، ولا تغيب في ليل بلا صباح، ولا تنحدر إلى حضيض البربرية التي ينعدم فيها كل أمل، وتتكشف عن العبثية المطلقة للتاريخ والإنسان.
20
وعليها أن تختار بين البديلين اللذين أشرنا إليهما: بين العدم المطلق الذي يعني الإحباط الكامل لليوتوبيا، والكل المطلق الذي يعني اليوتوبيا أو الوجود اليوتوبي.
لقد اتخذ الانتصار النهائي للعدم صورة الجحيم، كما اتخذ الانتصار النهائي للكل صورة السماء أو الفردوس. والواقع أن الكل نفسه ليس إلا الوحدة التي تضم الإنسان الذي عاد إلى نفسه مع عالمه الذي اكتمل لكي يكون في خدمته. وهذه الوحدة هي التي تحقق عبارة جوته الشهيرة في فاوست: «في البدء كان الفعل.» وعبارته الأخرى: «الشيء الناقص قد تم.»
21
وهما عبارتان يصوغهما بلوخ في لغة جدلية اشتراكية على هذه الصورة المعبرة عن «روح اليوتوبيا» عنده: تطبيع الإنسان، وأنسنة الطبيعة، أي جعل العالم إنسانيا بتوسط الإنسان أو بإرادته.
إن هذا الأصل الأنطولوجي ليس إلا جوهر العالم المتحرك حركة جدلية في لحظاته الثلاث الأساسية وهي: «اللا» وال «ليس-بعد» و«اللاشيء» (العدم) أو على العكس «الكل» المقابل له. «فاللا» تدل كما سبق - على أصل العنصر المندفع لتحقيق «الموجود هناك» الكامن في كل شيء، وال «ليس-بعد» تميز النزوع الرابض في عملية الصيرورة المادية لإظهار مضمونها، واللاشيء (العدم) أو «الكل» يشيران إلى الاتجاه: إما سلبا فيكون «العدم» أو إيجابا فيكون «الكل». إنهما يشيران إلى الهدف السلبي أو الإيجابي الكامن في هذا النزوع الذي يتجه إلى الأمام وينتهي بإشباع «الجوع» وتحقيق الحلم، أي ينتهي إلى «الكل» اليوتوبي، أو ينتهي بالقضاء عليه (قضاء مؤقتا على أقل تقدير) فيكون «اللاشيء» أو «العدم». وبذلك أيضا يكون «الرعب من الفراغ» - الذي أفزع الفلسفة القديمة في زمن أرسطو فقالت بأن كل شيء ملاء - يكون هذا الرعب هو العامل الإيجابي الفعال الذي يحرك العالم ويحافظ على حركته ويضعه موضع التجربة، أو يجعل منه «معمل اختبار» لإفراز مضمونه الحقيقي.
22
وبذلك يصبح العالم - وهو دائما عالم الصيرورة المتصلة - هو التجربة الهائلة أو الاختبار الضخم الذي لا يتوقف عن السعي لبلوغ الحل الذي يكفيه ويرضيه، أو تقويم الحلول التي لم تشبعه ولم تلب حاجته العميقة، ولا شوقه ورغبته ومقصده وحلمه الأصيل.
23
وعلى الرغم من ذلك فإن وجود العالم يظل على الدوام وجودا ناقصا غير مكتمل، أي أنه باختصار وجود «ليس-بعد». والفراغ الماثل في «اللا» الحاضرة في كل «آن» وفي صميم كل «موجود هناك» يدل على أن هذا الموجود لم يتحقق بعد ولم يبلغ ماهيته الحقة.
ويعبر بلوخ عن هذا المعنى بصورة منطقية مركزة على النحو التالي: أ لم تصبح بعد هي ب، أي الموضوع لم يحصل بعد على محموله، أي أن ب (المحمول) الذي لم يصل إليها أ (الموضوع) هو «ما
what » الماهية المفتقدة والخاصة «بين» الوجود (Quad pro Quod) that
وبتعبير أوضح وأبسط: الموجود لم يحقق بعد ماهيته، أو لم يمتلك ذاته بعد ... وكل هذا يمكن تكثيفه في صيغة معبرة عن «الوحدة الأنطولوجية» بالصورة المركزة التالية: اللا = نقطة الصفر، الليس بعد = اليوتوبيا، العدم أو الكل = النواة.
24 •••
وأخيرا قد تبدو الصيغة المنطقية السابقة مجردة أو غامضة أكثر مما ينبغي؛ ولذلك فهي تحتاج إلى وقفة نقدية تعلق عليها وتوضحها. والواقع أننا لو رجعنا إلى تلك الصيغة أ لم تصبح بعد هي ب، لوجدنا أنها قد أثارت إشكالات أنطولوجية عديدة، فربما تبدو في ظاهرها يقينية واضحة، غير أنها تخفي في حقيقتها الحيرة والقلق. والفخ المنطقي والأنطولوجي الأول يكمن في كلمة «بعد»، فقد تعودنا في المنطق الصوري أو التقليدي أن نميز بين الوجود واللاوجود، وأن نفرق بين أ ولا أ بقولنا أ هي أ، والعكس كذلك صحيح - أ ليست هي لا أ. وكلتا الصيغتين تقومان على المعادلة الرياضية أ = أ وكذلك أ لا يمكن أن تساوي لا أ. كل هذا يؤكده منطق الثبات والتحديد التقليدي، لكن الأمر مع منطق الحركة والتغير مختلف؛ إذ يدخل على الصيغة والمعادلة طرف جديد يهز توازنها، وهذا الطرف الجديد هو كلمة «بعد» التي تغير نظرتنا إلى الموجود والوجود كله.
بهذا يدخل التناقض الجدلي في حسابنا ويصبح عنصرا أساسيا من العناصر المكونة للوجود فتتغير الصورة التالية: أ لم تصبح بعد هي أ، أو بعبارة أبسط: الموجود أ الذي ندركه ونتعامل معه في هذه اللحظة ما يزال بعيدا عن تمثيل حقيقة أ، وربما يتاح له في المستقبل أو لا يتاح له أن يظهر مكنونه ويحقق وحدته مع ذاته. وحتى هذا التحقيق أو التوحد يحتاج أن نراه رؤية جدلية فنقول إنه لن يكون هو التحقيق الأخير ولا الكمال النهائي (وكلاهما يحمل معنى التوقف والتجمد والموت)، وليس الموجود إذن هو نفس الموجود، إنه شيء مختلف عما هو عليه في ذاته. وستبقى أ = لا أ صحيحة ما بقي الموجود الذي يظهر لنا في الحاضر مختلفا عما يمكن أن يكون عليه في المستقبل، ولكن ألا يعني تدمير الهوية أو الذاتية الراسخة أن يتصدع العالم، ويتفتت الموجود، ويغرق في نهر التحول الأبدي بحيث يستحيل أن نفكر فيه بأنه موجود؟ وكيف نسمي أو نتصور شيئا يتشذر ويتغير من حال إلى حال بغير انقطاع؟
الواقع أن هذا هو الذي تقصده الصيغة السابقة. فكلمة «بعد» لا تدل من الناحية المنطقية البحتة إلا على علاقة زمنية لا تلغي الوضع الحاضر الذي تعبر عنه أ = لا أ أو لا «ترفعه» كما يقول الجدليون (وإن كان من المحتمل أن تلغيه وترفعه في المستقبل) ومن الواضح أن هذه العلاقة بالمستقبل تعدل من وضع الحاضر نفسه ومن نظرتنا إليه،
25
لأنها توحي بأن أ في هذه اللحظة الراهنة ليست هي أ نفسها، ولكنها من ناحية المبدأ أو من جهة القوة والإمكان والاستعداد - إذا شئنا أن نستخدم لغة أرسطو وليبنتز - نستطيع أن نتعرف فيها الآن على ا ، وإن كانت في حالتها الراهنة لا تزال شيئا مختلفا عنها أشد الاختلاف.
لا شك أن هذه الفكرة يمكن أن يساء فهمها، ومن الممكن أن تضع فلسفة بلوخ في مهب الريح، وقد يقول البعض كيف يمكننا تسمية شيء بغير اسمه الصحيح بحجة أنه يمكن أن يكون صحيحا في المستقبل؟ وقد يقول البعض كيف نجازف في هذه الحالة بإصدار حكم على الوجود على أساس عاطفي هش هو الأمل أو الرجاء؟ الحق أن تبديد هذا الظن يتوقف على التمسك بالنظرة الجدلية والتعويل على إرادة الإنسان ووعيه الثوري ... ولنبتعد عن الأنطولوجيا قليلا ونضرب مثلا من الحياة؛ فهل نسمي المجتمع الذي ينتج وسائل القهر والقمع والتعذيب وأبشع الجرائم والحروب بأنه مجتمع إنساني أم بأنه لا إنساني؟! وهل نظلم الحقيقة إذا وصفنا البشر الذين يعيشون فيه، أو على الأقل المسئولين عن تلك الشرور، بأنهم ليسوا بشرا؟ نعم إن الإنسان في مثل هذه المجتمعات يفتقر إلى هويته الإنسانية بسبب ظروف مختلفة ومعقدة، ولكنه يمكن أن يتحد بهويته الجوهرية إذا تغيرت هذه الظروف، لأن اللا-إنسان الذي تزيد وحشيته أحيانا عن الوحش لا يزال إنسانا بحكم الطبيعة والإمكان، وإن لم يبلغ في ظل الوضع القائم مبلغ الإنسان، فإذا أضفنا كلمة «بعد» إلى العبارة المتناقضة: أ ليست هي أ، أو أ = لا أ وجعلناها أ لم تصبح بعد هي أ، فإن ذلك ينطوي على إضافة قيمة معيارية إلى أ تعطيها فرصة التحقيق في المستقبل، على الرغم من عدم تحققها في واقع الأفراد الذين ينتمون إلى فئتها أو نمطها الكلي، ومعنى هذا - إذا شئنا أن نستخدم لغة أفلاطون - أن هنالك درجات في الاقتراب من الوجود الحق، أو من الوجود العام لكل موجود.
بهذا تكون الفكرة المحورية التي عبرت عنها صيغة بلوخ السابقة قد تمخضت عن نتائج ميتافيزيقية وإنسانية (أنطولوجية وأنثروبولوجية) بالغة الأهمية على الرغم من مشكلاتها العديدة التي تصدم الفكر وتتحداه. فإذا كان كل موجود يتحدد بمجموعة من الخصائص الجوهرية، أمكن مع غياب هذه الخصائص أو نقصها أن نحكم بوجود هذا الموجود، وأن يحدد هذا الحكم بصورة أدق فيقال إن وجوده غير كامل، بحيث يترك للزمن أن يضيف الخصائص الناقصة، على نحو ما يقال إن المولود يفتقر إلى بعض القدرات والاستعدادات التي سيستكملها مع النمو والتقدم في العمر، وإن لم يمنع هذا من وصفه من البداية بأنه إنسان، ومعنى هذا مرة أخرى أن هوية أ مع ذاتها موجودة في هذه الصيغة «أ وجود لم يتحقق بعد.» أي وجود على نحو ناقص أو على وجهة السلب. بذلك تحل الصيرورة اللامتناهية محل الوجود الثابت، وتتاح من الناحية الموضوعية فرصة الانتقال من الإمكان إلى الواقع الفعلي، ومن الناحية الذاتية من الأمل إلى التحقق.
26
بيد أن هذا كله لن يريح من الأسئلة والمشكلات، فالحكم بعدم تحقق الهوية (أو على الأقل بتأجيل تحققها) يمكن أن يزلزل عبارة بارمنيدس الشهيرة التي قام عليها التفلسف كله، وهي أن الوجود موجود، وربما رد العالم الذي نعيش فيه إلى حالة الفوضى والعماء التي كان عليها قبل الخلق، فلا نكاد تميز فيه الموجود من اللاموجود، ولا نكاد تسمى شيئا باسمه. أضف إلى هذا أن عملية التقدم أو التطور المستمر من الأمل إلى تحقيق الأمل ومن الإمكان إلى الواقع الفعلي، يمكن من ناحية المبدأ وبمنطق الجدل نفسه أن تستمر بغير حد ولا نهاية؛ إذ ينقلنا الواقع الفعلي إلى إمكان آخر، ويظهرنا الأمل المتحقق على أمل جديد لم يزل في سبيله إلى التحقيق. فهل هي دورة أبدية يسلم الهدف الذي تحقق لهدف يبدو في الأفق البعيد، ويتمخض الموجود المتحد مع ذاته عن إمكانات لم تنبثق بعد؟ ألا يقال بهذا أن العالم لن يحقق هويته أبدا، لأن ذلك معناه السكون والموت ونهاية العالم ذاته؟
تلك أمثلة للأسئلة والمشكلات التي يتصارع معها تفكير بلوخ اليوتوبي على كل المستويات، فالمادة لن تكف عن التفتح والإبداع، والمجتمع الخالي من الطبقات لن يتوقف بتحقيق «الجماعة الشيوعية» كما توهمت الدول الشيوعية، والفن لن يسأم الصعود على درجات الكمال، والحرية لن تفرغ أبدا من إتمام تحررها، والهوية النهائية لن تتحقق أبدا بصورة نهائية، والإنسان لن يكف أبدا عن تجربة الحياة من جهة السلب والنقص، ولن ينفض يديه أبدا من محاولة التجاوز والعلو على ذاته. وفي كل الأحوال لن تخلو أي يوتوبيا متحققة من بقية يوتوبية، لا لأن الكمال لم يتحقق فحسب في العمل الذي تم إنجازه، بل لأنه بعيد عن الصورة التي تم تصورها قبل البدء فيه وأثناء الجهد الذي بذل في سبيل تحقيقه ... ولا يرجع ذلك لأن الإنسان مخلوق ساخط بطبعه، لا يقتنع بأي هدف يحققه، بل لأن للوجود درجات، كما أن للكمال درجات. والحقيقة أن المزيد من الوضوح والتميز في تمثل الوجود والوعي به - كما عند ليبنتز في مذهبه عن المونادات - واستكمال العمل الكامل، هما خطوات على الطريق إلى تحقيق مفهوم الهوية والوصول إلى الكل.
وهكذا يفلت الوجود على الدوام، ويخترقه السلب لكي يفسح مكانا للصيرورة ومعها التغير والتحول، والفكر وحده هو الذي يتشبث بديمومة الوجود الذي وحده معه بارمنيدس في عبارته المشهورة (لأن الوجود والفكر واحد)، وإلا انزلق منه كل شيء، ولم يتكون من تدفق الظواهر عالم على الإطلاق. أما الواقع الذي يواجه الفكر ويتسرب إليه في مختلف الصور، فهو حركة متصلة، وكل ما هو «واحد» فيه ينطوي على «الآخر» المختلف عنه، ولولا ذلك ما كان هو الواحد ولا أخرج الوجود من داخل اللاوجود كما بين أفلاطون ذلك في محاورة «بارمنيدس» واستطاع بذلك أن يتجاوز الوجود أو أن يجعله يتجاوز نفسه.
ومهما يكن الأمر، فغني عن الذكر أن تلك الصيغة الجدلية المكثفة لا يمكن أن تتضح إلا إذا تم استخراج مضمونها الغني من ثنايا التجربة البشرية التي تجلى فيها على أنحاء مختلفة، وإن تكن قد ظهرت حتى الآن في صور تاريخية جزئية مشتتة وغير كافية أو محققة للأمل اليوتوبي، وبيان هذا وشرحه معناه تتبع العملية الجدلية في مجاليها التاريخي والكوني، وهي العملية التي لا يمكن تصورها إذا كان الوجود ليس على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها، وأنه لم يزل على الطريق إلى تحقيق ماهيته. وطبيعي أن الهدف من هذا البحث هو شرح هذه العملية الجدلية الضخمة في صورها وأبعادها المختلفة التي لم تزل في مجموعها مجرد تجليات مؤقتة للكل اليوتوبي الأخير، أو لم تزل مجرد خطوات ومراحل من الرحلة الطويلة التي تتابع طريق التجربة والخطأ، والنجاح والفشل، والأمل وخيبة الأمل، وكأن جهد العالم كله، وجهد الإنسان الذي يمثل آخر فصل فيها هو مختبر الخلاص الممكن.
ثانيا: مقولة الإمكان
من الواضح أن مقولة ال «ليس-بعد» التي تم عرضها من الناحية الأنطولوجية تدور في فلك الإمكان الذي سيتم عرضه من الناحية المنطقية. وقبل الحديث عن مقولة الإمكان يقتضي الأمر التعريف بماهية المقولة، وكيف تطورت في تاريخ الفكر الفلسفي. إن كل كلمة في أية لغة تدل على تصور
Concept . والتصور اسم كلي يطلق على أشياء كثيرة، فهو بلغة المنطق يمثل فئة يندرج تحتها مفردات متعددة، وليست هناك تصورات للأشياء المادية وحدها بل هناك كذلك تصورات للأفعال والكيفيات والعلاقات.
27
وظهر في تاريخ الفلسفة تصنيف للتصورات أو الكليات، فهناك كليات عقلية - وهي التي ستعرف فيما بعد باسم المقولات - وهناك أيضا كليات مستمدة من الحس.
28
أما عن الاشتقاق اللغوي لكلمة المقولة أو قاطيغوريا
Kategoria
فهي كلمة يونانية كانت تعني في الأصل «الاتهام» ثم أصبحت تعني الصفة المنسوبة إلى شيء ما. والكلمة العربية «مقولة» لا تبعد كثيرا عن هذا المعنى، فهي تعني «ما يقال على الموجود» أو «ما يحمل على الأشياء». أما المرادف اللاتيني فتعني المحمول لأي موضوع، من هنا أمكن أن توصف المقولات بأنها قائمة من المحمولات يكشف أي منها عن نمط الوجود الجوهري الذي ينتمي إليه الموضوع - وفقا للتعريف الأرسطي للمقولة - وقد كان أرسطو أول من وضع نظرية خاصة بالمقولات.
29
هذا عن ماهية المقولة واشتقاقها اللغوي. أما عن تاريخها في الفكر الفلسفي فقد تطورت في ثلاث مراحل أساسية، تبدأ المرحلة الأولى منها في الفلسفة اليونانية بالمقولات الأرسطية العشر، وهي لون من التصورات الكلية العقلية التي تمثل الخصائص الأساسية للأشياء،
30
أي خصائص الموضوعات أو الموجودات، لذلك فهي مقولات تمثل جانب الموضوع أو جانب الوجود، أو بمعنى آخر هي مقولات أنطولوجية. وتبدأ المرحلة الثانية من «تاريخ المقولات في الفلسفة الحديثة بمذهب كانط الذي ظهرت فيه المقولات بوصفها عمليات ذهنية ذاتية أي تصورات.»
31
وفي هذه المرحلة انتقلت المقولات من الموضوع إلى الذات، فأصبحت مقولات إبستمولوجية عند كانط بعد أن كانت أنطولوجية عند أرسطو، فمقولات كانط تصورات ذاتية للعقل البشري؛ لذلك لم يستخدمها على أنها المبدأ الأول في تفسير العالم، إنما هي مبادئ إبستمولوجية للمعرفة، أي مبادئ أولية قبلية سابقة على كل تجربة لأنها الشروط التي تعتمد عليها التجربة.
32
ثم تأتي المقولات الهيجيلية في المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل تطور المقولات، وهي مركب المقولة الأرسطية والكانطية لأنها موضوعية وذاتية في آن معا، وهي أنطولوجية وإبستمولوجية في وقت واحد
33
المقولة الهيجيلية إذن هي المقولة التي اتحد فيها الوجود والمعرفة، وهي المقولة التي جمعت شمل أنطولوجية أرسطو وإبستمولوجية كانط. تحولت المقولة من صورة إبستمولوجية للمعرفة إلى مبدأ أنطولوجي لتفسير الكون. عند هيجل أصبح من الممكن استنباط العالم استنباطا منطقيا من المقولات بعد أن استحال هذا الاستنباط عند كانط. (1) طبقات مقولة الإمكان
الواقع أن مشكلة الإمكان لم يتم تأملها في تاريخ الفلسفة بصورة كافية. والفيلسوفان اللذان شغلا بها على نحو دقيق هما أرسطو وليبنتز. فالأول يرجع إليه وصف الأساس المادي للوجود بأنه الوجود بالقوة أو بالإمكان
dynamei on
كما يرجع إليه تمييز الوجود من ناحية الإمكان أو بحسب الإمكان
Kata ton dynaton . أما لينتز فيرجع إليه الفضل في صياغة هذه المسلمة: كل ما هو ممكن ينزع للوجود
Omne possibile existere
غير أن مقولة الإمكان في رأي بلوخ مقولة متعددة الطبقات والمستويات. ولعل من أهم فصول «مبدأ الأمل» وأشدها عمقا هو ذلك الفصل الذي يكشف فيه بلوخ عن طبقات مقولة الإمكان، فقد تتعلق هذه المقولة كما قال هولتس (أحد تلامذة بلوخ المباشرين) - بجهة الحكم - أي الفكر والتعبير - أو بجهة الوجود، ولكن ارتباطهما ليس عن طريق الصورة والأصل كما يظن الواقعيون وبعض الوضعيين التحليليين بحيث يكون الإمكان من جهة الحكم صورة للإمكان من جهة الوجود، بل إن العلاقة بين الفكر والوجود علاقة أعقد تشابكا، وتوجد مراحل متداخلة؛ إذ يمكن أن يبدو «المستحيل الواقعي» ممكنا من الناحية الفكرية، كما يحدث عندما نتخيل وجود حيوان خرافي كالتنين، أو عندما يتصور الجائع هبوط الحمام المشوي إلى فمه في أرض الأحلام.
34
وكما أن الجهة في القضية هي التعبير في الحكم عن مرتبته من حيث تقرير الوجود «أو الإمكان» أو الضرورة أو الامتناع، فالحكم إما أن يكون ضروريا، أي معبرا عن ضرورة الصلة بين الموضوع والمحمول، وإما أن يعبر عن أن هذه الصلة من الممكن وجودها بين كلا طرفي القضية ويمكن أن تكون الرابطة رابطة امتناع بمعنى أنه من المستحيل أن ينتسب المحمول إلى الموضوع.
35
ولكن العلاقة بين هذه الأقسام ليست علاقة حدية أو منفصلة، بل إن مقولة الإمكان علاقة متشابكة. ونظرا لتعقدها وتداخل مراحلها، فلا بد من تمييز الطبقات المختلفة لهذه المقولة الهامة والأساسية في نسق بلوخ الفلسفي، ولا بد من تمييزها بعضها عن بعض تمييزا دقيقا، إذا أردنا ألا يسير التفكير اليوتوبي سيرا عشوائيا على غير هدى، ولا بد كما يقول بلوخ أن يؤخذ الإمكان مأخذ الجد لأنه لو فقدت الموجودات - الواقعية والفكرية - صفة الإمكان لتوقفت الحياة نفسها وانتفى عنها التطور والصيرورة. والإنسان هو «كائن الممكن» الذي يحيط به الإمكان من كل ناحية، وربما يدل أيضا على أن انفتاحه على الممكن ليس أمرا تعسفيا يخضع لهواه، ولا هو شيء «غامض» يمكن أن يكون كل شيء أو أي شيء، وإنما يتضمن شروطا وقواعد تحميه من أن يتحول إلى مجرد لعب بالكلمات والأفكار. وما دام الإمكان مقولة، فيمكن تحديد طبقات هذه المقولة وشروطها التي تصونها من أن تكون نوعا من العبث أو الانسياق وراء الأحلام والأوهام. ويقسم بلوخ مقولة الإمكان إلى مستويات أو طبقات متعددة تعكس درجات المعرفة والإدراك، ولنبدأ بأول هذه الطبقات. (أ) الممكن الصوري أو الشكلي
The Formally possible
الممكن الصوري هو أول هذه الطبقات. وهو مجموعة من الكلمات يرتبط بعضها ببعض بشكل لا معنى له، لكنه بناءات أو تركيبات لغوية ممكنة على مستوى القول لكنها بغير معنى على الإطلاق مثل «شيء مستدير» أو «وإنسان ويكون» وغير ذلك من التركيبات الخالية من أي معنى، وبصرف النظر عن الحقيقة التي تعبر عنها هذه القضية، وربما تأتي تركيبات لغوية أخرى غير العبارات الحمقاء السابقة، فتأتي مضادة للمعقول أو لا معقولة، وإن كان من الصعب إدراك أي معنى لها مثل عبارة: «مربع دائري» أو تنطق بحكم مضاد للعقل مثل: «إنه يصعد على ظهر سفينة رحلت من قبل.» والاستحالة هنا مباشرة وواضحة، فالعبارة لا تخلو من المعنى، وإنما هي مضادة للمعنى ولقوانين العقل والمعقول. ولذلك يمكن التفكير فيها - إذ إن ما يدخل في علاقة مع غيره ممكن التفكير فيه - ولكن لا يمكن تحديد معنى معقول لها، ومن ثم يكون الإمكان هنا هو الإمكان الصوري أو الشكلي.
36
وإذا كان أرسطو قد قسم القضية من حيث الجهة إلى أربعة أقسام: (أ) الضروري أو الواجب الذي لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو كائن. (ب) الممكن باعتبار ما كان، وهو الشيء الذي حدث في الماضي وكان يمكن ألا يحدث، أي لم تكن ثمة ضرورة وجودية تقتضي أن يكون قد وجد. (ج) الممكن باعتبار ما سيكون، وهو ما لم يحدث بعد ولكن من الممكن أن يحدث يوما ما. (د) والمستحيل أو الممتع الذي لا يمكن أن يكون أبدا.
37
إذا كان أرسطو قد أقام هذا التقسيم، فإن العلاقات الكائنة بين أطراف العبارات والتركيبات - السالفة الذكر - هي علاقات تضاد أو تناقض ولكن يمكن التفكير فيها من الناحية الشكلية البحتة، لأن في هذا المستوى الأول من مستويات مقولة الإمكان يبحث بلوخ الممكن على مستوى الفكر وليس على مستوى الواقع. لذلك يمكن تركيب عدد لا حصر له من هذه التركيبات التي يرفضها منطق العقل والمعقول، والتي أخضعها بعض فلاسفة التحليل المعاصرين وبعض الوضعيين المناطقة - مثل رودلف كارناب - للفحص المنطقي الدقيق، وبينوا أنها يمكن أن تكون سليمة من الناحية اللغوية والنحوية، ولكنها مرفوضة من الناحية المنطقية. ويذكر بلوخ من هذه العبارات اللامعقولة: «المثلث الغاضب»، «الحصان الراعد»، «قيصر عدد صحيح»، «الجبل الواسع الاطلاع»، وأمثال هذه التركيبات التي يمكن أن يكون بعضها موحيا في اللغة الأدبية والشعرية، ولكن الذي يهمنا من هذا السياق هو إمكان التفكير فيها من الناحية الشكلية، ومهما تكن عقيمة وغير دقيقة وبلا معنى، فهي تبين على كل حال «الممكن» الذي يقبل التفكير فيه، ولكن إذا كان مجال الإمكان بالنسبة للتفكير متسعا بغير حدود، فهل ينطبق نفس الشيء على مجال الإمكان المفتوح أمام المعرفة؟ هل يمكن لهذا الأخير أن يكون أكثر تحديدا أو أكثر موضوعية وإن لم يتحقق بعد بصورة ملموسة؟ (ب) الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية
The factually objectively
هذا الإمكان لا يكمن في التفكير بوجه عام، بقدر ما يكمن في المعرفة. وعلى الرغم من الاتساع الهائل لإمكانات المعرفة بشتى مجالاتها وميادينها وموضوعاتها، فإن إمكاناتها من الممكن وصفها وتحديدها وبيان شروطها المعروفة أو القابلة للمعرفة، هذا الوصف وهذا التحديد يتعلقان بدرجات المعرفة ومستوياتها بالنسبة لموضوع معين، لا بدرجات ومستويات الشروط الداخلية الكامنة في هذا الموضوع نفسه ومدى النضج الذي وصل إليه بحيث يكون «موضوعيا» بحق، ومعنى هذا بعبارة أوضح أننا لا نبحث هنا «الإمكان الموضوعي» أي بمفهومه الموضوعي الدقيق المتحقق بالفعل، وإنما نبحث من جهة كون معرفتنا به - سواء كانت موضوعية أو غير موضوعية - ملائمة أو غير ملائمة. ويتمثل هذا الإمكان في الصيغ والتركيبات التي تعبر عن اعتقاد أو ترجيح يقوم على مبرر أو مبررات تؤيده، فالتبرير هنا هو الشرط أو السبب الذي يجعلنا نعتقد في ذلك الإمكان أو نرجحه، مع العلم بأن هذا التبرير المعرفي لم يصل بعد إلى النضج الكافي لجعل الإمكان موضوعيا، كما لم يؤد بعد إلى بلورته أو تحقيقه في صيغة كاملة أو مرضية. في هذه الحالة لم يتم التوصل بعد إلى معرفة كل شروط الإمكان - التي تحتم تحقيقه - معرفة موضوعية كافية، أي أن الإمكان هنا يكون مشروطا بصورة جزئية، وبهذا وحده يوصف بأنه ممكن - والواقع أن هذا هو المعيار الذي نقيس به درجات الإمكان ومستوياته في كل أشكاله وتحولاته - ولو صرفنا النظر عن الإمكان الصوري أو الشكلي من الناحية الفكرية البحتة كما ذكرناه في البداية، لكان الممكن هو المنفتح بوجه عام ودون تحديد، وذلك لعدم كفاية شروط تحققه أو لعدم كفاية معرفتنا بها أو للسببين معا. وطالما أننا لا نعرف سوى بعض هذه الشروط، أي ما دمنا لا نعرفها كلها، فيستحيل أن نستدل من مثل هذا الإمكان على الوجود الواقعي. وهنا يصدق المبدأ المدرسي (الاسكولائي) المعروف الذي يقول: «لا يجوز الاستدلال من الإمكان على الوجود.»
38
نعود إلى الإمكان من الناحية المعرفية فنقول إن الذي يميزه - عن غيره من أشكال الإمكان - هو المعرفة الموضوعية الجزئية بشروطه (أي بالشروط التي تجعله ممكنا بحق، أو ناضجا للتحقق) ونحن نصف هذه المعرفة بأنها مشروطة وجزئية، لأن توافر مجموع الشروط التي تنقل الشيء أو الحدث إلى مرحلة التحقق لا يجعل هذا التحقق أمرا محتملا أو مرجحا فحسب، وإنما يجعله أمرا محققا بصورة مطلقة وغير مشروطة، ولذلك فلا يجوز أن نراهن على تحققه أو عدم تحققه بعد اكتمال المعرفة الموضوعية بكل شروطه، بل إن بلوخ ليؤكد أن ذلك الموقف لن يخلو - من الناحية الإنسانية - من الغباء.
39
ويتم التعبير عن الإمكان الموضوعي من ناحية المعرفة به في صورة حكم شرطي
hypothical judgement ، أو في صورة حكم احتمالي أو إشكالي
problematic judgement . إذا كانت درجة اليقين في المعرفة به أقل. ويختلف الحكم الشرطي في هذا الصدد عن الحكم الاحتمالي أو الإشكالي في أن الأول لا يفترض بعد مقدمات مؤكدة، على حين أن الحكم الاحتمالي أو الإشكالي يحتوي على مقدمات مؤكدة (إذ تكون مقدماته مضمرة) بل يضيف كذلك مقدمات مجهولة (ومن أمثلة الأحكام الإشكالية: يمكن أن تمطر اليوم، ربما يكون لويكيبوس قد عاش بالفعل ... إلخ) ولهذا يعد الحكم الإشكالي هو الحكم المعبر عن الإمكان باعتباره أحد أحكام منطق «الجهة» أو إحدى مقولاته: ««أ» من جهة الإمكان مرتبطة ب «ب».» وطبيعي أن تدخل أحيانا في هذا النوع بعض الأحكام غير الأصيلة للإمكان، وهي الأحكام التي لا تقوم على دراسة أو معرفة كافية أو الأحكام التي تصدر لأسباب نفسية وتربوية عن وعي غير كاف بالشروط التي استقر العلم عليها من قبل. فعندما يصدر أحد الحكم التالي من أحكام الجهة «يمكن أن ينحل الماء إلى عناصره عن طريق التيار الكهربائي.» فإنه يعبر بذلك عن جهله أو تجاهله للحقيقة المعروفة وهي أن التيار الكهربائي يتسبب في تحليل الماء إلى عناصره التي يتكون منها (هذا إذا لم توجد ظروف تعوق ذلك). إن مضمون هذا الحكم مبرر ولا يقبل الشك، وكل شروط صدقه متوافرة، ولكن العيب في مستوى معرفة قائله، أو بالأحرى نقص معرفته الذي جعله يصوغ حكمه في صورة احتمالية بدلا من أن يضعه في الصورة التوكيدية أو التقريرية التي تليق به. أي أن السبب وراء أمثال هذا الحكم ليست منطقية بل نفسية أو اجتماعية، ومن هنا لم يفرق الكثيرون بينه وبين الأحكام الإشكالية الأصيلة التي تصدر عن معرفة جزئية (لا معرفة مغلوطة) بشروط الإمكان.
40
والواقع أن عبارات البحث العلمي أو فروضه التي تقوم على معرفة كافية بشروط تحقيق نتائجه هي من قبيل أحكام الجهة الموضوعية الأصيلة. ومن ثم تمثل المعرفة الموضوعية بالإمكان مستوى معرفيا لم يصل بعد إلى الإحاطة «بجميع» الشروط الموضوعية لتحقيق ذلك الإمكان، وإن كان قد توصل إلى معرفة بعضها فحسب ولهذا يبقى الحكم في حالة التأرجح أو الاحتمال، كما تبقى كذلك إمكانية إثباته أو نفيه، وصدقه أو بطلانه، وكل من مارس البحث العلمي - الطبيعي أو الاجتماعي والإنساني - يعلم هذا، كما يعلم أن هذا هو الجانب الموضوعي الذي نقصده حين نحكم على هذا الحكم بالإيجاب أو السلب، وبالصواب أو الخطأ قبل المضي في بقية إجراءات البحث المنهجية لمعرفة بقية شروطه ثم التحقق منه بصفة نهائية. وعندئذ يمكن القول بأن الحكم بالإمكان كان حكما موضوعيا على إمكانية موضوعية، وأن الترجيح أو الاحتمال الذي تضمنه الحكم الاحتمالي أو الإشكالي بالنسبة للمعطيات التجريبية في العلوم الطبيعية والإنسانية؛ قد تضمن كذلك نوعا من التوقع أو المعرفة المسبقة بالشرط الأساسي أو بمجموعة الشروط الأساسية التي توجه البحث المنهجي في الموضوع تمهيدا لتحقيقه بصورة فعلية، وبذلك يجوز القول بأن الحكم الإشكالي الأصيل يعبر عن الصورة الشرطية أو الافتراضية والموضوعية - في آن واحد - التي يقوم عليها البحث العلمي-الموضوعي بمعناه الصحيح، أي أن في استطاعتنا باختصار أن نصفه بأنه هو مبدأ اكتشاف الموضوع أو مبدأ الكشف عنه
heuristic principle .
41
وطبيعي أن يدخل البحث في مشكلة الإمكان الموضوعي الذي يعبر عنه الحكم الإشكالي الصحيح في مشكلات أخرى متعلقة بمنهجية البحث العلمي وبمدى قدرة المنهج «الاستقرائي» على إثباته أو نفيه من خلال قدرته على معرفة جميع شروطه أو معظمها، وربما يتعلق الأمر بمشكلة التعميمات الاستقرائية التي يبدو أنها لم تجد الحل اليقيني النهائي حتى الآن، وإن أقصى ما يمكن قوله عنها إنها فروض عمل تحتوي على أكبر قدر أمكن التوصل إليه من درجات الاحتمال أو الإمكان الموضوعي؛ ولذلك نكتفي بما قلناه عن الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية وننتقل إلى الإمكان الموضوعي من ناحية الموضوع نفسه. (ج) الإمكان الموضوعي من جهة الموضوع نفسه
The fact-based object-suited possible
يتميز الإمكان في هذا المستوى بأنه لا يتعلق بمعرفتنا بموضوع ما، بل بالموضوع نفسه من حيث قدرته أو استطاعته أن يصير على هذا أو ذاك. معنى هذا أن الاهتمام ينصب هنا على شروط الموضوع نفسه التي لم تظهر أو لم تتبلور بعد بشكل كاف، لا على المعرفة غير الكافية بهذه الشروط - كما في المستوى السابق - فهنا يتم الانتقال من المعرفة بالموضوع إلى الموضوع نفسه وشروطه الكامنة فيه والعلاقات الموضوعية القائمة بينها، أي إلى الخصائص والعوامل الداخلية التي تشارك مشاركة إيجابية في إنضاج صيرورته وتحقيق إمكاناته. بهذا نصل إلى طبقة الإمكان التي ترتبط ببنية الموضوع الموضوعية التي تجعله على هذا النحو أو ذاك، بحيث يظل - خلال صيرورته الواقعية - منفتحا على إمكانات أخرى لا تنتهي حتى لو تصورنا أن معرفتنا «الموضوعية» بشروطه قد انتهت أو اكتملت من الناحية النظرية.
42
نحن نبحث إذن على هذا المستوى في «موضوعية الموضوع» أو «شيئية الشيء» من حيث بنيته وتركيبته الواقعية التي تتخللها عملية الصيرورة المستمرة، كما نبحث في مدى توافر الشروط الداخلية والخارجية التي تؤدي إلى إمكان تغييره من وجهة النظر «اليوتوبية الأصيلة»، أو تجعل هذا التغيير ينحرف إلى وجهة زائفة. وقد ظهر مفهوم نظرية الموضوع للمرة الأولى بشكل واضح لدى الفيلسوف النمسوي أليكسيوس مينونج
43 (1853-1920م) ولكنه كان مفهوما «قبليا» خالصا ولا يتعلق إلا بماهيات الموضوعات أو خصائصها الجوهرية المستقلة تمام الاستقلال عن وجودها أو عدم وجودها في الخارج (أي مع وضع هذا الوجود «بين قوسين» كما عبر بعد ذلك هوسرل وأصحاب فلسفة الظاهريات) وقد اعتبر مينونج أن نموذج هذه المعرفة الموضوعية المتحررة من التقيد بوجود الموضوع أو عدم وجوده هي الرياضيات أو المعرفة الموضوعية المجردة بالحقائق الرياضية البعيدة كل البعد عن أي علاقة بالواقع العيني الخارجي.
44
وهكذا «تموضع» المنطق أو «تشيأ» بالمعنى الذي ذكرناه، أي أصبح «وصفا» قبليا خالصا لأفعاله، وتحليلا قبليا ومعنويا لمقولاته، مع وضع الوجود الطبيعي أو العيني للموضوعات «بين قوسين» كما سبق القول.
وإذا كان بلوخ لا يناقش هذه المسألة الهامة مناقشة تفصيلية، فمن الواضح أنه يرفض وجهة النظر «القبلية» والمعرفية المحضة عند كل من مينونج وهوسرل رفضا حاسما، وذلك اتساقا مع وجهة نظره المادية الجدلية التي تركز على البنية المادية للموضوع نفسه وانفتاحه على مختلف الإمكانات المادية أيضا؛ فهو يتمسك «بنظرية الموضوع» ولكنه يربطها بوجوده الواقعي وعلاقاته وشروطه الواقعية أكثر مما يربطها بموضوعية المعرفة به أو «بموضوعية شيئيته» في حالتها الحاضرة أو الراهنة وهو يصر في النهاية على أن هذه هي الطريقة الصحيحة التي تعبر عن بنية الواقعية والموضوعية أو تعكسها بصورة جدلية حقيقية بعيدة عن الصورة المثالية المتعالية التي انتهت إليها فلسفة الظاهريات عند مؤسسها هوسرل، وربما أوضح وجهة نظره قليلا حول «نظرية الموضوع» بقوله إن عملية الانعكاس التي تتم فيها العلاقات الموضوعية ليست مجرد عملية معرفية تتكون في الوعي، وإنما هي «نتيجة معرفية» بالموجود الواقعي أو بالموضوع الواقعي نفسه وتلائمه. وتتخذ هذه النتيجة المعرفية شكل «التعريف الواقعي» الدقيق الذي لا يكتفي بتقديم الخصائص اللغوية والتصورية للموضوع، وإنما يقدم خصائصه التكوينية أو البنائية الواقعية الكامنة في داخل الموضوع أو في داخل السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يوجد فيه. ويعطينا بلوخ مثلا على ذلك يصوغه بلغته الاشتراكية المفضلة لديه، فالتعريف الواقعي والاشتراكي في نظره لمفهوم «الأمة» هو المفهوم الذي يعكس البنية الواقعية المكونة «لموضوع» الأمة ويعرفنا بها بعيدا عن المفاهيم الفاشية أو الاشتراكية الوطنية، والنازية المتعصبة.
45
إن نظرية الموضوع التي يقدمها بلوخ على هذا النحو هي في رأيه «مقر المقولات» باعتبار أن المقولات هي أعم أشكال الوجود الواقعي العيني وأكثرها تميزا وتحددا. وفي إطار هذا المستوى الموضوعي - أو هذه الطبقة من طبقات الموضوعية - تتحدد طبيعة الإمكان الموضوعي أيضا، وتبرز أهمية التفرقة التي أشرنا إليها بين «الموضوع» (الذي اكتملت شروطه الداخلية وأصبح قابلا للمعرفة) وبين «الشيء» (كمدرك حسي) في واقعة الراهن، بين الإمكان البنائي والموضوعي المنخرط في جدل الواقع والمنفتح على وضع أو أوضاع أصيلة، وبين الحالة الحاضرة أو الراهنة التي صار إليها الشيء الواقعي أو صارت إليها إمكاناته، ومن ثم تساعد «نظرية الموضوع» على تمييز مقولة الإمكان في أبعادها الموضوعية، أي من ناحية الشروط التي تحددها بنية الموضوع ونمطه وسياقه الاجتماعي ونسق علاقاته وقوانينه الداخلية ... إلى آخر ما يقوم على أساس الموضوع نفسه ويجعل انفتاحه على الممكنات - حين نعبر عنه في شكل أحكام شرطية أو احتمالية وإشكالية - أمرا محددا ببنية الموضوع ذاته، ومبررا بشروطه. وهذه الشروط - كما ذكرنا - داخلية وخارجية، وهي متشابكة ومتفاعلة تفاعلا يحفظ لكل منها طبيعتها النوعية .
46
ويبقى الإمكان الموضوعي قائما على ما هو عليه، حتى في حالة تحقق أحد الشرطين أو إذا قارب التحقق. فقد يحتوي النبات بحكم شروطه الداخلية على إمكان نضوج الثمرة الكامنة فيه، ولكن ظروف الطقس غير المواتية - أي الشروط الخارجية - لا تساعد على ذلك النضوج. وقد تتوافر الشروط الخارجية وتغيب الشروط الداخلية أو تفتقر إلى العناصر المهمة التي تعمل على تحقيق الإمكان الموضوعي. فالبشرية تضع أمامها على الدوام أهدافا تسعى إلى تحقيقها، حتى إذا جاءت لحظة التحقق التاريخية لم تجد سوى بشر ضعاف عاجزين، ومن ثم يبقى التحقق مجرد إمكان ينتظر توافر شروطه .
47
ومن أمثلة ذلك العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية التي لم تتحقق على الوجه الأكمل من وجهة نظر التقدم والتحرر والعدل والاستنارة الجديرة بهذا الاسم، وذلك لغياب أحد الشرطين السابقين أو نقصهما، ومن أمثلته تأخر جني الثمار الناضجة بعد فترات النهوض أو عصور النهضة عند كثير من الشعوب كما هو الحال مع نهضتنا العربية الحديثة التي عوقتها غيبة كثير من الشروط أو عجزها وعدم وصولها إلى النضج. وينطبق نفس الشيء على تطور العلوم والفنون والآداب والنظم الفكرية في كثير من البلاد والعصور والحضارات.
48
والمهم أن الشرطين يظلان في حالة تفاعل دائب، مهما أصابهما من نقص أو ضعف، على الطريق إلى «الإمكان الموضوعي» الذي يتوقف على الأمرين معا: قدرة الإمكان الداخلي الفعال على تحقيق «التغيير» و«قابلية» الواقع أو استعداده لهذا التغيير، أي باختصار لإمكانية الفعل القادر على التغيير، وإمكانية الصيرورة نحو التغير في ظروف العصر والبيئة والمجتمع المواتية.
ويتضح مما سبق أن الشكل الأساسي للإمكان الإيجابي الفعال يتوقف على قدرة العوامل الذاتية أو البشرية، وهذه العوامل البشرية لا تستطيع بدورها أن تحقق شيئا بغير العوامل الموضوعية والخارجية المرتبطة والمتفاعلة معها والتي تكون في حالة انتظار لمن يحركها ويوجهها إلى التغيير الذي يؤتي ثماره. وهكذا تتكشف مقولة الإمكان الموضوعي - إذا تحققت لها الشروط السابقة - عن تدخل الإنسان لتغيير الواقع أو العالم الذي يقبل التغيير، كما تتكشف هذه المقولة عن مفهوم «الخلاص » أو «الأمل» نفسه. أما عدم نضوج هذين الشرطين أو أحدهما فيمكن أن يفسح المجال للتغيير الزائف، ويكشف عن مفهوم اللعنة أو الكارثة واليأس المدمر بدلا من مفهوم الخلاص والأمل. وما أكثر ما حدث هذا مع الثورات الزائفة التي قامت بها نظم القمع والاستبداد سواء في عصرنا الحاضر أو في العصور الماضية مع اختلاف أشكالها باختلاف السياقات التي تمت فيها. ومع العلم أيضا بأن عدم نضوج الشرطين اللذين تحدثنا عنهما - وهو يمثل العنصر السلبي في الإمكان الموضوعي - يمكن أن يتدرج صعودا أو هبوطا من كارثة الطغيان المطلق إلى كارثة يسببها حادث تصادم بين سيارتين أو قطارين. كما أن نضوجهما يمكن من ناحية أخرى أن يتراوح بين الحظ السعيد الذي يمكن أن يصيب إنسانا، «ومملكة الحرية» التي تتقدم في التاريخ بوصفها إمكانية تحقيق المجتمع الاشتراكي. مع العلم أيضا بأن الحالة الأولى يمكن أن تخضع للصدفة العرضية المباشرة التي تقع على هامش العملية الجدلية، أما الثانية فتنمو وتبلغ النضج بحكم الضرورة الجدلية والموضوعية الكامنة في عملية الصيرورة التي تتم في باطن المادة والوعي، وفي الطبيعة والتاريخ بحكم القوانين الجدلية ذاتها (على غرار التفرقة التي نجدها في الفقرة 250 من موسوعة العلوم الفلسفية لهيجل، حيث يفرق تفرقة دقيقة بين الصدفة العرضية والضرورة الجدلية التي تحتوي على «الإمكان الموضوعي» المفتوح والكامن في الصيرورة الجدلية نفسها على النحو الذي صوره بلوخ وفسره كما رأينا وفقا لفلسفته اليوتوبية في الأمل والخلاص عن طريق تحقيق الاشتراكية) هذه القوانين الجدلية التي لا تستبعد الصدفة على المستوى الأعلى، وهو مستوى الخلق والإبداع الذي يحقق تنوع الإمكانات الموضوعية وثراءها بصورة قد تبدو للنظرة السطحية وكأنما تحمل طابع الصدفة أو المفاجأة، مع أنها تكمن في طبيعة التوسط الجدلي الذي يبدع الجديد باستمرار، ويتعارض مع الصدفة العارضة تعارضه مع الضرورة العمياء على السواء. ولن تدرك النظرة السطحية ذلك حتى تتعمق العملية الجدلية وما تنطوي عليه من إمكانات موضوعية مفتوحة على آفاق التجدد والتغيير على المستويين المادي والإنساني.
49 (د) الإمكان الواقعي في الواقع نفسه
The Objectively-Real possible
كل ما قيل عن الإمكان حتى الآن يمكن أن يبقى مجرد كلام عقيم لا يتمخض عن نتيجة ملموسة، ولا يتولد عنه تغيير حقيقي فعال، فلا يكفي تبرير الإمكان من الناحية المنطقية والشكلية، ولا ترجيحه من الناحية الموضوعية، بل لا يكفي القول بأنه إمكان مفتوح تقتضيه الشروط الداخلية والخارجية للموضوع نفسه. إن هذا كله يمكن أن يبقيه في دائرة التمني والاحتمال إذا لم يكن له أساس في الواقع المادي، وإذا لم يستطع أن يحدد هذا الواقع تحديدا مستقبليا ينبع من الواقع ويدفعه ويوجهه نحو تحقيق الأمل «العيني المحدد». وينقلنا هذا إلى طبقة أخرى من طبقات مقولة الإمكان، ونقصد بها الإمكان الواقعي، وليس هذا الإمكان الواقعي إلا المادة نفسها، هذه المادة التي تظهر كل الأشكال الكامنة في رحمها بفضل الصيرورة الدائبة فيها، ولو سئل على سبيل المثال لتوضيح ما هو الإنسان لكانت الإجابة: الإنسان هو الإمكان الواقعي لكل ما صار إليه هذا الإنسان خلال تاريخه كله، ولكل ما يمكن أن يصير إليه بحكم التقدم الذي لا حدود لآفاقه وإمكاناته. وهي إمكانات لم تزل أبعد ما تكون عن النضوج، فلم يستهلكها هدف وصلت إليه، مهما جل هذا الهدف، ولم تستنفد في مرحلة مرت أو تمر بها، مهما بالغنا في عظمة هذه المرحلة. ذلك أن الإنسان ليس مجرد شجرة استنفدت كل جهدها في مد الأغصان وإنضاج الثمار، وإنما هو المجموع الكلي لشروطه وإمكاناته الداخلية والخارجية التي لم تصل بعد إلى النضج النهائي الأخير ولن تصل إليه أبدا.
50
بهذا المفهوم الشامل للإمكان الواقعي الذي نسميه المادة يمكن أن نفهم فكرة «الوجود بالقوة» أو «الوجود - في حالة - الإمكان» التي حدد بها أرسطو مفهوم المادة. ويستحق هذا المفهوم أن نذكر به ونتتبع تطوره في هذا السياق باختصار شديد، قبل أن نرجع إليه بشيء من التفصيل فيما بعد عند التعرض «لأنطولوجيا» المادة. فإذا كان هيراقليطس في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي هو أول من أدرك وجود التناقض في الأشياء نفسها، فإن أرسطو هو أول من تعرف إلى الإمكان الواقعي (dynamei on)
في مادة العالم: «كل ما يصير في الطبيعة أو الفن له مادة، لأن كل ما يصير فهو قادر (أو لديه إمكان
dynaton ) على أن يكون وألا يكون، وكل ما يمكن أن يكون ولا يكون فإنما هو المادة في كل شيء.»
51
ومن المعلوم أن أرسطو قد ميز العامل الفعال في هذا الإمكان، وهي الصورة، أو الأنتيليخيا
Entelechy ، التي تحقق ذاتها «وكمالها الأول» عن المادة، بحيث وضعهما في شكل الثنائية التقليدية بين الصورة والمادة. ومن المعلوم أيضا أن هذه الثنائية قد تراجعت تراجعا ملحوظا عند عدد كبير من فلاسفة العصور القديمة والوسيطة والحديثة، وأنها عانت من الصراع المستمر بينهما لتقديم أحدهما على حساب الآخر عند عدد كبير أيضا من الفلاسفة. ومن الطبيعي أن نجد بلوخ يتابع مفهومه عن الإمكان الواقعي (أو المادة الفعالة حاملة الصور في داخلها) عند الفريق الأول الذي تخطى تلك الثنائية ووحد بين المادة والصورة أو بين الإمكان السلبي والإمكان الإيجابي الفعال أو الواقعي.
فالمتكلمون المسلمون يرفضون بطبيعة الحال أن يوحدوا بين الإمكان والمادة، ومن ثم يحولون هذه المادة إلى عدم مطلق خلق الله العالم منه بقدرته وإرادته، ثم يضع بلوخ بعض فلاسفة الإسلام والمسيحية واليهودية - مثل ابن سينا وابن رشد وأمالريش البيني
52
وابن جبيرول
53 (1020-1069 / 1070م) ضمن القائلين بوحدة الوجود المادية، ويزعم أنهم جعلوا المادة (أي الإمكان الواقعي) أساس العالم، بل جعلوا فعل الخلق الإلهي لحظة من لحظات المادة ووحدوا في النهاية بين المادة والألوهية. بل إن بعضهم في رأيه - مثل ابن رشد - قد اعتبر أن تطور العالم (أو حركته) هو ظهور الصور من المادة، وأن المادة نفسها هي التي تعطي الصور وبذلك يصبح الخلق - بعد استبعاد ثنائية الصورة والمادة - حركة ذاتية أو إخصابا ذاتيا تقوم به المادة الإلهية التي يكمن فيها الإمكان بغير حاجة إلى محرك أول من خارج العالم.
وتتجدد هذه النزعة المادية في عصر النهضة الإيطالية مع جوردانو برونو (1548-1600م) فيغدو العالم بأكمله تحقيقا واقعيا للإمكانات. وتلتقي الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة في السماء وفي الأرض، وفي الأعلى والأسفل، أي في المادة الدائمة، الأزلية، المبدعة، المادة الأم. بذلك تصبح المادة التي تطور مفهومها على يد برونو تطورا جسورا هي «حامل» الإمكان الواقعي أو قوامه، وهي مصدر الصور ومنبعها لا مجرد وعاء حاو لها «ولهذا يجب أن تحتفظ المادة، التي تظل خصبة على الدوام، بحقها المتميز في أن تكون هي المبدأ الجوهري الوحيد، وأن يعترف بها بوصفها هي التي توجد وتبقى. ولهذا انتهى بعض أولئك الذين بحثوا مسألة الصور في الطبيعة - بقدر ما فهموها عن أرسطو وغيره ممن يسايرونه في اتجاهه - إلى أن الصور ليست سوى تحديدات المادة، وأن الحق في التميز بالفعل والأنتيليخيا (الكمال الأول) يجب أن ينسب إلى المادة.»
54
هكذا نظر الفلاسفة السابقون إلى الإمكان الواقعي نظرة واقعية، واستخلصوا من ذلك - حسب تفسير بلوخ - النتيجة التي استهدفها منذ البداية من نظرته الحيوية والمستقبلية إلى المادة التي تشمل في رأيه الحياة والعقل وتمثل الرحم الخصب على الدوام والنزوع المستمر لإنجاب الصور والأشكال القابلة للتحقق في الواقع.
ولكن هذا التفسير المادي - المتأثر بغير شك بالأفلاطونية المحدثة - لفكرة أرسطو عن الوجود بالقوة أو بالإمكان
dynamei on
قد تراجع تراجعا شديدا مع سيطرة النزعة المادية الآلية أو الميكانيكية، وسيادة العلم الطبيعي ومناهجه الكمية والقياسية التي أخذت منذ عصر النهضة الأوروبية إلى منتصف القرن التاسع عشر في استبعاد النزعة الحيوية ونفي التفسير الغائي من دائرة العلم. وقد مهدت الفلسفة المدرسية (الاسكولائية) لهذا التراجع عندما استبعدت مفهوم المادة الأرسطي كما استبعدت مفهومها عند الفلاسفة السابقين لسقراط (وهو المفهوم الذي يشير إليه ضمنا جوردانو برونو في عبارته السالفة الذكر) وكانت النتيجة أن تحول الإمكان الواقعي إلى واقع كمي إحصائي، وأصبحت المادة كتلة غليظة بلا تاريخ، ودخلت العالم في القرن التاسع عشر (على حد تعبير عالم الفيزياء جون تيندال
John Tyndall
1820-1893م) دخول الشحاذ الذي سلبه اللاهوتيون المتشددون حق الميلاد، أي صارت منذ البداية شيئا متجمدا. إلى أن دخل المفهوم الأرسطي للمادة أو الإمكان الواقعي - وهو الذي لم تنقطع تطوراته وتحولاته على يد الفلاسفة الذين سبق ذكرهم ولدى غيرهم حتى ليبنتز (1646-1716م) على أقل تقدير - في المادية الجدلية التاريخية، فتشابك فيه العامل الذاتي أو الإنساني، مع نضج الشروط الواقعية باطنية كانت أو خارجية، وتحول الكم - حسب منطق الطفرة الجدلية - إلى كيف، وإلى حتمية التغير الجذري ... إلى آخر هذه «اللحظات الجدلية» التي لم يكن من الممكن أن تتلاءم مع التصور الآلي والكمي الجامد والأحادي للمادة. وبذلك أمكن أيضا أن نخرج من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، وأن تتلاقى فيه الأطراف الثنائية المتباعدة (كالطبيعة والمستقبل، والمادة والتوقع، والواقع والحلم)، وأصبحت المادة عملية صيرورة غنية ومنفتحة على إمكانات التغيير «الواقعية» التي تكمن بذورها فيها، أو بالأحرى على «الجديد» اليوتوبي ، «والكل»
The Totum
المأمول.
55
لم يعد من الممكن إذن أن تستقر المادة - أو على الأصح الإمكان الواقعي - في الأنطولوجيا السكونية المغلقة للوجود بما هو موجود، فقد اهتدت، بعد عناء البحث الطويل، إلى وطنها الحقيقي في أنطولوجيا جديدة تحتاج باستمرار إلى تأسيس جديد من جهة الزمان والمكان معا، وأعني بها «أنطولوجيا الوجود» الذي لم يوجد بعد، والذي يكتشفه «الوعي بالمستقبل» في الماضي نفسه وفي تاريخ الطبيعة بأسرها، كما يصبح المكان هو «بعد الأمام» أو التقدم المستمر لحركة المادة الجدلية التي تطبق عليها مقولة الإمكان الواقعي وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك بعد أن نظرنا إلى المادة وخصائصها نظرة مستقبلية؟ وهل يستقيم تصورنا للواقع والواقعية إن جردناهما من بعد الانفتاح على المغاير والجديد؟ ولكن كيف نفهم هذا «الجديد» و«الكلي» الذي يكمن في بذور الإمكان الواقعي ويتفتح باستمرار على المستقبل؟ وإلى أين تندفع إمكانات المستقبل المفتوح على الطفرات اللانهائية لعملية الصيرورة الجدلية الدائبة؟
إن الإمكان الذي تحدثنا عن بذوره المتفتحة للنمو والتطور، هو كذلك «الجذر» و«الأصل» الذي تنبثق عنه الظواهر والصور على اختلاف مستوياتها ومضامينها، فيسقط منها ما يسقط من قشور غير أصيلة ولا جوهرية، ويبقى ما يبقى من إمكانات واقعية تنزع باستمرار إلى المزيد من الأصالة والجوهرية والواقعية. ويضرب بلوخ مثلا حيا على ذلك «بالإنسان العامل» الذي هو في رأيه «جذر» الصيرورة البشرية نحو الإنسان «المثالي » الذي سيعيش في المجتمع الخالي من الطبقات، أو في «الوطن» الحق الذي تتجه إليه مسيرة المادة والوعي معا عبر تاريخها الطويل. هذا الإنسان - الذي هو معرض للتحولات خلال تاريخه الماضي وسوف يتعرض للمزيد منها خلال تاريخه الآتي - قد بدأت بذرة تطوره وتقدمه على طريق المستقبل عندما بدأ يسير منتصبا على قدميه. لقد كان هذا السير المستقيم هو البذرة الأولى التي انطوت فيها الاستقامة الكاملة منذ البداية، أي الاستعداد الكامن لتحقق مملكة الحرية، وهو الاستعداد الذي طالما تحقق عبر التاريخ بصور واقعية جزئية في العديد من الثورات الواقعية والجزئية أيضا حتى يصبح المجتمع الخالي من الطبقات حقيقة تجسد الإمكان الكامن في تاريخ الإنسان حتى الآن. ومهما تكن طبيعة هذا التجسد الواقعي، فسوف تظل علاقته «بالكلي» النهائي الكامن في الإمكان علاقة جوهرية، أي أنها ستظل هي العلاقة الجدلية القائمة بين المظهر والحقيقة، أو بين الوجود والماهية، ذلك لأن العملية الجدلية - إذا فهمت على حقيقتها - تستبعد تحقيق «الكلي» مع تحقق المجتمع الخالي من الطبقات، لأن الإنسان في ظل هذا المجتمع لن يكف ولن تتوقف مسيرته المندفعة نحو الوضع (أو الحالة) التي يتحد فيها المظهر والحقيقة، والوجود والماهية.
56
ومع ذلك فإن تاريخ الإنسان في صيرورته الواقعية حتى الآن قد تخلله على الدوام أو تغلغل فيه الإمكان الواقعي الجوهري بصور متزايدة تفوق صوره الخادعة أو السطحية، بل إن صور هذا الإمكان كانت تتألق بين الحين والحين على حافة المسيرة البشرية. وأبسط دليل على هذا هو «اليوتوبيات» الاجتماعية كلها على وجه التقريب التي انعكست عليها أشعة الأمل بصور مختلفة، كما تجلت من الناحية النفسية في صور التمني والحلم بالمستقبل، ومن الناحية «الأخلاقية» في «المثل العليا» الإنسانية، ثم تجلت من الناحية «الجمالية» في العديد من «الرموز» الطبيعية والموضوعية. فأما صور التمني والحلم بالآتي فقد ظل مضمونها هو «إمكان» الحياة الأفضل، وأما المثل العليا فكان مضمونها هو الوجود الإنساني الكامل بقدر الطاقة، والعلاقات الاجتماعية الأكمل مما هي عليه في الواقع؛ ولهذا بقيت (أي المثل العليا) في كل الظروف والأوضاع نماذج يحتذيها الإنسان ويسعى إليها
57 (ومن أهمها وأسماها فيما يرى بلوخ نموذج الإنسان في ظل المجتمع الخالي من الطبقات الذي ظل يحلم به قبل انهياره الأخير بعد وفاته بحوالي ثلاثة عشر عاما).
وأخيرا فإن «الرموز» توحي دائما من بعيد بإمكان الوحدة المفتقدة بين الوجود والماهية في الطبيعة، وإزالة اغتراب الإنسان عن حقيقته الجوهرية (خصوصا على نحو ما صورها ماركس الشاب في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844م) ولما كان مضمون الرموز هو الإيحاء بالممكن والدلالة على شفرات معانيه، كان الرمز دائما أكثر غموضا وخفاء من المثال، كما كان أكثر منه قدرة على الإشارة إلى وحدة الماهية الأساسية التي تكمن وراء إيحاءاته ومعانيه المتعددة. ولهذا تلاقت الرموز الأصيلة دائما حول معنى مركزي أو ماهية أساسية وصفت عبر التاريخ (لاسيما بتأثير الأديان) بأنها هي الواحد والحق والخير، ولأن مضمون الرمز بعيد عن الظهور والتحقق، فقد بقي من الناحية الواقعية والموضوعية مجرد شفرة توحي بالممكن ولا تحدده. والمهم في نهاية الأمر أن يعكس التعبير الرمزي في الأدب أو الفلسفة ذلك الإمكان الواقعي والكلي الذي تحدثنا عنه، وأن يوحي على طريقته بمسافة البعد الفاصلة بين «ظهوره» و«تحققه»، ويشير إلى «وحدة» معناه وراء المعاني الغامضة والمتعددة التي تنبعث منه، وبذلك يكون - إذا صح هذا التعبير - رمزا واقعيا ولا يفقد مضمونة الصلة بواقع العالم والإنسان بالهروب إلى المستحيل أو الافتتان بسحر الكلمات وألاعيبها المضللة. ولا شك في أن الرموز والتمنيات والأحلام التي فاضت عن الوعي أو اللاوعي البشري في تاريخه الطويل قد حاولت على اختلافها أن تعبر عن «نماذج المعنى» الكامنة فيما سميناه الوجود الذي لم يتحقق بعد، كما حاولت الاقتراب من ذلك «الكلي» الذي يتحدد عنده المظهر والحقيقة، والوجود والماهية، ويتجه إليه النزوع الكامن في المادة والوعي اتجاهه إلى الأمل البعيد وغير المستحيل.
58
والملاحظ أن بلوخ يظل هنا أسير عقيدته الماركسية المتزمتة على الأقل من ناحية الهدف لا من ناحية السبل والطرق الموصلة إليه. فهو يصوغ هذا الأمل البعيد في تحقيق الماهية الكلية في الصيغ الماركسية المعروفة مثل «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، والقضاء على اغتراب الإنسان عن الطبيعة والعكس، «والتصالح بين الموضوع والذات والضرورة والحرية». ولن يتحقق الأمل في هذا الإمكان الواقعي إلا بتوسط الجدل الفعال والتفاؤل المناضل بعالم أفضل. (2) مقولة الإمكان وموقف بعض المناطقة والفلاسفة منها
ما أكثر ما لم يتم الوعي به في شعور الإنسان! وما أكثر ما لم يتحقق بعد في العالم! وعلى الرغم من التسليم بأن ال «ليس-بعد» حقيقة حية في كل ما هو حي فينا أو حولنا، فإن مقولة الإمكان قد عانت من سوء الحظ ولم تدرس دراسة كافية لا على المستوى الأنطولوجي ولا على المستوى المنطقي. لقد ظلت على الدوام محيرة من الناحية المنطقية، ولم تتحدد بصورة حاسمة كما حدث لغيرها من المفاهيم؛ ولذلك أهملتها الأنطولوجيا أو نظرية الوجود إهمالا يكاد أن يكون تاما، واقتصر ذكرها في المنطق - أو كاد - على كتب المنطق الصوري، وحتى عندما تتعرض نظرية المقولات للممكن فيما يوصف بمقولات الجهة، فإنها تقتصر على تحديد نوع المعرفة بالموضوع، ونادرا ما تتطرق إلى تحديد الموضوع نفسه. إن مقولة الجهة
59
تشير من ناحية الأحكام إلى درجة اليقين في الحكم أو إلى طريقة الربط بين الموضوع والمحمول في الحكم. ومقولات الجهة كما حددها كانط هي الإمكان والواقع والضرورة، وتناظر مقولة الجهة جهات الحكم التالية: الحكم الإشكالي أو الاحتمالي، الحكم التقريري، والحكم اليقيني. والإمكان أو الاحتمال - عند كانط - يعبر عن حالة التردد أو التوقف عن الحكم، لأن معنى الاحتمال هو أني لا أستطع أن أضيف صفة المحمول إلى الموضوع، كما أنني لا أستطع بيقين نفيها عنه، فأنا متردد بين السلب والإيجاب، وهذا لا يكون حكما، فحالة الاحتمال إذن هي حالة توقف في الحكم. أما إذا كان الحكم معبرا عن إمكان الخروج عن قانون طبيعي ضروري فهذه الحالة تكون حالة احتمال أو إمكان، فالجهة فيها الاحتمالية فإذا تصادف ووجدت غربانا مختلفة الألوان عما نألفه، فإن هذا ممكن الحدوث، ويكون حدوثه مخالفا لقاعدة مطردة فيما يتصل بألوان الغربان السود دائما ، فالإمكانية هنا تعبر عن إمكان الخروج عن قاعدة كشواذ لهذه القاعدة.
60
ويصدق هذا الإهمال لمقولة الإمكان على صغار المناطقة والفلاسفة وعلى كبارهم، فالجميع يتشابهون في تفريغ مقولة الإمكان من مضمونها الواقعي، ويشتركون في عدم التفرقة بين المعرفة الجزئية بالشروط وبين الشروط نفسها في وجودها الجزئي، ويسوون بين الحكم الاحتمالي أو الإشكالي بوجود حقيقة موضوعية مقررة، والحكم التوكيدي على حقيقة موضوعية لم تتقرر بعد أي على إمكان موضوعي قائم.
61
فالحكم الاحتمالي بأن: «من الممكن أن يكون محمد في البيت.» يختلط بالحكم التوكيدي: «من الثابت أن من الممكن في زمن قريب إطلاق مركبة فضائية للهبوط على سطح القمر .» والفرق الواضح بين الحكم الأول والحكم الثاني ليس فرقا من الناحية المنطقية والسيكولوجية فحسب، وإنما يدل على الطابع الخارجي أو الواقعي لقدر كبير من أحكام الجهة. ولو اقتصرت طبقات مقولة الإمكان - كما رأينا من قبل - على طبقة الترجيح المعرفي، لما أمكن التعبير عن الإمكان الموضوعي أو الواقعي في العالم الخارجي، أو لبقي على أحسن الفروض مجرد تصور ذاتي ومثالي أجوف، أو وهم من أوهام الخيال وإسقاط بشري على العالم الخارجي، وكأن لم يتعرض إنسان أبدا لأخطار الممكن، ولا حاول أن ينجو منه أو يحسب حسابه أو وقع ضحية له، بل كأن الكائنات العضوية كلها لم تزود بأجهزة السلوك المنعكس ورد الفعل على الممكنات الموضوعية والواقعية المحيطة بها في العالم الخارجي، وذلك ابتداء من الكائنات ذات الخلية الواحدة إلى الوحش الكاسر والإنسان العاقل المفكر. ويكفي مثلا ذكر الإمكانات الموضوعية التي يحفل بها القانون المدني والقانون الجنائي.
62
ولو نظرنا في كتب المنطق التقليدية، مثل كتاب سيجفارت
63 (1830-1904م) لوجدناه يعرف الإمكان تعريفا صحيحا بأنه هو «ما يعرض للفرد من ناحية كونه يحتوي على السبب الجزئي لما سوف يكون.»؛ وبذلك يكون الإمكان في رأيه مجرد تعبير عن موقف ذاتي لم يحسم أو عن تسليم بقصور معرفتنا. والمهم أن المبالغة في تأكيد أحكام الجهة المتعلقة بالترجيح والاحتمال على حساب الأحكام المتعلقة بالإمكان الموضوعي يدل على تجاهل المثاليين أو إنكارهم للإمكان الموضوعي، كما يدل بصفة أعم على أن معظم المفكرين الكبار - الذين لا يدخلون في عداد المثاليين ولا الذاتيين - ينكرون هذا الإمكان الواقعي بسبب تفكيرهم «السكوني» الذي يدور حول «المعطى» و«الماضي» بدلا من الانطلاق إلى الآفاق المفتوحة على الجديد والممكن.
64
والغريب حقا أننا نجد هذا عند فلاسفة لا شبهة في تفكيرهم التطوري (مثل أرسطو) والجدلي (مثل هيجل)، بالرغم من تصور «الوجود بالقوة أو الإمكان» وتأثيره العظيم عند الأول، وبالرغم من الجيل الواقعي الشامل عند الثاني، ولعل التصور السكوني للعالم أو لله - على أساس أنه الواحد والكل الذي تحقق فيه كل إمكان - هو المسئول كذلك عن غياب مفهوم الإمكان الواقعي عند مفكرين آخرين لا شبهة أيضا في جدليتهما وهما: نيقولا الكوزي (1401-1464م) الذي يصف الله بأنه هو الإمكان (posses)
المتحقق تحقيقا كاملا، وجوردانو برونو (1548-1600م) الذي يرى أن العالم بكليته لم يبق فيه شيء ممكن لم يتحقق
65 ... وكأن الجميع قد نفروا من «الجديد» و«الآتي» فأداروا له ظهورهم ولم يهتموا بالانفتاح عليه أو التفكير فيه تفكيرا جادا.
والواقع أن النفور من «الإمكان» و«الممكن» أقدم بكثير من المفكرين والفلاسفة الذين ذكرناهم. فحتى السوفسطائيون الذين زلزلوا كل ثابت ومستقر، لم ينل الإمكان منهم غير التهكم والسخرية. وقد أصبح كل شيء عندهم مساويا للاشيء، لأن كليهما ممكن على حد سواء. فقد قال جورجياس (من حوالي 483 إلى حوالي 375ق.م.) إنه لا شيء موجود، لا اللا-وجود ولا الوجود ولا حتى ما يقع بينهما بحيث يمكن أن يفسد أو أن يكون، أي بحيث يرتبط بأحدهما بعلاقة الإمكان.
66
ولم يكن إنكار المدرسة الميجارية
67
للإمكان بأقل حدة وإصرارا من إنكار السوفسطائيين، إذ ارتبطت هذه المدرسة بمذهب الأيليين في الوجود الواحد الثابت من الأزل إلى الأبد، وبذلك استبعدت الإمكان، كما استبعدت المدرسة الأيلية الحركة من كل نوع. وقد اشتهر برهان الميجاري «ديودوروس الكرونوسي»
Diodoros Kronos
ضد الإمكان، وهو برهان يذكرنا ببراهين زينون الأيلي على بطلان الحركة، وقد ذاع صيته وانتشر لعدة قرون إما بسبب براعته الجدلية أو لافتتان أصحاب الفكر السكوني به. وقد وصل إلينا هذا البرهان على شكل القياس التالي: «لا يمكن أن يخرج من الممكن شيء غير ممكن، ولما كان من الضروري أن يتمخض الممكن، الذي لم يتحقق في الواقع، عن شيء غير ممكن، وأن يكون شيئا آخر غير الشيء الذي يكونه، فإن هذا الممكن نفسه غير ممكن، وبذلك يثبت أن الواقع هو الممكن الوحيد.»
وعلى الرغم من ضعف هذا القياس، فقد تبنته الرواقية الرومانية، واقتنع به الرواقيان الشهيران إبيكتيت (من 50 إلى 138م) والقيصر ماركوس أو ليوس (من 121 إلى 180م) لتدعيم، إيمانهما بالضرورة التي تحكم النظام الكوني وخلوه من أي إمكان، كما تحول عن طريق شيشرون
68 (من 106-143م) إلى ما سمي بعد ذلك بحب القدر
Amor Fati
واجتمع إنكار الممكن، والرواقية الجديدة، وحب القدر في مذهب اسبينوزا الواحدي الذي تلخصه عبارته المعروفة «الرؤية من منظور الأبدية»
sub Quadam aetemilatis specie .
69
ومعنى هذه العبارة بحسب تعريفها هو النظر إلى كل ما هو ممكن على أنه ضروري وواقعي. فكل شيء من منظور الأبدية محكم ومترابط ترابط الأسباب والنتائج (وكأن علاقة السببية هي القدر الرياضي للعالم). وما من شيء في هذا العالم يمكنه أن يفلت من السببية الكلية، ومن ثم فلا مجال فيه للإمكان أو الممكن.
70
ولكن هل ينطبق هذا على أعظم فلاسفة الإمكان بعد أرسطو، وهو ليبنتز (1642-1716م)؟ ألم يقل بما استبعدها اسبينوزا بالاختيار بين الإمكانات المنطقية المتعددة؟ ألم يذهب إلى أن الله (سبحانه وتعالى) قد اختار أن يخلق هذا العالم - أي ينقله من حالة الإمكان إلى التحقق - من بين عدد لا حصر له من العوالم الممكنة؟ إن الواقع يقول بأن ليبنتز قد عرف الإمكان من حيث هو استعداد، وإن يكن استعدادا لا يظهر جديدا ولا يطور مضمونا ينطوي عليه العالم القائم. أضف إلى هذا أن الإمكانات الأولى
primae possibilitates
للعوالم التي أراد الله أن يختار منها «أبدع عالم ممكن» وأن يحقق هذه الإمكانات الأولى، لا توجد إلا في العقل الإلهي، أي لا علاقة لها بالعالم الواقعي الذي وقع عليه الاختيار وليست من ممكناته. ألا يحق لنا أن نقول إن ليبنتز قد ترك الإمكان المنطقي محصورا في دائرة لاهوتية مغلقة، وأن تصوره القاصر للإمكان لا يختلف في نهاية المطاف عن تصور اسبينوزا الذي نفى الإمكان والاختيار عن الله نفسه حيث يقول في كتابه الأساسي «الأخلاق»: «لم يكن من الممكن أن يخلق الله الأشياء بطريقة أخرى أو على نظام مختلف عن الطريقة والنظام اللذين خلقا بها.»
71
ويستمر النفور من الإمكان عند فلاسفة آخرين لا يمكن اتهامهم بإلغائه أو إهماله كل الإهمال. ونبدأ بكانط (1724-1804م) وهيجل (1770-1831م) اللذين نعتقد أنهما لم ينصفا الإمكان الواقعي، لا في «نقد العقل الخالص» ولا في «المنطق» و«موسوعة العلوم الفلسفية». فالفيلسوف النقدي الأكبر في العصر الحديث قد رفع من شأن «المثل» العقلية والأخلاقية في فلسفته النظرية والعملية. ومع ذلك يضع «الإمكان» مع الأشكال الخالصة للفكر الخالص، مؤكدا إمكان وجود الأشياء عن طريق التصورات أو المفاهيم القبلية، بالإضافة إلى الإمكان «الذي لا يستمد إلا من واقع التجربة» من أشكال الفكر الخالص أو من المقولات. صحيح أنه يقول بوضوح إن جميع هذه الأشكال أو المقولات - ومن بينها مقولات الجهة (وهي الإمكان والوجود أو الواقع والضرورة) - هي التي تكون التجربة بوصفها «نظام الظواهر» المؤسس على المقولات. ولكنه ينبه - بما يشبه التحذير - إلى الدور الخاص الذي تقوم به مقولات الجهة بالنسبة للتجربة وذلك حيث يقول: «إن مقولات الجهة لا تزيد في التصور أو المفهوم، الذي تضاف إليه كمحمول، أدنى زيادة من ناحية كونه تحديدا - أو تعيينا - للموضوع، وإنما تعبر فحسب عن العلاقة بملكة المعرفة.»
72
ونستخلص من هذا كله أن كانط لا يعرف الإمكان الواقعي والموضوعي ولا يعترف به، إذا إن «الواقعي الموضوعي» لا يضاف عنده إلى الواقعي الممكن إلا عن طريق الحدس أو العيان، لا عن طريق ربطه بحكم تقريري أو توكيدي، أي حكم من أحكام الجهة يتعلق بالواقع.
بيد أن كانط يفسح مجالا للإمكان في فلسفته العملية بعد أن استبعده من فلسفته النظرية كما سبق القول، ففي ذلك المجال الذي يتعلق بمعرفة التجربة الأخلاقية عن طريق العقل العملي لا النظري، نجده يضع المثل والمبادئ أو المسلمات الأخلاقية التي يمكن أن تلزم الإنسان الذي يتجاوز ثنائية عالم الظواهر وعالم الحقائق المعروفة التي احتفظ بها في فلسفته النظرية، أي الإنسان الذي يعلو على الطبيعة والمنفعة، ويطيع أمر «الواجب المطلق» باعتباره كائنا أخلاقيا ينتمي انتماء أساسيا لعالم الحقائق الذي تسكنه «إمكانات» عليه - بحكم القانون الأخلاقي الصوري الصارم - أن يحققها في الواقع.
ويأتي فشته (1762-1814م) الذي بنى فلسفته - أو نظريته في العلم كما سماها - على فلسفة كانط الأخلاقية، وجعل منها مذهبا مثاليا مطلقا عن «الفاعلية» الأخلاقية والعالمة بذاتها للشخصية أو «للأنا المطلق» على حد تعبيره، يأتي فشته فيقدم مسلمته أو مبدأه الشهير (
postulat ) الذي يعبر فيه عن الإمكان كقدرة أو استطاعة (potence) «أنت قادر لأنه ينبغي عليك.» وإذا كان فشته يفيد كذلك من المثل الأعلى
Ideal
الذي قدمه كانط في ثوب تجريدي وهو «نشر سيدة الحرية الأخلاقية» ويربطه «بالسلوك الفعلي»، فإن الإمكان يظل في هذه الحالة أيضا محاولة دائبة للاقتراب من ذلك المثل الأعلى في التاريخ. ومع ذلك فليس هذا بالإمكان الواقع والموضوعي الذي يلائم «الواقع الجدلي» للعالم والإنسان، لأن «عالم التجربة» من منظور المثالية المطلقة أو من منظور المثالية الشارطية (الترنسندنتالية) لا يسمح له بالتحرر من القوالب الصورية والفكرية الخالصة (أي المقولات) لكي ينمو ويتحرك حركة جدلية واقعية. وحتى عندما أصبح الإمكان عند فشته هو إمكان الواجب الأخلاقي الملتزم بالمبدأ السابق الذكر أو بالمثل الأعلى؛ لم يتغير وضع الإمكان كثيرا عما كان عليه عند كانط، فمن منظور الوعي أو الأنا المطلق (كما يسميه فشته) - وهو منظور غير تاريخي - لا يوجد ثمة مستقبل ولا أمل في المستقبل، اللهم إلا أن يكون نوعا من «الميل» أو الرغبة التي لا ترقى إلى مستوى الإمكان الواقعي ولا تعبر عن بنيته العميقة. وهكذا يجوز القول بأن كانط وفشته قد ضيقا مجال الإمكان ومفهومه وحصراه داخل عقل - نظري أو عملي - غير تاريخي يختزن مثلا عليا
Ideals
غير تاريخية ولا واقعية كذلك.
73
والآن، ما هو موقف هيجل من الإمكان، وهو المعروف بأنه مفكر «العقل العيني الحي» لا «الفهم المجرد»؟ الحق أننا نفاجأ (في موسوعة العلوم الفلسفية، الفقرة 143) بأن هيجل يقتبس عبارة كانط التي سبق أن أوردناها عن مقولات الجهة التي يبعدها - أي كانط - عن الموضوع الواقعي ويدخلها في عداد «أشكال الفكر الخالصة» مما يرجح أن هيجل يوافقه على رأيه. ويزيد من قوة هذا الترجيح أن هيجل يضيف مباشرة بعد الاقتباس السابق عن كانط: «الحق إن الإمكان هو التجريد الفارغ للتأمل في ذاته، هو ما سمي من قبل بالباطن، وإن كان «يوضع» الآن كذلك بوصفه ذلك الذي تم رفعه، ووضعه فقط، وتحديده باعتباره الباطن الخارجي، ومن ثم باعتباره مجرد الحكم (
Modatity ) وحسب، وتجريد غير كاف، وباعتبار أنه - إذا أخذ من الناحية العينية - لا يتعلق إلا بالتفكير الذاتي ... وبوجه خاص لا يجب في الفلسفة أن يتكلم أحد عن أن شيئا ممكن أو أن شيئا آخر غيره ممكن أيضا، وأن هناك شيئا - كما يعبر البعض كذلك - يقبل التفكير فيه.»
74
والغريب أن هيجل لا يكتفي في بعض الأحوال بوصف الإمكان بأنه «تجريد فارغ التأمل في ذاته» وإنما يتقدم أبعد من ذلك فيقول عنه إنه «لحظة في ذاتها
moment of reality in itself » من لحظات الواقع، غير أن هذا الإمكان الذي يصفه بأنه واقعي تحيط به دائرة الماضي أو على الأصح دائرة الواقع القائم الذي تم بالفعل. ويكفي أن نقرأ العبارة التالية من «المنطق» لنتأكد مما نقول «ولذلك فإن ما هو ممكن إمكانا واقعيا، لا يمكن بعد أن يكون شيئا وآخر (مختلفا)، وتحت هذه الشروط والظروف لا يمكن أن ينتج شيء آخر مختلف.»
75
ولا بد لإنصاف هيجل من معرفة قصده من أمثال هذه العبارة والسياق الذي ترد فيه. فهو هنا يتكلم باعتباره عدوا للآراء الجوفاء المطلقة من كل قيد، وإدخال الظن والتكهن والكلام السهل عما «كان يمكن» أن يحدث في التاريخ، أو ما كان يمكن أن تكون عليه «الدولة» أو الإنسان ... إلخ من منظور المثل الأعلى المجرد. ومع ذلك فلا بد أيضا من القول بأنه لا يتحدث ولا يفكر من منظور المستقبل، وإنه يؤكد هنا أيضا أنه «جدلي الماضي» الذي يدور جدله على الدوام في دائرة ما حدث ويحدث على الدوام، وما سيعود عودة الدائرة إلى الأبد، ولعلنا لا نظلمه كثيرا إذا قلنا إنه - على الأقل في كلامه عن الإمكان - يؤكد رأي بعض خصومه ونقاده بأنه هيجل «الرجعي» الذي لا مكان للتغيير المستقبلي في فلسفته، وهيجل الذي يقول صراحة في المقدمة المعروفة لفلسفة الحق إن «فكرة العالم لا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عملية تطوره.»
76
وكأنما يؤكد بعبارات أخرى ما سبق أن أكده الجدلي الميجاري الذي سبق أن أوردنا قياسه المثير الذي لم يخل من المغالطة ولا من السخرية من الحركة والتغيير ومن ثم من أي إمكان واقعي للمستقبل. وكلا للرجلين الجدليين - مع الفرق الشاسع بينهما - يثبت الزمان على الماضي الذي تلتف دائرته الحتمية حول رقبة العالم كله.
ولا شك أن هذه النزعة السكونية عند الفيلسوف الجدلي الكبير لا بد أن تثير الدهشة والانزعاج أيضا. وموقفه من «الإمكان» هو الذي يثبت هذه الشكوك التي وصلت عند الكثير من خصومه إلى حد الإدانة والاتهام، وأنستهم أنه مؤسس قوانين الجدل التي زلزلت العالم والوعي وأدخلتهما في ملحمة الصراع (الذي تم في رأي هؤلاء الخصوم في الماضي، ويكتفي الفيلسوف باستعادة دائرته الكلية والضرورية) على نحو ما يقول مثلا في الفقرة 139 من موسوعة العلوم الفلسفية: «إن ما هو داخلي فهو كذلك موجود في الخارج والعكس صحيح، والظاهر لا يبدي شيئا ليس موجودا في الماهية، كما أن الماهية ليس فيها شيء لم يتم ظهوره أو تجليه.»
77
ولا شك أيضا أن الأمر مع النصوص الهيجيلية السابقة ليس بالبساطة التي نتصورها، ومجرد الظن بأن فيلسوف الجدل الأكبر مفكر «رجعي» و«محافظ» و«سكوني» و«عدو للتغيير» ... إلى آخر هذه الأوصاف التي يحتدم حولها الأخذ والرد، لا يعفينا من القول بأن المشكلة أعقد مما تبدو عليه حتى من نصوص الفيلسوف نفسها. وهل يمكن أن يصدق الأوصاف السابقة من يتذكر مقدمة «ظاهريات الروح» الذي يرجع كما هو معلوم لتاريخ سابق (1807م) على تأليف علم المنطق (1812-1816م) وموسوعة العلوم الفلسفية (1817م) التي يقول فيها: «ليس من الصعب أن نرى أن عصرنا هو عصر الميلاد والانتقال إلى مرحلة جديدة. لقد قاطع العقل عالم وجوده وتصوره الذي عاش فيه حتى الآن، وعقد العزم على إسقاطه في الماضي وعلى العمل على تشكيله تشكيلا مختلفا.»
78
ولعل هيجل - كما يرى بلوخ - لم يستخلص النتائج الخطيرة المترتبة على هذا النص الفريد، ولم يتبين مثلا أن العصر الذي يكون في حالة المخاض أو الميلاد لا بد أن يكون كذلك هو التربة التي ينمو فيها الممكن الواقعي ويتخلق على مهل حتى «يولد» ثم ينضج ويتحقق، وأنه حينما يكون العمل على التغيير أو التشكيل بصورة مختلفة عن الأشكال الماضية فلا بد بطبيعة الحال أن «يكون إمكان التشكيل» أو القدرة عليه، وإمكانية تقبل التشكيل شيئا يزيد عن كونه «تجريدا أجوف للتأمل في ذاته» كما عبر عن ذلك في نص سابق، ولذلك فربما لم يظلمه بلوخ عندما قال إن منطق الإمكان و«أنطولوجياه» قد سحقهما وهم السكون أو الثبات الذي أدى به إلى الزعم بأن كل ما هو ممكن في مجال الواقع قد تم تشكيله وانتهى الأمر، وكأنما هو السنبلة التي نمت حباتها أو قطع الشطرنج الساكنة بعد انتهاء اللعب. والحقيقة الجدلية أو على الأصح المادية الجدلية تكذب زعم هيجل، فتفسير العالم التفسير الصحيح يؤكد أنه في صيرورة مستمرة ولا تنتهي أبدا، وأن المهم هو تغييره وليس الاكتفاء بتفسيره فحسب (على حد تعبير ماركس وإنجلز المشهور في كتابهما عن الأيديولوجية الألمانية). ولذلك يمكن القول بأن تغيير العالم القابل للتغيير أو المسكن التغيير إمكانا واقعيا، هو جماع «النظرية والممارسة» بالنسبة للإمكان الواقعي الذي يتطلب تحقيقه في العالم بفضل كفاح الإنسان. بهذا ينتهي اغتراب الإمكان الواقعي عن نفسه في الفلسفات التأملية السكونية والمثالية الذاتية. لأن هذا الاغتراب هو المشكلة الحقيقية للعالم، وهو العائق الرئيسي الذي يحول دون تحقيق الوحدة بين الوجود والماهية، وبين المظهر والحقيقة.
79 (3) تحقيق الإمكان
الإنسان كائن ينتظره الكثير ولم يزل أمامه الكثير. وهو ما زال يتشكل بصور مختلفة من خلال عمله، ويجد نفسه على الدوام وجها لوجه أمام الحدود التي يدرك أنها لم تعد حدودا ثابتة، وأن عليه أن يتخطاها لما وراءها. إن «الشيء الحقيقي» - في نفسه وفي العالم - لم يتحقق بعد، ولم يزل معرضا للتلف والضياع، أو منتظرا على أمل النجاح. ذلك أن «الممكن» يمكن أن يؤدي للوجود، كما يمكن أن يفضي إلى العدم. ومعرفتنا بشروط تحقيقه الفعلية أو شعورنا بنضج هذه الشروط شعورا يبلغ حد اليقين أو على الأقل أقصى حدود الاحتمال هو الذي يجعل منه ذلك الإمكان الواقعي الذي تحدثنا عنه. وإذا لم تتدخل مبادرة الإنسان وشجاعته في «اللحظة الممتلئة» المناسبة، فسوف يبقى هو والإمكان في حالة تأرجح بين الخوف والرجاء. فهل فطن الرواقيون إلى ذلك عندما نصحوا الإنسان بأن يبتعد عن الأوضاع التي لا يمكنه السيطرة عليها، أم كان هذا نوعا من الحكمة المتعالية التي تمسكوا بها في أصعب المواقف والظروف وكانت - برغم شجاعتها - حكمة سلبية يائسة؟
مهما يكن الأمر فإن قدرة الإنسان على الفعل عنصر أساسي من عناصر الإمكان، كما أن شجاعته ومبادرته إلى هذا الفعل تزيد من احتمالات الأمل في تحقيق الإمكان، وتقلل من احتمالات الهروب إلى اليأس أو العدم، ولا شك أن الشجاعة التي نقصدها هي الوسط بين نقيضين متطرفين: التهور البطولي من ناحية، والجبن المتخاذل من ناحية أخرى، وإذا فهمناها فهما جدليا فلا بد أن تكون هي الشجاعة التي تأتي «بتوسط» الشروط الواقعية التي بلغت مرحلة النضج ودرست علاقتها بالسياق التاريخي والاجتماعي دراسة فاحصة دقيقة. وحينئذ يكون تدخل الإنسان «ممارسة» لا تنفصل عن النظر، ونظرا لا يكتمل إلا بالممارسة.
80
ولا شك أن الإخلال بشروط هذه الممارسة المكافئة لإمكانات الواقع أو لواقع الإمكانات «يمكن» أن تؤدي - وقد أدت بالفعل - إلى ألوان عديدة من «خيبة الأمل» منذ أن تعلم الإنسان الثورة على الواقع القائم ومحاولة تغييره من جذوره. لقد استمرت بطبيعة الحال عملية الصيرورة التاريخية والمادية التي لا تنتهي أبدا، ولكن «النظر والممارسة » الإنسانيين لم يستطيعا - في رأي بلوخ - نقل «الأمل» أو «الإمكان الواقعي» إلى مرحلة التحقق، ويعني به «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، ولم يستطع كذلك بلوغ «أرض الأحلام» التي يتجسد فيها «كل» الإمكان من خلال التوسط التاريخي والعيني، لا من خلال التمنيات والأحلام الخيالية ولا من خلال اليوتوبيا المجردة. لقد أصبح الزمان - بعد ماركس - هو المجال التاريخي الذي يتم فيه الصراع الجدلي-المادي الذي يشمل العالم والإنسان، كما أصبح بعد المستقبل هو مجال الإمكانات الواقعية الكامنة فيهما والمتطلعة دائما إلى التحقق المادي والعيني بجهد الإنسان وعمله، هذا الإنسان الذي يلخص تطور تلك الصيرورة الكونية، وتتفتح فيه أروع زهراتها، كل ذلك بالعمل الذي صار به الإنسان إنسانا، وبالثورات التي كانت وستكون «القابلة» التي تساعد على ميلاد مجتمع المستقبل الذي يحمل الحاضر في أحشائه «جنينه» أو إمكانه الواقعي.
81
وبذلك يتلاقى العامل الذاتي (كإمكان للتحول الذي لم يتم) مع العامل الموضوعي (كإمكان لم يتم أيضا لتحويل العالم وتغييره) وكل ذلك في إطار الشروط والقوانين التي تعين ذلك الإمكان ومدى قابليته للتحويل أو التحول، دون مبالغة أو تغليب لأحد العاملين المتشابكين على الآخر، حتى لا ينحرف ذلك التشابك أو التلاحم الجدلي ويتمزق ضحية ذاتية مثالية متعالية، أو ضحية موضوعية وضعية جامدة أو ميكانيكية فجة ... وعندئذ يصبح البشر صانعي تاريخهم ومنتجيه الواعين، ويصبح العالم أو الواقع هو عالمهم وواقعهم المتغير والمتحول «يتوسطهم» وغير المغترب عنهم ولا المغتربين عنه. بهذا يتحقق صنع التاريخ أو إنتاجه الواعي، وتظهر مكنوناته وإمكاناته في صورها المختلفة، ويتغير المجتمع والطبيعة من جذورهما، ويظهر الموضوع الذي لم «يتشيأ» في وحدته الحميمة مع الذات التي لم تغترب. هذه الذات العاملة المنتجة التي كانت وسوف تبقى هي «العلة الذاتية» للتحول والتغيير، أي لتحقيق الإمكانات الواقعية في أفق المستقبل الواقعي.
82
أما عن هذا المستقبل الواقعي الذي ينتهي فيه اغتراب تلك الذات العاملة والواعية ويقضي على اغترابها واستغلالها واستعبادها، كما ينتهي كذلك اغتراب العالم والطبيعة الخارجية التي لا تصنعها هذه الذات، وإن كانت تؤثر عليها «وتؤنسنها» بتوسطها، فإن معالمه ستتضح عند الكلام عن «اليوتوبيا الواقعية» التي رسم ماركس ملامحها، وجاء بلوخ فعمق هذه الملامح بحيث أصبحت هي «وطن» الحرية والإخاء البشري الذي يسكنه؛ على حد تعبير جوته في نهاية فاوست: «شعب حر يعيش على أرض حرة.» ويحقق الإمكان الذي يقبل التحقق كما يتحتم أن يتحقق.
والآن ماذا أضافت مقولة الإمكان - التي اتهم بلوخ الفلاسفة بإهمالها طوال التفكير الفلسفي - بطبقاتها أو مستوياتها المتعددة إلى الفكر الفلسفي من ناحية، وما أهميتها في فلسفة بلوخ السياسية من ناحية أخرى؟ يمكن القول بأن الانفتاح الهائل لمقولة الإمكان على المستقبل جعل مهمة التفكير المقولاتي لا تقتصر على المعرفة، وإنما تتدخل بشكل إيجابي في مسيرة العملية الكونية، ولذلك يمكن القول بأنها أنطولوجية وعملية أو سياسية، بقدر ما هي منطقية ومعرفية. ولو وقف بلوخ عند هذا الجانب النظري الأخير لكان متناقضا مع روح فلسفته الثورية ومقاصدها العملية والسياسية. ولذلك يكون من الطبيعي أن يحاول رفع التناقض بين النظرية والتطبيق، وبين الفكر والوجود، لأن العمل والنجاح فيه هما اللذان يتجه إليها في نهاية الأمر أي تفكير صحيح وصادق. ولذلك فإن التفكير يملك الكلمة الأولى في التعبير عن منطق العصر، ولكنه من ناحية المهمة التي ينبغي الالتزام بها لا يملك الكلمة الأخيرة، لأن هذه ملك الفعل والتغيير. بيد أن الفعل أو العمل مستحيل بغير التصور أو المفهوم، وهذا الأخير هو قائد التحول الثوري ورائد الوصول إلى الهدف الصحيح.
والمهم في النهاية أن النظر في تفاعل مستمر مع العمل، وأن العلية هنا متبادلة وليست من طرف واحد. فالعمل أو التطبيق العملي مرتبط بالنزوع الموضوعي الكامن في الوجود الواقعي، والنزوع الموضوعي يمكن معرفته عن طريق دراسة التطور التدريجي لإمكانات ذلك الوجود. ومن ثم يكون العمل أو التطبيق العملي هادفا باستمرار، كما يكون العمل أو الفعل متطابقا مع النزوع المدروس بدقة وعناية لتمييزه عن أي نزوع كان أو غير ناضج. وهكذا نجد أن نجاح العمل لا يتوقف فحسب على التحديد الفكري أو المقولاتي، وإنما يعتمد كذلك على إمكان التحقيق العملي لإحداث التغيير الحقيقي. وكل هذا مترتب بالضرورة على كون الماهية الكامنة في الوجود الفعلي لم تصبح واقعا حقيقيا بعد، وأنها تظل في حاجة إلى التحديد الفكري والمعرفي بقدر حاجتها إلى التحقيق العملي والواقعي. إنها الماهية التي تتطلب باستمرار الظهور والتحديد بصورة تقترب من الكمال بقدر الإمكان، كما تنتبه على الدوام إلى الإمكانات الواقعية والموضوعية التي تنزع إلى التحقق وتدعو الإرادة والعقل إلى تحقيقها في الواقع بعد تحديدها في المفهوم والتصور. ولا بد هنا من تدخل العامل الذاتي في إطار العملية التاريخية ووفق خطة اقتصادية واجتماعية محددة لإبراز الممكن العيني إلى حيز التحقيق.
ثالثا: أنطولوجيا المادة
يقود الحديث عن مقولة الإمكان، وهي أهم مقولات أنطولوجيا ال «ليس-بعد»، إلى مشكلة هامة في فلسفة بلوخ، ألا وهي مشكلة المادة. لقد كانت المادة هي مبدأ الشر والباطل والمظهر الخداع في فلسفات سابقة مثل الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية؛ إذ كانت هي ذلك الجزء من الوجود الذي ينبغي تجاوزه، وكان العالم المادي في فلسفات أخرى هو عالم اللاحرية والحتمية والتبعية، وكلما نسب إلى العالم المادي قدر من الواقعية كانت النتيجة هي ثنائية المادة والروح، وكلما سلبت المادة من واقعيتها وأصبحت مجرد مظهر خداع كانت النتيجة هي الواحدية الروحية. وفي الحالين كان ينظر للعالم الطبيعي نظرة احتقار، وكأن ماهية الوجود لا مكان لها إلا في عالم آخر مختلف تماما عن العالم الطبيعي المادي. لذلك لم يكن تاريخ الخلاص تاريخا للعالم، بل كان هروبا من العالم ومن الواقع العيني داخل العالم فكان - كما هو الحال عند أوغسطين - نوعا من الفرار من «المدينة الأرضية» إلى «مدينة الله». وبالمثل كانت كل اليوتوبيات الدينية روحانية، ولو أمكن أن نجعل مضمونها جزءا من العالم نفسه بحيث يكون هو أفضل شكل ممكن للمجتمع البشري يقضي فيه على الظلم والحاجة، عندئذ يصبح التفكير اليوتوبي تفكيرا واقعيا، ويكون السؤال عن الشروط المادية اللازمة لقيام «مملكة الحرية» التي هي القصد والهدف البعيد لفلسفة بلوخ اليوتوبية. (1) مفهوم المادة عند بلوخ
تتركز الفكرة المحورية لبلوخ عن المادة في أنها الرحم الخصب الذي تتولد عنه كل الأشكال الممكنة، وتخرج منه دائما مختلف أنواع الواقع المتجدد. ويبدأ بلوخ بتعريف المادة بمحاولة الاقتراب منها عن طريق التعرف السلبي، أي بتجريدها من المفاهيم غير الجدلية. فليست المادة كتلة ميتة، تحرك بالضغط والدفع وتبقى هي هي بلا تغيير. وحتى إذا فهمت علاقتها الصرورية بالحركة، فليست هي المادة التي ترجع دائما إلى نفس الصور والأشكال القديمة التي خرجت منها؛ إذ لا يصدق هذا إلا على المادية الآلية التي رفع عصر التنوير من شأنها، وتصور أن مفهومه عنها مفهوم ثوري، ثم أصبحت بعد ذلك هي المادية الساذجة أو المادية الشعبية. وليست هي المادية التي ينظر إليها المثاليون ورجال الدين نظرة التعالي والازدراء، ويسلبونها حق الميلاد الذي أعطى لها منذ الفلاسفة قبل سقراط وأرسطو و«اليسار» الأرسطي من ابن سينا وابن رشد إلى عصر النهضة، حتى أصبحت هي الطبيعة الطابعة عند جوردانو برونو ثم اسبينوزا من بعده، ومنذ أن تغنى بها الشاعر الروماني لوكريتس (من حوالي 96 إلى حوالي 55ق.م.) في مطلع قصيدته «الأبيقورية» عن «طبيعة الأشياء».
أنت يا من ترفعين الكائنات إلى ضوء النهار،
يا من تجودين بكل بهجة وتنعمين بكل رقة ولطف،
اقتربي مني الآن وساعديني لأبدأ أغنيتي عن الكون.
كانت هذه المادة - عند الشاعر الروماني - هي «الأم» التي تغذي الكون كله، كما كان هو أول من نبه إلى أن كلمة أم
Mater
هي الجذر الأصلي لكلمة مادة
Materia
وأن المادية تعني السعادة الأرضية، والقضاء على الخوف من الموت والآلهة (الذين لا يكترثون بالبشر كما زعم أبيقور)، وفهم العالم من خلال العالم نفسه لا من خلال أية قوة مفارقة أو سحرية.
83
لذلك يرفض بلوخ التصور اللاهوتي المثالي للمادة، كما يبتعد عن التصور الآلي. ذلك أن المادة في رأيه - إذا نظرنا إليها نظرة ترجع إلى ما وراء مظهرها الراهن - لا يمكن أن تفهم فهما كاملا من خلال التصور الآلي وغير الكيفي، بل إن هذا الفهم سيصبح مستحيلا إذا نظرنا إليها نظرة تدفعها إلى الأمام بحيث تكون قابلة للتشكل المستمر.
لذلك فقد أدى رد الفعل على المادية الآلية في رأيه إلى أشكال مختلفة من المثالية عند فلاسفة العصر الحديث وعلمائه، وقد أخلت مكانها للمادية الجدلية أو لجدل المادة منذ أن قدمه هيجل نفسه في ثوب مثالي وروحي حتى كشف ماركس عنه ذلك الغطاء، ومنذ ذلك الحين شد القوس الذي يربط المادة باليوتوبيا، أو على الأصح يؤكد وجود اليوتوبيا في المادة؛ هذه المادة المتحركة المشحونة بالطاقة، المادة التي لم تعد ذراتها أشبه بأحجار البناء الثابتة، ولم تعد بنيتها هي بنية المكان الإقليدي الساكن الجامد، لأنها امتلأت بمجالات الإمكان المختلفة التي لا حد لها (كهرومغناطيسية، عضوية، اجتماعية، ثقافية
84 ... إلخ) لقد صارت المادة هي الأم الأزلية التي خرجت من رحمها الأزلي الأشكال المتجددة باستمرار ولم تزل تخرج منه دون أن تنفد أو تستنفد إمكانياته أبدا، كما يرجع الفضل لأرسطو وأتباعه - من الفلاسفة الذين يسميهم بلوخ «باليسار» الأرسطي - في اكتشاف مفهوم الإمكان ولو بمعناه الناقص، فالربط بين مفهوم الإمكان ومفهوم المادة هو الذي وحد بين الوظيفة الثورية لليوتوبيا وبين المادية الأصيلة. كأن اليوتوبيا الثورية قد فعلت مع المادة مثل ما فعل ماركس مع الجدل الهيجلي (إذا صح الافتراض بأنه قد صححه ووضعه على قدميه بعد أن كان يقف على رأسه كما تقول العبارة المشهورة) فاليوتوبيا الثورية تزعم كذلك أنها قد ساعدت المادية على أن تولد من جديد، وأن تطرح عنها ثوب الآلية العلمية أو الساذجة الذي تدثرت به بصورة مباشرة أو غير مباشرة منذ عصر النهضة، وأن تصحح اتجاهها فتندفع إلى الأمام والجديد بعد أن كانت تتجه إلى الوراء والخلف، وتنفتح على المستقبل بعد أن ظلت مغلقة تدور حول نفسها أو حول الماضي، وأن تكون هي المادية الواقعية والإنسانية، وأن تسع في داخلها كل مضامين «الأمل» البشري وغير البشري (أي المستقل عن الوعي البشري)، ولا عجب بعد يكون «الإمكان الواقعي والموضوعي» هو الضمان الوحيد لظهور الجديد، وأن تكون «المادة» هي مستقر هذا الإمكان وحامله وأساسه.
85
وخلاصة القول عن تعريف المادة عند بلوخ أنها - كما سبق - ليست كتلة آلية، وإنما هي من ناحية - حسب المعنى المتضمن في تعريف أرسطو لها - الموجود بالقوة أو بالإمكان (كاتا تو ديناتون
Kata to dynaton ) أي ما يحدد شروط الموجود الذي يمكن أن يظهر في التاريخ تحديدا ماديا تاريخيا، كما هي من ناحية أخرى الموجودة في حالة الإمكان (ديناموي أون
dynamei on ) والمتضايفة مع كل ممكن واقعي وموضوعي، ومن ثم فهي باختصار أساس الإمكان أو حاملته ومهاده وقوامه
Substrat
في العملية الجدلية كلها. إنها تختمر في «اللا» - كما سبق القول أيضا - وتتولد في ال «ليس-بعد» وتحمل كل شيء وتملأ كل شيء وتشمله.
86
والمادة متحركة بحكم تفتحها على الممكن الكامن فيها، أي بحكم كونها وجودا ناقصا أو مفتقرا للوجود التام على الدوام، ولا يعني هذا أنها سلبية كالشمع مثلا، لأنها لا تتوقف عن تشكيل نفسها خلال حركتها المستمرة، وما نسميه العقل أو الروح ليس شيئا مستقلا عنها أو مضادا لها، وإنما هو ثمرة هذه المادة التي تخرج منها ولا تنفصل عن أساسها الذي ظل يتشكل وينتظم في بلايين الأشكال والتنظيمات العضوية واللاعضوية منذ «الأصل» الذي يقع إلى الوراء بلايين السنين وحتى مراحله الأخيرة مع ظهور الإنسان، وإذا استخدمنا لغة اسبينوزا كان هذا الأساس هو «الطبيعة الطابعة» والطبيعة المطبوعة في وقت واحد، وكان بمثابة «مختبر الخلاص» الهائل الذي يتوهج بكل المضامين التي يحملها، وبصور وأشكال لانهائية، تعبر عن نزوع صيرورته إلى «الناتج الأقصى» الذي يمكن أن يكون هو الكل أو العدم، وهو النعيم أو الجحيم. ولذلك يحتاج في مواجهة هذين البديلين المحتملين إلى أكثر الأشكال والتنظيمات العضوية التي وصل إليها وعيا وشجاعة، يحتاج إلى الإنسان «البروميثي» الذي يصب عليه ناره ويوجه مساره إلى المستقبل نحو «الكل» وبعيدا عن «العدم» الذي لا زال يهدد تاريخ الطبيعة والإنسان، ويظهر فيهما في صور كوارثية مختلفة.
87
إن «الواقعي» أو «الواقع» محاط ببحر الإمكان الزاخر الذي تظهر دائما على سطحه أجزاء جديدة من الواقع العضوي وغير العضوي. وهذا الواقع الأخير الذي نسميه الطبيعة غير العضوية هو الذي استقرت فيه «الكتلة» الغليظة التي تصورتها المادية الآلية، وهو كذلك «الجثة الميتة» كما تصورتها المثالية العقلية والروحية.
88
لذلك ينصح بلوخ بالرجوع للمثاليين لفهم طبيعة المادة التي تمثل عندهم مشكلة محيرة والرجوع إلى الماديين الذين يرون أن المادة هي الحل لفهم طبيعة العقل أو الروح التي تمثل عندهم مشكلة. والواقع أن المادة غير العضوية قد ظلمت ظلما شديدا على يد المثالية المطلقة. فهيجل يرى أن الأرض جثة هائلة تتمدد هامدة تحت أقدام البشر، وأن الطبيعة مجرد قشرة غير تاريخية أو سابقة على التاريخ، وقد خرج منها الإنسان منذ زمن طويل.
89
غير أن الطبيعة ليست على الإطلاق كما صورها هيجل، بل هي مجال مشع بالأشكال، يتكون جوهره باستمرار، كما أن الوجود في حالة الإمكان - أي الوجود المادي كما نجده في «طبيعة» ابن سينا وبرونو وجوته وغيرهم منذ أرسطو إلى ماركس - هو أبعد ما يكون عن الوجود الميت تحت بصر الروح العضوي الحي.
إن من حق الطبيعة العضوية واللاعضوية - في رأي بلوخ - أن تحتل مكانها في التاريخ البشري، وأن تحيط به كذلك إحاطة كونية شاملة. ومن الواجب على التاريخ الحضاري - كما حدث في عصر النهضة - أن يضع نفسه داخل الطبيعة المادية، دون أن يضطر لدفعها بالآلية أو لوضع شاهد مثالي على قبرها - على حد تعبير بلوخ - ودون أن يضطر كذلك للفرار الرومانسي إليها في الرسم والشعر (الذي يكسوها بأثواب الجمال والجلال ويغفل عن جوهرها الجدلي الحي) أو الزعم بأن العلم الطبيعي-الرياضي ونتائجه التقنية قد تحكمت فيها وأحاطت بكل إمكاناتها الكامنة.
بذلك يمكن أن توضع المشكلة الأنثروبولوجية الواقعية (التي تتعلق بحقيقتنا كبشر) في داخل المشكلة الكونية الواقعية، وأن تشملهما معا حقيقة «الإمكان» التي ينبغي علينا أن نقترب منها بكل حذر وفي الوقت نفسه بكل موضوعية. ومعنى هذا أن الفهم «الكيفي» للمادة ينبغي ألا يخضع لأهواء الفهم الرومانسي أو يتراجع إليه بعد أن تأكد مرارا أن مشكلة المادة يجب أن تفهم من منظور الإمكان المندفع دائما إلى الأمام. ولو وضع البشر تاريخهم داخل المجال الكوني الشامل العضوي وغير العضوي لتبين حقيقة السعي الدائب إلى «الوجود» الأصيل على أنه السعي إلى الوطن الحقيقي، ولتابعنا خطواتنا على الطريق محاطين بالإمكان الواقعي في كل ما حولنا وفي داخلنا على السواء. فحتى الطبيعة اللاعضوية - لا التاريخ البشري وحده - يمكن أن تكون لها يوتوبياها.
90
كما أن الطبيعة التي طالما وصفها الكثير من المثاليين والوجوديين بأنها ميتة أو صماء ومغلقة على نفسها؛ حتى هذه الطبيعة اللاعضوية ليست ميتة، لأنها جزء من العملية الجدلية الشاملة التي لا تتوقف عن تشكيل إمكانات المادة فيما لا حصر له من الصور والأشكال.
كان من الطبيعي أن يرجع بلوخ إلى مفهوم المادة عند أرسطو بوصفها «الموجود بالقوة أو الإمكان» وأن يتتبع فكرتها كإمكان غير محدود منذ أرسطو إلى أن بلغت ذروتها وتفتحها عند ابن سينا، ثم تابعت نموها عند عدد كبير من مفكري العصر الوسيط وعصر النهضة، أمثال ابن رشد وابن جبيرول وابن ميمون حتى باراسلس وجوردانو برونو إلى أن وصلت إلى مفهوم الطبيعة الطابعة عند اسبينوزا والمونادة الحية عند ليبنتز، ثم إلى تصورها الكيفي والعضوي الحي عند شيلنج وجوته، حتى اكتملت في المادية الجدلية عند ماركس وإنجلز.
كان هدف بلوخ من بحثه في المادة أن يؤكد إذا استعملنا لغة أرسطو - الطابع الغائي للعالم أو أنتيليخيا العالم - أي أن المادة كإمكان غير محدود تنطوي على الغاية الكامنة فيها أو على الكمال الذي يسير نحو التحقق دون أن يبلغه أبدا بصورة نهائية، ويؤكد بلوخ في نفس الوقت أن تحقيق هذه الغاية وهذا الكمال هما واجب ملقى على الإنسان الذي يعد آخر ما أبدعه جدل الطبيعة، هكذا يكون بلوخ اليوتوبي قد وجد الأساس المادي والطبيعي ليوتوبياه الواقعية التي اتجه إليها تفكيره منذ البداية. لكن يبقى السؤال: هل اعتنق بلوخ المفهوم الأرسطي للمادة كما عرفناه؟ الواقع أنه قدم تصورا جديدا لمفهوم المادة عند أرسطو فليست المادة مجرد القوة أو الإمكان فحسب وإنما هي أشكال الوجود الكامنة في الإمكان، أو ما يعبر عنه أرسطو بالموجود في حالة الإمكان
Dynamei on ، وهو المبدأ الميتافيزيقي للوجود الممكن ذاته. فالمادة هي الموجود الذي لا يزال في حالة الكمون، أو الذي لم يتحقق بعد، وإن كان في لحظته الراهنة مفعما بشتى الميول والنزعات التي تتجه نحو التفتح، وتسير به على الطريق الطويل نحو التحقق والتوحد بماهيته أو هويته. وليست الطبيعة إلا مملكة هذه المادة التي لا تتوقف عملية صيرورتها وتفتحها عن موجودات لم تكتمل بعد. وكل ما ظهر في الطبيعة أو بسبيله إلى الظهور، لا يخرج عن كونه لحظة من لحظات هذا العالم الذي لم يزل على الطريق إلى ذاته، أو حلقة من حلقاته. والإنسان - وهو وعي الطبيعة بذاتها - ليس استثناء من هذا التسلسل أو التطور.
91
ويؤكد بلوخ أن المادة تبدع - بفضل الإمكان الكامن فيها وحده - جميع أشكال وجودها المتنوع من ذاتها. وليست حركة المادة وحدها بل المادة في مجموعها - من حيث هي قوة أو إمكان فعال - هي التي تظل أنتيليخية غير مكتملة. والمشكلة الأخيرة التي تعبر عنها هذه الصيغة، وهي أن الجوهر هو في نفس الوقت ذات، تعبر أيضا عن أن المادة هي أنتيليخية غير مكتملة وكامنة في هذين العالمين وهما: التاريخ الإنساني والطبيعة الكونية.
92
فالمادة ليست هي الوجود بالقوة أو الوجود السلبي، وإنما تحرك نفسها أثناء تشكلها على صور مختلفة. وهكذا نجد أن فكرة الوجود بالقوة لم تعد أشبه بالشمع غير المحدد الذي تنطبع عليه الصور (الأنتيليخيا)، لأن طاقة المادة أصبحت في النهاية هي الميلاد والقبر، وهي موطن الأمل الجديد للصور الكونية بوجه عام.
93 (2) تطور مفهوم المادة لدى اليسار الأرسطي
تتبع بلوخ تطور مفهوم المادة بعد أرسطو في كتابه «ابن سينا واليسار الأرسطي» فعرض كيف أن المادة (الإمكان) والصورة (العلة الغائية والأنتيليخيا) والصورة الخالصة (العقل الفعال أو الفكر الإلهي الخالص) بدأ «تطبيعها» بعد أرسطو مباشرة على يد ستراتون
94 - العالم الطبيعي وثالث رئيس للمشائين - فحول فلسفة أرسطو إلى نوع من وحدة الوجود الطبيعية. فالطبيعة هي الله نفسه، وهي تعمل بغير وعي ولا تتوجه إلى تحقيق هدف أو غاية، وليس النشاط النفسي عنده سوى نشاط جسدي، ولا يوجد بجانبه ما يسمى عقلا أو روحا. والآلهة في رأيه ليست هي التي خلفت العالم لأنها لا تخرج عن أن تكون ظواهر للطبيعة.
95
ثم تطور مفهوم المادة عند شارح أرسطو الكبير الإسكندر الأفروديسي
96
الذي أكد طاقة المادة، ولم ينكر دخول العقل الإلهي في النفس الإنسانية، ولكنه وحد بين العقل الفعال والألوهية. ووصف العقل الإنساني بأنه عقل منفعل، ومن ثم فهو عقل فان بفناء الجسد، ولهذا سمي الفلاسفة الأرسطيون في عصر النهضة (وعلى رأسهم بومبوناسيوس أو بومبوناتسي 1462-1524م) الذين أنكروا خلود النفس بأنهم إسكندريون.
97
ويعرض بلوخ كيف ازدهر التراث اليوناني الوثني والعلم التجريبي عند العرب، ويشيد في كتابه السابق الذكر بالحرية العقلية للفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط حيث كانت بغداد موطن هذه الحرية العقلية التي انتقلت منها إلى قرطبة. وكان الفيلسوف الإسلامي طبيبا وعالما طبيعيا ولم يكن رجل دين فقط، ولم يكن الخليفة بابا - كما كان الأمر في العصور الوسطى المسيحية - بل كان يزين قوته بالعلم الدنيوي، وعلى الرغم من انطلاق تفكير الفلاسفة العرب من أرسطو ومن التصوف الأفلاطوني المحدث، إلا أنه لم يكن تفكيرا كهنوتيا. فقد تحول الإيمان بالقرآن الكريم (أو الوحي) إلى إيمان بقوة العقل الإنساني، ومن ثم تحدد تأثير الوحي على مسار العلم ووضع في حدوده. كذلك لم يبق في الدين شيء غيبي فوق العقل، فقد فضت قشرة اللغة المجازية للقرآن بحيث لم يبق فيها سر مغلق. وأصبح أرسطو هو أعلى تجسيد للعقل البشري، كما صار هو تجلي العقل عند ابن رشد. لذلك كانت العلاقة بين الدين والفلسفة عند فلاسفة المسلمين مختلفة كل الاختلاف عنها عند المدرسيين، ولم يعتبر فلاسفة الإسلام أرسطو ممهدا لمحمد كما فعل المدرسيون في القرن الثاني عشر عندما اعتبروه سابقا على المسيح، وساعدت الحركة الصوفية أيضا - فيما يرى بلوخ - على ابتعاد المفكرين العرب عن الإيمان السلفي بالكتاب، فقد كانت حركة احتجاج على الأرستقراطيين وأهل السلف.
98
وكان ابن سينا (980-1037م) من أهم معالم التطور الذي سارت فيه فلسفة أرسطو الحقيقية، كما كان علما من أعلام التنوير الوسيط والإعلاء من شأن المادة. فتصنيف العلوم عند ابن سينا أقل في نزعته اللاهوتية منه عند الأرسطيين المسيحيين؛ إذ بدأ هذا التصنيف بالمنطق والرياضيات يتبعها العلم الطبيعي والفلسفة الطبيعة ثم الميتافيزيقا التي تبنى عليها.
99
ويتجلى تطبيع ابن سينا لأرسطو، في أراء الأول عن العلاقة بين الجسم والنفس والعقل الفعال، والعلاقة بين المادة والصورة، فلم تعد الصورة منفصلة عن المادة كما كانت عند أرسطو، بل أصبحت كامنة فيها ومتعددة بتعدد أنواع المادة. كما أصبحت المادة عنده - أي عند ابن سينا - مادة فاعلة، والصورة هي النار الكامنة أي الحقيقة النارية للمادة.
100
إن هذا التفسير المادي لابن سينا يحتاج إلى وقفة، فهل كان ابن سينا فيلسوفا ماديا كما فسره بلوخ؟ إن نصوص أي فيلسوف هي مجال خصب لتأويلات وتفسيرات عديدة ومتنوعة، فهناك من الشروح والتفسيرات ما يخالف رأي بلوخ، كما أن هناك ما يوافقها، وربما كان التفسير المادي لابن سينا للمفكر العربي حسين مروة من أبرز التفسيرات التي تتفق في خطوطها العامة مع رأي بلوخ. وتستند هذه المحاولة على مسألة الوجود والماهية، فكلاهما يعد من المواقف الفاصلة بين الاتجاهين الأساسيين في الفلسفة وهما الاتجاه المادي والاتجاه المثالي. فالقول بأصالة الماهية، أي أنها الأصل في النظام الكوني، هو إعلان للانحياز إلى المثالية، أما القول بأصالة الوجود، أي كونه هو الأصل، فذلك هو القول الذي يشترط كل نزعة مادية وذلك لأن القول بأصالة الماهية يعني نفي الوجود الموضوعي للواقع، وأن الماهية هي الحقيقة الثابتة دون الوجود المتعين، أي الموجود، ويعني القول بأصالة الوجود عكس ذلك، أي كون الواقعي له وجوده الموضوعي، ومن هنا تبدأ الخطوة الأولى نحو المادية الفلسفية.
101
يتضح من موقف ابن سينا في نظريته عن المادة والصورة، أنه تناول هذه النظرية في مجالي العالم الميتافيزيقي والعالم الطبيعي، وكانت نقطة انطلاقه في هذا التناول هو العالم الخارجي المحسوس، وقد كان لممارسته علوم الطبيعة نظريا وتجريبيا، ولارتباطه المباشر بالمشكلات الاجتماعية والسياسية، أثر عميق في تحديد قاعدة الانطلاق هذه، ومن هنا تتضح المسألة الهامة في فلسفته برمتها ألا وهي حركة العالم، أي حركة التغير والتحول والصيرورة في الطبيعة والمجتمع وما يتصل بها من أشكال الوجود المادي.
102
يقول ابن سينا في تحديده موضوع العلم الطبيعي إنه - أي موضوع هذا العلم - «هو الأجسام الموجودة بما هي واقعية في التغير وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات.»
103
ويتفق تفسير حسين مروة مع رأي بلوخ في أن ابن سينا كان أبعد شوطا من أرسطو في الاتجاه نحو المادية الفلسفية، وذلك حين جعل لمقولتي المادة والصورة مكانا أكثر فاعلية وتأثيرا في وجود العالم المادي، وأوشك أن يرى الحركة الذاتية في الأشياء، وأن يرى في الحركة كونها شكلا من أشكال وجود المادة، فخطا بذلك خطوة بالغة الأهمية في تحديد اتجاهه الفلسفي المادي، اقترنت بها خطوة أخرى نحو هذا الاتجاه برؤيته العلاقة الجدلية بين المادة والصورة على نحو يؤدي إلى نفي الثنائية التي فرضها الفكر الأرسطي على هذه العلاقة.
104
وإذا كان عدد كبير من الباحثين يرون أن ابن سينا قد تخلى عن المواقف المادية في فلسفته في آخر مؤلفاته وهو «الإشارات والتنبيهات» فإن حسين مروة ينفي هذا ويؤكد تمسك ابن سينا بمواقفه حتى آخر حياته، خاصة في قوله بقدم العالم بل وفي تعميق فكرة نفي الخلق أي نفي إيجاد العالم من عدم. وقد ترتب على قول ابن سينا بقدم العالم أن توسع في بحث مسألة العلة والمعلول ليستخرج منها الكثير من الأفكار المؤدية إلى وحدة العالم على أساس مادي لا على أساس وحدة الوجود بمفهومها الصوفي.
105
ولذلك كانت النتيجة المنطقية لتلاحم العلة بالمعلول أن أصل العالم: وحدة ضرورية قائمة - أزليا - بين العلة الأولى «المبدعة» (بكسر الدال) ومادة العالم «المبدعة» (بفتح الدال). وينتج عن ذلك أن الفارق بين «العلة الأولى» ومعلولها «العالم» فارق اعتباري محض، لأن كليهما يجتمع مع الآخر ضمن وحدة تنتفي بها الحدود المميزة للعلة من المعلول، بحيث تكون العلة هي المعلول وبالعكس. ذلك أن القول بقدم العالم يستلزم الأخذ بفكرة التلازم والتلاحم بين واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره، أي بين العلة الأولى ومعلولها، وهو العالم المادي، وإلا كان على ابن سينا أن يقول بقديمين اثنين منفصلين: أحدهما واجب الوجود بذاته والآخر العالم أو المادة، وكان عليه كذلك أن يقول بالفصل بين العلة الأولى ومعلولها.
106
هذا التطبيع الذي بدأ مع ابن سينا بلغ عند ابن جبيرول (1020-1070م) الفيلسوف الأندلسي اليهودي إلى تصور المادة الكلية التي كانت خطوة هامة فيما بعد نحو عبارة اسبينوزا الله أو الطبيعة، ووصل هذا التطبيع إلى ابن رشد فتمت خطوة كبيرة نحو الطبيعة الطابعة في تصوره للمادة الأزلية المتحركة الحية، بحيث لا تحتاج - بوصفها طبيعة طابعة - إلى عقل إلهي من خارجها أو من فوقها.
107
واحتوت المادة على كل الصور كبذور حياة، بل نسبت الحركة إلى المادة أساسا لا إلى الأنتيليخيا ، بحيث صار التطور هو خروج الصورة عن المادة بدلا من خروجها عن الإله الخالق.
108
وجاء التحول عن التأليه في عصر النهضة إلى نزعة مادية تتصف بوحدة الوجود وتصير هي الحياة الكلية اللامتناهية ولكن بلا عالم آخر، انتهاء إلى فكرة المادة المبدعة عند جوردانو برونو، أي في نفس الخط الذي بدأ من فكرة الصورة أو المادة عند أرسطو حتى وصل إلى الاستغناء عن فكرة الطاقة الإلهية بالطاقة المادية الفعالة، وهو خط «اليسار الأرسطي» حتى توما الأكويني، فزاد العقل الأرسطي ارتفاعا أو علوا عن المادة، وبذلك يمكن القول بأن تأثير ابن سينا امتد لا إلى توما الأكويني، بل إلى جوردانو برونو وتابعيه، أي إلى كل ما يمكن تسميته باليسار الأرسطي الذي شد العقل الأرسطي إلى الأرض كما فعل اليسار الهيجلي مع العقل المطلق.
109
ويتوسع بلوخ في مفهوم المادة وفهم الطبيعة - بالمعنى الحرفي للكلمة التي تدل عليها في اللغة اللاتينية
Natura
التي يحمل جذر الفعل فيها
nascere
معنى النشأة والميلاد ويتضمن الاتجاه للمستقبل - فهما تاريخيا باعتبارها التاريخ الجدلي للعالم أو على حد تعبيره «باعتبارها المتصل الجدلي المتقطع لمواد مختلفة فيما بينها اختلافا كيفيا، صعودا مما هو آلي وكيميائي وعضوي إلى ما هو اقتصادي تاريخي.»
110
بل يذهب بلوخ إلى أبعد بكثير مما فعلت المادية الجدلية، فلا يكتفي بأن يفهمها فهما تاريخيا واقتصاديا فحسب وإنما يجعلها المنبع الدائم لإمكانات متجددة تتخلق في أشكال مختلفة على مستوى الطبيعة العضوية وغير العضوية، وفي الكون والإنسان على السواء أن الطبيعة المادية هي الأساس الذي يقوم عليه كل تاريخ ممكن، وبالأخص تاريخ العمل البشري الواعي الذي يغير من الطبيعة نفسها دون أن ينفصل عنها أبدا. وبهذا يربط المادي الكوني غير العضوي بالأساس التاريخي للوجود، أي بالوطن الإنساني، «فحتى الطبيعة غير العضوية - لا التاريخ البشري فقط - لها يوتوبياها» بل هي مجال مشع بالأشكال يتكون جوهره باستمرار. بذلك يصبح تاريخ البشرية جزءا من تاريخ الطبيعة، وإن كان في الوقت نفسه هو الضد المقابل لها، لأنه يقوم على الوعي والتخطيط، فالمادة متفتحة على إبداع الجديد من الناحية الكيفية ومتضمنة لكل أشكال التحقيق المقبلة التي تكمن في داخلها قبل ظهورها.
111
تأثر بلوخ بآراء فيلسوف المثالية شيلنج (1775-1854م) وفكرته عن المادة. فقد تأثر شيلنج بفكرة المادة المختمرة وعمليات التخمر التي كشفت عنها الكيمياء في عصره. كما تأثر بعلم السيمياء القديم الذي أحياه باراسلس منذ أوائل عصر النهضة، وأضفى فلاسفة هذا العصر الصورة البشرية على المادة بحيث أصبح الإنسان هو ابنها الذي فتحت به عينيها وتأملت نفسها من خلاله. وقد نظر شيلنج نظرة بيولوجية للطبيعة، فتصور المطلق كصيرورة وحقق إلهه المطلق نفسه وإمكاناته وغاياته في تيار زمني في الطبيعة والفن، فكانت الطبيعة قوة متطورة خلاقة تتفجر لتحقيق أشكال جديدة لا تنتهي، وتصبح على وعي بذاتها من خلال الإنسان نفسه.
112
وتقوم فلسفة شيلنج كلها على فكرة الحرية والإرادة: حرية إيجاد دين جديد يطلق عليه اسم الدين الفلسفي، وإرادة الخروج من الذاتية إلى الموضوعية لتحقيق مبدأ الهوية المطلقة. وقد كان من الطبيعي أن يستعين بلوخ كذلك بتصور «جوته» للطبيعة في صورة عضوية حية لكائن كلي وأبدي فعال، وأن يلجأ كذلك لفكرة الكل الحي القديمة مع فكرة الطبيعة الطابعة التي بدأت من عصر النهضة وتحددت في القرن السابع عشر مع اسبينوزا، ولا يكف بلوخ عن محاولته إثبات حركة المادة وإمكانياتها الفعالة وأن قوتها لم تعد سلبية بل إيجابية تسمح بالتطور. فهو يرى أن الفكرة الكلية عند هيجل تحتوي على قدر كبير من الطاقة المادية التي أصبحت فعالة، إذ أخذ هيجل مفهوم التطور الأرسطي وجعل فكرته عن الوجود في ذاته مرادفة لفكرة الإمكان أو الوجود بالقوة عند أرسطو، وبغير هذا التراث السابق من أرسطو إلى برونو لم يكن في استطاعة ماركس أن يعدل من وضع الفكرة الشاملة بحيث تقف على قدميها بصورة طبيعية. ولا كان من الممكن أن تخلص جدلية هيجل من الروح المطلق ليعبر عنها ماركس تعبيرا ماديا ولتصبح قانونا لحركة المادة.
113
إن تصور بلوخ للمادة هو من أكثر أجزاء فلسفته غموضا وأغناها بالمفارقات وأكثرها إثارة للإعجاب والحيرة معا. وأول سؤال يخطر على بال القارئ هو كيف تتفق ماديته مع التصورات العلمية الحديثة للمادة؟ يرى بعض الباحثين
114
أنه قد ابتعد عن التصور العلمي الحديث للكون، كما حجب عن عينيه رؤية البنية اللانهائية لعالم النظم الشمسية والنجمية والمجرات الشاسعة، وانجذب للنزعة البشرية التي تتصور الكون في صورة حيوية «أنتيليخية» يحتل الإنسان مركزها ويمثل وعيها المتطور كذلك تطورا طبيعيا، ومعنى هذا أننا نجد لديه صورة كلية وحيوية للعالم يعبر عنها ميتافيزيقيا وشاعريا وبصورة مجازية زادتها غموضا كما يحرص على إيقانها في إطار المادية التاريخية والجدلية، ولكنه عبر في نفس الوقت عن عجز المادية الجدلية - منذ إنجلز وجدل الطبيعة لديه - عن إقامة فلسفة طبيعة وجدلية ملائمة للتصور العلمي الحديث ومناهجه الكمية والرياضية التي تؤكد «الاحتمال» و«اللاتحدد» بقدر ما تبتعد عن الإطلاق والضرورة.
والواقع أن الفلسفة المادية الجدلية لم تزل تعاني من اتساع الفجوة بين جدلها التاريخي بقوانينه ومبادئه الضرورية والقبلية من ناحية، وبين الجدل التجريبي للطبيعة من ناحية أخرى، وهي فجوة لم تستطع الفلسفة الماركسية حتى الآن أن تتخطاها أو تقرب بين طرفيها المتباعدين بصورة مقنعة. ومن الواضح أن أي فلسفة تعجز عن تفسير العالم الطبيعي والتاريخي ابتداء من مبدأ نسقي ومنهجي شامل لا بد أن تبقى فلسفة قاصرة، وإذا كان الذي لاحظناه في تصور بلوخ «غير العلمي» للمادة يرجع في الحقيقة إلى قصور النظرية المادية نفسها، فإن هذا لا يقلل في شيء من الجهد الفلسفي الذي حاول به تأسيس «أنطولوجيا جدلية للتاريخ الإنساني» ولمضامين الوعي الذي يتأمله، على أنطولوجيا أعم عن المادة وتفتحها الجدلي في الطبيعة، مهما أخذ عليه الابتعاد عن طريق الفلسفة العلمية الحقيقة واللجوء إلى التصوير الفني والخيالي والحيوي بلمساته الشعرية والصوفية الواضحة للعيان. ذلك أن تصوير العالم في صورة كل حي لا يمكن أن يتم إلا عن طريق تشبيهه بالعمل الفني الحي المتكامل، وإن كان من الضروري أن نستدرك هنا فنقول إن كليهما (أي العالم والعمل الفني) يظل في حالة صيرورة ولا يكتسب هويته أو ماهيته النهائية إلا في المستقبل البعيد، وكل ما «ليس-بعد»، أي كل ما هو على الطريق فهو كذلك على الطريق إلى «يوتوبياه» التي ستكتمل مع غيرها في أحضان «اليوتوبيا الكلية» المأمولة، ولا نقول النهائية حتى لا نخرق قوانين الجدل التاريخي أو المادي. ومجمل القول أن مفهوم المادة ومن ثم الطبيعة لا يخلو عند بلوخ من إشكالات، إن لم نقل من مفارقات وتناقضات، فإذا قلنا إنها تتخذ صورة «الطبيعة الطابعة» - كما نجدها عند اسبينوزا في نسقه الواحدي أو في وحدة وجوده المعروفة - فهي إذن الخالق (الذي يواصل فعل الخلق والحفظ المستمر على حد تعبير الأشاعرة وديكارت) والمخلوق (الذي تتواصل عملية خلقه بلا توقف)، وهي كذلك المحرك الأول - بلغة أرسطو - وعلة ذاتها - بلغة العصر الوسيط واسبينوزا - التي لم تحقق ذاتها بعد، وإن كانت في سبيلها إلى تحقيقها. وهنا تكون المادة بمثابة الرحم الذي خرجت منه كل الأشكال الموجودة والأشكال التي ما زالت في طريقها إلى الوجود، بالإضافة إلى أنها تضمن تحقيق الوحدة التي تضم التنوع اللامتناهي الهائل للتاريخ الطبيعي. وهنا يبدو هذا السؤال: هل تكمن جميع الإمكانات التي تحققت بالفعل، فضلا عن تلك التي لم تتحقق منذ البداية في داخل المادة التي لم تتطور على الإطلاق؟ وهل هذه الإمكانات بمثابة رصيد مدخر من الماهيات الممكنة، على نحو ما تصورتها الميتافيزيقا الوسيطة بوصفها «أفكار الله الخالدة»؟ إذا صح هذا يكون قد تم افتراض وجود عالم كامل وثابت للإمكانيات على غرار عالم المثل الأفلاطونية بجانب عالم الواقع أو على الأصح وراءه، ويصبح عالم الواقع في هذه الحالة هو عالم الظواهر أو عالم الظلال الأفلاطونية لتلك الإمكانيات الأبدية.
ومع أنه من المستبعد أن يكون هذا «الحل» قد خطر على بال بلوخ، فقد كان عليه - لكي يكون متسقا مع فكره - أن يقول بإمكانيات لم توجد داخل المادة منذ البداية، إمكانات تضاف مع الزمن إلى مسيرة التاريخ الطبيعي والبشري، أي أن يقول «بجديد» من ناحية التحقق الفعلي ومن ناحية القوة والإمكان على السواء. ولكن كيف يستطيع في هذه الحالة أن يفكر في إمكانات لم تكن ممكنة على الدوام ومنذ البداية؟ ألا يكون عليه أيضا في حالة القول بالإمكانات الجديدة أن يبين الشروط والأسباب التي حلت محل الظروف السابقة التي أبطلت الإمكانات القديمة؟ بعبارة أوضح: أليس من الضروري - إذا أراد أن يفهم الوجود في سياق مترابط يخضع فيه كل موجود لقوانين طبيعية دقيقة - أليس من الضروري في هذه الحالة أن تكون كل الإمكانات قد نشأت عن سلسلة مترابطة ولا متناهية من السياقات العلية التي تمكننا من تتبع تلك الإمكانات منذ بدايتها بحيث نقول عنها إنها وجدت وكانت «ممكنة» على الدوام؟ وإذا لم نفترض هذا ليكون تصورنا علميا بقدر الطاقة، فسوف يكون البديل - الذي يرجح أن يكون لينتز قد لجأ إليه عند حديثه عن عوالم الإمكان والأسباب المنطقية والغائية التي تكمن وراء اختيار أحدها للتحقق الفعلي - سيكون هو افتراض عالم الإمكانات الشبيه بنسق المثل الأفلاطونية، أو التسليم بتدخل فعل الخلق الإلهي لتبرير ظهور الإمكانات الجديدة بغير سبب علي كاف. ومن الواضح أن مثل هذا التدخل الإلهي لا يمكن تصوره في عالم مادي أو طبيعي يفترض صاحبه أنه يخضع لقوانين ضرورية.
هكذا تقع فلسفة بلوخ الطبيعية في أسئلة وإشكالات يبدو أنها لن تجد الإجابة عنها إلا في الحلول اللاهوتية ، فالفلسفة التي تقوم على افتراض نسق مفتوح للتاريخ البشري داخل هذا العالم لا بد أن يؤدي تطبيقها على التاريخ الطبيعي وعلى العالم المادي في مجموعه: إما إلى مفارقة «الحدوث» المطلق لهذا العالم (مع ضرورة التسليم بوجود الإله الخالق على العكس مما يريد الفيلسوف)، وإما إلى افتراض عالم «أفلاطوني» مستقل من الإمكانات الأبدية التي ستبدو جدتها وتفتحها مجرد انعكاس للانهائي على الوعي النهائي والبشري المحدود. ومعنى هذا أن فكرة بلوخ المحورية عن المادة من حيث هي وجود ممكن أو وجود لم يتحقق بعد ستنطوي في الحالين على صعوبات وإشكالات لم يحلها بلوخ أو لم يستطع أن يصل إلى الحل الذي يتسق مع فلسفته ولا مع التطور العلمي لمفهوم المادة التي أصبحت - على حد تعبير رسل وغيره - سلسلة من الأحداث المحايدة. وربما يرجع السبب العميق في ذلك إلى عجز المادية الجدلية عن إقامة فلسفة طبيعية متسقة مع مبادئها المنطقية والقبلية من ناحية، ومع الرؤية العلمية المعاصرة للمادة والعالم من ناحية أخرى.
الفصل الرابع
الزمان والتاريخ والجدل
ما هو الجدل؟ وما جوهره؟
الجدل هو منطق الزمانية ومنطق الصراع والتغير في الفكر والعالم. والجدل من الناحية الموضوعية هو الرفع الذاتي لوضع معين بالانتقال إلى الوضع التالي له عن طريق توسط النفي (السلب) أو التناقض خلال عملية الصيرورة. أما من الناحية الذاتية فإن الجدل هو صياغة أو تكوين التناقض كشكل فكري بأن يشمل العام نفسه وضده معا. والجدل كخطوة إيقاعية ثلاثية على الصورة المعروفة عند هيجل هو الموضوع ونقيضه والمركب الذي يستوعبهما معا. والجدل المادي يفترض المجال المفتوح الذي تخرج فيه التناقضات من الموضوع ذاته كما يتم رفعها والتغلب عليها.
معنى هذا أن الموجود لا ينظر إليه على أنه في هوية مع ذاته، أي على أنه كامل وغير قابل للتغيير، وإلا فلن توجد التناقضات ولن يكون ثمة مجال للتغيير والاختلاف، أي لإمكانات لم تتحقق فيه بعد. وافتراض وجود الزمان ومعه الحدوث والتغير، يفترض ال «ليس-بعد» أو عدم تحقيق الموضوع لهويته بعد. ذلك لأن الهوية (أو الذاتية) الخالصة ساكنة وبلا حركة. ولذلك أيضا فليس الجدل إلا قانون الوجود الذي يتم بمقتضاه توسط الموجود مع ما لم يوجد بكل دلالاته وتناقضاته، وكذلك توسط الجزئي مع الكلي. وبهذا يعتبر الجدل، بجانب الإمكان - كأسلوب وجود - والزمان - كشكل وجود - من أهم التحديدات أو المقومات الأنطولوجية للموجود الذي لم يوجد بعد.
1
ويسير الجدل مع الأحداث ويسبقها ويتقدم عليها. ولذلك فالجدل ليس منهجا للتصور، وإنما هو منهج للتقدم، ومن ثم يتعلق تعلقا أصيلا بالكل الذي لم يتحقق أو لم ينتج بعد، أو بالكلية التامة التي ينتظر أن تظهر في آخر الزمان. ويحلل بلوخ تاريخ الفلسفة كله على أساس الفصل بين الذات والموضوع، فتارة يتم التركيز على الذات فتكون الفلسفات المثالية الوجودية، وتارة يحدث تركيز على الموضوع فتكون الفلسفات المادية والآلية الفجة التي هاجمها هجوما شديدا. لذلك يحاول في كل كتاباته أن يوحد بين الذات والموضوع وبين الوجود والماهية اللذين لم يتحدا بعد - في رأيه - وحدة حقيقية، لأن تحقيقها مرهون بالوعي والإرادة البشرية، والنزوع الموضوعي والاتجاهات المستقبلية نحو هذه الوحدة.
أولا: الجدل المادي عند بلوخ
لا يفهم الوعي في التفكير الجدلي (المادي والتاريخي) إلا باعتبار أنه هو العلم بمضامينه، أي باعتبار أنه متوجه نحو الموضوعات. ويدلنا تاريخ الجدل - حتى في تصوره المثالي - على توجهه الأساسي صوب الموضوع. والحقيقة أن لب الجدل لا يكمن في التفكير، لأنه كمنهج لا يتعلق بالتأمل، وإنما يتعلق بتأمل التأمل أو التفكير في التفكير، أي بتلك المرحلة التي لا يكون فيها الوعي مجرد انعكاس العالم على الوعي، وإنما يكون وعيا أو تحليلا واعيا للوعي بالعالم.
2
وليس الجدل جديدا في الفلسفة الحديثة التي يمثل هيجل - فيلسوف الجدل الأكبر - قمتها، فقد كان موجودا عند القدماء من الفلاسفة أمثال حكماء الصين القدماء (في مبدأ الين واليانج أو السالب والموجب) وفي الزرادشتية في إيران (في ثنائية النور والظلام والخير والشر)، وفي الفلسفة اليونانية، بل ونستطيع أن نعد أفلاطون مخترع الجدل أو مكتشفه، وترتكز جدارته أو استحقاقه لهذه التسمية - كما يقول هيجل - على أن الفلسفة الأفلاطونية كانت أول من قدم صورة علمية حرة عن الجدل فضلا عن أنها أول صورة موضوعية كذلك، ولقد كان سقراط هو الذي وضع العنصر الجدلي في صورته الذاتية بصفة خاصة.
3
لكن إذا كان أفلاطون هو أول من قدم الجدل بصورته العلمية، فهل معنى هذا أن التفكير الجدلي كان غائبا عن الفكر اليوناني في مرحلة ما قبل الفلسفة الأفلاطونية؟ الحقيقة أن الفلسفة اليونانية بأكملها - سواء كانت فلسفة طبيعية تجعل من الطبيعة محورا لها كما في فلسفات ما قبل سقراط، أو فلسفة جعلت من الإنسان محورا لها كما فعل سقراط والسوفسطائيون - هذه الفلسفة قامت على مبدأ عدم التناقض. وهو مبدأ جدلي توجه بعد ذلك منطق أرسطو في قوانين الفكر الأساسية، وهي مبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع. ولقد قام الفكر اليوناني القديم على مبدأ عدم التناقض وسعى إلى تحقيق الانسجام والتناغم والتوازن؛ لذلك يرى بلوخ أنه ليس هناك تفكير من أجل التفكير ذاته، إنما التفكير من أجل أن يتحسس المرء طريقه ويدرك ما حوله. ولو نظرنا إلى بدايات التفكير الحر لوجدنا هدفه هو تحقيق الانسجام، مثلما سعى الحكماء السبعة لتحقيق الانسجام وتناغم الحياة بحكمهم التي تصور حياة ساكنة وفكرا هادئا متوازنا.
4
وإذا كان التفكير قد بدأ مع الإنسان، إلا أنه لم ينصب عليه إلا في مرحلة متأخرة. فقد كانت فلسفة ما قبل سقراط فلسفة طبيعية تبحث عن العنصر الأصيل في الطبيعة التي تمثل جانب الموضوع، ولم ينصب التفكير على الإنسان إلا مع السوفسطائيين وسقراط.
للجدل إذن جذوره في الفلسفة اليونانية، منذ الفلسفة الطبيعية قبل سقراط التي اهتمت بالبحث في طبيعة الكون واتخذت العناصر الأربعة مادة أولية ومبدأ لكل الأشياء، وتحول هذه العناصر إلى بعضها عن طريق الانضمام أو الانفصال، أو عن طريق تغلب أحد هذه العناصر على غيره، إلى أن قال أنكسيماندروس (القرن السادس قبل الميلاد) ب «الأبيرون» الذي هو لا نهائي الكم وغير محدد الكيف، أبدي، سرمدي، نشأت عنه كل الأكوان عن طريق اتحاد وانفصال العناصر الأربعة عن الأبيرون بعد أن كانت كامنة فيه وعن طريق توالد الأكوان والكائنات من صراع الأضداد. ويلمس بلوخ بذور الجدل الموضوعي عند أنكسيماندروس في علاقة العناصر الكونية حتى يأتي مع الزمن كل شيء للنور، في الانسجام اللامتناهي، فهذا الأبيرون اللانهائي هو المادة الأولى عنده، وهي تماثل عند أرسطو المادة التي يكمن في رحمها كل شيء.
5
وربما كان أنكسيماندروس بذلك أول فلاسفة التطور.
وإذا انتقلنا إلى هيراقليطس نجد المبدأ الأصلي عنده هو التغير والصراع والحركة، بل إن حقيقة الوجود تكمن في الصيرورة، أو النار الحية التي هي رمز الخلق والحياة والتغير، هذه النار التي لم يخلقها إله ولا بشر تتبادل مع كل الأشياء كما تتبادل السلع في المدن الأيونية: «هذا العالم، وهو واحد للجميع لم يخلقه إله أو بشر ولكنه كان منذ الأبد، وهو كائن وسوف يوجد إلى الأزل، إنه النار التي تشتعل بحساب وتخبو بحساب.» ويصف هيراقليطس هذه النار بأن بينها وبين جميع الأشياء تبادلا «هناك تبادل بين النار وبين جميع الأشياء كالتبادل بين السلع والذهب أو الذهب والسلع.»
6
وإذا كانت نشأة الأكوان عند أنكسيماندروس نتيجة لصراع الأضداد، فإننا نجدها عند هيراقليطس نتيجة لوحدة الأضداد أو نقطة تلاقيها وتنازعها، لذلك يصعب وصف الموجود بخصائص دائمة وثابتة، ولذا ذهب هيراقليطس إلى أن: «ما يوجد فينا شيء واحد: حياة وموت، يقظة ونوم، صغر وكبر.»
7
على الرغم من أن أفلاطون كان أول من استخدم كلمة الدياليكتيك أو الجدل واعتبره هيجل مكتشف الجدل بصورته العلمية، فإن أرسطو يعد زينون الإيلي مخترع الجدل الذي استخدمه للدفاع عن فلسفة أستاذه بارمنيدس. وقامت فلسفة هذا الأخير على أن: ليس الوجود منقسما، لأنه كل متجانس ولا يوجد هنا أو هناك أي شيء يمكن أن يمنعه من التماسك، وليس الوجود في مكان أكثر أو أقل منه في مكان آخر، بل كل شيء مملوء بالوجود، فهو كل متصل لأن الوجود متماسك بما هو موجود.
8
وترتب على ذلك إنكار بارمنيدس للحركة، فالحركة تتطلب وجود الخلاء أو الفراغ، وهذا ما تنكره فلسفة بارمنيدس التي تقر بأن الوجود كله ملاء وليس هناك فراغ يسمح بالحركة والانتقال. وعندما سخر منه خصومه تصدى لهم زينون الذي قام جدله على التسليم بصدق قضية الخصوم ثم تفنيد آرائهم لينتهي إلى أنها تنطوي على التناقض والكذب، مما يترتب عليه إثبات صدق قضية أستاذه بارمنيدس وبذلك أقام منهجه الجدلي لإنكار الكثرة وليثبت بطلان الحركة. وقدم حججه الأربعة المعروفة لإثبات استحالة الكثرة، كما قدم أربع حجج لبيان استحالة الحركة.
وكان أنبادوقليس أول من صاغ الانسجام بشكل واع. قال بالعناصر الأربعة مجتمعة ولم يقل بمبدأ واحد كسابقيه ولا بإمكانية تحول هذه العناصر إلى بعضها. وإنما تجتمع العناصر وتفترق بفعل قوتين كبيرتين هما: الحب الذي يجمع والكراهية التي تفرق. فالحب يقرب بين العناصر الأربعة لتتوحد في انسجام كامل، ويكمن هذا الانسجام في الكمال، وهو - على حد قول بلوخ - عنصر الأمل الحقيقي والأصيل عند أنبادوقليس. لكن تبقى الثنائية في هاتين القوتين الإلهيتين وهما الحب والكراهية. وبذلك اقترب أنبادوقليس من الصراع الذي نجده عند هيراقليطس، وإن كان يفتقد إلى الجدل المنتج كما هو عند هذا الأخير.
9
مع السوفسطائيين بدأت النظرة الداخلية إلى ذات الإنسان، على الرغم من أنها لم تكن نظرة أصيلة بل نظرة شكية قائمة على المغالطات واستغلال تعدد المعاني. ويميز بلوخ الجدل عن الكذب واللامعنى (مثل حديد خشبي أو الدائرة المربعة الزوايا ... إلى آخر هذه العبارات)، كذلك يميز الجدل عن قلب الحقائق باستغلال تعدد المعاني، فالسفسطائيون كان لديهم جدل يتمثل في انقلاب المفاهيم إلى أضدادها والتفكير من خلال التناقض واستخدام المفاهيم المتضادة.
10
ولكن السفسطائيين كانوا على أية حال بمثابة حركة تنوير في أثينا تبحث عن العنصر الأصيل أو عما هو حق أو حقيقي داخل الذات، وتوقفت الطبيعة عن أن تكون في المقام الأول، وبدأ الوعي بالذات، فمنذ الشك السوفسطائي لم يتوقف الاقتراب من الذات. عندئذ بدأت النزعة المثالية التي هي من أهم ركائز التطور الفلسفي، ومنذ ذلك الحين أيضا بدأ الصراع بين المثالية والمادية يأخذ مكانه في تاريخ الفلسفة. ويمتد خط الاقتراب من الذات من سقراط إلى كانط في نقد العقل الخالص، كما يمتد خط الاقتراب من الموضوع من الثنائية المانوية إلى الجدل الموضوعي عند هيجل. (1) جدل الذات
وننتقل من فلسفة ما قبل سقراط إلى سقراط نفسه الذي منه بدأ جدل الذات أو الجدل في صورته الذاتية، فالطبيعة في نظره لا تعلمنا شيئا: «الريف والأشجار لا ترضى بتعلمي شيئا بل رجال المدينة هم الذين يعلمونني.»
11
والقضية الأساسية عند سقراط هي في جملته المشهورة «اعرف نفسك». والمعرفة هنا هي معرفة الخير أو الفضيلة. هذه القضية قابلة للتعلم، ومعرفة الخير تعني بالضرورة فعله، والإنسان لا يفعل الخطأ بإرادته ولا باختياره. ففي مذهب سقراط ليس للإنسان الحرية في اختيار فعل الشر. والجدير بالذكر في جدل سقراط هو انتهاجه فن «التوليد» أي اكتشاف الحقيقة داخل الذات. فإذا كان الإنسان ليس لديه علم صحيح، فإن في جوفه حقائق كامنة يستطيع أن يستخلصها من داخل نفسه ومن نفوس الآخرين، فهي حقائق كامنة لا يدري بها الإنسان.
12
ويتطور الجدل على يد أفلاطون - المثالي الأعظم في التاريخ - فالفلسفة الأفلاطونية - كما أسلفنا القول على لسان هيجل - كانت أول من قدم صورة علمية حرة عن الجدل، فضلا عن أنها أول صورة موضوعية كذلك، ولكن هل يوافق بلوخ - الذي يؤمن بأن الجدل لا بد أن يكون منهجا للتقدم وليس التصور، وأنه يجب ألا يسير مع الأحداث فقط بل أن يسبقها ويتقدم عليها، وألا يقف على عتبة الواقع بل أن يتجاوزه ويتعلق بما لم يصبح واقعا بعد - هل يوافق على منطق الجدل بالمعنى الأفلاطوني؟
إن أفلاطون يؤمن بما هو مرئي أكثر من إيمانه بالأشياء المرئية؛ لذلك كان ينظر إلى أعلى برغبة واشتياق. والتقدم عند أفلاطون ليس تقدما للأمام وإنما هو صعود للأعلى.
13
ومن المعروف أن أفلاطون أقام نظريته في المعرفة على أساس تفرقته الحاسمة بين العالم الحسي المرئي، والعالم المعقول غير المرئي. ويتدرج الفكر من الإحساس، إلى الظن، إلى العلم الاستدلالي ثم إلى التعقل المحض، والترقي في درجات الوجود والمعرفة يتم عند أفلاطون بطريقتين: الجدل الصاعد الذي يبدأ من المحسوسات الجزئية صعودا إلى المعقولات الكلية مرورا بالأفراد ثم الأنواع والأجناس ووصولا إلى الجنس أو الوجود الأعم أو ما يسمى بمثال الخير، وهو أسمى المثل أو الخير الأسمى والأقصى. وبعد إدراك مثال الخير بالحدس العقلي المباشر تبدأ رحلة الجدل الهابط من الجنس الأعم إلى الأنواع التي تندرج تحته ثم إلى الأفراد متبعا في ذلك المنهج التحليلي أو القسمة. وعلى ذلك يمكننا أن نقول مع بلوخ إنه لا يمكن معرفة العالم المادي أو تفسيره إلا بمشاركة الأشياء الجزئية في المثل - الجدل الصاعد - وحضور المثل في الأشياء الجزئية - الجدل الهابط - ولذلك تعد نظرية المثل الأفلاطونية يوتوبيا تراتبية قمتها الكمال الأسمى. وظل مثال الخير عنده - أي أفلاطون - شمسا مركزية، غاية، وكمالا في ذاته؛ مما كان له تأثيره على كل الفلسفات الغائية بعده.
14
أما عن كانط - أكبر المثاليين في العصر الحديث - فهو كما يقول هيجل، الذي أخرج الجدل من عالم النسيان ليعطيه المكانة التي يستحقها.
15
نجد عند كانط بداية الوعي بالجدل في «نقد العقل الخالص». وقد سمي جدل كانط بالجدل الترانسندنتالي، والمقصود به أن يثبت وجود حد مطلق للمعرفة البشرية ولا يجوز لها مهما تطورت أن تتعداه، مما جعل الجدل الكانطي مجرد أداة لوضع حد تقف عنده المعرفة البشرية. وقد انتهى الفكر الكانطي إلى التناقض بين القدرة المحدودة للإنسان على المعرفة وبين قدرته غير المحدودة على السؤال والتفكير. لذلك كانت الكلمة الأخيرة في فلسفة كانط هي أن معرفة الظاهر وحده هي المعرفة الممكنة؛ معرفة ظواهر العالم الخارجي المحسوس من ناحية، وظواهر العالم النفسي الداخلي من ناحية أخرى.
16
أما «الشيء في ذاته» فهو ما لا يمكن معرفته.
ويستبعد كانط المعرفة - كما هو معلوم - لكي يفسح مجالا للإيمان، غير أن المعرفة التي يستبعدها ليست هي كل المعرفة ولا هي المعرفة بالنظام الآلي المحكم للطبيعة، وإنما يستبعد كل معرفة قطعية تتعامل مع أفكار المطلق أو اللامشروط وتتجاهل أنها ليست سوى مظاهر متعالية أو بعبارة أوضح تعامل الحقائق المطلقة وكأن لها وجودا وواقعا تجريبيا. من خلال هذا الرد لما هو أصيل إلى ما هو مطلق يمكن التطلع إلى تحقيقه في العالم، ظهر في فلسفته مجال خاص لما هو مرغوب فيه، أي مجال للتطلع للكمال وتحقيقه. ويؤكد بلوخ أنه ظهر مرة أخرى في هذه الفلسفة التي احتفظت بالنزعة المادية فيما يتعلق بوجود الواقع وبالنزعة المثالية فيما يتعلق بأخلاق الواجب، ووسط هذا الائتلاف بين المادي والمثالي نشأت بطبيعة الحال مملكة جديدة مكونة من عالمين يميزان الثنائية الكانطية المعروفة وهما عالم حتمي وآلي بحت من ناحية، وآخر معقول ومتعال
17
من ناحية أخرى.
وفي مرحلة ما قبل النقد - حيث لم تكن ثنائيته قد اتضحت ولا تعمقت كما حدث بعد المرحلة النقدية - توجد صورة أخرى لكانط الذي لم يغرق في عوالم الماوراء (ولم يكن قد شغل بالحقائق المتعالية إلى الحد الذي يوهم بأنه قد انصرف عن هذا العالم). وهذا النص يشهد على إيمان كانط في المرحلة المذكورة بوجود الأمل وضرورة تحقيقه في سياق التقدم الذي تنجزه البشرية نحو الكمال الأخلاقي والخير الأقصى، وإن كان في نفس الوقت يؤكد عجزه عن التحقق منه بشكل علمي أو تأكيده بمبررات وأسباب عقلية خالصة: «لست أجد أن أي ميل أو أي نزوع فرض نفسه علي بغير تدبر يمكن أن يسلب عقلي القدرة على تمحيص جميع أنواع الأسباب والمبررات التي تقف في صفه أو تقف ضده ولكن مع استثناء واحد فحسب، فموازين العقل ليست في نهاية الأمر محايدة حيدة كاملة، وأحد ذراعي هذه الموازين - وهو الذي يحمل فوقه هذه الكتابة التي تقول: الأمل في المستقبل - هذا الذراع له ميزة آلية معناها أنه حتى أخف الأسباب والمبررات وزنا في إحدى كفتي الميزان تثير من الخواطر والتأملات ما يجعل الكفة الأخرى أثقل بكثير، هذه هي الغلطة الوحيدة التي ربما لا أستطيع تصحيحها والتي لا أنوي في الواقع أبدا أن أصححها.» ومع أن الأمل الذي ينشده كانط في هذا النص يدل في ظاهره على مستقبل الأرواح في العالم الآخر، إلا أنه في الحقيقة يتضمن وجود عالم معقول ليس المدخل إليه الموت، وإنما هو التاريخ بمعناه العالمي.
18
وهنا يذكر على الفور تعبير كانط في مرحلته المتأخرة عن هذا الأمل في المستقبل بالنسبة للبشرية كلها وتقدمها الدائم المستمر نحو الخير والكمال على الرغم من كل العقبات والانتكاسات. ويكفي أن نذكر هذا النص: «لقد كان الجنس البشري يتقدم على الدوام نحو شيء أفضل وسوف يواصل تقدمه على هذا الطريق.»
19
ولكن ما هو هذا الشيء الأفضل الذي يسعى الإنسان لتحقيقه؟ إنه السعي الدائم للاقتراب من الخير الأسمى، فإذا كان الخير الأقصى للإنسان من وجهة نظر كانط؛ هو مقدمة للخير الأقصى الأولي وهو الله، فيترتب على ذلك أن تحقيق الخير الأقصى الإنساني ليس واجبا فقط بل ضرورة، ولا يعني هذا اعتبار وجود الله أساسا للإلزام الخلقي بل يعني أن الإلزام الخلقي يكشف عن الخير الأقصى.
20
ويكرر كانط في آخر هذا المعنى نفسه وهو التقدم نحو تحقيق القانون الأخلاقي باعتباره هو المثل الأعلى الجميل الذي «لا يمكننا أن نتنبأ به أو نتصوره سلفا على صورة الكمال التجريبي، إنما نتطلع إليه فحسب من خلال التقدم المستمر والاقتراب المتصل أيضا من الخير الأقصى الذي يمكن تحقيقه على الأرض أو الذي نستطيع أن نعد العدة له.»
21
ولا شك أن منظور الأمل هذا عند كانط يهدف في النهاية إلى إقامة مملكة أخلاقية لله على الأرض تعتمد في تحقيقها على المواطن المستنير (بأفكار الثورة الفرنسية) ولا شك أن الظروف البائسة التي عاش فيها المثقفون الألمان في أواخر القرن الثامن عشر قد ملأت قلوبهم بهذا الأمل وجعلتهم يتطلعون باستمرار إلى تحقيقه خارج الواقع التاريخي المتغير، كما بقي هذا الأمل في تصور كانط إلى حد كبير أملا باطنيا بقدر ما هو مغرق في التجريد. ومع ذلك فإن هذا التجريد لم يدفعه (أي كانط) إلى رسم عالم آخر أو عالم ورائي على الإطلاق، وإنما تطلع إلى سماء إنسانية يرتقي إليها البشر بالتدريج، وهذه النزعة الإنسانية الخالصة تدعمها المسلمات والفروض التي تطبق الأفكار المطلقة أو اللامشروط (الله، الخلود، الحرية) تطبيقا خالصا على الأخلاق. كما تخدمها مثل عليا يؤكد لنا كانط أنها «تصورات تنظيمية لما هو تام وكامل بشكل مطلق في مجال العقل الإنساني».
22
ومن ثم نجد أن المسلمات الأخلاقية المعروفة والأفكار المطلقة أو اللامشروطة والمثل العليا للعقل ترسم لنا منظرا فريدا زاهيا بالنجوم، وسماء للعقل العملي الخالص تسطع فيها الكواكب، التي قال في كلمته المشهورة المحفورة على قبره إنه لا يوجد شيء مثلها يؤثر على نفسه إلا القانون الأخلاقي الباطن في صدره. والتشبيه في هذه الصورة يبين أن هذه الأضواء الأخلاقية تشع بجلالها مثل الكواكب والنجوم إشعاعا معياريا خالصا يؤكد أن المثل الأعلى للعقل «الذي ينبغي على الدوام أن يقوم على مفاهيم محددة وأن يقوم مقام القاعدة والنموذج المحتذى، يظل معبرا عن موقف يلزم الإنسان بالخضوع والإذعان لهذه القاعدة ، أو يوجب عليه تقديرها وتقييمها.»
23
ومما يؤكد هذه النزعة الإنسانية البعيدة عن «الماورائية» أن كانط يحتج احتجاجا صريحا على اتهامه بأنه ينتمي لأولئك الذين استعاروا أضواءهم من أفلاطون، كما يؤكد من ناحية أخرى أن نزعته المثالية قد نقلت المثل الأفلاطونية من مستوى الوجود الميتافيزيقي إلى مستوى الإلزام الأخلاقي.
24
فقد نظر كانط إلى عالمي أفلاطون، أي عالم المثال وعالم الواقع، على أنهما بمثابة تخل عن الواقع، الأمر الذي انتهى بأفلاطون إلى أن المثال هو الفكرة الأخيرة وهو الخير في ذاته.
25
أما عند كانط فمثال الخير هو أمل يسعى باستمرار للاقتراب من التحقق، في حين ظل عند أفلاطون - كما ذكر سلفا - شمسا مركزية وغاية وكمالا في ذاته. ولهذا نجد المثل العليا عند كانط تسطع في مجال المستقبل الإنساني الخالص وتشع في سماء الإرادة الخيرة والنية الطيبة والغاية الأخلاقية النهائية. هذه النزعة المثالية التي يمثل أفلاطون قمتها القديمة وكانط قمتها الحديثة بقيت نزعة مثالية ذاتية ولم تصبح مثالية موضوعية بعد. فقد ظل الجدل وقتا طويلا كمنهج للبحث لا كمنهج للموضوع المتحرك نفسه. (2) جدل الموضوع
وفي خط الموضوع يتحول التفكير إلى الخارج، إلى المادة التي أضفى الإغريق عليها الحيوية، فقال طاليس بالماء كأصل للحياة، وقال أنكسيمنيس بالهواء ... إلى آخر ما ذهبت إليه الفلسفة الطبيعية قبل سقراط. لكن بدايات الجدل الموضوعي تمتد من الثنائية الفارسية، هذه النزعة التي تجلت بوضوح عند القديس أوغسطين (354-430م) فاعتنق مذهب ماني الذي يقوم على ثنائية الخير والشر، النور والظلام، وأن الشر جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، إلا أنه ابتعد عن المانوية بعد تسع سنوات واتجه إلى الكنيسة الكاثوليكية وسط جو سيطر عليه الفكر الأفلاطوني-الأفلوطيني، وحين تأمل المبادئ الفلسفية لأفلوطين على ضوء الوحي الذي جاء به الكتاب المقدس فإنه سرعان ما شعر بعدم كفايتها وضرورة تجاوزها. فقد أدرك أن المادة لا يمكن أن تعتبر شرا حتى ولو لم نر فيها شيئا سوى مبدأ بسيط للإمكان واللاتعين.
26
وكتب أوغسطين «مدينة الله» - التي تعد نظرية كاملة في التاريخ - و«المدينة الأرضية ». ولكن هل هناك انفصال بين الأولى (مدينة الله) والثانية (المدينة الأرضية)، بحيث توجد واحدة في السماء والأخرى في الأرض؟ حقيقة الأمر أنه ليس هناك انفصال، فسوف تبني مدينة الله نفسها بالتدريج بقدر ما يستمر العالم، وهذا العالم نفسه لا مبرر لدوامه واستمراره إلا بقدر ما ينتظر تحقيق غايته النهائية، فهو يمهد لتحقيق مدينة الله أو المجتمع الأبدي الذي يتألف من السعداء،
27
فإن مملكة الله الحقة تتحقق من خلال المدينة الأرضية والخطيئة والطبيعة الساقطة. في مدينة الله ينتهي السكون ويتوقف التكرار الخالد للدائرة ويتوحد تاريخ العالم، ويتقدم التاريخ نحو النور الأبدي في مراحل ست، يتقدم فيها من الظلام إلى النور. إن صيرورة التاريخ عند أوغسطين تسعى إلى الخلاص، إلى النور الحق. وتاريخ الخلاص لا يلغي الزمان، فالزمان لا يمكن أن يتوقف في مدينة الله المقدسة «مملكة الله تحركت من المدينة الأرضية مثلما تكونت السماء من الأرض.»
28
والحقيقة أن الجدل عند أوغسطين لا يتضح إلا من خلال موقفه من مشكلة الزمانية؛ نظرا للتداخل الشديد بين جدل التاريخ والزمان. ولا نريد أن نستطرد هنا طويلا عن موقفه من الزمان - فهذا هو موضوع الجزء التالي - ولكن نكتفي بتفسير بلوخ لجدل أوغسطين ومفهومه عن الزمان الذي يتقيد بالواقع القائم على التجربة. فالعبور إلى المستقبل يتم من خلال الواقع، من خلال اللحظة الهاربة، أي من خلال ما لم يعد له وجود
No Longer Being
فقد أكد إمكانية تحويل العالم أو أكد القدرة على التغيير بحيث جعل الصيرورة ممكنة. نظر أوغسطين للزمان نظرة جدلية بوصفه رحلة خارج العدمية، يتجه فيها ناحية التقدم والتوقع الممتلئ، ومع ذلك فإن مفهوم أوغسطين عن الزمان يتسم بمسحة أو تصور ميثولوجي. إن الله يحفظنا من فوق، لكن الأحداث تتحرك داخل المستقبل المفتوح لتحقيق إمكانيات الخلاص. وعلى الرغم من ذلك نجد السكون في نهاية التاريخ، في اللحظة الثابتة الخالدة، وتلك اللحظة هي النور الأصلي. إن نهاية التاريخ هو الاكتمال المكاني للنور.
29
استمر تأثير النزعة المانوية واستمر التفاعل بين الداخل والخارج، بين الإنسان والعالم. وظل جدل الذات والموضوع يمتد حتى عصر النهضة، فنجد باراسلس (1493-1541م) يقول بالتوافقات بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، فليس من الممكن عند باراسلس أن نفهم العالم الداخلي الذي هو الإنسان بدون البدء من العالم الخارجي، تماما كما لا نفهم الثمرة إلا بواسطة البذرة. والفلسفة عنده ليست سوى الطبيعة غير المرئية والطبيعة ليست سوى الفلسفة التي جعلت مرئية.
30
وعلى الإنسان أن يثق ثقة غير محدودة في القدرة الإنسانية وكمال الطبيعة الخفي. في عالم باراسلس يتماسك كل شيء، ويتداخل كل شيء، العالم الكبير والعالم الصغير، الداخلي والخارجي، الكون الأصغر والكون الأكبر، (الميكروكوزم والماكروكوزم).
31
ويتساءل بلوخ كيف يرتبط العالم الكبير بالخيال المتفائل؟ إن الخيال يمثل بالنسبة لبلوخ وظيفة يوتوبية مكلفة بإنضاج إنسان أفضل وعالم أفضل. ووظيفة الخيال هي الدفع للأمام، نحو النور. وهنا يضع بلوخ يديه على الفروق الكبيرة بين برونو وباراسلس، فالإنسان عند برونو مكتوف الأيدي لا حيلة له أمام لا محدودية الكون، هو إنسان بلا فعالية ولا أفضلية، قطعة متناهية الصغر عند باراسلس لا تنتج شيئا يكون سلفا وبذاته كاملا، إذ يكون على الإنسان أن ينجز ويتمم كل شيء، فالطاقات الحيوية للميكروكوزم لا حصر لعددها ولا تقل عن طاقات الماكروكوزم.
32
ثم يأخذ الجدل بعدا آخر عند ياكوب بوهمه (1575-1624م) والملامح الخاصة لهذه الفلسفة الجدلية تتخذ أبعادا هائلة - على حد زعم بلوخ الذي عدها أول جدل موضوعي منذ هيراقليطس - حيث يصبح قوام العالم هو التضاد. والسؤال الأساسي عند بوهمه هو: من أين يأتي الشر في العالم؟ وتتطلب الإجابة على هذا السؤال أن نغوص بالتفكير داخل ذواتنا. وبما أننا مخلوقون على صورة الله فبوسعنا - بشرط أن نغوص داخل نفوسنا - أن نلمس بدايات كل شيء، نلمس بدايتنا المدفونة داخل أعماقنا، نلمس بداية الأشياء بالغوص بنظرنا في الطبيعة الوحشية للأصول. فما دامت الطبيعة وكل الكائنات والله نفسه موجودون داخل الإنسان، فلا بد أن يقرأ الإنسان هذا الكتاب الذي ليس سوى ذاته.
33
وحين نبحث في أصل تناقضات هذا العالم نجدها تكمن في الجانب المظلم للطبيعة الإلهية. فثمة وجهان لهذه الطبيعة - طبقا لفلسفة بوهمه التي تقوم على الثنائيات المتضادة - جانب نور مضيء وآخر مظلم شرير يصفه بأنه شيطاني ومتكبر، أو رعب ونار متلألئة.
34
ولا بد أن تتلاقى هذه الثنائيات، فيتلاقى الضيق والرحابة، الحموضة والعذوبة، الرعب والنور «أحدهما يعارض دوما الآخر ليس بنية عدائية بل كي يتحرك ويظهر.» فيصبح التضاد أو النفي هو الأصل في كينونة العالم الظاهرة. ولو لم يكن هناك العنصر النافي أو السالب لما كان ثمة كشف أو تجل للخير، فإن المغايرة هي التي تدفع الأشياء للظهور.
ونستطيع أن نكتشف العنصر السالب أو النفي بالاستبطان الذاتي، ففي هذا النفي يلمح بوهمه بالرغبة التي يصفها بأنها نبضة أو نزعة إرادية تتولد جوهريا من الإحساس بالنقص وتعبر عن نفسها في الجوع،
35
فعندما يغوص الإنسان داخل ذاته يدرك الجوع والقلق والرغبة التي تدفعه باستمرار، نجد هذا السلب أو النفي يعمل في الطبيعة في شكل صيرورة مستمرة، ولولاه لغرق العالم في العدم، فالخلق لا يتم دفعة واحدة، لكنه يتجدد أو يخلق من جديد في كل لحظة بفضل العنصر المنتج،
36
الذي أطلق عليه بوهمه اسم النفي أو السلب. إن ياكوب بوهمه يعطي للصراع بين النور والظلام شكل الجدل الموضوعي، فليس ثمة حركة بدون حركة مضادة، والشر أو الظلام يجعل من نفسه واسطة لانكشاف النور، فالنور يحتاج إلى الظلام لكي يظهر، و«النعم» لا توجد بدون «اللا».
37
انتهى الطريق الذي بدأ من الثنائية المانوية إلى الطبيعة المادية فلم ينظر أحد للمادة بكل هذا الجلال مثلما فعل جوردانو برونو (1548-1600م)، فقد تغنى برونو باللانهائي، وقال باختفاء الأرض والشمس وبقاء العالم اللانهائي المتمركز في كل مكان، في انسجام «الحد الأدنى» كالنقطة، الذرة، والموناد، وفي «الحد الأقصى» كالكون اللامحدود الذي لم يوضع في إطار. ومع برونو بدأ الوعي الكوني؛ الكون الذي يوازن نفسه في انسجام عن طريق الحب والكراهية، والحركة والسكون، والإمكانية والواقعية، وهي إمكانية قابعة في هذا العالم، في الكمال الكوني. إن القوة المشكلة للعالم والملازمة للأشياء لا تسأم خلق أشياء جديدة في هذا الكون التام أو الكامل.
38
الطبيعة عند برونو هي الطبيعة الطابعة، الطبيعة الفاعلة، الطبيعة الخالقة التي بفضلها يشكل العالم ذاته بذاته، وبرونو الذي يصف الطبيعة بأنها فنان، لا يعتبرها شخصا مفردا معزولا ولا متعاليا. إنها بالنسبة إليه القوة الطبيعية، وليست كائنا يجذب العالم نحو الأعلى بموجب التصور الأرسطي للعلاقة بين العالم والإله، حيث يكون الله هو المحرك الذي لا يتحرك والكائن المتعالي عن العالم. إن برونو يقف بقوة ضد فكرة تصور الإله الخالق، وضد فكرة خلق واحد وحيد ويستعيض عنها بفكرة الطبيعة الطابعة بوصفها قوة داخلية، محايثة للعالم.
39
ويعبر برونو عن ذلك في كتابه عن «السبب، والمبدأ والواحد» في الحوار الثالث حيث يقول أحد المشاركين في الحوار: «نرى في الطبيعة كل الأشكال تغادر المادة وتعود إلى المادة، لهذا السبب لا يبدو أي شيء دائما بالفعل، ولا ثابتا أزليا جديرا بأن يعتبر مبدأ، إلا المادة حيث تنشأ الأشكال وتنعدم، ومن حضنها تظهر وإلى حضنها تعود، لهذا السبب يجب أن نقر للمادة المماثلة لذاتها دوما والخصبة دوما، بالامتياز المهم، امتياز الاعتراف بأنها هي المبدأ الماهوي الوحيد وبأنها هي ما هو كائن وسيبقى كائنا على الدوام، بينما مجموع الأشكال لا يمكن الاعتراف بها إلا بوصفها التعينات التي تأتي وترحل، وتنقطع وتجدد، ولا تستطيع، لهذا السبب عينه، أن تكون مبدأ لأن المبدأ هو ما يدوم.»
40
وهنا نشير إلى أن فكرة الطبيعة الطابعة قدمها إلى برونو فلاسفة العصور الوسطى العرب: ابن سينا، ابن رشد، ابن جبيرول، كما سبق أن قلنا في حديثنا عن المادة.
ثم ينتقل بلوخ من العصور الوسطى مقتربا من جدل الموضوع في العصر الحديث ليجد في وحدة وجود اسبينوزا (1632-1677م) تأملا مطلقا. فالواقع والكمال شيء واحد، لأن الطبيعة أو المادة عند اسبينوزا ساكنة وليس بها حركة ولا جدل ولا صيرورة. إن طبيعة اسبينوزا الطابعة ليست هي القوة الخلاقة اللانهائية كما هي عند برونو: «إن الله يبدع الأشياء في أقصى صورة من الكمال لأنها قد نتجت بالضرورة عن طبيعته البالغة أقصى حدود الكمال.»
41
وهذا الإنتاج الضروري معناه أن الأشياء قد تأدت عن الطبيعة الإلهية بطريقة هندسية، وبنفس الاتساق الضروري الذي نجده في الرياضيات باعتبارها نموذج المعرفة الضرورية. ووفقا لهذا نجد أن الأفعال والدوافع البشرية نفسها (حتى عندما يدين اسبينوزا أغلبيتها باعتبارها انفعالات غير كافية أو اضطرابات) ينظر إليها كما ينظر الباحث الرياضي في الخطوط والمساحات والأجسام. والواقع أن الجديد في مذهب اسبينوزا هو أن وحدة الوجود عنده وحدة رياضية تتميز بوضوح عن وحدة الوجود العاطفية عند برونو، لكنها تلتقي مع فلسفة برونو (ومع فلسفة ابن سينا وابن رشد من قبله) في هذه النزعة الباطنة المحايثة القوية، وإن كانت تتخذ عند اسبينوزا صورة كونية شاملة تضم الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة كلتيهما، «الواقع أنه ينبغي علينا أن نفهم من الطبيعة الطابعة ذلك الذي يكون في ذاته ويفهم من خلال ذاته أو صفات الجوهر التي تعبر عن الجوهرية الأزلية واللامتناهية، أما عن الطبيعة المطبوعة فإنني أفهم منها كل شيء يتأدى عن ضرورة الطبيعة الإلهية أو عن ضرورة كل صفة من صفات الله، أي كل أحوال الصفات الإلهية بقدر ما ينظر إليها على أنها أشياء.»
42
ومن ثم يدل تعبير اسبينوزا المشهور «الله أو الطبيعة» على الفعل الطبيعي الشامل، كما يعتبر أساسا يقوم عليه العالم الكامل الذي يتمخض عنه هذا الفعل الطبيعي. إن المادة بوصفها لا متناهية ونابعة - ككل شيء آخر - عن طبيعة الله، لا بد أن تتمشى بدورها مع الكمال الإلهي.
43
ولعل البيتين الشهيرين اللذين يقولهما جوته على لسان روح الأرض، لعلهما يعبران عن هوية الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة عند اسبينوزا:
هكذا أعمل على نول الزمان الصاخب،
وأنسج ثوب الألوهية الحي.
44
وفي أعماق عالم اسبينوزا الذي ينتهي باتحاد حب القدر أو حب الضرورة والحب العقلي للألوهية تسود تلك السكينة وذلك الانسجام الذي ينمحي فيه مد الحياة وجزرها، ورياح الفعل وعواصفه، ويسود التحقق الكامل كما في قصيدة جوته الشهيرة:
فوق كل القمم سكون،
على أعالي الشجر لا تكاد تسمع نأمة واحدة.
فبناء القصيدة نفسه يعكس التجانس والتوازن الكامل بين الرؤية الكونية وبين الإحساس الكوني، إن «الأنا» لا تفسد الانسجام الشامل السعيد، إنها تشعر بنفسها متحدة مع العالم المحيط بها، «ما من صراع أو تضاد تحاول القصيدة أن تعبر عنه، بل استسلام وديع وانتظار هادئ.»
45
كما تعبر عن هذا السكون أيضا عبارة جوته أن كل سعي وكل صراع ما هو في النهاية إلا راحة أبدية في الإله الخالق. هكذا يتصف عالم اسبينوزا، بالسكون لا إله يقحم نفسه عليه من الخارج، والزمان عنده مفتقد، والتاريخ مفتقد، والتطور مفتقد، ليس هناك تعددية في الجوهر، فالعالم ممتلئ بالجوهر الواحد الكامل وليس له غاية لأن الكمال لا يحتاج إلى غاية.
46
هكذا انتهى الطريق الذي بدأ من الثنائية المانوية إلى الجدل الموضوعي الذي انتهى إلى الصيرورة. لكن هذه الصيرورة انتهت كما يقول بلوخ إلى السكون الذي لا يختلف في نهاية الأمر عن سكون نزعة اسبينوزا. ثم يأتي ليبنتز (1646-1716م) ويستند على صيرورة باراسلس وبوهمه. وتتحدد الصيرورة التي تتجه إلى النور والتي ترتبط بالإنسان والزمان والعالم في خمس نقاط أساسية: أولا: افتراض أن الوجود كله مكون من مونادات، وأن كل مونادة لها حياتها الكاملة والمستقلة عن الأخرى. ثانيا: تتميز هذه المونادات بالنزوع من الظلام إلى النور. ثالثا: تتجه هذه المونادات ناحية المستقبل : «فكما أن الجسم المرن الذي تقلص يتجه بكل جهده إلى التمدد، كذلك تصنع المونادة حالتها التي ستكون عليها في المستقبل.» على نحو ما يقول أيضا في أحد ردوده على الفيلسوف بايل
Bayle
عام 1702م: «يمكن القول بأن حاضر الروح كما في أي شيء آخر يحمل المستقبل في أحشائه.»
47
إن الجدل الموضوعي هنا أكثر وضوحا من ذي قبل وأكثر اقترابا من الصيرورة التي لا تتوسط مع الماضي فحسب ولكن مع المستقبل أيضا، على الرغم من أنها لا تتفتح على المستقبل الأصيل أو الحقيقي وأنها ضد كل جديد فعلي. رابعا: أن التوجه الكامن في المونادات لا يمكن تصوره بدون الغائية. وعلى الرغم من سعي ليبنتز لتأسيس فكرته عن الغاية أو الهدف باعتباره هدفا إلهيا يتجه إلى أفضل عالم ممكن، فإنه لا يلغي الحتمية العلية أو السببية الموجودة في هذا العالم والتي لا استثناء لها. بل إن هذه الحتمية جزء مكمل للآلية.
48
إنما الواقع أن مفهوم الغاية يطبقه ليبنتز على النزوع الداخلي باعتبار أن الهدف هو الذي يربط بين العالمين الطبيعي والأخلاقي، كما يضمن تحقيق الكمال في العالم.
وربما يعود انغلاق فلسفة ليبنتز عن المستقبل الحقيقي الجديد الفعلي إلى التفسير الآلي الذي كان من أهم الكشوف العلمية في عصره، فلم يستطع أن يتحرر من التصور العلي الذي قيدته الآلية في أغلالها. إنه يقبل فكرة الآلية من ناحية، ولا يريد من ناحية أخرى أن يفرط في فكرة الغائية، ولهذا نجده يحاول التوفيق بينهما.
49
خامسا: أن كل مونادة في عالم من الإمكانات اللامتناهية وأن العالم الموجود هو تحقيق جزئي لها، مصداقا لعبارته المعبرة عن النزوع «كل ما هو ممكن يقتضي الوجود.» ويتناول ليبنتز مفهوم الإمكان لأول مرة بعد أرسطو، بحيث صار هذا الإمكان هو نزوع المونادات الذي أطلق عليه اسم «مملكة الإمكانيات اللانهائية». ويرى بلوخ يوتوبيا ليبنتز في هذه النقاط الخمس، كما يرى أيضا أنها لا تنطوي على الجديد الفعلي، فمن ضمن عوالم ممكنة كثيرة اختار الله أفضل عالم ممكن ولم يترك مجالا لاستكمال هذا العالم في المستقبل.
50 (3) الجدل الموضوعي بين أفلاطون وهيجل
هكذا أثبت الجدل وجوده كمنهج في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكنه لم يصبح موضوعا للتأمل الجاد إلا في حالات نادرة. ومن المعروف أن كانط في «نقد العقل الخالص» قد حط من قيمته وجعل منه مجرد «منطق للمظهر» والخداع الذي يقع فيه العقل كلما حاول أن يحلق إلى الحقائق المتعالية ويقيم البرهان عليها. لذلك عطل البداية الحقيقية الخصبة لجدل الواقع في مطلع العصر الحديث. ولهذا لم يحتفظ الوعي الفلسفي في عصر الأنساق الكبرى للمثالية الألمانية إلا بجدل المفاهيم الأفلاطوني الذي كان له أكبر الأثر على هيجل. ولا بد لأي باحث في الجدل من أن يدخل في حوار مع هيجل والتراث الأفلاطوني الذي يقوم عليه. وبقي أفلاطون وهيجل النموذجين المعبرين عن المنهج الجدلي بعد أن حجب تراث الجدل المادي والواقعي من العصر الوسيط وعصر النهضة حتى ليبنتز، بل إن «الانقلاب» الذي أحدثه ماركس في مفهوم الجدل قد بقي في جوهره متعلقا بمنهج هيجل وفلسفته التي زعم (أي ماركس) أنه خلصها من قشرتها المثالية.
يمثل هيجل قمة الجدل الموضوعي في العصر الحديث والمعاصر. والسؤال: هل هو جدل ساكن أم متحرك؟ هل هو جدل مغلق على مرحلة تاريخية بعينها - وجدها هيجل في الدولة البروسية - أم هو جدل منفتح على المستقبل؟ إن الدراسات المعاصرة قدمت تفسيرات عديدة وجديدة لفلسفة هيجل، وكان بلوخ ممن ساهموا في هذه الدراسات فقدم شروحه على هيجل والتي جعل عنوانها «الذات-الموضوع». وقد سلط الأضواء في هذا الكتاب على الجوانب الحية الباقية من الجدل الهيجلي، كما بين الجوانب التي تتوقف فيها حركته وانفتاحه وسيولة مفاهيمه ويركن إلى الجمود والسكون. ولما كانت فلسفة هيجل قد قدمت نموذجا للمنهج الجدلي بمعناه الموسوعي والكوني الشامل، فلم يكن أمام الفلسفة الجدلية التي تحاول تجاوزه إلا أن تبذل ما في وسعها لتحديد العقبات والحواجز التي أقامها هيجل في وجه الانفتاح غير المحدود للجدل على «المستقبل» و«الجديد» ومحاولة إزالتها من وجهة نظرها المادية والتاريخية وأهدافها الإنسانية والثورية.
ولا شك أن الجدل الهيجلي مدين لأفلاطون بالكثير، فمن أهم الأفكار الأفلاطونية التي أثرت في هيجل أولا: الاهتمام بالكليات واعتبار الفكر هو الأساس الحقيقي وراء هذا العالم. ثانيا: التفرقة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية ثم تقسيم العقل إلى «قوة الفهم» و«العقل الخالص». ثالثا: «سير الجدل بين الكليات فقط دون الجزئيات أو المحسوسات».
51
لكن أهم الأفكار التي تركت بصمتها على الجدل الهيجلي هي الفكرة الأفلاطونية المعروفة بأن العلم تذكر - وهي الفكرة التي عرضها أفلاطون في محاورتي «مينون» و«فيدون» - وأن هذا التذكر يجعل كل اكتشاف للجديد مجرد إعادة تذكر للأبدي الخالد، بحيث تسير عملية الصيرورة الكونية في مسار دائري يردها باستمرار إلى نفس الأصل الذي بدأت منه. ومن المعروف أن هيجل قد صور «تخارجات» العقل أو الروح المطلق ومراحل «فضه» لنفسه في صورة نسق دائري مؤلف من دوائر أخرى عديدة، بحيث يمكن وصف المبدأ الذي تقوم عليه فلسفته - على الرغم من جدليتها - بأنه مبدأ سكوني يتلخص في موعظة معبد دلفي الشهيرة التي أخذ بها سقراط «اعرف نفسك»، وهي الموعظة التي تنطق - على لسان كاهنة المعبد - بأن المستقبل معروف سلفا! لكن بلوخ يقول على العكس من ذلك بصوت لا نخطئ فيه النغمة الوجودية: أبدع نفسك والعالم المادي والإنساني الذي تنتمي إليه، بشرط ألا يأتي هذا الإبداع عن التعسف والهوى، بل يهتدي «بعلم الأمل»
Docta Spes
الذي يفجر سدود «التذكر» ودوائره المحكمة ويفتح طريق المستقبل على كل جديد مبدع.
52
والجديد في فلسفة هيجل هو القضاء على ثنائية الفكر والوجود وإزالة الحدود الفاصلة التي وضعها الفكر الفلسفي طوال تاريخه بين المنطق والميتافيزيقا أو بين المعرفة والوجود فكانا عنده علما واحدا. والمنهج الجدلي الذي انتهى عند كانط إلى النقد والسلب تحول عند هيجل إلى منهج إيجابي فكان هو حركة الواقع نفسه، وكان أساس فلسفته التاريخية، كما كان هدفه النهائي هو السيطرة على الواقع. وعلى الرغم من ذلك يقول هيجل في فلسفة «الحق»: «إن ما هو معقول واقعي، وما هو واقعي معقول.» إيذانا بتوقف الجدل عند هذه المرحلة، مرحلة ما قد أصبح واقعا. لذلك كانت شروح بلوخ على هيجل في كتابه السالف الذكر معارضة لهذا الرأي وتأكيدا على ضرورة التقدم المستمر إلى الأمام، ابتداء من الآن، أي ابتداء من الحاضر، وتأمل الماضي، لا إحيائه باعتباره قد مضى.
وانطلاقا من هذا المفهوم نظر بلوخ إلى هيجل ليجد أن الفكرة عنده تأتي بعد أن يكون الواقع قد تم وانقضى بحيث لا يبقى إلا تذكره. ويبرز بلوخ ميول هيجل إلى القديم (إلى الفلسفة الإغريقية) وإلى التذكر، ومع ذلك يذكر نصوصا مناقضة تدل على ترحيبه بالجديد، كقوله عن الثورة الفرنسية بعد قيامها بثلاثين سنة أنها شروق الشمس الرائع؛ وهذا يدل على تردد هيجل بين السكونية والحركية، بين تذكر القديم الماضي والاهتمام بالتطور الأكثر واقعية، بين عقد سلام مع الواقع ووقوفه في صف التقدم، بين التذكر والتطور .
ويستشهد بلوخ بنصوص من هيجل تنطق بوقوفه في صف التقدم والواقع العيني الذي يأتي في نهاية التطور لا في وصف المبادئ العامة المجردة: «إن ما يمثل البداية - من حيث إنه هو ما ينطوي عليه مما لم يتطور بعد ولم يحتو على أي مضمون - لا تتم معرفته في البداية معرفة حقة، ثم يأتي العلم وعلى وجه الخصوص من خلال تطوره الكامل، فيكون هو المعرفة الكاملة الغنية بالمضمون، والقائمة بحق على أساس قوي.»
53
ومن هنا يكون التطور إلى الأمام هو العودة إلى الأساس. ومعنى هذا أن التطور كان مجرد تأمل في الأساس نفسه، في الجذور، أي كان تطورا تراجعيا.
ظل الميل إلى الوراء هو الأقوى لدى هيجل، بحيث لم يبق للفكر إلا تذكر ما حدث ومضى واستعادته، بحيث يصبح الهدف هو معرفة ما قد عرف، أي المعروف من قبل، ويعزز هذا الرأي نص من الظاهريات يقول: «إن الهدف، وهو المعرفة المطلقة أو الروح الذي يعرف أنه روح، طريقه هو تذكر الأرواح على طبيعتها التي هي عليها وكيف تنجز تنظيم مملكتها.»
54
وإذا نظرنا إلى كلمة التذكر عند هيجل نجدها تعني معناها الأصلي وهو الاستيعاب أو الإدخال في الوجدان الباطن: «إذا أخذنا التذكر بمعنى استحضار تصور سبق لنا أن تمثلناه في وقت سابق، فإن للتذكر معنى آخر مستمدا من اشتقاق الكلمة نفسها وهو إعادة استبطان شيء مضى أو التغلغل في الذات أو الاستيعاب، وهذا هو المعنى الفكري العميق للكلمة. ولا شك أن تعبير التذكر عند أفلاطون يكتسب في كثير من الأحيان هذا المعنى التجريبي الأول.» ويستنتج من هذا النص لهيجل أن التذكر عنده استيعاب وليس مجرد إعادة إنتاج تصور قديم كما هو عند أفلاطون، ويبقى العامل المشترك بينهما هو الارتداد للماضي وتأمله عند كل منهما؛ لذلك يظل هيجل أقرب إلى أفلاطون في «مينون» منه إلى تراث التطور منذ أرسطو إلى ليبنتز.
55
وليس أدل على ذلك من نص لهيجل يؤكد فيه موافقته على التذكر بالمعنى الأفلاطوني وتأكيده على أن حركة العالم الحق نحو ذاته، أو صيرورته إلى ذاته، أو كما يقول عودة الروح إلى ذاته: «هذا هو مفهوم العام الحقيقي في حركته، فالعام أو النوع هو في ذاته صيرورته الخاصة، وهو يكون كذلك بمعنى أنه يصير حقيقته؛ ومن ثم تكون حركته هي العودة الدائمة إلى ذاته. والواقع أن أفلاطون يتصور وجود الروح في ذاته في الزمان؛ فالحق لا بد له إذن أن يكون قد وجد بالفعل بالنسبة لنا في زمن آخر.» إن تأثر هيجل بأفلاطون واضح في هذا النص. وهو في تأمله لعودة العقل أو الروح إلى ذاته يقف موقفا سلبيا قريبا من موقف أفلاطون، وهو يقترب منه أيضا في فهمه للتذكر أو في تذكره آخر المطاف لعالم المثل التام السابق للزمان؛ هذا العالم الذي يسمى عند هيجل عالم المنطق السابق على وجود العالم.
56
هكذا يعترف هيجل حرفيا بالتذكر
anamnesis
وذلك بعد انتهائه من تأليف كتابه عن المنطق، كما يدل هذا النص من الموسوعة: «إذا نظرنا إلى المنطق على أنه نسق من الأنماط الخالصة للفكر، فسوف نجد أن العلوم الفلسفية الأخرى، مثل الفلسفة الطبيعية وفلسفة الروح، تبدو لنا وكأنها منطق تطبيقي، فالمنطق هو الروح التي تشيع الحياة في هذين الفرعين من الفلسفة (فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح)، وستكون مشكلتها في هذه الحالة هي التعرف على الصور المنطقية على نحو ما تتشكل في عالم الطبيعة وفي عالم الروح، وهي أشكال ليست سوى نمط جزئي من التعبير عن صور الفكر الخالص.»
57
لكن هل يعني هذا أن فلسفة هيجل انتهت إلى الأفلاطونية، كما قد يبدو من السطور السابقة؟ الواقع أن هناك فرقا جوهريا بين هيجل وأفلاطون. إن الأخير يحط من شأن الظواهر، فالموجودات الحسية عنده مظاهر، أوهام، ظلال، نسخ باهتة. بينما هي عند هيجل ظواهر للمطلق، أي يتجلى فيها المطلق، والعام بدونها وحيد وبلا حياة؛ لأن الظاهر أو الخاص عنده هو تجسيد عيني للعام في ذاته، ولأن الحقيقة عنده عينية وهي كذلك نتيجة لا تظهر إلا من خلال الظواهر. وعندما يتخارج العقل عن نفسه ويتجلى في الطبيعة، والأهم من ذلك عندما يوجد لذاته في الوعي الإنساني، تكون حقيقته على الدوام حقيقة عينية، وذلك مصداقا لكلمة هيجل المشهورة «الحق عيني». وهكذا نجد أن الحقيقة عند هيجل ليست كما كانت عند أفلاطون حقيقة خالدة وخالية من الصيرورة، وسابقة على الزمن، وإنما الحقيقة عنده هي دائما نتيجة أو محصلة أخيرة.
58
وقد تأثر التذكر الكوني (أو الكوزمولوجي) عند هيجل بالأفلاطونية المحدثة، فكان تأثير فكرة الفيض أو الصدور والرجوع للواحد الأول أو النور الأول. إن بروكلوس - الأفلاطوني المحدث وأحد شراح أرسطو - هو أول من أدخل صيغة القضية ونقيضها والمركب منهما في الجدل. فكانت صياغته لها على هذا الشكل «الواحد - الخروج - الرجوع للواحد الأول» أو بمعنى آخر «الثبات - الخروج - العودة» وتحولت هذه الصيغة عند هيجل إلى الإيقاع الثلاثي «الموضوع والنقيض والمركب».
59
والحقيقة أن هيجل - وريث بروكلوس - هو الذي احتوى في نسقه الكلي كل الجدل الموضوعي السابق عليه، وأعتقد أنه فسر تطور مضمون العالم كله من خلال الحركة الذاتية للفكرة، أي من خلال حوار الروح المطلق مع نفسه. وقد حرص هيجل على إزالة التناقض، لأن الحق هو الخالي من التناقض، ولكنه كذلك عملية جدلية متطورة وليس عملية جاهزة للتحصيل. أي أن التناقض هو الذي يدفع بالموجود المتناقض أو غير الكامل إلى الوحدة والحقيقة «المستديرة» كهدف نهائي. وبذلك وضع هيجل ال «ليس-بعد» في المطلق الحاضر، على حد قول بلوخ.
60
وعلى الرغم من الاختلاف بين المدرسة الأفلاطونية وبين هيجل في تصور الخير الأسمى، فإن التذكر الذي يربطهما يظل باقيا عند هيجل، بل إنه يزيد عنده في وصفه للتطور الجدلي بأنه دائرة، وللحقيقة بأنها دائرة الدوائر.
61
وقد امتزجت عملية الصيرورة بالتذكر عند هيجل لحساب الحقيقة الأولى الساكنة وعلى حساب التقدم نحو الجديد والمستقبلي، وكأن التقدم للأمام هو تراجع إلى الأصل، وهذا أيضا ما يؤكده نص لهيجل من كتابه علم المنطق يبين فيه أن البدء أو الأصل باق في كل ما يخرج منه، أي أن الأصل أو الأساس حاضر في كل هنا وكل آن: «إن الانطلاق مما يكون البداية يجب ألا ينظر إليه إلا على أنه نوع آخر من التحديد، بحيث إن البداية تظل هي الأساس الذي يقوم عليه كل ما يتبع تلك البداية ولا يختفي منها أبدا، بذلك يمكننا القول بأن بداية الفلسفة هي الأساس الذي تقوم عليه كل التطورات اللاحقة، ويبقى حاضرا فيها جميعا، أي هو العنصر الكامل والباقي في كل تحديداته التالية.»
62
بذلك يصبح الآن العيني، وكل أشكال عملية الصيرورة الكونية، مستوعبا في الفكرة الأصلية أو الحقيقة الأولية التي تتذكر وتحضر في كل الظواهر وتوحد المفهوم (أو التصور) مع الواقع، ولا يكون ثمة مجال للتقدم نحو الجديد والكلي الكامل واليوتوبي. وهذا أيضا يؤكده تاريخ الفلسفة من طاليس إلى هيجل. ففي تلك الفترة الزمنية الطويلة من تاريخ الفلسفة يصح القول بأن «الماهية هي الماضي الذي تم واكتمل» ولهذا فإن الماضي، وليس المستقبل باعتباره الشكل الزمني لما ليس-بعد، هو الذي يتعلق بالأبدية.
63
من هنا كان نقد ماركس للجدل الهيجلي يتجه إلى نقد الروح المطلق الذي يحل كل التناقضات الواقعية في الروح، أي في رأس هيجل نفسه! بذلك أعاد الجدل إلى القلق العيني الواقعي، وأرجعه إلى حاضر هذا الواقع ومستقبله، وهذا هو المعنى الحقيقي لتعبيره عن «قلب » الجدل الهيجلي بحيث يقف على قدميه لا على رأسه. لكن نقد ماركس للجدل الهيجلي لم يمنعه من إنصاف هذا الجدل ووصفه بأنه ثوري ونقدي للواقع كما يشهد بذلك نص ماركس: «لقد كان الجدل في شكله الصوفي الغامض بدعة ألمانية لأنه أراد فيما يبدو أن يسلط الضوء على الأوضاع القائمة، أما في شكله العقلاني فقد كان مبعث ضيق وفزع للبرجوازية الألمانية والمذهبيين الناطقين بلسانها لأنه - أي الجدل - عندما فهم الأوضاع القائمة فهما إيجابيا انطوى في نفس الوقت على الفهم لنفي هذه الأوضاع وضرورة انهيارها، كما أنه لم يتردد عن إدراك كل شكل من أشكال الصيرورة في مجرى الحركة، أي من جانبها الزائل أيضا بحيث كان هذا الجدل في جوهره نقديا وثوريا.»
64
هكذا انتهى بلوخ في تفسيره للجدل الهيجلي إلى أنه - على الرغم من تردد بعض نصوص هيجل بين الرجعية والتقدمية - لا ينطوي على الجديد الفعلي ولا ينفتح على المستقبل الحقيقي. ولو نظرنا إلى محاولة أخرى من الفكر الغربي لتفسير الجدل الهيجلي لوجدنا هربرت ماركيوز في كتابه «العقل والثورة» يحاول تفسير فلسفة هيجل على أنها فلسفة ثورة وأن العقل عنده لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى ثورة.
65
ومما لا شك فيه أن هذا التفسير يختلف اختلافا جذريا عن تفسير بلوخ، فهو ينظر إلى الجدل الهيجلي نظرة ثورية، ويقيم ماركيوز تفسيره هذا على أساس أن السلب هو روح الجدل، وأن السلب أو النفي هو بطبيعته رفض للواقع. إن السلب الذي يطبقه الجدل ليس فقط نقدا للمنطق التقليدي الذي يرفض الاعتراف بحقيقة المتناقضات، بل هو أيضا نقد للأوضاع القائمة على نفس الأرض التي تقف عليها، والقدرة على التفكير السلبي هي القوة الدافعة للفكر الجدلي التي تستخدم أداة لتحليل عالم الوقائع من خلال ما فيه من نقص باطن.
66
إن محاولة ماركيوز تفسير منطق هيجل تفسيرا سياسيا هي محاولة تنزع إلى المبالغة إلى حد كبير.
67
والواقع أنه لا خلاف على ثورية هيجل ومنهجه الجدلي الذي أدخل العقل في التاريخ، لكن الخلاف ينصب على رؤيته للواقع أو الحقيقة، فالسؤال هنا هو هل هذه الرؤية تتجه إلى المستقبل أم ترتد إلى الماضي وتتخذ صورة الدائرة المكتملة؟ وهنا يمكن أن نقول إن بلوخ له الفضل في تأكيد عدم مستقبلية النظرة الهيجيلية بسبب تأثرها - كما سبق القول - بالعبارة الأفلاطونية «إن العلم تذكر.» وأيضا بسبب دائرية نسقه الفلسفي. (4) الجدل بين هيجل وبلوخ
يكمن اختلاف الجدل المادي عند بلوخ عن إيقاع الجدل المثالي عند هيجل في أن عملية التقدم نحو الهدف النهائي اليوتوبي غير ممكنة إلا بالابتعاد عن التذكر، أي بالتوقع والأمل المتجدد؛ لأن كل وجود يتحقق، وكل يوتوبي نتصور أننا وصلنا إليه لا يوقف عملية الصيرورة المستمرة نحو الأكمل والأكثر وجودا أو تحققا. والمهم أن التقدم نحو الأشكال الفعلية الجديدة يتم بلا تذكر يرجع بنا للقديم أو يتوقف بنا عند محطات تاريخية ساكنة .
68
وإنما يهتدي بال «ليس-بعد» في مسيرته حتى لا ننسى أن اليوتوبي وأن الحقيقة والواقع لم يتحققا بعد ولم يكتسبا بعد.
إن الجدل المادي عند بلوخ يظل حركة تحمل ما لم يتحقق بعد، وينبغي تحقيقه في داخلها باستمرار، ولذلك فهو جدل القلق، أي عدم التحقق وعدم الامتلاء النهائي. وعدم حضور الكمال فيما هو غير كامل أو ناقص هو الذي حرك هيجل لكتابة هذه العبارة: «إن غير الكامل، بوصفه الضد لذاته، هو التناقض وهو دافع الحياة (أو الدافع الحي) الذي يحمله في ذاته ويدفعه لكسر قشرة اغترابه الذاتي واختراقها.»
69
ولكن إذا كان هيجل قد وضع أرضه الجدلية الشاقة - أي بصراعاتها ومصاعبها - في سماء فكرته المطلقة والمغلقة، فإن نسق الجدل المفتوح المستنير لا يجعل من الحركة الجدلية القلقة حركة لا نهائية، ومن ثم حركة عقيمة وإنما يحولها إلى حركة تحمل في أحشائها الكمال الكامن الذي يجعل من المستحيل وجود تاريخ أو تجربة بدون يوتوبيا.
70
إن الطريق الجدلي نفسه - حتى لو كان جدلا مثاليا - يشهد بالتوجه نحو الهدف الواقعي الأخير الذي هو عند بلوخ «مملكة الحرية» الأخيرة في مجتمع شيوعي واقعي يجسد في تصوره الإنسانية الحرة الكاملة، والارتباط في نفس الوقت بالواقع التاريخي المتعين، بحيث لا يكون الجدل هو مجرد الانعكاس التأملي لهذا الواقع، بل يفترض كذلك انعكاس الانعكاس، وتأمل هذا التأمل دائما من منظور التقدم المستمر نحو الأمل الكامن في داخل الواقع، والذي ينزع باستمرار نحو التحقق والاكتمال اليوتوبي. ومعنى هذا بتعبير آخر أن المبدأ اليوتوبي الواقعي عند بلوخ كامن في الواقع والوعي معا. وهو ينزع باستمرار إلى تخطي معوقاتهما ليتجه باستمرار نحو الهدف الكلي الذي يتحرك نحو مبدأ الأمل، وهو تحقيق مملكة الحرية الشاملة.
إن مبدأ الأمل، هذا المبدأ اليوتوبي كامن في الوعي، كما هو كامن في الواقع، في هذا العالم الخارجي غير المكتمل وغير التام، الذي يتميز دائما بالصيرورة المستمرة. والواقع في صحيحه صيرورة
. وهذه العملية هي التوسط بين الحاضر والماضي والمستقبل الممكن الذي يمثل أهم أبعادها. أجل إن كل ما هو واقعي، ومن خلال عملية الصيرورة هذه يصب في الممكن. وكل ما هو جزئي مشروط فهو ممكن، أي لم يتحدد بعد تحددا تاما. والمتحرك المتغير والقابل للتغيير، والذي يعبر على نحو ما عن نفسه تعبيرا ماديا جدليا، إنما يحمل في أساسه إمكانية الصيرورة التي تتم ولم تنته بعد، كما أن هذه الإمكانية هي التي توجهه أيضا نحو أفقه البعيد.
71
وإذا كان بلوخ قد عارض سكون الجدل الهيجلي ودائريته، فلا يعني هذا التقليل من شأن فيلسوف كبير مثل هيجل، استطاع أن يحسم الرأي في شان الجدل الذي ظل ردحا طويلا من الزمن يتأرجح بين الذات تارة، والموضوع تارة أخرى، حتى جاء هيجل ليقدم صورة متكاملة لجدل الذات والموضوع. وعلى الرغم من أن بعض الفلسفات التي جاءت بعده - على اختلاف أنواعها - سعت سعيا دءوبا لهدم هذا الصرح الشامخ، فقد ظلت المثالية الهيجيلية مصدرا ومادة خاما للعديد من الفلسفات والتفسيرات والتأويلات. ويكفي هيجل أن جدله كان أول من أخرج الصراع من كمونه، وأطلق هذا العملاق الجبار ليعمل في التاريخ، بعد أن ظل يعمل طويلا في عقول الفلاسفة دون أن يصطدم بأرض الواقع. إن الثورية - وهي السمة التي يجب أن تميز الجدل بصفة عامة - ربما ظلت كامنة في جدل هيجل بشكل خاص ولم تتفجر إلا على يدي ماركس الذي اكتملت عنده صورة الجدل المادي التاريخي. لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الجدل المادي الماركسي في جوهره لا يختلف عن الجدل المثالي الهيجلي، فلا نستطيع أن نقول إن ماركس قد أتى بمنهج جدلي جديد يختلف عن المنهج الجدلي الهيجلي. لكن نقطة الخلاف تكمن في نقطة البداية عند كل منهما، فبينما انطلق هيجل من الفكر، انطلق ماركس من المادة. يكمن الخلاف إذن في «المقابلة بين التصور الفلسفي للعلاقة بين الفكر والوجود عند كل من الفلسفة المثالية والفلسفة المادية. هيجل يجعل الفكر أساسا أوليا عليه يعتمد الوجود بأسره، أما ماركس فيطالب بأن نقلب الوضع بحيث يكون الأساس هو مادة الواقع الصلبة.»
72
إن أساس المنهج الجدلي هو واقع التناقض التاريخي، فإذا كان الجدل في رأي هيجل هو أداتنا لفهم الحركة الجدلية للواقع وترتيبها في نسق أو نظام فإن ماركس مقتنع مثل هيجل بأن الجدل هو الذي يحدد مسار التاريخ. إلا أنه لم يقصر الجدل - مثل هيجل - على فهم الواقع ووضعه في نسق، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك فجعله هو الأداة العلمية الوحيدة لفهم المستقبل، هذا البعد الغائب عن فلسفة هيجل. إن كلا من هيجل وماركس ينظر إلى المجتمع على أنه ظاهرة جدلية تنطوي على التضاد، كما تنطوي على إمكان حله. لكن ماركس يعتبر التناقض ظاهرة إنسانية اجتماعية تتخذ صورة تقسيم العمل وصراع الطبقات والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته، وتدفع التاريخ نحو غايته وهدفه الأخير، ألا وهو المجتمع الحر الخالي من الطبقات. ولقد انطلق ماركس من أفكار هيجل التي قدمها في «فلسفة الحق» عن جدل العمل والحاجات وإشباع الحاجات، فطورها وحولها إلى جدل الصراع الطبقي الذي هو أساس التاريخ البشري، بحيث لم يعد الصراع ولا التاريخ هو مجرد تقدم الوعي بالحرية على نحو ما قال هيجل.
وعلى الرغم من الاختلاف بين هيجل وماركس، إلا أن هذا الأخير ينصف جدل هيجل في «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية» حين يقول: إن أعظم ما في «ظاهريات الروح» هو أنها تفهم جوهر العمل وتدرك الإنسان الموضوعي بوصفه نتيجة عمله. فظاهريات هيجل كانت أول عمل يتناول بجدية المفهوم الديناميكي الإبستمولوجي للعمل على الأقل في الحدود التاريخية-المثالية. لقد فسر هيجل العمل البشري تفسيرا عقليا وليس ماديا، هذا بالمقارنة مع النزعة المادية في العصر الحديث التي أغفلت مفهوم العمل ولم تختلف بذلك عن سلفها القديم ديمقريطس. إن نظريات المعرفة منذ ديمقريطس - أكبر الماديين في الفلسفة اليونانية - حتى فلسفات ما قبل ماركس، كانت نظريات معرفة سلبية، تقوم على فكرة المتلقي ولم تعكس عملية الصيرورة، بمعنى أنها نظريات ذات نزعة ميكانيكية، وكان من الطبيعي ألا يكون هناك فعالية إبستمولوجية في مجتمع مثل المجتمع اليوناني يقوم على ملكية العبيد واحتقار العمل. ولكن لم يكن من الطبيعي - في نظر بلوخ - أن يمتد هذا إلى النزعة المادية في العصر الحديث،
73
هذه النزعة التي افتقرت - على حد قول ماركس في قضاياه عن فويرباخ - إلى العلاقة التي تربط الذات بالموضوع وهي العمل، ويندرج فويرباخ نفسه تحت هذه النزعة التأملية حيث حذف النشاط البشري من الوجود الواقعي، ولم ينظر للإنسان إلا بوصفه وجودا مرتكزا على الطبيعة، وضيع بذلك العلاقة الجدلية المتبادلة بين الذات والموضوع عن طريق توسط العمل،
74
هذا التفاعل بين الذات والموضوع الذي يؤكد عليه ماركس في هذه العبارة: إن الإنسان ونشاطه يبقى دائما الأساس التاريخي المادي.
من هنا كان هجوم ماركس على كل الفكر القائم على التأمل، وكل الفلاسفة الذين فسروا العالم بطرق مختلفة وارتبط تفسيرهم بالتأمل. والمعرفة اللا-تأملية هي التي قصد إليها ماركس في كتابه «رأس المال» الذي اتجه مباشرة للفعل، إلى معرفة القوانين الجدلية للتطور في المجتمع والطبيعة ككل.
75
والنقطة الأصيلة في الفكر الماركسي هي القدرة على التغيير للأفضل واكتشاف أفق المستقبل. فكل المعرفة السابقة قامت على العلاقة المتبادلة بين المعرفة والماضي. ولم يكن لصيرورة العمل أي اعتبار في هذه المعرفة القائمة على التذكر التي امتدت من أفلاطون إلى هيجل، لقد ظلت علاقة المعرفة بالصيرورة - حتى ما قبل ماركس - مطبوعة بطابع التأمل، ولا يستثنى من هذا فيلسوف التطور أرسطو، فالوجود عنده هو ما كان موجودا. ولا يستثنى كذلك فيلسوف الصيرورة الجدلية الأكبر هيجل، فالوجود عنده هو الواقع الذي أصبح بالفعل أو الذي تم بالفعل.
76
وفي الفكر الماركسي وحده تكمن الفكرة المبدئية ومحورها الإنسان العامل، والتغيرات الاجتماعية التي تتفاعل مع الطبيعة نفسها. ولن يتسنى تغيير العالم بدون ممكن حقيقي موضوعي يوجد داخل هذا العالم حتى يمكن إعادة بنائه على هذه الأرض.
ثانيا: بنية الزمان التاريخي
إذا كان الجدل هو منطق الزمانية فما الزمان؟ وما ماهيته؟ هل للزمان بداية ونهاية؟ وهل هو كائن منذ الأزل وسيظل إلى الأبد، أم أنه حادث مخلوق مع الطبيعة؟ هل له وجود مستقل عن الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية؟ أسئلة شغلت بال الكثير من المفكرين طوال عمر التفكير البشري. فمشكلة الزمانية من كبرى المشكلات الفلسفية التي احتلت حيزا هاما في الفكر الفلسفي قديمه ووسيطه، حديثه ومعاصره. أثيرت المشكلة على مستويين: مستوى التنظير العقلي الفلسفي، ومستوى العالم الطبيعي الفيزيائي، فلم يوجد فيلسوف ذو شأن إلا وقدم تصورا للزمان يتفق مع نظريته الفلسفية. كما لم يوجد باحث في علم الطبيعة استطاع أن يتجاهل هذا البعد الهام للزمان.
دارت مشكلة «الزمانية» على محورين أساسيين: محور الزمان ومحور المكان، وارتباط كل منهما بالآخر بحيث لا يمكن التفكير في الزمان بمعزل عن المكان. واختلاف وجهات النظر في هذه المشكلة يرجع إلى الاختلاف حول هذين المحورين، فقد رد بعض الفلاسفة الأول (أي الزمان) إلى الثاني (وهو المكان)، وقال البعض الآخر بعكس هذه النظرية. وللمشكلة جذور فلسفية وعلمية يشهد عليها التفكير الفلسفي من ناحية وتطور علم الطبيعة أو الفيزياء من ناحية أخرى. (1) الزمان الدائري في الفلسفة اليونانية
لمشكلة «الزمانية» جذور عميقة في الفكر اليوناني منذ الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط، قال بعضهم (أمثال هيراقليطس والفيثاغوريين) بأن ماهية الوجود تتحدد في إطار الزمان والمكان، فقصر وجود العالم الخارجي على حدوده الزمانية المكانية. وعندما طرح سؤال: هل للزمان وجود وماهية؟ قال البعض (مثل زينون الإيلي) بإنكار الزمان كنتيجة مترتبة على إنكاره للحركة. ورد البعض الزمان برمته إلى المكان، بحيث لا يفهم الزمان إلا على غرار المكان من حيث كونه يشغل حيزا في المكان. واختلفت الآراء حول أبدية الزمان، فبينما يؤكدها هيراقليطس بقوله «البدء والنهاية في محيط الدائرة واحد.»
77
ينكرها أفلاطون في محاورة طيماوس: «ولما رأى أبو العالم ووالده، أنه ولد صورة للآلهة الأزليين، وفكر أيضا أن يجعله أكثر شبها بمثاله، فكما أن ذاك المثال حي سرمدي (...) ففكر أن يضع صورة متحركة للأزل ... وهي ما سميناه زمانا لأن النهار والليل والشهور والسنين لم تكن قبل حدوث السماء، ولكن الله استنبط حدوثها عندما كان يركب الفلك.»
78
بذلك ينتهي أفلاطون إلى أن الصانع خلق الزمان في لحظة خلق العالم، ثم يأتي أرسطو ليعارضه ويقول بأبدية الزمان وارتباطه بالحركة الدائرية عندما فسر علاقة الزمان بالحركة ونظر إليه باعتبار «إن الزمان عدد الحركة من قبل المتقدم والمتأخر، وأنه متصل.»
79
فليس هناك زمان فارغ، كما أنه ليس هناك مكان خلاء. لكن يأتي أفلوطين بعد ذلك لينتهج نهج أفلاطون وينطق بلسانه فيقول بخلق الزمان: «الأبدية والزمان شيئان مختلفان، فالأبدية ترجع إلى الطبيعة الخالدة، أما الزمان فمجاله عالم الأحداث الجارية في عالمنا المحسوس.»
80 (2) الزمان المستقيم في الفلسفة الوسيطة
إذا انتقلنا للعصور الوسطى التي سيطر عليها الفكر الديني وجدنا السيادة المطلقة للتصور الأفلاطوني-الأفلوطيني، أي لسيطرة فكرة خلق الله للزمان في لحظة خلقه للعالم. ويؤكد هذا التصور الخط المستقيم لزمن الأديان الذي ينتفي معه الشكل الدائري للزمان اليوناني. ويمثل القديس أوغسطين (354-430م) هذا الاتجاه، فهو يؤمن بإله خارج عن العالم، وهو روح لا يسري عليها الزمان، ولا تخضع للعلية أو التطور التاريخي. وعندما خلق الله العالم خلق معه الزمان. فنحن لا نستطيع أن نتساءل عما حدث قبل خلق العالم؛ إذ لم يكن هناك زمان يمكن أن نسأل بشأنه هذا السؤال.
81
ويرى بلوخ أن مفهوم الزمان عند أوغسطين - على الرغم من طابعه الذاتي - مرتبط بالواقع القائم على التجربة،
82
فالماضي الذي لم يعد له وجود يتم استدعاؤه في الحاضر عن طريق الذاكرة، كما أن العبور للمستقبل الغامض يتم أيضا من خلال الواقع الحاضر عن طريق التوقع، والنفس تستجمع الزمان بكل أبعاده في اللحظة الحاضرة بالانتباه. بذلك يمكن القول إن الزمان يصبح حاضرا دائما: «لا ماضي لا يكون موجودا، ولا مستقبل ليس حاضرا، وليس هناك إلا ال «هو» ال «كائن» وليس هناك «كان» ولا «سيكون» لأن ما كان لم يعد كائنا وما سيكون لم يكن، فهناك الكائن لا غير.»
83
وكما كان أوغسطين أول من فكر في الزمان، فهو كذلك أول فيلسوف تاريخ، فهناك علاقة جدلية بين الزمان والتاريخ عنده، وتاريخ الخلاص لا يلغي الزمان، حيث أدرك الوظيفة الموضوعية للزمان (أي جدلية التحول وتعرض كل ما في الزمان للفساد). وعلى الرغم من ذلك فهو يرى أيضا أن الزمان يتقدم نحو مدينة الله المقدسة.
84 (3) الزمان المطلق في العلوم الطبيعية
ثم تعقدت مشكلة الزمان وتشابكت مع تقدم العلوم الطبيعية والرياضية وتطورها في عصر النهضة، فابتعدت عن فكرة ارتباط الزمان بالمكان والحركة، أي ابتعدت عن تصور الزمان معتمدا على حركة العالم الطبيعي، وهي الفكرة التي سادت التصور اليوناني للزمان، وسيطرت على العصور الوسطى فكان الزمان الذي لا يستشرف المستقبل بسبب غياب فكرة التطور والتقدم من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل إلى أن جاء إسحاق نيوتن (1642-1727م) وأقام صرح العلم الطبيعي الحديث على أساس من الحتمية العلمية، وصور العالم كآلة ميكانيكية هائلة تسير وفق قوانين رياضية دقيقة لا تحيد عنها، وجعل الكون يتحرك في المكان والزمان المطلقين. أعقب هذا التطور الهائل في العلوم الطبيعية، تطور مماثل في الدراسات الفلسفية التي رفعت لواء العقل في عصر التنوير واستندت إلى ميكانيكا نيوتن. وربما كان أوضح مثال على هذا هي فلسفة كانط (1724-1804م) النقدية التي جعلت المكان والزمان صورتين قبليتين للتجربة. (4) الزمان كبعد رابع في النظرية النسبية
واستمر تطور العلم الطبيعي والرياضي إلى أن جاءت نظرية النسبية لأينشتين لتنحي الفيزياء الكلاسيكية لنيوتن جانبا، وتقول بالمتصل الزماني-المكاني، وتجعل من الزمان المندمج مع المكان بعدا رابعا مضافا إلى الأبعاد الثلاثة لفيزياء نيوتن وهي الطول والعرض والارتفاع. انهار التفسير الميكانيكي للكون، وترتب على ذلك انهيار الزمان والمكان المنفصلين المطلقين. ويلخص رسل الأسباب التي جعلت من الضروري إحلال عبارة متصل «المكان-الزمان» بدلا من المكان والزمان، فالفصل القديم بين المكان والزمان يقوم على اعتقاد بأنه لا لبس هناك في أن نقول إن حادثتين في مكانين متباعدين قد وقعتا في زمن واحد بعينه، وبالتالي كان من المعتقد أننا نستطيع وصف «طبوغرافية» (وضع) الكون في لحظة معينة بمصطلحات مكانية بحتة. ولكن بعد أن أصبحت الآنية منسوبة إلى مشاهد معين، لم يعد ذلك ممكنا. فما يعده مشاهد ما وصفا لحالة العالم في لحظة معنية، هو بالنسبة لمشاهد آخر سلسلة من الحوادث وقعت في أزمنة مختلفة، وليست علاقاتها مكانية فحسب، بل زمانية أيضا. ولهذا السبب نفسه، نحن معنيون بالحوادث لا بالأجسام.
وقد كان من الممكن في النظرية القديمة النظر إلى عدد من الأجسام، كلها في نفس اللحظة، وما دام الزمان واحدا بالنسبة إليها جميعا، فمن الممكن تجاهله. أما الآن، فإننا لا نستطيع أن نغفل ذلك إذا أردنا الحصول على تفسير موضوعي للوقائع الفيزيائية، فلا بد من ذكر التاريخ الذي ننظر فيه إلى الجسم، وبهذا تم الوصول إلى «حادثة» أي إلى شيء يحدث في زمن معين، وحين نعرف زمان ومكان حادثة ما في نظام تسجيلي لمشاهد فإننا نستطيع أن نحسب زمانها ومكانها وفقا لمشاهد آخر. بيد أنه ينبغي علينا أن نعرف الزمان والمكان أيضا لأننا لم نعد نستطيع أن نسأل ما هو مكانها بالنسبة للمشاهد الجديد في «نفس الوقت» بالنسبة للمشاهد القديم؟ وليس هذا شيئا كنفس الزمان بالنسبة للمشاهدين المختلفين، اللهم إلا إذا كانا ثابتين الواحد بالنسبة للآخر، ونحن نحتاج إلى أربعة قياسات لتحديد وضع ما، وأربعة قياسات تحدد وضع حادثة ما في متصل «المكان زمان» لا مجرد جسم في المكان. ولا تكفي ثلاثة قياسات لتحديد أي وضع. هذا هو جوهر ما نعنيه باستبدال متصل «المكان زمان» بالمكان والزمان.
85
واحتدمت الآراء وتعارضت حول نظرية النسبية التي تعد أهم وأحدث ما وصل إليه التقدم في العلوم الطبيعية. ولسنا بصدد عرض لإشكالية الزمان وتطورها التاريخي، فليس هنا مجاله ولا هو هدفنا. ولكننا نعرض لهذه المشكلة من الزاوية التي تناولها بلوخ الذي اهتم اهتماما خاصا ببنية الزمن التاريخي. فهناك كما نعلم زمنان: الزمان الفلكي الكوني، زمان الساعة الآلي، الزمان الكمي؛ والزمان النفسي الوجداني، زمن التجربة الحية، الزمان الكيفي. (5) الزمان الذاتي في الفكر المعاصر
كانت مشكلة الزمان النفسي محور فلسفات عدد كبير من فلاسفة القرن العشرين، من أهمهم برجسون وهوسرل وهيدجر. تناول كل منهم زمان الذاتية الفردية، وميزوا بين زمن الساعة والنتيجة المطرد - الذي لا يمكننا من فهم المشكلة الفلسفية الزمانية - وبين زمن التجربة الحية.
عندما عالج برجسون (1859-1941م) مشكلة الزمان فرق تفرقته المشهورة بين زمان التجربة الكيفي الحي المتدفق وهو الزمان الحقيقي الذي يسميه الديمومة
La durée ؛ وزمان الساعة الكمي السكوني الآلي المتجانس الذي نتج عن إقحام فكرة المكان في صميم فكرة الزمان. والديمومة أو المكان الحي هو المحور الذي تدور حوله كل فلسفة برجسون. فقد هاجم الميكانيكية العلمية وعارض العقل الذي يقتصر إدراكه على كل ما هو قائم على الثبات والسكون، ووضع في المقابل فلسفته الحيوية بمنهجها الحدسي، ورفض أن تعامل الذات معاملة العلم الطبيعي للعالم الخارجي الذي يتصف بالامتداد والكثرة، وتحكمه الحتمية العلمية؛ ذلك لأنه «فيما يتعلق بالحياة النفسية نلمح دون مشقة أن الزمن هو نسيجها نفسه.»
86
ويؤكد برجسون على أن الديمومة تبشر بالجديد دائما على مستوى الذات والكون على السواء: «إن الكون يدوم في الزمن، وكلما تعمقنا في فحص طبيعة الزمن فهمنا أن الديمومة تدل على الاختراع وخلق الصور، والإعداد المستمر للجديد على وجه الإطلاق.»
87
ليست الديمومة لحظة تحل مكان لحظة أخرى، وإلا لما كان هناك سوى الحاضر، ولما كان هناك امتداد للماضي في الحاضر ولا تطور ولا ديمومة محددة بالذات «إن الديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل كلما تقدم.»
88
وهي الزمان النفسي حيث تتحرك الذات - التي تحيا في الزمان - وفق حياتها الباطنة الداخلية. وهذه الديمومة لا تمت بصلة للمكان والزمان اللذين تتحدث عنهما العلوم الطبيعية. وجدير بالذكر أن ديمومة برجسون قد تطورت فخرجت عن نطاق اكتشاف الحياة الباطنة للذات الفردية لتشمل الأشياء المادية «إن تيار الزمن يكتسب سرعة لا نهاية لها، وإن ماضي الأشياء المادية وحاضرها ومستقبلها ينبسط دفعة واحدة في المكان.»
89
بذلك لم تقتصر الديمومة على الذات الفردية، بل امتدت إلى العالم المادي ليتصف هو الآخر بالجدة والإبداع المستمر.
أما عن هوسرل (1859-1938م) مؤسس فلسفة الظاهريات فقد رفض رؤية الظواهر في المكان واتجه لرؤيتها في الزمان، خاصة وأن الفينومينولوجيا (أو الظاهريات) قد نشأت أساسا كتحليل للشعور الداخلي بالزمان؛ فالشعور عند هوسرل يتكون في ثلاثة أبعاد للزمان هي التوتر والاستدعاء والانتظار.
90
ونقطة البدء عند هوسرل هي الأنا المتعالية وعالمها المتفرد وحريتها وتجربتها الحية التي أحالت كل الظواهر إلى تجربة حية في الشعور. فكان زمانها هو زمان الذاتية الداخلي أو الباطني. يقول هوسرل في «تأملات ديكارتية»: «إذا كان الأمر يختص بحالة من حالات الشعور يكون فيها الموضوع المفكر فيه، موضوعا من موضوعات العلم، فإنه يجب أن نميز المدة الموضوعية التي تظهر من المدة «المباطنة» لعملية الشعور. فهذه المدة تنقضي على فترات، وعلى مراحل زمنية خاصة بها.»
91
وبفضل تلك المدة المباطنة تظهر جميع «حالات الأنا التي يمكن تأملها بحسب ترتيبها في الزمان - على نحو متتال - أي أن لها بداية ونهاية فيه، في داخل الأفق اللانهائي والدائم للزمان المباطن. ويمكن أن نعبر عن التمييز بين الشعور بالزمان وبين الزمان ذاته بوصفه تمييزا بين حالة الشعور الداخلية في الزمان، وبين الأحوال الزمنية لظهوره.»
92
إذا انتقلنا إلى فيلسوف آخر تناول التجربة الذاتية كمحور هام لفلسفته نجد هيدجر (1889-1976م) - أحد أهم تلاميذ هوسرل - قد تناول مشكلة الزمانية بأبعاد جديدة في كتابه «الوجود والزمان» ربط هيدجر الوجود بالزمان في علاقة جدلية انتهت إلى أن الموت هو إمكانية عدم وجود الذاتية بل هو أعلى إمكانيات هذا الوجود. فكان الموت هو المعيار الغائي للزمانية، وإمكانية ستحدث حتما في لحظة زمنية محددة لكل إنسان، هذا المخلوق المحكوم عليه بالفناء، والذي يجب أن يواجه مصيره بمفرده في تجربة منفردة، وكأن الوجود هو الوجود-للموت. وانتبه هيدجر إلى ما سماه «الاستباق إلى الإمكانيات الخاصة للفرد» وهي قدرة الآنية على استباق ذاتها إلى ما لم يوجد بعد - أي إلى موتها - هذه القدرة على أن تكون في المستقبل هي التي تمكنها من الرجوع إلى زمنها المنقضي وصونه من الضياع، فكأن استشعار الموت والإحساس بالنهاية هو الذي يحيى الماضي «إن الزمن المنقضي ينبثق على نحو من الأنحاء من المستقبل.»
93
لم يعد الزمان سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه. فالمجال الزمني هنا هو الانفتاح أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل في عناق الحضور.
94
هذا الحضور يعني الحاضر بلغة هيدجر، فإذا ذكرنا الحاضر فلا بد لنا أن نذكر زمن الماضي وزمن المستقبل. وقد وضع هيدجر هذه الأبعاد الثلاثة في كليتها والحياة الفردية نصب عينيه. واعتبر أن الزمان الحقيقي هو وحده هذه الأبعاد في لحظة التصميم، وهي لحظة تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، ليؤكد فكرة استباق الإنسان لإمكانياته الخاصة.
هكذا نجد أن كلا من هوسرل وهيدجر قد حصرا نفسيهما في الزمان الذاتي للفرد، ولم يختلفا كثيرا عن برجسون. فالفلاسفة الثلاثة قصروا تحليلاتهم على ما يمكن أن نسميه زمان الذاتية الفردية. أما مشكلة الزمان التاريخي فلم تحظ باهتمام أي من الفلاسفة السابقين الذين تناولوا مشكلة الزمان. وعلى مدى تاريخ الفكر البشري سادت دائما فكرة أن هناك زمانين: زمان الطبيعة الكمي، وزمان الوجدان الكيفي. وفي عرضنا لمشكلة الزمانية وجدنا كيف فرق الفلاسفة بين الزمانين تفرقة حاسمة وقاطعة، وأن كل من أخذ بأحد الزمانين كان لا بد له من إنكار الزمان الآخر. ففريق يقول بالزمان الكمي، وفريق آخر ينكره لحساب الزمان الكيفي. كان لا بد من الاختيار، هذا، أو ذاك! أما التداخل بين الزمان الكمي والزمان الكيفي فلم نجده إلا عند بلوخ.
لقد أدرك هيدجر - كما أشرنا من قبل - العلاقة بين الزمان والإمكان، ولكن من منظور الزمان الذاتي. وإذا انتقلنا الآن إلى بلوخ، فيلسوف الإمكان، فكيف ارتبط الزمان عنده بمقولة الإمكان، وهي أهم المقولات في فلسفته اليوتوبية؟ الحق أن واقعية مقولة الإمكان تتعلق بالزمان، فليس هناك معنى للحديث عن الإمكان إلا حيث يكون هناك مستقبل، كما أن كل حديث عن المستقبل هو بالضرورة حديث عن الإمكان، لأن كل ما هو ممكن ولم يتحقق بعد في الواقع لا بد أن يصبح في المستقبل واقعا، وإلا لم يكن ممكنا بل مجرد شيء غير واقعي. فالمستقبل بحسب طبيعته وماهيته ليس إلا الوجه الزمني للإمكان. كما أن الإمكان ليس إلا جهة ذلك الامتداد الزمني الذي نسميه المستقبل. (6) الزمان التاريخي عند بلوخ
إن مشكلة الزمان التاريخي الذي تتفاوت سرعته وكثافته (من ناحية الامتلاء بالمضمون) لم يلتفت إليها أحد ممن عالجوا مشكلة الزمانية. فالزمان يتفاوت ويختلف سواء نظرنا إليه من جهة الماضي الذي تحرك في مراحل تطور مديدة وبطيئة أو في مراحل ثورية متوثبة وغير متجانسة، أو نظرنا إليه من زاوية المستقبل الذي تلح عليه الإمكانات المتلاحقة وتتميز بعض لحظاته المنتظرة بشدة الإحساس بالتوقع - ويتغلغل الزمن في الأحوال الثلاثة ويفقد طابعه «التاريخي» أو الزمني الخالص - فقد توجد فيه «مناطق» تركيز مكثفة تتسم بالقرارات الجادة والحاسمة، بجانب مناطق أخرى مسطحة ورتيبة إلى حد كبير. كل هذا يؤكد أن مشكلة بناء الزمان أو بنيته يجب أن تبحث في علاقتها الوثيقة بالإمكان الجديد.
يوجد عند بلوخ هذا التداخل العميق بين الزمان الفلكي والكوني الذي لا يخلو عنده من التطور والصيرورة الكيفية المتجددة، وبين زمان التجربة الإنسانية التي تصنع التاريخ البشري المتجدد باستمرار. فهو يؤكد أن مشكلة الزمان التاريخي الذي تتفاوت كثافته وسرعته وتتخذ صورا مختلفة لم تناقش بعد مناقشة وافية. والزمان بأكمله ليس هو فحسب الزمان المتتابع في خط واحد، وهو الزمان الذي يحسب بالساعات. صحيح أن الزمان يوجد مستقلا عن الإنسان، ولكنه من جهة الماضي ليس مستقلا عن المضمون المتحرك المتغير الذي يمثل الزمان مجاله العيني ؛ ولهذا لا يخلو زمان الساعة المطرد المتتابع في صورة كم مجرد ومتكرر، لا يخلو من الزمان الواقعي على اختلاف صور هذه الواقعية.
95
والزمان الكوني من منظور الماضي قد مر بمراحل تطور طويلة متجانسة، كما مر بفترات قصيرة تميزت بالتفجر وعدم التجانس. ومن ناحية المستقبل بما ينطوي عليه من إمكانيات مختلفة تنزع إلى التحقق، فإن الزمان مختلف في الحالين، ويفقد صورة التتابع المطرد في خط مستقيم. ويترتب على هذا أن كميات (آنات) الزمان المختلفة ليست متجانسة، وإنما هي في معظم الأحوال متفاوتة تفاوتا كيفيا عن بعضها البعض. ويتجلى هذا قبل كل شيء عندما نقارن بين أشكال الماضي من ناحية تاريخ الطبيعة، وأشكاله من جهة تاريخ البشرية، فنتبين أنهما لا يسيران في خط واحد. فملايين السنوات التي استغرقتها العصور الجيولوجية لم تمر بنفس الطريقة التي مر بها زمان البشر التاريخي ، ولم تتتابع على سبيل المثال تتابع الحرب البلوبونيزية والحروب الصليبية. إن الزمان الجيولوجي أو بالأحرى الزمان الكوني ليس أطول بما لا نهاية له من زمان التاريخ البشري الذي نحسبه عادة بما لا يزيد عن تسعة آلاف سنة. بل إن الماضي الكوني بكل ما تم فيه من أحداث وما احتواه من مضامين ليس مجرد ماض انقضى وإنما هو باق ومحيط بنا إحاطة هائلة.
96
يضاف إلى هذه التفرقة بين الزمان الطبيعي والزمان التاريخي، أن التاريخ البشري نفسه توجد فيه أشكال من التاريخ الزمني الذي يشبه تتابع الزمان الفلكي أو زمان الساعة كما فيه عصور تاريخية متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بمضامين التطور ومعانيه المختلفة في الاقتصاد والفن والتقنية ... إلخ، ومعنى هذا أنه لا يصح أن نساوي بين البناءات المختلفة للزمان في داخل التاريخ البشري نفسه.
97
فنحن نجد في داخل هذا التاريخ البشري صورا مختلفة من التفاوت الكيفي والكثافة النوعية، نجد مجالات إمكان تتميز بقدر عال من الحسم والالتزام، بجانب مجالات أخرى شديدة التسطح والاستواء. هناك أزمان تميزت بتجانس شديد وأزمان أخرى وقعت فيها تصادمات مروعة. ولذلك يجب التفكير في البنية الزمنية المرنة في التاريخ بالمقارنة بتصور المكان في هندسة ريمان (1826-1866م) الذي وضع نسقا لهندسة لا إقليدية، هندسة ربطت المكان بالمادة وجعلته متغيرا تبعا لتغيرها. هذا التصور المرن للمكان عند ريمان يجعلنا نتصور مفهوم الزمان التاريخي تصورا مرنا. فاعتماد المكان على المادة أو الموضوع المادي الذي يحل فيه ويغير مقاييسه - طبقا لهندسة ريمان - لم يجعل من المكان شكلا متجانسا وساكنا، بل أصبح متعلقا بالحدث المادي المتغير؛ ولذلك فإن التوزيع والحركة المختلفة للمادة في الكون هي التي تحدد المقاييس المكانية المختلفة عن المقاييس الإقليدية.
98
هذا التصور يمكن أن يطبق بالمماثلة على مفهوم الزمان التاريخي الذي يختلف فيه توزيع المادة، بذلك يمكن أن نتصور الزمان التاريخي ذا اتجاه وقابلا للانحناء والانكماش أو الامتداد، أي متغيرا بحسب المضامين التي يملأ بها.
99
إن تقسيم الزمان الإنساني - على حسب الأحداث - إلى عصور قديمة ووسيطة وحديثة لا يجعل منه زمانا تاريخيا، لأنه يظل زمانا تأريخيا، فليس التأريخ ولا الكتابة التاريخية هي التي ميزت وحددت الأبنية الزمنية، بل أنظمة الوجود والوعي التاريخي، وذلك مثل زمان العمل الذي يقاس بحسب الإنتاج الذي يتحقق فيه، والزمان الإبداعي في الموسيقى والشعر وأشكال العبارة، كالزمان المتطاول في «الفوجة»
Fuge ، والمتوتر في السوناته، وزمان الدراما. وللحضارات أيضا زمنها المختلف والخاص بها كما يتجلى في أساطيرها ودياناتها، كالزمان الإغريقي الذي هو بلا مستقبل، والزمان المسيحي المستقبلي.
100
كذلك هناك زمان اللحظات الممتلئة أو «الكايروس
Cairos ». من هنا يختلف بناء الزمان التاريخي، زمان الأحقاب والعصور الممتلئ، عن زمان الساعة المتجانس. إن تقييم هذه الأبنية الزمنية التاريخية - التي تستمر بالتطور الاقتصادي والتقني والفني - يكون حسب الهدف الذي يغير هذه الأبنية نفسها ويفاضل بينها بما يماثل الزمان «الريماني» الذي تتعدد أبنيته بحسب تعدد وتغير مضامينه وأهدافه، كما يسمح بالتفرقة بين زمان ما قبل التاريخ - جيولوجيا وكوزمولوجيا - وبين الزمان التاريخي الإنساني الحضاري، وهو الزمان الكيفي الكثيف في بنائه.
101
إن الزمان كالهيكل العظمي، والبنية الزمنية لا قيمة لها في حد ذاتها. فالزمان التاريخي - كما سبق - لا يعرف بنية زمن الساعة المجردة المحايدة، لأنه يتغير حسب مضمونه التاريخي والإنساني، ولأن بنية الزمان التاريخي المتطور لا تنفصل عن بنية الحياة الاجتماعية.
102
والتصور الجدلي للزمان يسمح بتصور العمليات المتطورة والمتغيرة فيه. وهذا التصور الجدلي يختلف بالضرورة عن التصور السكوني للزمان، وهو تصور إقليدي صوري. فالتطور لا يتم في شكل تسلسل زمني متجانس، بل يدور في مستويات زمنية متداخلة ومتقاطعة. والزمان في سياقه الواقعي يتميز دائما بالانفصال وعدم التجانس حتى بين لحظاته المتزامنة أو المتعاصرة، ويمكن أن نتصور أزمنة مختلفة متعاصرة في أماكن مختلفة. فاليوم الذي سقطت فيه القنبلة الذرية على هيروشيما ينتمي لنظام تاريخي مختلف عن نفس اليوم الذي عاشت فيه الولايات المتحدة أو أوروبا بعيدين عن تلك الكارثة المدمرة التي حددت المستقبل في الحالين بصورة مختلفة. والحياة في قرية هندية بسيطة في إيقاع سرعتها مختلفة عن الحياة في مدينة أوروبية كبيرة. كما أن التاريخ في عشيرة أفريقية يتميز بزمانية مختلفة عن تلك التي نجدها في مجتمع حديث متطور، فكأن هناك مستويات وصورا مختلفة للتزامن من النواحي التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية تنطوي في ذاتها على صور أخرى من عدم التزامن.
103
ونستطيع أن نقول: إن الفترات الزمانية المتعاصرة من الناحية التاريخية تنطوي في نفس الوقت على اختلافات كيفية في داخل العصر الواحد، أي أن هناك عدم تعاصر في داخل التعاصر، وكأن الحاضر التاريخي يتميز بمستويات وطبقات مختلفة.
إن بنية الزمان التاريخي المتطور تتم في إطار وحدة كونية-إنسانية تظل في حالة صيرورة متنوعة الأشكال، وكأن هذه الوحدة التاريخية والكونية الفعالة والمتطورة هي الشكل الزمني للهوية، أي هي صيرورة اتحاد الذات البشرية والطبيعة الكونية في الزمان صوب الكلي والجديد النهائي. هذه الوحدة التاريخية والكونية تكون كالبذرة في حالة بدء، وتكون مستمرة لكي تتطور باستمرار نحو حالة من «عدم الاغتراب» في علاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة. بذلك لا يكون الزمان محايدا ولا خارجيا أبدا بالنسبة لمضامينه المتغيرة المتنوعة. وهو باعتباره أسلوب الوجود المفتوح للمضامين وللحركات والعمليات المادية يشارك فيها مشاركة مرنة، كما يحدد عن طريقها - على هيئة عصور تاريخية ومناطق حضارية - تحديدا ماديا.
104
هكذا قدم بلوخ تصورا لمشكلة الزمان يتفق مع رؤيته الجدلية لكل ما يدور على المستوى الإنساني والكوني. فإذا كان المكان والزمان بعدين هامين لتحديد الوجود، فلا بد من فهمهما فهما غير تقليدي، وإذا كان الوجود متغيرا وغير ساكن، فلا بد أيضا أن يكون ما يحدد هذا الوجود متغيرا متحركا وغير ساكن. وقد استطاع بلوخ أن يربط جدل الزمان - كأحد بعدي الوجود - بمقولة الإمكان، فالآن الذي يوجد فيه «ما لم يوجد بعد» ليس هو الحاضر تماما، لأن الآن يتضمن الماضي والمستقبل معا. يصدق هذا - من وجهة النظر الجدلية - على كل أشكال الوجود التي يمكن التعرف على صيرورتها وتفانيها، كما يستحيل أن ينفصل فيها الجانب المنطقي عن الجانب التاريخي. وهذا ما عبر عنه مفهوم بلوخ عن الزمان، وهو مفهوم تأثر إلى حد كبير بأهم أفكار النظرية الماركسية ألا وهي فكرة المقايضة، وإن كان قد تجاوز النظرية إلى آفاق أرحب وأوسع بكثير، فتفرقته بين زمن الساعة، المتواتر أو المتجانس في مقاييسه الكمية تنبع - في رأينا - من فكرة المقايضة أو القيمة المتبادلة للسلع، وهي التي تسوي تسوية كمية من ناحية السعر بين أشياء مختلفة فيما بينها اختلافا شديدا من الناحية الكيفية. إن الزمان لا تتتابع فيه الأحداث واحدا بعد الآخر كما لو كان قناة أو أنبوبة طويلة تتلاحق فيها أحداث التاريخ بالتدريج، وليس الزمان مخططا مجردا للتغير، وإنما هو المجال العيني المرن لهذا التغير.
ولما كان الزمان يتغير وفق نوع التغير وطريقته ومضمونه، أي أنه هو الزمان المتغير بحسب المضامين التي يملأ بها، ولما كان بلوخ يتصور زمان العمل بأنه هو الذي يقاس بحسب الإنتاج الذي يتحقق فيه، فإن هذا التصور يمثل أيضا - في رأينا - أثر الفلسفة الماركسية عليه في فكرة من أهم أفكارها وهي «القيمة»، فالقيمة الحقيقية للسلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها، وتقدر هذه القيمة تبعا للزمان المخصص لإنتاج السلعة، وربما كان هذا سببا في أنه لم ينظر إلى المكان - وليس الزمان فقط - نظرة تقليدية. فلم يتصور المكان - كما فعل أرسطو مثلا - وكأنه وعاء هائل أو حقيبة كبيرة تحتوي الأشياء والأحداث التاريخية، بل تصور المكان الذي يتشكل فيه الوجود تصورا غير تقليدي، أي في إطار ما يسمى بمكان «ريمان» ذي الأربعة أبعاد الذي قامت عليه نظرية النسبية العامة لأينشتين، وهو مكان طيع بالنسبة للأحداث المادية التي تتفاعل فيه، ومن ثم تختلف مقاييس هذا المكان ولا تتحدد بمقياس واحد، لأنه يعتمد اعتمادا كليا - أو سببيا - على المادة ويتغير بتغيرها. كذلك فإن الزمان عند بلوخ أسلوب وجود مفتوح على المضامين المادية، فهذه المضامين هي التي يتحقق فيها اتحاد الذات والموضوع تحققا جزئيا، وهي التي تمتلئ بها لحظات متميزة في التاريخ بما تحويه من تغير وجدة وإبداع. فما هي إذن هذه اللحظات، وإلى أي مدى امتلأت بالخير الأسمى؟ وهل كانت لحظات ممتلئة بحق، أم كانت إعدادا للحظات أو بالأحرى للحظة أخرى بذاتها يقصدها بلوخ، وما هي هذه اللحظة المقصودة؟
ثالثا: اللحظة الممتلئة
يسعى بلوخ للوصول إلى اللحظة الممتلئة؛ تلك اللحظة التي يتحد فيها الذات والموضوع، ويتحقق فيها الوجود الأسمى. وهو يفتش عن هذه اللحظة في معنى أو مغزى الأعمال الأدبية في التراث الأدبي العالمي، وفي البناء السيمفوني للموسيقى التي يعدها أهم الفنون التي يتحقق فيها الوجود الأسمى، كما يتتبع الحضارات البشرية القديمة والحديثة التي وجدتها في لحظة الموت، والحضارات التي وجدتها في الدين، وأخيرا يلتمس اللحظة الممتلئة في الخير الأسمى. لكن إلى أين انتهي بلوخ بعد رحلته الطويلة في تاريخ الفكر والحضارات البشرية المختلفة؟ أين وجد اللحظة الممتلئة؟ وكيف يتحقق فيها الوجود الأسمى؟ (1) اللحظة الممتلئة في المغزى الأدبي
يستعرض بلوخ بالدراسة والتحليل العديد من الأعمال الأدبية التي تجعل من اللحظة محورا لها، ساعية بذلك إلى تحقيق الوجود الأسمى أو الاقتراب منه. أهم هذه الأعمال وأكثرها قربا من عقل بلوخ ووجدانه ومن لحظته الممتلئة التي تنشد هذا الوجود الأسمى، قصيدة جوته الدرامية الكبرى «فاوست»، ثم يقارن البحث بين اللحظة التي جربها فاوست وبين اللحظة في عمل أدبي آخر وهو «دون كيشوت» لسرفانتيس، وأخيرا يتتبع تطور الوعي اليوتوبي في فاوست بالمقارنة مع تتبع مراحل الوعي في ظاهريات الروح لهيجل.
لا شك أن جذور فلسفة بلوخ راسخة في التراث الألماني برمته. يتساوى في هذا الفلسفة بمدارسها المختلفة، والأدب بكل فروعه، والموسيقى بتنوع أشكالها، والفنون التشكيلية والمعمارية على اختلافها، والشعر في شتى صوره. وعلى الرغم من ذلك لم نجد فيلسوفا أو أديبا أو موسيقيا أو فنانا أو شاعرا قد ترك بصماته بوضوح كامل على فلسفة بلوخ مثلما فعل جوته شاعر الألمان الأكبر. فقد تمثل بلوخ كل أعماله وتغلغلت في كيانه وسيطرت على عقله ووجدانه؛ مما دعا بعض الباحثين إلى القول بأن مفتاح بلوخ الأدبي يكمن في فاوست جوته التي كان بناؤها حاضرا في كل أجزاء مبدأ الأمل التي امتلأت بإشارات واضحة أو مضمرة لهذا العمل الكبير.
105
ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا يخلو فصل من فصول «مبدأ الأمل» من ذكر جوته والاستشهاد بنصوص من أعماله أو أبيات من شعره.
إن جوته في رأي بلوخ مثال على حضور العقل
في اللحظة. وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ التي تملك قدرة غير عادية على الاتصال الحقيقي باللحظة من خلال التجربة، أي لديهم القدرة على الفعل في اللحظة. ويتمتع جوته أيضا برؤية عينية ثاقبة لواقع اللحظة غير الملحوظة أو غير المرئية التي ليس لها امتداد تاريخي، ويشهد على ذلك عبارته الشهيرة لحظة تقهقر الجيوش البروسية أمام الجيش الفرنسي: «اليوم ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ العالم، ويمكنك أن تقول إنك حاضر في بدايتها.» غير أن هذه اللحظة الحاضرة أو اللحظة المعيشة التي تشير إليها عبارة جوته ليست هي الوجود الحقيقي، لأنها - في حد ذاتها - لحظة مظلمة لم تسلط عليها الأضواء وليست منفتحة على المستقبل.
106
والظلام الذي يحيط بها أو يغلفها يمكن أن ينقشع إن عرفنا الأمل أو الجديد الذي يكمن فيها، ولهذا يجب النظر إليها نظرة يوتوبية نتجاوز فيها اللحظة المظلمة إلى لحظات أخرى نستشرف فيها المستقبل.
يرى بلوخ في كل من حياة جوته وأعماله مثالا على هذا التطور اليوتوبي . فهو يجد في «آلام فيرتر» من أعمال جوته المبكرة حالة يوتوبية للمشاعر، لكنها يوتوبيا من النوع السلبي أودت بحياة صاحبها ودفعته للانتحار. ثم تطور الوعي اليوتوبي عند جوته فلم تعد شخصيات رواياته مستعدة لتقبل الأشياء كما هي، بل هجرت العواطف غير الناضجة وتفجرت بعواطف أكثر حدة وتحديا. تركت تلك الشخصيات المعاناة السلبية، وعبرت عن نفسها بالتمرد والمعارضة، وتخلت عن مواقفها السلبية من المجتمع. وجاء هذا التحول عند جوته مع حركة «العصف والدفع» فكانت مسرحيات «بروميثيوس» و«جوتس فون برليشنجن» و«أجمونت» وغيرها من قصائده وأعماله. وتحول قلق جوته من قلق الشباب المندفع إلى قلق الإبداع أو الإنتاج، كما تحول معه القصد اليوتوبي إلى قصد السمو أو الجلال
Intention of Sublimity
كما يتضح من هذه الأبيات:
حنين عذب يستعصي على التفسير
دفعني لعبور الغلبة والتلال،
وعندما كانت آلاف الدموع تحرقني
كنت أشعر أن عالما يرتفع في داخلي.
107
إن خيال جوته الشعري المبدع قد خلق له عالما ثانيا، ولكن هذا الخيال ليس من قبيل الخيال الذي يحلق في الأفق بعيدا عن الواقع، وإنما هو «خيال موضوعي» مغروس في ظروف يوتوبية لا تبعد عن الواقع ولا تفارقه. بل إن واقعية جوته ليست واقعية سطحية تلمس قشور الواقع فقط، وإنما تجد في كل أشكاله التي يظهر فيها تشبيها أو استعاره تدل على الوجود اللامتناهي. وعلى الرغم من هذه الواقعية التي تطبع حياته وإنتاجه بطابعها، نجد في عالمه أشياء تظل دائما مجرد رغبة أو شوق لم يتحقق قط، وربما بدا هذا واضحا في شخصية «مينون» الغامضة في رواية «فيلهلم ميستر». فقد ظلت هذه الشخصية رمزا للشوق ولم تهبط عواطفها على الأرض ولم تظهر للوجود.
108
وإلى جانب الشرق أو الرغبة التي تظل على مستوى الرغبة، نجد لديه رغبات تشعرنا بقدراتنا الداخلية كما يقول جوته في الكتاب التاسع من سيرة حياته «شعر وحقيقة»: «إن رغباتنا هي إحساسات مسبقة بالقدرات الكامنة فينا، وهي تدل على ما سوف نتمكن من تحقيقه، وما نقدر عليه ونرغب في عمله يتمثل لخيالنا على أنه يقع خارجنا وفي المستقبل؛ ولهذا نشعر بالشوق إلى ما نتملكه بالفعل بطريقة خفيه. ومن ثم يحول التوقع الحار الممكن الحقيقي إلى واقع متخيل. وإذا كان هذا التوجه يعبر عن جزء محدود من طبيعتنا، فإن كل خطوة نخطوها في مسار تطورنا ستحقق جزءا من رغبتنا الأولى أو سيصحبها تحقيق جزء من رغبتنا الأولى. وحين تكون الظروف مناسبة يسير التحقيق في خط مستقيم، وإذا لم تكن مناسبة يتم التحقق تبعا للاتفاق والصدفة بحيث نرجع مرة بعد المرة إلى الخط المستقيم.»
109
ويظل العالم عند جوته بعيدا عن الاكتمال ولم يأخذ شكله النهائي. وتظل عبقريته في حالة تطور إبداعي، حتى إذا وصلنا إلى أهم وأكبر أعماله، وجدنا فاوست هو المثال الأسمى للرجل اليوتوبي. ذلك أن فاوست هو الرمز المجسد للقلق، وفيه يكتمل القلق اليوتوبي، إنه المغامر إلى ما وراء الحدود، والمخاطر للبحث عن الجديد . وفاوست هو كذلك رمز التعطش الدائم للمعرفة، وقد كان دائما يزداد غنى بتجربته التي تقوده إلى ما وراءها. في فاوست تنطلق الإرادة الثائرة، إرادة القصد، وتتحقق بالمعنى الجدلي مرحلة التوسط بين الذات والعالم. وتتشكل هذه الإرادة في العالم ومن خلاله للوصول إلى القصد اليوتوبي - الذي تريد فلسفة بلوخ بلوغه - أي إلى اللحظة الممتلئة
Fulfilling Moment ، لحظة الوجود الكامل والمطلق.
110
هذه اللحظة الممتلئة هي موضوع فاوست بأكملها، منذ أن عقد الرهان مع الشيطان وانطلق لاهثا - بنفس الإرادة التي عقد بها الرهان - للبحث عن تلك اللحظة التي يمكنه أن يقول لها «تريثي قليلا، فما أجملك!» ولكنه لم يصل إليها أبدا. إن الذات لا تنظر في هذه اللحظة إلى نفسها، وإنما تنظر إلى العالم الخارجي وتتمرس بتجربته، وتظل محاطة بالعالم. ويغامر فاوست بعباءته السحرية وينطلق في العالم، إلى ما وراء كل شيء، وتجربته مع العالم هي بمثابة رحلة جدلية متصلة. فكل لذة يحققها تلغيها رغبة جديدة تستيقظ في داخله، غير أن اللحظة الجميلة التي يمكن أن يتوقف عندها لا تأتي أبدا.
لم يبحث فاوست عن فكرة مجردة، بل تحولت الفكرة عنده إلى تجربة عينية. فمنذ «حانة أورباخ» في القسم الأول من فاوست إلى «شعب حر على أرض حرة» في نهاية القسم الثاني نجد ألوانا من الصراع وتجارب عديدة للبحث عن الوجود الأسمى.
111
لقد أعطى جوته الرهان صياغة يوتوبية عميقة تتجاوز الوجود هنا لتصف الوجود هناك، أي الوجود الأسمى في العالم. وتظل لحظة السكون والاستقرار غائبة في فاوست. وحتى عندما يتكلم في النهاية عن أرض فردوسية، تظل اللحظة وكأنها بلد آخر إنساني. إن مضمونها أيضا هو القصد البشري. وهي لا تشترك في شيء مع اللحظات العابرة التي يعيشها الإنسان من يوم لآخر، فالإمساك بالذات والسيطرة على الوجود مختلفان كل الاختلاف عما تقوله الحكمة القديمة: تمتع بيومك
Carpe diem ، ولو لم يكن الأمر كذلك لانتهت فاوست في «حانة أورباخ». معنى هذا أن لحظات المتعة العابرة التي مر بها فاوست لم تكن هي لحظات الوجود الحقيقي، وأن التمتع باللحظة الأسمى يأتي في النهاية. ويؤكد هذا أن الفعل الأخير الذي يقوم به فاوست ينطلق من روح التفاني التي يحملها للبشر، أي من قربه الشديد من الإنسان. هنا يتحول الكون الأكبر إلى شعب حر على أرض حرة. وهنا يتحقق المعنى أو المغزى من كل هذه الدراما الكونية. وكأن لحظة العمل الأخيرة تجمع العالم كله في نقطة واحدة. وبهذا يثبت فاوست في النهاية أن كفاحه أو سعيه غير المشروط لم يكن سعيا إلى اللامتناهي بالمعنى الذي قصده هيجل من اللامتناهي السيئ. ولم يكن أيضا هو الله المتعالي.
112
إن الدراما الإنسانية الحقة التي يصورها فاوست في النهاية التي يجرب أو يستشعر فيها اللحظة الأسمى هي التي تلخص مغزى النهاية. فالخير الأقصى لم يتجه إلى إله متعال أو إلى عالم متعال مطلق، وإنما اتجه إلى مملكة الإنسان، لأن اللحظة الفاوستية خالية من أي طبيعة متعالية، ومطبوعة بشكل واضح بالطابع الإنساني. إن الكفاح والسعي والقصد النهائي في نهاية فاوست هو هذا المغزى الإنساني للحظة إنسانية. ففعل فاوست الأخير (وهو حفر القناة واستخلاص أرض جديدة من البحر لتأسيس أرض حرة يعيش عليها شعب حر) هو ذروة الاقتراب من البشر،
113
واللحظة الفاوستية التي يتم فيها هذا الفعل تتميز بطابعها اليوتوبي الإنساني إلى أقصى حد. وهذا الجانب الإنساني الذي يظهر في نهاية فاوست يصب فيه كل قلق البدايات وكل قلق فاوست. فالبداية - كما يقول جوته - متضمنة في النهاية، كما أن النهاية تتضمن البداية. وكأن الجملة التي يخاطب فيها فاوست اللحظة بقوله: «تريثي قليلا، فما أجملك!» هي التعبير عن السعي إلى اللحظة الممتلئة، وإن كان هو نفسه سعيا مطلقا لا تشبعه أية لحظة، لأن العبرة في فاوست كلها - كما تتجلى في النهاية - هي أن فاوست استشعر هذه اللحظة الحقيقية ولم يصل إليها أثناء قيامه بعمل إنساني يهدف إلى قيام شعب حر على أرض حرة. لذلك لم تكن هذه اللحظة - كما سبق أن قلنا - غاية تصب في مطلق إلهي ولا في عالم متعال على الرغم من كل الدوائر السماوية التي تحيط بالنهاية. فالسماء في خاتمة فاوست - كما يقول الباحثون المحدثون - لا علاقة لها بالسماء المسيحية، وخلاص أو نجاة فاوست ليست خلاصا بالمعنى الديني.
114
واستخدام جوته للرموز الدينية في خاتمة فاوست لا يعني أنه يقصد المعنى الديني الذي يعطيه الدين لهذه الرموز.
115
نجد عند جوته فن التركيز على اللحظة الحاضرة والإحاطة الواعية بقيمة اللحظة.
116
فيقول على لسان فاوست:
عندئذ لا تتطلع الروح إلى الأمام وإلى الوراء؛
إذ الحاضر وحده عندنا هو السعادة والهناء.
117
لكن هل يتوقف الزمان عند هذه اللحظة بحيث لا ينظر إلى الأمام ولا إلى الوراء كما قد يفهم من هذا البيت؟ إن اللحظة الحاضرة التي يعنيها جوته ترمز إلى الماضي والمستقبل، بل هي رمز الأبدية. ويدرك جوته الثراء الداخلي للحاضر والشمولية التي تنطوي عليها اللحظة الحاضرة. وبتحديد الحاضر يتسع الإحساس لإبعاد العالم، فعندما يركز المرء تفكيره على الحاضر يكتشف أن الحاضر نفسه يحتوي على الماضي والمستقبل حيث إنه المعبر الفعلي الذي يتم فيه الفعل وحركة الواقع.
118
ويقول جوته في حديث له مع إيكرمان: «تمسك بالحاضر جيدا، فكل مناسبة فيه وكل لحظة، ذات قيمة لا نهاية لها، إذ إنه هو الذي يمثل الأبدية كلها.»
119
ومعنى هذا أن العبرة من فاوست هي أن اللحظة الحقيقية، إذا كان من الممكن أن يجربها الإنسان، لن تكون لحظة متعة عابرة وإنما هي لحظة عمل يوتوبي إنساني مكرس للبشر وقادر على تأسيس حريتهم وسعادتهم. (أ) اللحظة بين فاوست ودون كيشوت
تناول بلوخ العديد من الأعمال الأدبية الشهيرة التي تسعى شخصياتها للبحث عن مغزى الوجود في اللحظة، وتملك إرادة الفعل في اللحظة، تلك اللحظة التي تتوافق فيها العوامل أو الشروط الداخلية مع العوامل أو الشروط الخارجية لتكون لحظة ممتلئة أو لحظة يتحقق فيها الوجود الأسمى للإنسان. ودون كيشوت من أهم الشخصيات الأدبية - بعد فاوست - التي سعت لهذه اللحظة. ويعقد بلوخ مقارنة بين نوع اللحظة في كل من «فاوست» و«دون كيشوت»، فكل منهما يحلم بالوصول إلى اللحظة التي يحقق فيها وجوده الأسمى. وكل منهما يملك الإرادة لتحقيق هذا الحلم، لكن أي نوع من الإرادة تلك التي تسلح بها كل منهما؟ إن إرادة فاوست هي الإرادة الثائرة التي انطلقت ثوريتها من داخل فاوست إلى العالم الخارجي، وتوسطت هذا العالم واستوعبت ظروفه وشروطه الموضوعية، وتمرست بتجربته، وظلت في حالة انتقال من تجربة إلى أخرى ومن لحظة إلى أخرى. وهذه الإرادة الثائرة هي التي جعلت صاحبها يأتي بأفعال شجاعة ويسعى سعيا لا هوادة فيه لتحقيق الحلم.
أما عن إرادة «دون كيشوت» فهي من نوع الإرادة الضعيفة التي لم تستطع التوسط مع العالم الخارجي، بل انحصرت ثورتها في نفسها فقط.
120
لقد أخفقت إرادته في التوسط لأنها لم تع ظروف العالم الخارجي. وبالتالي لم تستوعب الواقع الذي تعيش فيه. ويعود السبب في هذا إلى أن دون كيشوت الذي يعيش في القرن السادس عشر، استمد أحلامه وآماله مما قرأه في كتب القرن الثالث عشر، فاشتد شوقه إلى البطولة والفروسية التي سادت ذلك القرن، وانطلق في رحلاته وتجواله ومغامراته يتصرف في الحياة اليومية بعقلية القرن الثالث عشر. فبدا كشبح من لحم ودم يأتي بأفعال باعثة على الضحك والسخرية، ويتصرف بمنطق عصر مختلف عن عصره ، ولم يفهم التغير الأيديولوجي الذي طرأ على عصره.
121
انفصل دون كيشوت عن الواقع العيني الذي كان يعيش فيه، فكانت مغامرته إلى الماوراء مفارقة تاريخية اجتماعية. ولهذا السبب عينه لم تؤت تجربته في العالم ثمرة إيجابية، ولم يصل للحظته المنشودة أبدا.
بنى دون كيشوت لنفسه جسرا بين الواقع الموجود والوجود الأسمى الذي يسعى للوصول إليه، ولكن إرادته لم تتوسط مع العالم الخارجي أو التاريخي، ولم يدرك الممكن الموضوعي فيه.
122
ولذلك افتقد المعرفة بعصره الذي يعيش فيه، أي افتقد المعرفة بالواقع الحاضر. واتجه حلم اليقظة لديه إلى العصر الذهبي القديم، وبمعنى آخر لم يتجه التوقع - الذي يميز حلم اليقظة - إلى الأمام ولا إلى المستقبل، بل تقهقر إلى الوراء إلى الماضي، وراح يتبع صورة مضت ولن تعود أبدا، ولم تكن هذه صورة الحلم بحياة أفضل في المستقبل، بل الحلم بفروسية وبطولة العصور الوسطى التي انقضت، دون أن يدرك دون كيشوت التغيرات والتقلبات التي حدثت في عصره. ويعزو بلوخ إخفاقه هذا إلى نزعته المثالية المجردة التي فصلته عن عصره فأتى بأفعال تبدو جنونية لمعاصريه.
123
ولم يصل دون كيشوت إلى لحظته الممتلئة والمنشودة إلا على فراش الموت، عندما عرف حقيقة نفسه لأول مرة في اللحظة الأخيرة من حياته، وهي لحظة اليقظة الحقيقية في حياته، ولحظة المعرفة التي حلقت فوق رأسه على فراش الموت وأفاقته من الوهم الذي سيطر عليه طوال عمره. كانت تلك اللحظة الكبرى ذات مغزى وفيها تحولت يوتوبيا دون كيشوت إلى يوتوبيا عينية، على النقيض من اليوتوبيا المجردة التي صاحبت خياله طوال رحلاته، وجعلت منه مثالا للرجل الذي لم يتعلم شيئا من العالم ولا من التجربة،
124
وذلك على خلاف فاوست الذي ظل يتعلم من تجاربه في العالم منذ أن عقد الرهان مع الشيطان. (ب) الجدل بين فاوست و«ظاهريات الروح»
يعقد بلوخ موازنة بين ما نلمسه من جدلية في رحلة «فاوست» وبين الرحلة الجدلية للروح المطلق عند هيجل في «ظاهريات الروح».
125
وإذا كانت فاوست تلخص في حياة فرد واحد وتجاربه ومصيره تطور البشرية كلها، فإن ظاهريات الروح تلخص المراحل التي قطعها الوعي البشري في مجرى التاريخ. إنها رحلة تصاعدية لكل منهما، تبدأ من الذات إلى العالم الخارجي الواسع، ويتغير فاوست مع العالم، كما يتغير العالم مع فاوست. هذا التبادل بين الذات والموضوع هو رحلة الخروج من الذات والابتعاد عنها من خلال التجربة في العالم، لترتد مرة أخرى إلى ذاتها في لحظة الوجود الأسمى.
يبدأ البناء الجدلي لكل من فاوست والظاهريات من الحس المباشر، أي من المرحلة الحسية، فهناك تناظر بين مراحل المعرفة في كل من فاوست والظاهريات، فمروج الأزهار بعد جريتشن في القسم الأول من فاوست - حيث انغمس في كل ألوان المتع واللذات الحسية - تمثل المرحلة الحسية للمعرفة في فاوست، ثم الانتقال إلى مرحلة عقلية وفكرية أعلى في تأمل الجمال الخالص واستحضار التراث كما في سلسلة الجبال العالية في الفصل الرابع من القسم الثاني، فبعد أن عادت هيلين إلى عالمها السفلي، طار فاوست بردائه السحري وحط على جبال عالية، وهناك يصعد فاوست من المجال الحسي الجمالي إلى المجال الأخلاقي.
126
ويصرح جوته نفسه بهذا التدرج المعرفي في حديثه مع إيكرمان في 17 / 2 / 1831م حين يقول: «إن القسم الأول ذاتي تماما، فكل شيء انبثق عن شخص أناني شهواني، أما في القسم الثاني فلا يكاد يوجد فيه أي عنصر ذاتي، بل يتجلى ها هنا عالم أعلى وأوسع وأنصع لا مجال فيه للشهوات.»
127
ومن أقوال أخرى لجوته يؤكد أن القسم الأول ذاتي وجداني، والثاني عقلي موضوعي.
128
وهذا أيضا ما عبر عنه جوته على لسان مفستوفيلس في حديثه مع فاوست:
ستشاهد العالم الصغير، وبعد ذلك العالم الكبير.
129
وتلك هي المستويات أو الخطوات المعرفية للفكرة التي تجعل كلا من الظاهريات وفاوست متشابهين من الناحية المنهجية
130
حيث تتطور المعرفة بالذات إلى المعرفة بالكون، كما تتجلى الرغبة في كل منهما في أن يدرك الإنسان ذاته باعتباره سؤالا ويدرك العالم باعتباره جوابا. ومن ناحية أخرى يمكن القول بأن العالم في العملين هو السؤال وأن الذات هي الجواب. فالذات تعاود رحلتها داخل الموضوع (أي العالم) لتلتمس فيه الإجابة من خلال الموضوع نفسه، كما أنها بتجربتها لهذا الموضوع تصل إلى مستوى جديد من الذاتية.
131
فليس فاوست الذي ينطلق على سجيته في «حانة أورباخ» هو نفسه فاوست الذي يتمتع بالسلطة في قصر الإمبراطور. يختتم هيجل ظاهرياته بقوله: «وعندما يبدو في النهاية أن العقل يبدأ عملية خلقه من جديد من البداية، فالواقع أنه يبدأ في هذه الحالة من مستوى أعلى (...) إن هدفه هو الكشف، هو إلغاء لعمقه أو امتداده وهو سلبية هذه الأنا التي كانت وجودا في ذاته.»
132
والواقع أن مسار فاوست مرتبط بهذا المسار؛ إذ أن ذات فاوست تمتد لتصبح هي ذات الجنس البشري كله. لقد سعت هذه الذات إلى أن تتصل بكل شيء حتى بروح الأرض، وكأن فاوست هو الذات الفاعلة داخل العالم بأسره، وكأنه يتطور في كل أشكال هذه الفاعلية داخل العالم. فالنهاية في كل من فاوست والظاهريات كانت متضمنة في البداية بحيث إن الرحلة بكل مراحلها كانت نوعا من الفض المتدرج لتلك البداية. ولكن الذات التي يعود إليها فاوست والبداية التي ترجع إليها الظاهريات في نهايتها هي في الحالين على مستوى أعلى.
133
إذ إن الرحلة في كل من فاوست والظاهريات تنتهي بالعودة إلى البداية. بيد أنها ليست هي البداية الأولى، بل تتم على مستوى أعلى بعد انتهاء التخارج والاغتراب، والذات عند هيجل تعود إلى عمقها الذي انطلقت منه وهو المطلق، لكنها تعود إليه أكثر وعيا بهذا المطلق وبذاتها. وكذلك يعود فاوست إلى ذاته، ولكن بعد أن التحمت بالذات البشرية من خلال الفعل الذي يحقق «الشعب الحر على أرض حرة» أي على مستوى أعلى. والفعل الذي انتهى إليه فاوست هو رمز للحظة الممتلئة وليس هو اللحظة الممتلئة نفسها.
134
وهذا يتسق مع إيمان جوته بالفعل الذي عبر عنه في كل أعماله وقال عنه عبارته المشهورة: «في البدء كان الفعل.»
إن العبارة التي يخاطب بها فاوست اللحظة قائلا: «تريثي قليلا.» تصبح رمزا على الوصول، ولكنها تظل رمزا فحسب، لأن فاوست وفلسفة هيجل أيضا ينجحان في تشكيل القصد أو السعي اليوتوبي. وإذا كانت فاوست تنتهي بهذا البيت «ابتهجوا فقد تم كل شيء.» كما تنتهي الظاهريات بهذه العبارة: «إن العلم يظهر نفسه على شكل دائرة كامنة في ذاتها.» فإن هذا لا يمثل الذروة النهائية في الحالين. فلم تكن المشكلة في فاوست هي أن يخطو خطوات في العالم الخارجي، وإنما ظلت المشكلة هي الصراع في اللحظة، أي الصراع من أجل لحظة كاملة؛ لحظة مفعمة بالقوة وخالية من الاغتراب، وكأنها تقول علينا أن نتمتع بلحظاتنا في عالمنا هذا، وكأن مغامرة فاوست - كما سبق أن ذكرنا - لم تكن مغامرة إلى الماوراء وهذا هو الذي يضفي عليها طابع العظمة.
135
إنها لم تستلق في النهاية على فراش مريح لأن السموات التي تصورها فاوست في النهاية لا تخلو من الحركة ولا تمثل راحة أو نهاية لهذا السعي، بل إن الملائكة التي تصاحب نهاية فاوست تروي كيف أن أنتيليخياه تمضي من تحول إلى تحول أصفى منه.
136
كل فان هو رمز فحسب،
وكل ما لا يمكن الوصول إليه سيصير هنا حادثا،
وما لا يمكن وصفه قد جرى ها هنا فعله،
إن الأنوثة الأبدية تجذبنا إلى أعلى.
137
إن المقارنة التي عقدها بلوخ بين فاوست وظاهريات الروح، على الرغم من أنها تبدو موفقة إلى حد كبير، وخاصة في عرضها للتدرج المعرفي الذي يبدأ من المعرفة الحسية لينتقل إلى المعرفة العقلية أو إلى التأمل الخالص، إلا أنها - أي هذه المقارنة - تكشف عن تناقض يكمن في فلسفة بلوخ فيما يتصل بآرائه عن الفلسفة الهيجلية. فقد سبق له - كما رأينا - أن اتهم هذه الأخيرة بالابتعاد عن البعد اليوتوبي الأصيل، بسبب اعتمادها على الفكرة الأفلاطونية التي تقول: إن العلم تذكر، كما اتهم الجدل الهيجلي - على الرغم من اعترافه بأن بعض النصوص توحي بانفتاحه على المستقبل - في مواضع عديدة بأنه جدل مكتمل اكتمال الدائرة ولا يسمح بالجديد الآتي. ولكنه يعود ليوازن ظاهريات الروح بفاوست لينتهي من هذه الموازنة إلى توحيد النهاية في كل منهما، على الرغم من الاختلاف الهائل الذي ينتهي به كلا العملين. فإذا كان كلاهما رمزا للوصول، فإن الهدف الأخير الذي وصل إليه فاوست - كما يقول بلوخ نفسه - يظل رمزا مفتوحا، والفعل في نهايتها هو رمز للحظة الممتلئة فحسب، وليس اللحظة الممتلئة ذاتها.
وهذه النهاية تتفق تماما مع هدف وغاية النسق الفلسفي لبلوخ نفسه، ولكنها لا تتشابه ولا تتفق مع هدف الفلسفة الهيجلية بصفة عامة أو نهاية الظاهريات بصفة خاصة، ولا مع تلك العبارة السالفة الذكر التي أوردها بلوخ من نهاية ظاهريات الروح، فهذه العبارة لا تتفق بأي حال من الأحوال مع نهاية فاوست، ولا تتشابه معها في مضمون الهدف، لأن الفعل في هذه الأخيرة - أي فاوست - ليس هو الفعل الأخير، أما العلم في عبارة هيجل فهو ذلك النسق الذي اكتمل في شكل دائرة. والدائرة المكتملة - كما هو معروف - هي أكمل الأشكال، وهي التي لا تسمح بدخول شيء آخر يكملها أو يستكملها. إذن فالهدف في نهاية فاوست مفتوح على المستقبل، أما ظاهريات الروح فقد بلغت الهدف والغاية، وهو وصول الروح المطلق أو الفكرة العينية الشاملة إلى ذاتها. وعلى الرغم من تشابه التدرج المعرفي، وتشابه الرحلة الجدلية في كل منهما إلا أنه لا يمكن الاتفاق مع بلوخ على تشابه النهاية التي وصل إليها كلا العملين. (2) اللحظة والخير الأسمى
إذا كان مضمون اللحظة الممتلئة هو الوصول إلى الوجود الأسمى أو تحقيق الخير الأسمى، فلا بد أن ينتهي الحديث عن القيم بكل أنواعها من أخلاقية ودينية وجمالية؛ لا بد أن ينتهي إلى الخير الأسمى
Summum Bonum
باعتباره نهاية السلم في هذه القيم. وقد سبق الحديث في الفصل الثاني عن علاقة المثل بالوظيفة اليوتوبية وكيف يطمح المثل الأعلى إلى تحقيق الكمال. لذلك تجنبا لتكرار ما سبق قوله في هذا الشأن يمكن الاكتفاء بالحديث - في هذا الموضع - عن علاقة الخير الأسمى باللحظة.
ليست الصور المتخيلة للمثل العليا مجرد موضوع للتأمل وإنما هي صور تناضل من أجل أن تتسم بالكمال وتصل إليه. والقيم الأخلاقية هي مثل عليا لم تتجسد أو لم تتحقق بعد. وتتمثل القيم الدينية في المسيحية في محاكاة المسيح أو أن تكون مثل الله، أي تتمثل في قابلية توحد الذات بالمثل العليا، فكل من المثل الدينية والأخلاقية قيم معيارية يصعد الإنسان إليها شيئا فشيئا، وترتفع الإرادة البشرية تدريجيا للمثل العليا، لأنها هي إرادة الأمل التي لا حد لصيرورتها.
138
ولمشكلة الخير الأسمى جذور في العصور القديمة والوسيطة، فنحن نجدها في العصور القديمة عند الحكماء السبعة والرواقية الرومانية، كما أنها تبلورت بشكل خاص عند أفلاطون في مثال الخير، حيث تكون كل الأفعال خيرة وكل المفاهيم حقيقية بقدر ما تشارك في مثال الخير. وفي العصر الوسيط ارتبطت المثل العليا بالاتجاهات الفكرية في ذلك العصر، فارتبط المثل الأعلى بالسماء عندما تحول مثال الخير عند أفلاطون إلى الرب في المسيحية باعتباره الخير الأسمى.
أما في العصر الحديث فإن الخير الأسمى عند كانط - على سبيل المثال - هو هدف نهائي للعقل الخالص، «لا يمكن أن يعرف الخير الأسمى عن طريق العقل إذا جعلنا الطبيعة وحدها هي الأساس، وإنما يمكن الأمل فيه إذا أصبح العقل الأسمى الذي يصدر أوامره وفقا لقوانين في نفس الوقت هو أساس الطبيعة وعلتها.»
139
وينبع الخير الأسمى عند كانط من افتراض وجود إله يأمر وفقا لقوانين أخلاقية، فالأخلاق والدين مصدرهما العقل، ولهذا فإن العقل هو الذي يبرر الحياة الدينية والأخلاقية. وقد أعاد فشته صياغة الرؤية الكانطية عن الخير الأسمى وحول مذهب كانط من مذهب عقلي إلى مذهب إرادي وأعطاه صبغة عملية إرادية فعالة. وتجلى الخير الأسمى بوضوح في العصر البرجوازي، وكانت الثورة الفرنسية هي المثل الأعلى في كتابات فلاسفة العقل والتنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع ظهور الصراع من أجل المثل، وتنافس الكتاب في رسم نماذج مثالية وتقديم أنماط من المقاومة والنضال ضد أنظمة الحكم المستبد الفاسد. وكان الشاعر شيللر خير من رسم هذا الصراع وأظهر تعارض المثل الأعلى وصراعه مع الواقع وصراع الروح مع المادة، فاستطاع في أشعاره ومسرحياته أن يبدع الصور الخيالية المتناقضة للبشر.
ويظل الخير الأسمى، على رأس كل المثل، هو الموضوع اليوتوبي الذي لم تظهر ماهيته بعد إلى النور. والواقع أن الخير الأسمى يدخل التاريخ بشكل جدلي بحيث يبقى الوجود الأكمل تجربة وإحساسا مسبقا ينتظر التحقق وليس واقعا محققا، ويظل مرتبطا بصيرورة العالم والتاريخ لا بمجمع للآلهة متعال على البشر.
140
ويظل الخير الأسمى كذلك - بوصفه غاية المثل الأعلى للتاريخ البشري وصورة موجهة للإنسانية كلها - يظل مشكلة قائمة لا العقل الإنساني فقط بل للواقع الفعلي-الموضوعي باعتبار أن الخير الأسمى كامن في صيرورة العالم والممكن الموضوعي. وتتبلور المشكلة في هذه الصيغة: هل ترتبط أحكام القيمة بالرغبة؟ وبمعنى آخر هل هي ذاتية فقط وتعتمد على إرادة الذات وعقلها، أم أنها موضوعية أيضا وتتفاعل مع الجانب الموضوعي؟ لقد بقيت أحكام القيمة لفترة طويلة ذاتية بمعنى أنها نابعة من عقل الإنسان ووعيه، فلم يكد السوفسطائيون يجعلون الإنسان مقياس كل شيء حتى برزت المشكلة السقراطية عن التقييم والقيم العامة، وبدأ التساؤل حول الحق في ذاته والخير في ذاته، لكن معيار القيمة ظل عند سقراط وعند كانط في الإنسان نفسه، أي في الوعي أو العقل العام لا في الموضوعات نفسها ذات القيمة الموضوعية، هذا هو الجانب الذاتي للمشكلة. ولكن الجانب الموضوعي المتفاعل معه لا يمكن فصله عنه مهما أعطيت الأولوية للوعي أو للإرادة، لأنه حتى إذا وصف شيء بأنه خير لمجرد أنه مرغوب فيه فإن هذه الرغبة تقوم على أساس موضوعي في الشيء نفسه يجعله مرغوبا فيه.
141
إن أحكام القيمة الأخلاقية لم تكن واحدة خلال العصور والمجتمعات المختلفة، ولكنها توقفت دائما على الأساس الاجتماعي المتغير، ولهذا لم يقم المعيار الذي تستند إليه على الوعي ولا على العقل في ذاته فقط، لكن قام كذلك على المحتوى المادي للشيء الذي يوصف في مختلف الأحوال أنه خير. أي أن عملية التقييم لا تعتمد على الوعي المعياري نفسه بل تعتمد كذلك على الموضوعات التي تزود هذا التقييم بالمحتوى المادي وتدخل في تحديد ما يوصف بالخير وفي تمييز القيم والخيرات وترتيبها. ولو لم توجد الموضوعات المادية المختلفة التي تشارك مشاركة فعالة في إشباع الحاجات وتكوين القيم ، لولا هذا لما وجدت إلا قيمة واحدة متفردة ولبقيت هذه القيمة في الذات المنعزلة أو الشكلية المجردة من أي محتوى. هذه الذاتية هي التي يسميها سقراط ببساطة بالفضيلة وهي التي يدعوها كانط بالإرادة الطيبة. ولو صح موقف سقراط وكانط لما كانت هناك أي قيم نوعية لا أخلاقية ولا جمالية ولا دينية ولا اقتصادية ولا حتى الخير الأسمى النهائي. إن العمل وحده مضافا إليه المحتوى المادي هو الذي ينتج جميع القيم، ويستحيل إنتاج القيمة خصوصا في مستوياتها العليا عن طريق الذات المنعزلة وحدها بغير تدخل تأثير القيم المادية. فليس العالم المادي متحفا ولا كاتدرائية، ولكنه صيرورة متصلة ذات قيم موضوعية، لكن الجانب الموضوعي للقيم لا يعني أن القيمة توجد في ذاتها ومن أجل ذاتها.
142
فهذه القيم بقدر ما هي نابعة من الإنسان فهي أيضا ماثلة أمامه في العالم المادي وتنتظر الأداة التي تنقلها من الماهية إلى الوجود، وليست هذه الأداة سوى الإرادة البشرية المتمثلة في الفعل. هنا يتفاعل الجانب الذاتي والجانب الموضوعي للقيم بشكل جدلي، فالقيم ليست ثابتة ولا مطلقة بل لها أساس اجتماعي متغير.
إن القيم التي تنبع من الذات تشير إلى الغاية منها والتي يجب أن تكون عينية موضوعية، والغاية هي أن يتلقى الشخص ما يرغبه أو ما فيه خيره وسعادته. ولكن يجب أن يتحول المتلقي إلى منتج لهذا الخير لسد الحاجة البشرية عن طريق العمل. هذا المبدأ جعل فكرة الخير ذاتية، ولكن مع بداية العصر البرجوازي تغيرت عملية التقييم، فلم تعد تقييما ذاتيا فقط بل بدأت تعمل الذاتية بفعالية كبيرة فتحولت القيمة من معناها الأصلي الذاتي الأخلاقي إلى معنى عملي موضوعي يدعى الخير الاقتصادي (وليس الخير الأسمى) القادر على تلبية الحاجات البشرية، ولم تعد القيمة تقييما بل عملا.
143
إن القيمة الاقتصادية لها أصل ذاتي لكن تحول إلى عمل يعبر عن التحدي للعالم الإقطاعي. وهذا التعريف يتوافق مع نظرية فائض القيمة «لماركس»، فالقيمة عنده عمل أو جهد مكثف. وأصبح الجهد البشري واعيا منتجا للقيمة تماما كما أصبح موضوعيا، وتم إنكار القيم بالمعنى التوماوي وتحررت من اللاهوت الوسيط وتحولت إلى قيم يوتوبية مرتبطة بالعمل والإنتاج الذي يحرر الإنسان ككائن حر منتج.
لم يعد العالم المادي مجرد قيم استاتيكية ذات طابع ديني كما عبر عنها المجتمع الوسيط، وإنما اتجهت قيمة العالم المادي إلى الجهد البشري ليستخرج منها مضمونها. ولم يعد الفكر يتوجه نحو الواقع - كما يقول ماركس - وإنما أصبح الواقع هو الذي يتجه للفكر. وأصبح تشكيل القيم أمرا يعتمد على الاتجاه الكامن في المادة على أساس أن الممكن الإيجابي في العالم المادي هو الخير الأسمى؛ إذ ليس من الممكن أن يوجد خير أسمى في الداخل، أي في الذات، بدون أن يتحقق في الخارج بشكل موضوعي. إن مادة العالم الأفضل - وهي تمثل السمة الحقيقية لنظرية القيمة الموضوعية - هي مادة القيم اليوتوبية الكامنة فيه. وبهذا يكون الخير الأسمى هو الممكن الواقعي الذي تتجه إليه الصيرورة التاريخية والكونية. وموقع الخير الأسمى ليس على قمة قيم تراتبية ولكن موقعه في اللحظة باعتبارها المركز أو القلب الذي توحد فيه الذاتية والموضوعية.
144
إن القيم لا توجد إلا في اللحظة التي يقوم فيها الإنسان بجذب الماهية إلى عالم الوجود،
145
اللحظة التي تختفي فيها المسافة بين الذات والموضوع، والإنسان والعالم في لحظة إبراز القيمة النهائية التي أطلقنا عليها الخير الأسمى. هكذا انبثق الأمل في تحقيق الخير الأسمى من تفاعل الذات والعالم أو حوارهما المستمر الذي يوضح الطريق اليوتوبي لتحقيق سائر الخيرات في لحظة الحاضر التي ينبثق منها هذا الأمل، ويتم التفاعل والحوار بين الإنسان كسؤال والعالم كجواب والعكس صحيح. فلم يعد الخير الأسمى ذاتيا ولا عقليا خالصا كما عند سقراط وكانط ولا لاهوتيا كما عند توما الأكويني، بل أصبح هو الممكن الواقعي الذي يتحقق من خلال العملية الجدلية التي يتفاعل فيها الذات والموضوع والإنسان والعالم في سؤال وجواب دائمين.
ظل بلوخ - كما تقدم - تحت تأثير الفلسفة الماركسية في تفسيره للقيمة تفسيرا اقتصاديا، إذ تحولت القيمة من مجرد تقييم لأفعال الإنسان وسلوكه إلى نشاط وفاعلية اقتصادية، أصبح العمل هو منتج القيم، كما لا تعدو هذه الأخيرة أن تكون تلبية للحاجات البشرية. وعلى الرغم من ذلك فقد تجاوز بلوخ هذا المفهوم الماركسي، ووضع فكرة القيمة في إطار أوسع لقد رفض أن يكون للقيم عالم موضوعي مستقل عن عقل الإنسان وإرادته وكأنها مجموعة من المعطيات السابقة والجاهزة التي تفرض على الذات البشرية من الخارج، بحيث تلغي جهد البشر وإرادتهم وحريتهم في الثورة على القيم السائدة حينا، أو إيجاد واكتشاف قيم أخرى جديدة حينا آخر، ووضعها (أي فكرة القيمة) في إطار من الفاعلية بين الذات البشرية وإرادتها من ناحية، والعالم الموضوعي من ناحية أخرى، بل إنه استطاع أن يوظف هذه الفكرة في إطار فلسفته الخاصة بأن جعل القيمة في أعلى طبقات مقولة الإمكان وهي طبقة الممكن الواقعي الذي يتفاعل فيه الذات والموضوع من خلال عملية جدلية تبادلية، بحيث تصبح مشكلة الخير الأسمى هي لحظة توحيد الذاتية والموضوعية. (3) اللحظة الممتلئة في الديانات «الكمال» هو ما تنشده جميع الديانات على اختلاف أشكالها وتنوعها، وقد اختلفت المحاولات التي انتهجتها هذه الديانات ظنا منها أنها السبيل لتحقيق الوجود الأسمى للإنسان، كمحاولة للاقتراب من الموجود الكامل أو الله. وقد نظر بلوخ في كل هذه المحاولات بحثا عن اللحظة الممتلئة في كل ديانات العالم، ويتعذر بطبيعة الحال العرض التفصيلي في صفحات قليلة للديانات السماوية وغير السماوية في تاريخ الحضارة البشرية، لذلك سيكون العرض لهذه الديانات من الجانب الذي يخدم موضوع البحث فقط، بحيث يكون التركيز على اللحظة الخالدة أو اللحظة الأسمى في هذه الديانات. ولتكن البداية ببعض الديانات الوثنية سواء في الشرق أو الغرب وهي التي تركت بصمات وعلامات هامة على الطريق. (أ) ديانات الحضارات القديمة
إن هزيود وهوميروس هما اللذان وضعا الثيوجونيا (أو أنساب الآلهة) وخلعا على الآلهة أسماءهم في الديانة الإغريقية. ومن خلال الشعراء أصبح البارثينون الأوليمبي مقرا للآلهة. لكن الديانة الإغريقية لم تتوسط مع المويرا (ربات القدر) التي تسري أحكامها على البشر والآلهة على السواء. إن هوميروس على وجه التحديد يعد مؤسس الديانة الإغريقية في شعره الملحمي؛ لذلك أطلق بعض الباحثين على أشعاره اسم «إنجيل الإغريق» وهي إن لم تكن كذلك فقد كانت مسئولة أكثر من أي عامل فردي آخر عن تثبيت وتدعيم صورة الآلهة الشبيهة بالبشر في أذهان الناس.
146
وهوميروس مؤسس دين بقي خارج أشعاره ولم يصبح كبقية مؤسسي الأديان الذين التصقت الديانة بأسمائهم وأصبحوا أنبياءها ولهم نفس قداستها. فقد أسس ما يمكن تسميته بالديانة الفنية أو ديانة الفن
art-religion
وأشرقت الإنسانية في هذه الديانة التي أضفت على الآلهة ملامح بشرية.
147
أما عن بروميثيوس فهو كما تروي الأساطير نصف إله ونصف بشر، وقد تمرد الجزء الإنساني فيه على الآلهة. وإذا لم يكن بروميثيوس مؤسس دين بالمعنى المعروف، إلا أنه يمكن اعتباره مؤسس دين التراجيديا الإغريقية. وقد ظلت ديانة بروميثيوس - إذا صح هذا التعبير - غير مزدهرة وغير متفتحة لافتقارها للظروف الاجتماعية التي توافرت لموسى وتمرده ضد فرعون ، وللمسيح وتمرده على قيصر. وهكذا تحولت ديانته إلى دراما تأملية لأسطورة التمرد، وظلت التراجيديا هي معبد دين بروميثيوس وطقسها الديني.
148
كما ظل بروميثيوس المتمرد على رب العالم زيوس، وراء كل صور الخلاص البشري فيما بعد.
أما الديانات الشرقية القديمة مثل الديانة المصرية القديمة أو الديانة البابلية فقد فقدت - على حد زعم بلوخ - الملامح الإنسانية وتعالت على الإنسان بقسوتها وجبروتها وأصبحت فوق الإنسان
Super-human
بل وغير إنسانية، ففي مصر القديمة اتخذت الآلهة شكل رءوس الحيوانات، وفي الحضارة البابلية اتخذت أشكال النجوم والكواكب، كما كانت أشكال الآلهة مستمدة من الطبيعة الخارجية وتجاهلت بالكامل لحم الإنسان ودمه.
149
فكذلك جاء مضمون هذه الديانات من أعلى؛ مما جعلها تمثل أقصى حالات الاغتراب.
تتكرر صورة الموت في الديانة المصرية القديمة، كما تولد الشمس يوميا من جديد. وبالتالي يمد أوزوريس في الحياة البشرية القصيرة ليمنحها الخلود. فالموت الذي قدرته السماء يتحكم في كل تغير حي، كما تتحكم الهندسة المفعمة بالأمل - والتي تتسم بالصلابة والثبات - في المستقبل الذي يحمل سكون الماضي ويتجاوز عالم الإنسان. إن المضمون الأساسي لهذه الديانة يأخذ شكل الجوهر «البلوري» للعمارة المصرية القديمة في شكلها الثابت والمحدد. إنه نظام يجسده أو يبلوره إله الموت أوزوريس، الذي كان في الخيال الشعبي القديم إله النماء الذي يسكن في الأرض، ومن قبره يمنح الخصوبة لكل الأشياء، ويتحرك هذا الإله بشكل دائري بين الحياة والموت لكن سمته الأساسية هي الحياة في الموت.
150
ولحظة الوجود الأسمى في الديانة المصرية القديمة هي لحظة الصمت والسكون والثبات، هي الأمل في الخلود، في التوحد مع أوزوريس.
وإذا كان الهرم هو رمز الديانة المصرية القديمة على ضفاف النيل، فإن البرج ذو الطبقات المتصاعدة إلى أعلى أو الزقورة هي رمز الديانة البابلية على ضفاف الفرات التي أهدته للشمس والكواكب السبعة. بدت الآلهة - التي تمثل هذه الدورات الفلكية - في أشكال غليظة وأجساد خشنة، محاطين بكل ما هو وحشي وغير إنساني من طيور وحيوانات وحشرات، وعندما توحدت الآلهة البابلية الفلكية في إله واحد هو «مردوخ» لم نجد سوى البطل البابلي جلجامش الذي اكتسب ملامح إنسانية. وعلى الرغم من تأليهه في حياته وبعد موته إلا أنه عانى آلام الموت، ولم تشفع له أعماله وأمجاده، وذهب إلى «أرض اللاعودة» بلا أمل في بعث سماوي، ولا أمل في الخلود الذي أضاع نبتته.
151
إن أعمال جلجامش وحدها هي التي تنطوي على «أمل» في المستقبل - لعله أن يكون هو خلود الذكر النافع - وهو أمل بديل عن الخلود الإلهي الذي ضاع. وقد ربطت الديانة البابلية «الأمل» أو «الخلاص» بالإله المسيطر على الدورة الفلكية المتكررة فيكرر مردوخ هذه الدورة في كل سنة جديدة، ومن ثم ارتبط الأمل بالساعة الفلكية الثابتة. وأصبحت الذات البشرية تدور مع هذه الدورة الفلكية، واقتصر دورها على اتقاء غضب الآلهة والخوف من انتقامها، والتضرع لها أملا في رضاها وعفوها. وكأن الطريق في هذه الديانات الشرقية يسير من داخل الذات إلى خارجها حيث يستقر في الحجر - كما في الديانة المصرية القديمة - أو في الطبيعة - كما في الديانة البابلية - دون أن تعود الذات البشرية إلى ذاتها مرة أخرى. ولذلك ظلت في حالة اغتراب يحددها الدين من فوق ومن الخارج.
152
وفي حضارة شرقية أخرى هي الصين، يوجد فكر ديني مختلف كل الاختلاف. فكونفوشيوس (551-479ق.م.) - وهو مؤسس الديانة الكونفوشيوسية - دعا إلى السير على طريق الملوك القدامى الذين وجد فيهم القدوة في الحكمة والصلاح، وأعاد بحث الموروث الديني الصيني وتنظيمه. كانت للديانة الصينية القديمة طبيعة أسطورية وطقوس وشعائر تتسم بالوحشية والدموية، فاختفت مع حركة الإصلاح التي انتهجها كونفوشيوس وأعاد تفسير الطبيعة الأسطورية للدين بما يخدم حياة الإنسان ويعمل على تهذيبه وإصلاحه حتى يصلح نظام الحكم والسياسة. واتجه الفكر الصيني إلى الاعتدال والتوازن واتباع النهج المستقيم في كل شيء، ويتناول كتاب «التحولات» القديم جدل الصراع بين اليانج
Yang
والين
Yin ، أي بين السالب والموجب، والليل والنهار، والأرض والسماء، وفي وحدة هذين الضدين نوع من الاشتياق للانسجام الكوني. فعندما يتحقق التوازن البشري-الكوني، ويعيش البشر بشكل منظم وفي انسجام مع الطبيعة يسير العالم بسرور.
153
إن عقيدة كونفوشيوس التي تنشد الاعتدال عبرت عن حكمة الحكماء السبعة «الزم الحد.» كما عبرت عن فضيلة السوفروزنيه
sophrosyne .
154
التي طالما أشاد بها الإغريق. وقبل كونفوشيوس بقليل أو في وقت واحد معه - على حسب الروايات المختلفة - جاء لاوتزو ليقول بالتوسط والاعتدال أيضا، ويؤسس «التاوية» - أو فلسفة الطريق الحق - التي كانت انقلابا على الدين التقليدي والطقوس القديمة، ودعوة إلى نوع من التصوف الطبيعي الذي يحث على الرجوع للطبيعة والاندماج فيها والبعد عن كل أشكال التمدن. لم يكن للتراث الديني والأخلاقي أهمية عند لاوتزو، بل إن مبدأه الأساسي هو اللا-فعل. وطريق الحكيم إلى السعادة يتلخص في كلمة واحدة هي «وو-وي» أي التخلي عن الفعل أو عدم الفعل عن طريق «الحد من البذور» والكلمات والأفعال - (...) على الإنسان أن يبقى بغير عمل ... أن يلزم السكينة والهدوء ... أن يتجرد من شهوة الكسب والنجاح، فيصل إلى الكسب والنجاح الحقيقيين بالاتحاد مع «التاو»،
155
طريق السماء.
156
وفي ديانة شرقية أخرى، هي الدين الإيراني القديم، يوجد زرادشت (628-551ق.م.) وكتابه المقدس الأفستا
Avesta
الذي لم يبق منه سوى ترنيمات زرادشت
Cathas
التي تظهره في صورة رجل مفعم بالحيوية و«نبي» أو داعية متحمس لنشر دعوته إلى النور والخير والنقاء. رفض زرادشت الديانة القديمة، وألقى بآلهتها في الجحيم. ومع ذلك لم تخل الزرادشتية من سكون الديانات النجمية. وأهم ما يميزها الصراع بين النور (أو أورامزدا
Ormuzd ) والظلام (أو أهرمين
Ahriman ) أو بين الحق والباطل، وإن لم يكن الصراع بينهما أزليا؛ إذ سوف تأتي لحظة التحول الأخيرة في العالم عندما يلتحم الجيشان، وعلى البشر أن يختاروا بين القوتين المتعارضتين وسوف تتحقق العدالة ويسود الخير ويعم النور ويتجدد الكل من جديد بواسطة المخلصين الذين يقمعون الهوى.
157
ثم جاء ماني (216-274م) في عهد شابور الأول، وكان على معرفة جيدة بالفلسفة اليونانية وخاصة أفلاطون. وأعلن ماني أنه جاء ليتم عمل زرادشت وبوذا والمسيح، فهو «رسول النور» والشمس والقمر عنده - على عكس ما عند البابليين والكلدانيين - ليسا آلهة بل وسيلة للوصول للآلهة. كان للشمس تأثير عظيم على هذه الديانة، فهي النور الذي ينبغي أن يشرق حتى نهاية الزمان، ويأتي إله النور مع الشمس ويفتح العالم على اتساعه، لذلك وصف ماني بأنه محرر النور من المادة التي هي من فعل الشيطان. ولقد كان لماني تأثير عظيم على أوغسطين، فما آمن به ماني - من ثنائية النور والظلام - على مسرح الطبيعة أبرزه أوغسطين في مسار التاريخ بين مدينة الله ومدينة الأرض.
158
والديانة البوذية من ديانات الهند، ظهر مؤسسها بوذا في نهاية القرن السادس ق.م. في الوقت الذي خمدت فيه الديانة الهندية القديمة للفيدا، أراد بوذا أن يخطو خطوات على طريق التحرر من المعاناة والألم، فكانت دينا بلا آلهة ولا سماء متعالية، وأراد مؤسسها أن يصبح هو نفسه الطريق الذي يعلمه لأتباعه، طريق الخلاص من العالم. إن الجهل في العقيدة البوذية هو سبب ظهور العالم وعلة استمراره، والمعرفة هي لحظة تدمير العالم بلا كوارث كونية. وهنا تتغير وظيفة المعرفة في هذه الديانة الهندية فلا تضيف ولا تعلمنا شيئا، بل تحول العالم إلى لا-عالم.
159
ويصبح الأمل في هذه اللحظة هو الخلاص بالانطفاء (النيرفانا). (ب) الديانات السماوية
مع أولى الرسالات السماوية جاء الوعي الديني، ومع موسى بدأ تمرد الشعب المستعبد فكان الخروج من مصر. لم يوجد شعب تمرد على آلهته وعصاها مثلما فعل الشعب اليهودي. ويمكن القول إن أيوب هو بروميثيوس العبرانيين، فمثلما تمرد بروميثيوس على آلهة الإغريق، تمرد أيوب على «يهوه». لذلك يرى الكثيرون أن فكرة المخلص لم تظهر لا في زمن موسى ولا في الديانة اليهودية إلا في مرحلة متأخرة لأنها بدت غير ضرورية في نظر شعب كان يؤمن بأن أخطاءه فقط هي التي تتسبب فيما أصابه من كوارث.
160
غير أن بلوخ يرفض هذا التفسير قائلا إن فكرة الخلاص موجودة وكامنة منذ البداية في الدين اليهودي، ولكنها لم تعلن إلا متأخرة. وهو كذلك لا ينفي وجود شبه بينها وبين الزرادشتية، خاصة الفكرة القائلة بالمخلص الذي يأتي في نهاية الزمان، فعلى الرغم من أن اليهود تأثروا بدين زرادشت أثناء الأسر البابلي (من 586 إلى 538ق.م.) إلا أن فكرة الخلاص لدى الشعب اليهودي تعني أكثر مما تعنيه عند الفرس أو الكلدانيين، فبعد العودة من الأسر بدأت هذه الفكرة تعمل عملها في الدين لوضع حد لمعاناة شعب يعيش على أمل الخلاص. وهنا ظهرت فكرة الخلاص واضحة وتحول إله الانتقام عند موسى إلى إله أمل وخلاص، أي إله اليوتوبيا.
161
وكما يقول موسى بن ميمون وهو الفيلسوف اليهودي العقلاني: «إن من ينكر الخلاص ينكر كل التوراة.» وبذلك تكون اللحظة الكبرى في الديانة اليهودية هي الخلاص، وهي لحظة يوتوبية؛ إذ لم يكن الإله العبراني ساكنا كالآلهة الوثنية، بل كان واعدا بالخلاص في سماء جديدة وأرض جديدة.
وفي المسيحية تحولت الديانة الفوقية المتعالية إلى الإنسان، أو إلى ابن الإنسان. كانت دعوة للحب لا تقارن بها أية ديانة أخرى، دعوى للتخلص من المال واحتقار العالم: «قال يسوع إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني.»
162
ونصيحة المسيح التي تقول: «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» لا تعني الإذعان لهذا العالم، بل احتقاره. لذلك يقدم بلوخ تفسيرا لموت المسيح على الصليب مختلفا عن التفسيرات السائدة التي اعتبرته - أي الموت - نوعا من التضحية الإرادية، كما لو كان الموت قد تولد من الحب، وكان الثمن الذي دفعه المسيح لله ليفتدي البشر من الخطيئة. إن المسيح في رأي بلوخ مات متمردا على التقاليد وسلطة الحكم القائمة في عهده. وقد أقحمت الأساطير بعض العبارات، مثل الموت والصليب على حديثه عشية موته. فلم يتحدث المسيح عن إصلاح أو إحياء لمجد سابق، إنما تحدث عن تدمير القدس والمعبد أي الثورة على العهد القديم: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا.»
163
لذلك اعتبره الرومان مجدفا على الله ويستحق الموت صلبا جزاء له على تمرده.
164
ولذلك أيضا كان للدين المسيحي مستويان: المستوى الاجتماعي، والمستوى اللاهوتي الذي ألغى فكرة الإله المتعالي فأصبح للمطلق مضمون بشري، كما أصبح - إذا جاز هذا القول - دينا يعمل بشكل ديمقراطي.
165
غير أن الآمال في المتعالي جاءت بعد موت المسيح. انتهى التواضع والخجل المسيحي بعد الصلب وتجلت المسيحية في قيامة المسيح من القبر واكتسبت عظمتها وتخلت عن تواضعها. ظهر المسيح والمسيحية في ضوء جديد انبثق من القبر. فصعود المسيح إلى السماء كان مرساة الأمل التي تأخذ البشر معها. وهي اللحظة الممتلئة؛ اللحظة الثابتة للمملكة المسيحية: «سوف تكونون مثل الإله
Eritis Sicut Deus
تلك هي بشارة الخلاص المسيحي.»
166
وجد بلوخ أن مضمون اللحظة الممتلئة في الدين الإسلامي في الخضوع لإرادة الله، فالدين الإسلامي - في زعمه - قد ورث التعصب الذي بدأ مع موسى. ومنذ أن أتى أول الأنبياء بفكرة الوحدانية، أتى معها بالتعصب لهذا الإله الواحد؛ مما ترتب عليه أن كل ديانات التوحيد أصبحت أديانا تبشر بهذا الإله الواحد وتتعصب له. بذلك يكون التعصب كجزء أساسي من الإيمان قد أتى مع موسى وامتد إلى المسيحية والإسلام على حد زعم بلوخ. ولكن الحروب الدينية بدأت مع الإسلام،
167
وعندما أشهر محمد - عليه السلام - سيفه ضد الكفار. فالمسلمون هم جنود الله الخاضعون لإرادته، وروح الإسلام تتمثل في الخضوع للقرآن الكريم والسير على السنة المحمدية. ويتهم بلوخ الدين الإسلامي بالتحجر وعدم المرونة، وبأن تعاليمه لا تسمح بالتجديد والحرية، حتى إنه تصدى للمجددين من الفلاسفة ورجال الدين.
على الرغم من المعرفة الموسوعية الكبرى التي تميز بلوخ، إلا أنه ليس لديه فكرة واضحة ولا متكاملة عن الحضارة الإسلامية من ناحية ولا عن بعض الحضارات الشرقية من ناحية أخرى؛ مما جعل أحكامه على هذه الحضارات تتسم أحيانا بالسطحية والعمومية الشديدة، ويجانبه الصواب في معظم الأحوال. والواقع أنه لا يمكن أن يلتمس له العذر في هذا، لأنه عاش فترة زمنية - تجاوزت ثلاثة أرباع القرن العشرين - اكتملت فيها الأبحاث والدراسات والشروح الممكنة لهذه الحضارات البشرية. وعلى الرغم من اتساع أفقه وتبنيه للنزعة الإنسانية الخالصة فلا نستبعد أن يكون «للمركزية الأوروبية» دور في إساءة تفسيره للحضارات والديانات الشرقية، وقد اختزل مفهومه عن الديانة الإسلامية - شأنه في ذلك شأن العديد من الغربيين - في عبارة النار والسيف. (ج) اللحظة في أنثروبولوجيا الدين
يعد لودفيج فيورباخ (1804-1872م) نقطة تحول في فلسفة الدين، فقد أقام نزعة طبيعية تتسم بإعادة الإنسان إلى الأرض والطبيعة. إن الفلسفة في رأيه من العصر اليوناني وحتى آخر عصر هيجل تعد لاهوتا؛ لذلك جعل مهمته مصادرة العالم الآخر، أو جعل من نفسه حفار قبور للدين التراثي ليعطي للإنسان ما للإنسان، وينكر السماء لحساب الأرض لإضفاء الأهمية على الإنسان: «أنا أنكر الله، هذا يعني في حالتي أنني أنكر إنكار الإنسان؛ إن مسألة وجود أو لا-وجود الله هي بالنسبة لي وجود الإنسان.»
168
إن الإنسان خلع على الله كل الصفات التي لا يستطيع أن يحققها، وآن الأوان ليسترد الإنسان هذه الصفات.
كان الله الكائن في السماء هو الهدف الأسمى في النزعة المدرسية التي امتدت من أفلاطون وليس من المسيح. فكان - أي الله - هو الأمل الذي يسعى البشر للوصول إليه. ومع فيورباخ لم يترك الأمل للسماء فاندفع للأمام - وليس إلى فوق - وانتقلت الميثولوجيا من السماء إلى الأرض. أعاد فيورباخ مضمون الدين من السماء إلى الإنسان، فلم يعد الإنسان يوجد على صورة الله، بل إن الله يوجد على صورة الإنسان، واختفت صورة الإله الخالق ليكتسب الإنسان هذه الصورة.
169
لقد حاول فيورباخ أن يترجم الصور الذهنية في الدين المسيحي ويعثر على حقائقها العيانية معتمدا على التحليل التجريبي والتاريخي والفلسفي للأسرار المسيحية. ويسمى فيورباخ نفسه روحيا وضعيا، وصاحب فلسفة إنسانية تجعل الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي، وتقيم فلسفة لا تأملية دون ماهية.
170
لم تعد الذات تتصارع مع الموضوع الذي هو الطبيعة المحيطة بها، بل أصبح الأمل الموجود في الدين موجها لإدراك الإمكانية في الذات وفي الموضوع معا. فأنثروبولوجيا الدين عند فيورباخ هي بمثابة يوتوبيا للإنسان. ويصبح الموروث الديني هو وعي الوظيفة اليوتوبية بالكل، وتصبح المغامرة الإنسانية إلى ما وراء ذاتها هي العلو في التاريخ الذي صنعه البشر، وتعاليا بدون أي علو سماوي. تصبح - أي المغامرة الإنسانية - هي توقعات لمستقبل ما زال غير معروف. لقد كانت كل التسميات والألقاب التي نسبت إلى الله محاولات لتفسير السر البشري، أي الشكل الإنساني المختبئ في الأيديولوجيات الدينية. وجاء النقد الأنثروبولوجي للدين ليجعل الإله هو الوجود بالإمكان، أي الوجود البشري الذي لم يصبح بعد في الواقع، ويظهر بوصفه أنتيليخيا الروح مثلما تكون الجنة أنتيليخيا يوتوبية للإله.
171
لكن هل تحويل الميثولوجيا إلى أنثروبولوجيا يعني اختفاء مشكلة المكان الديني - إذا صح هذا التعبير؟ بمعنى المكان الذي يوجد فيه العدم أو الكل، وجحيم النار أو نعيم الجنة بالمفهوم الديني؟ إن الواجب على البشر أن يوقروا آلهتهم في مكان آخر من الطبيعة؛ مكان يوتوبي يمتلئ بالآلهة. إنه مملكة الحرية، بدلا من مملكة الله التي في السماء، وهو المكان الذي يمتد أمامنا في قلب البشر وفي قلب الأرض، ويكمن في الذات الأنثروبولوجية كما يكمن في الطبيعة.
172
إن تدمير أساطير الاغتراب التي جاء بها مؤسسو الديانات الثلاث من الشرق هي اللحظة اليوتوبية الكبرى، لحظة الكشف الذاتي؛ لحظة أن يصبح الله إنسانا. (د) اللحظة في التجربة الصوفية
في التجربة الصوفية الدينية تختفي الثنائيات الحادة بين الأنا واللا-أنا، بين الذات والموضوع. وتسمى هذه اللحظة بالآن الأبدية أو اللحظة الخالدة
Nunc Stans
ويتم التبادل بين كل من اللحظة والأبدية في وحدة جدلية، هي اللحظة الأسمى التي لم تعد موجودة في الزمان بل تكون «الآن» فيها دائمة، وتكون ال «هنا» في كل مكان.
173
هذه اللحظة الصوفية إذن هي لحظة يوتوبية يتحد فيها الذات والموضوع وال «هنا» و«الآن» والمكان والزمان، ويختفي فيها الاغتراب.
في لحظة التصوف تتحرر الأنا من وجودها الفردي ومن تعددية الأشياء حولها وتتخلى عن كل شيء لأن هذا التخلي هو السبيل الوحيد لإيجاد كل شيء، أي لوجود الكائن مع الذات الحقيقية في لحظة الاتحاد بالذات الإلهية. فنجد التصوف عند أفلوطين هجر الذات الفردية للاتحاد بالذات الإلهية في ثلاث مراحل: التطهر، التنور، الاتحاد، ويسميها بلوخ مراحل تأله الذات، التي تكون مرحلة أسمى من الوعي، فيها تصبح الذات جزءا من الذات الإلهية. كما نجد التصوف عند ميستر إكهارت (1260-1328م) ليس فقط معرفة أو كشفا ذاتيا لله، لأن الروح عنده هي شرارة صغيرة من القبس الإلهي، وهدف العبد أن تتصل روحه بالقبس الإلهي عن طريق التخلي عن العالم وكل ما يمت له بصلة لتنكشف الشرارة الإلهية أي الروح الإنسانية وترجع إلى مبدئها وأصلها الذي خرجت منه لأن ماهيتهما واحدة. وفي حالة التخلي هذه يتخلى الإنسان كذلك عن نفسه فلا يعود يعرف أو يريد أو يفعل إلا بالله وفي الله، وبهذا يتحد مع كل ما هو كائن ويتحد مع الحقيقة الأبدية أي مع الله، في لحظة مباشرة تذوب فيها المسافة بين الذات الفردية والذات الإلهية. فالصوفي لا ينشد الاتحاد بالعالم، بل يريد الاتحاد بالواحد الذي يسمو على العالم ولا يتصل به بسبب، ولا يتم هذا فيما يعلمنا الميستر إكهارت وأفلوطين - وهما عمدة التصوف الغربي - عن طريق التلاشي في العالم، بل عن طريق التخلي عنه والزهد فيه.
174
وعند الوصول إلى هذه اللحظة تتوقف أصدق صفات الذات وهي الرغبة، كما تتوقف أكذب صفات الموضوع وهي الاغتراب، ولحظة الوصول إلى هذه الحالة يطلق عليها بلوخ لحظة الانتصار.
بعد تحليل بلوخ لديانات العالم الكبرى محاولا إيجاد اللحظة اليوتوبية التي تبحث عنها والتي يتحقق فيها الوجود الأسمى للإنسان، انتهى من رحلته إلى حقيقة هامة وهي ابتعاد الديانات الوثنية والسماوية على السواء عن تلك اللحظة المنشودة التي وجدتها الديانات الأولى في لحظات السكون والثبات، ووجدتها الثانية في السماء المتعالية وفيما وراء العالم الأرضي. وإذا كان ينظر إلى المسيح على أنه يمثل شخصية يوتوبية ثارت على الأوضاع القائمة وأرادت أن تحرر البشرية من عبودية سلطة «يهوه» وأن يقيم «مملكته» في هذا العالم الدنيوي، وإذا كان هذا التفسير يختلف قلبا وقالبا عن التفسير التقليدي لشخص المسيح، فإنه يتفق مع طريقة بلوخ في فهمه غير التقليدي لتاريخ الفلسفة برمته.
أضف إلى هذا أن اللحظة التي يقصدها بلوخ ليست في التصوف، أي لحظة اتحاد الذات الفردية بالذات الإلهية، فهذه اللحظة أيضا - على الرغم مما فيها من ذوبان الذات في الموضوع، والأنا في اللا-أنا - هي لحظة متعالية بطبيعتها عن هذا العالم الأرضي وبعيدة عن الواقع الفعلي ؛ وبالتالي لم ترفع الاغتراب القائم بين الإنسان والطبيعة ولا بين الذات والموضوع. وربما كان المفهوم الأنثروبولوجي للدين كما هو عند فيورباخ هو أصلح إطار يمكن أن تتحقق فيه اللحظة الممتلئة كما يتصورها بلوخ ويمكن أن تقنع عقله ووجدانه.
وإذا كان هدف جميع الديانات السماوية هو الوصول إلى الأرض التي يسودها اللبن والعسل على نحو واقعي ورمزي على السواء، فإن هدف الديانة الإنسانية التي يؤمن بها بلوخ هو على وجه الدقة نفس الهدف السابق - أي الوصول إلى عالم أكثر كمالا - أو حسب تعبيره إلى يوتوبيا الكمال التي وضعها الدين في السماء. غير أن بلوخ استعاض عن الإله بالممكن الذي لم يكشف الأستار عن وجهه بعد، وبالخلاص الذي لم يزل كامنا في الأرض وفي تاريخ البشر. (4) اللحظة الممتلئة في الموت
قد توجد مفارقة في هذا العنوان؛ فكيف يكون الموت - وهو لحظة انطفاء الوعي - لحظة ممتلئة؛ وهي اللحظة التي ينبغي أن يشعر الإنسان حيالها بالكمال والسعادة؟ بمعنى آخر: كيف ينظر للموت - وهو سلب الوجود ووأد كل لحظة ممتلئة سعيدة - نظرة يوتوبية بما تنطوي عليه اليوتوبيا من سعي دائم لحياة أفضل؟ وكيف يكون الموت - وهو الفك الذي يطحن كل شيء ويلتهم كل غاية - هو لحظة تحقيق الوجود الأسمى؟ ربما تبدو الحياة مقيتة ولا نعيشها كما نتمنى، ومع ذلك فهناك دائما أمل لتحسينها في المستقبل، ولكن من غير الممكن أن نأمل في أي نوع من التحسن في لحظة الموت نفسها. كما أن هناك شعورا طبيعيا بالفزع والرعب من فكرة الموت، ومهما حقق الإنسان من أهداف وأمنيات في الحياة فهو لا يموت وهو مشبع بها، فدائما ما يفاجأ المرء بالموت قبل أن يحقق كل آماله في المستقبل. فكيف يكون الموت إذن نوعا من اليوتوبيا؟
قد يزول هذا التناقض عند معرفة الصور الخيالية المفعمة بالأماني التي رسمتها الأديان لحياة ما بعد الموت، والتي لا تعني العدم أو الفناء الشامل بل تتصور الموت على أنه نهاية للحياة على هذه الأرض وبداية حياة أخرى في عالم آخر. (أ) الموت في الديانة المصرية القديمة
لم يوجد جنس اهتم بفن الموت وأنفق من الوقت والجهد والعناية والتكاليف لبناء المقابر استعدادا له مثلما فعل المصريون القدماء الذين نظروا للموت على أنه بداية الحياة الحقيقة فخططوا بعناية فائقة لما وراء الحياة على الأرض.
175
لقد رسموا صورة للعالم الآخر ترتبط ارتباطا وثيقا بالموقف الأخلاقي للشخص المتوفى. ففي هذا العالم الآخر تعقد محاكمة الميت، يرأسها أوزوريس نفسه ويسجل أحكامها الكاتب المقدس (توت). وتذهب النفس
Ka
مع صاحبها وتدخل العالم الآخر لتعيش وجودها الأبدي في حياة ما بعد الموت. وقد صورت الكتابة المصرية القديمة النفس ساكنة وبعيدة عن الحركة.
176
وكان أوزوريس - إله الموتى في العالم الآخر - نفسه إلها صامتا حيث لا توجد حركة ولا موسيقى في معبده في أبيدوس؛ لذلك فإن فكرة سلام الموت وسكونه وهدوئه انحدرت من الحضارة المصرية القديمة.
177
وعلى الرغم من بعض المناظر المصورة على جدران المقابر والمعابد عن الحرث والحصاد والأنشطة الأخرى والمرتبطة بالحياة الدنيوية لعامة الشعب، إلا أن الحياة الحقيقية ليست على هذه الأرض، كما أن مفتاح الحياة الذي يهديه الإله للملك الحاكم ليس بالتأكيد لهذه الحياة الأرضية، وإنما هو مفتاح للحياة في العالم الآخر، ذلك العالم الذي عاش المصريون القدماء طوال حياتهم يستعدون للحظة الانتقال إليه، حيث كان الخلود هو لحظة الوجود الأسمى في الحضارة المصرية القديمة. (ب) الموت في الكتب المقدسة
أما عن فكرة الموت في الكتب المقدسة كما جاءت في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، فإن فكرة الخلود لم تظهر في الديانة اليهودية إلا في مرحلة متأخرة، فقد كان الجنس اليهودي جنسا دنيويا مثل الإغريق. كذلك لم تظهر فكرة البعث والحساب إلا في وقت متأخر. لم يكن الاعتقاد بخلود النفس ولا الإيمان ببعث الموتى في نهاية الزمان نظرية أساسية لدى الفريسيين.
178
وبتأثير الديانة المصرية القديمة تحول الإله المصري توت - الذي يدون جلسات يوم الحساب - إلى الإله يهوا في الديانة اليهودية، الذي يفتح سجل أعمال البشر في يوم السنة العبرية الجديدة.
179
أضف إلى هذا أن بعض الأبحاث تعقد مقارنة بين ديانة موسى وديانة أخناتون، على أساس الإهمال المشترك من جانب الديانتين لعقيدة البعث التي لم تظهر في اليهودية إلا في وقت متأخر. ولا يوجد بين نصوص التوراة ما يؤكد وجود الاعتقاد في البعث على زمن موسى عليه السلام. وكذلك حاربت ديانة أخناتون عقيدة البعث ذات الجذور المتأصلة في ديانة المصريين القدماء. وقد كان أحد أهداف الرؤية الدينية لأخناتون هي محاربة عبادة أوزوريس الذي ارتبطت عبادته بعقيدة البعث والحياة بعد الموت.
180
أما عن الموت في المسيحية فقد كان الإيمان بالبعث والحساب جزءا من المذهب المسيحي. لكن هل الموت هو اللحظة الأسمى في الدين المسيحي كما هو الحال عند المصريين القدماء؟ في الواقع أن هناك اختلافا كبيرا بين الموت في الحضارة المصرية القديمة - وهو لحظة سكون وجمود كما يقول عنها بلوخ - وبين الموت في العقيدة المسيحية؛ حيث إن الموت الفيزيقي ليس هو نهاية المطاف، لكن يأتي البعث أو القيامة
Easter
من الموت. إن المجيء الثاني للمسيح هو لحظة الوجود الأسمى: «أنا هو القيامة والحيوة. من آمن بي ولو مات فسيحيا.»
181
إذن اللحظة الممتلئة هنا هي التخليص من الموت : «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حيوة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير.»
182
هي لحظة حياة وليست لحظة موت، فالمسيح ليس كأوزوريس إلها في عالم الموتى: «وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء.»
183
لذلك يطلق بلوخ على هذه اللحظة اسم يوتوبيا القيامة.
184
ويشبهها بالفن القوطي الذي هو رمز الحياة: «لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع.»
185
هكذا أشادت المسيحية بالحياة ولم تمتدح الموت.
186
وفي الإسلام بدأ الترغيب في الموت عندما أعلن أن الموت على يد الأعداء شهادة في سبيل الله
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
حيث يستمتع المجاهدون المؤمنون بالنعيم في العالم الآخر. وقدم القرآن الكريم تصويرا حسيا وماديا للجنة التي سيتمتع بها الصالحون والمجاهدون:
أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين * على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما .
187
وهكذا كانت لحظة الموت والاستشهاد في سبيل الله في الإسلام هي لحظة الوجود الأسمى التي سيتبعها الخلود في جنة النعيم. (ج) النرفانا ولحظة الفناء
تنصب الفلسفة الهندية على التفكير وتخضع لحياة الإنسان الداخلية أكثر مما تخضع للعالم الخارجي والطبيعة المادية.
188
إن الإحساس العام لكل البشر هو الخوف من الموت، لكننا الآن أمام نوع آخر من التفكير يتحول فيه هذا الخوف إلى خوف من الوجود أو الحياة.
189
وأمام حضارة ترى الحياة مخيفة أكثر من الموت، ولذلك تنشد الفناء أو الانطفاء (النرفانا) بهدف التحرر من الشقاء والألم ليعقبه ميلاد جديد. إن الحياة هي مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت. لذلك فكر بوذا: «وهكذا ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء، ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة. وبنظرة قدسية مطهرة إلهية ، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من «كارما»،
190
وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسدا آخر.»
191
وجد بوذا أن الحياة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الأخرى كما يعتقد أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو النرفانا،
192
التي هي إخماد أو إطفاء لكل شهوات الفرد. وسرعان ما يتحطم الفرد بالموت لتأتي عجلة الميلاد بآخر جديد. فتناسخ الأرواح هنا هو فرصة متاحة للروح لتكفر عما ارتكبت من آثام، ولا بد للإنسان أن يكتمل روحيا وأخلاقيا قبل أن يحقق الخلاص. والعدالة هي قانون الحياة الأخلاقية تماما كما أن العلة والمعلول هما قانون العالم الطبيعي. وبما أن العدالة والكمال الأخلاقي والروحي لا تتحقق في حياة واحدة لذلك تؤمن هذه العقائد بالولادة الثانية حتى تعطى فرصة للإنسان لكي يتقدم أخلاقيا ولكي ينال الكمال. فالكارما والولادة الثانية هما الوسيلتان اللتان تحققان النظام الأخلاقي للكون في حياة الإنسان.
193
وتختلف النرفانا بهذا المعنى اختلافا واضحا عن التصوف الغربي كما عرف عند أفلوطين (205-270م) أو ميستر إيكهارت (1260-1328م). إن التجربة الصوفية لكل العصور تجربة يصعب التعبير عنها، وهي تتسم بالبساطة، وتبتعد عن أي تعقيد، فالفناء في التجربة الصوفية هو فناء في الذات الإلهية، ولحظة انجذاب صوفي. ولكن النرفانا هي الصورة المضادة لها لأن صورتها الخيالية المفعمة بالأماني هي الفناء في العدم أو في الموت.
194
فالعدم أو الموت هو اللحظة الممتلئة لهذه العقيدة الهندية، وكأن لحظة الوجود الأسمى ليست في قهر الموت - كما في المسيحية - بل في الفناء فيه في لحظة عدم مطلق؛ لحظة تتحد فيها الروح باللانهاية اللاواعية حيث السكون والسكينة المطلقة. (د) الرومانسية ولحظة نعيم الموت
مع الرومانسية اختفى الخوف المعتاد من الموت، وتغيرت النظرة إليه فلم يعد جحيما، بل أصبح نوعا من التغيير والراحة الأبدية.
195
تحرر الفكر من العالم الآخر. والواقع أنه نادرا ما كان ينظر إلى الموت - الذي شعر الرومانسيون بالحنين إليه - على أنه فناء شامل، فهو يعني بالنسبة للبعض الاستغراق في «الكل»، وهو بالنسبة للبعض الآخر بداية الحياة الخالدة التي قالت بها المسيحية.
196
كذلك نجد أن الموت عند «ليبنتز» ليس فناء، فالكائن الحي لا ينتظر الحساب في عالم آخر، لأنه لا يسري عليه الفناء ولأن الموت لا يخرج عن كونه عملية تحول. كما هاجم ليسنج - في مقاله «كيف تخيل القدماء الموت؟» - الصورة التي رسمتها العصور الوسطى للموت، ورسم له صورة أخرى جمالية، يصفها بلوخ بأنها يوتوبيا عينية للموت.
وقد أعجب جوته بفكرة ليسنج الجمالية التي تعبر عن الفكر الحر ولا تريد أن تستسلم للعدم، وتحرر الفكر من العالم الآخر بحيث لا يكون هناك مكان للسماء ولا للجحيم. هذا الشعور الحيوي والجمالي تجاه الموت الذي نجده عند كل من ليسنج وجوته أدى بهما إلى القول بتناسخ الأرواح، لم ينظرا لعجلة الميلاد على أنها ورطة كما في الفلسفة الهندية، بل على أنها وسيلة لوجود قادر على أن يكون أفضل في أكثر من حياة واحدة.
197
هو ذلك العنصر الحيوي في صورة ليسنج الخيالية عن الموت، وتناسخ الأرواح أعطى للأفراد وجودا حاضرا وواقعيا
Actual being-present
في مراحل التاريخ ككل. ولا يجب أن ننظر للتاريخ القديم على أنه تاريخ إنساني مجرد، بل من الممكن أن يكون تجربة حية لبشر يعودون بأرواح جديدة حيث تتحرك الأرواح في فراغ. إن المونادة العارفة لا يمكن زوالها في رأي جوته، ولعل ما قاله في أحد أحاديثه لصديقه أيكرمان في سن الخامسة والسبعين أن يكون أصدق تعبير عن هذه الفكرة التي جعلت جوته يؤمن بأن واجب الطبيعة أن تزوده بشكل آخر من أشكال الوجود بمجرد أن يصبح وجوده الحالي غير قادر للإبقاء على روحه.
198
إن الموت هو الحدث الأخير في حياة الإنسان؛ لأنه - أي الموت - ليس سوى درجة من درجات التحول الدائم كما يقول جوته في قصيدته «حنين مبارك»:
وإذا لم تصغ للصوت القديم
داعيا إياك: مت كيما تكون،
فستبقى دائما ضيفا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين.
199
فالتضحية بالذات علو وارتفاع في سلم الوجود، كالفراشة تحقق ذاتها بالفناء في نار الشمعة، وكالقطرة تحقق ذاتها عندما تموت وتتحول إلى لؤلؤة، وكأن تحقيق الذات قهر للموت، تلك هي عقيدة جوته عن الخلود. ولعل العمل الفني - في تحولاته المختلفة التي يمر بها حتى يصبح عملا كاملا - يشبه هذه القطرة التي وهبها الله القوة والبقاء.
200
هذه الحالة من الخلود التي توصل إليها كل من ليسنج وجوته نجدها في إطار آخر عند كانط، وإن كان تناسخ الأرواح ليس له مكان عند هذا الأخير، حيث يصنف مثل هذه الأشياء بين مغامرات ما وراء التجربة الميكانيكية، لذلك لا يكمن خلود الروح في تناسخ الأرواح ولكن في النزوع إلى الكمال الأخلاقي من خلال العقل العملي: «وهكذا فإن الخير الأسمى هو أمر ممكن عمليا فحسب إذ افترضنا خلود النفس، وهذا الأخير بحكم كونه مرتبطا على نحو لا فكاك منه بالقانون الأخلاقي هو شرط ضروري للعقل العملي الخالص.»
201
ويتعين علينا فهم الاعتماد على الحجة الأخلاقية لإثبات الخلود بدلا من الرجوع إلى التجربة الدينية أو الإيمان الأعمى. إنه نتيجة لنفور كانط من النزعة الصوفية ولتأثير المزاج العقلاني على رؤيته للدين. وفي المقام الأول لنظرته إلى أسبقية التجربة الأخلاقية على التجربة الدينية.
202
وهكذا نجد أن الموت ليس له الكلمة الأخيرة عند كانط؛ إذ يظل الأمل قائما وموجودا في صمت ما بعد الموت، وأعني به الأمل في النزوع العقلي الأخلاقي. (ه) لحظة الخلود في العمل
كان من الطبيعي أن يرفض بلوخ فكرة الموت كما جاءت في الديانات والحضارات السابقة الذكر، ويرفض أيضا فكرة الخلود من هذا المنظور الديني والساكن. ووجد أن لحظة الوجود الأسمى أو لحظة الخلود الأعظم ما هي إلا لحظة الفعل أو العمل، فهناك حكمة ريفية تقول: لا تترك الحياة بدون أن تزرع شجرة، وبدون أن تترك ابنا. ونستطيع أن نقول أيضا إن هناك من الأعمال التي يخلقها العقل البشري ما لا يسري عليه الفناء، فالأعمال التي رسمت وألفت وكتبت وبنيت وتم التفكير فيها، مثل هذه الأعمال التي يمكن أن يعاد تشكيلها وتجديدها مرة ومرات؛ لا بد أن تكون خالدة، ومع ذلك فليست كل الأعمال الناجحة خالدة، فهناك على سبيل المثال الفوز بمعارك حربية أو سياسية لا يسري عليها الخلود، لأنها أعمال لا يمتد تأثيرها طويلا، كما أنه لا يمكن إعادة تشكيلها وتجديدها في وعي البشرية ووجدانها. وهناك أمثلة على الأعمال الخالدة التي احتلت مكانها في التاريخ، فموسيقى بتهوفن وأشعار شكسبير - على سبيل المثال لا الحصر - ظلت لقرون بعد موت صاحبيها باقية يتردد صداها في وعي بشرية ووجدانها.
203
وهناك أشخاص أحسوا بهذه اللحظة الخالدة الممتلئة - مثل شيللر وجوته - ولم يجدوا الخلود في لحظة الموت أو فيما وراءه، وإنما في لحظة العمل. فعندما بدأ مرض شيللر كتب لجوته في 3 أغسطس 1794م: «لن يكون لدي وقت لاستكمال ثورة عقلية عامة وكبيرة داخلي ولكني سأعمل ما أستطيع، وعندما ينهار البناء فربما أنقذ ما له قيمة من اللهب.» كما رأى جوته أيضا خلود أعماله، فقبل وفاته بأربعة شهور كتب لفون همبولدت رسالة يعبر له فيها عن أن عمره الطويل جعله يرى أعماله وقد أصبحت تاريخية.
204
كما يؤكد هذان البيتان فلسفة جوته القائمة على الفعل:
ورثت جنة، تزهو على الجنان
إن الزمان ثروتي، وحقلي الزمان
فما دام الإنسان لا يملك إلا حقل اللحظة، فما الذي يطلب منه إلا الإقبال على حرثه ورعايته بالعمل؟ تلك هي ذروة الجدية والمسئولية والوعي بقيمة الحياة التي يتهددها الفناء في كل لحظة.
205
واللحظة الممتلئة هنا هي لحظة الخلود، ولكنه ليس خلودا في عالم آخر ولا هو فناء في العدم، وإنما هو خلود في العمل. لقد تحول الخوف المعتاد من الموت إلى خوف من مباغتة الموت قبل إكمال العمل، فالموت بالنسبة للفنان لا يعني أنه سيؤدي به إلى العدم، بل يعنى أنه سيأخذ قلمه من يده، وهذا ما عبر عنه هيلدرلن عندما باغته المرض أثناء كتابة مسرحيته الشعرية التي لم يتمها وهي «أنبادوقليس»:
هبوني صيفا واحدا أيها «الآلهة» الأقوياء!
وخريفا واحدا فحسب لكي تنضج أغنيتي،
ولكي يموت قلبي وهو مغتبط،
ومشبع بالعزف الحلو.
إن هيلدرلن في هذه الأبيات لا يخشى أن تهبط روحه إلى العالم السفلي إذا استطاع أن يحقق واجبه الإلهي القريب إلى قلبه، أي إذا استطاع أن يتم قصيدته، عندئذ سيرحب كما يقول في نهاية هذه القصيدة بالهبوط إلى عالم الصمت والظلال:
مرحبا بك إذن يا صمت عالم الظلال،
إنني راض على الرغم من أن أوتاري
لا تصاحبني بالعزف في الهبوط إلى هناك،
لقد عشت كالآلهة مرة واحدة؛
فلم تعد بي حاجة إلى شيء آخر.
206
إن إرادة هيلدرلن في هذه القصيدة تثبت أن الخلود في العمل وفي الإبداع، وإذا كانت الذات البشرية لا تشارك بشخصها في هذا الخلود، فإن الأمل في إنقاذ ذلك الجزء النبيل في الإنسان من التدهور، أي العقل البشري، يظل باقيا. لقد اختفت الصورة الخيالية القديمة للخلود وحلت محلها يوتوبيا الخلود التي تنتج نفسها من جديد، وتعبر عن الوجود المستمر للإنتاج العقلي البشري وليس العقل الإلهي.
وإذا كان الموت هو سلب الوجود، فإن سرعة مجيء الموت هي التي تضفي على اللحظة قيمتها، كما أن لحظة الامتلاء والسعادة القصوى لن يوقفها الإنسان - لفرط طموحه واتساع أمله - أو يخاطبها على لسان فاوست «تريثي قليلا، فما أجملك!» لأن من الممكن - مهما تصورناها ذروة الإمكان - أن تتكرر على الدوام في صور لا تنفد جدتها ولا ينتهي تنوعها. وعلى الرغم من أن الإنسان بطبيعته كائن متناه لا يمكن أن يصل إلى المطلق، إلا إنه لا يمكن أن يتوقف عن السعي إليه. وعنصر السعي إلى المطلق ما زال موجودا في فاوست، فكل لحظة تشير إلى لحظات أخرى ممتلئة، ونداء فاوست للحظة بالتريث والوقوف - في نهاية القسم الثاني - ما هو إلا أمنية لنيل الخلود بوقف عجلة الزمان عن الدوران. لقد شعر فاوست وهو على وشك الموت أنه صار بين الزمان وبين السرمدية، بين التناهي وبين اللانهاية، أنه يود لو أن عمله يخلد.
207
توقفي إذن، فأنت رائعة الجمال!
إن أثر أيامي على الأرض
لا يمكن أن يغيب في الدهور،
وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة،
فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات.
208
وجد بلوخ إذن - مع فاوست جوته - اللحظة الممتلئة في العمل. ولكن كيف تتجلى هذه اللحظة في الزمان؟ لقد تجلت في اليوتوبيات الاجتماعية التي ظهرت منذ بدايات التفكير اليوتوبي القديم والوسيط والحديث، فمنها ما كان أفكارا مجردة، ومنها ما حلق في آفاق الحلم وهجر الواقع. لكن لحظة الفعل الحقيقية لا بد أن تتجلى في مجتمع إنساني ما زال يتصوره بلوخ؛ مجتمع شيوعي أطلق عليه اسم «الوطن» أو «المجتمع الإنساني».
الفصل الخامس
تجليات الأمل في يوتوبيات التقنية والكشوف الجغرافية
والفنون
بعد أن أقام بلوخ نسقه الفلسفي للأمل وأسسه أنثروبولوجيا وأنطولوجيا، حاول أن يبحث عن بذور الأمل في التاريخ البشري بأكمله وفي مظاهر الحضارة الإنسانية، ومن ثم أخذ يبحث عن تجليات اللحظة الممتلئة في التفكير اليوتوبي عبر التاريخ البشري. فهل تجلى الأمل - بما ينطوي عليه من اكتشاف إمكانات ثورية كامنة في الواقع الفعلي وقادرة على استشراف المستقبل - فيما يمكن تسميته باليوتوبيات التاريخية، أي في تاريخ التقنية والكشوف الجغرافية والفنون المختلفة من ناحية، وفيما أبدعه الخيال البشري وأطلق عليه اليوتوبيات الاجتماعية من ناحية أخرى؟ قبل تتبع هذه التجليات اليوتوبية لا بد من التوقف قليلا عند المصطلح نفسه، أي اليوتوبيا.
كان توماس مور أول من استخدم كلمة اليوتوبيا التي تعود إلى الأصل اليوناني من امتزاج كلمتي لا مكان
no place
والمكان الطيب
Good place . وأصبح للكلمة فيما بعد معان كثيرة غير التي استخدمها بها مور، فصارت تطلق على كل إصلاح سياسي أو أية تصورات فلسفية مستقبلية، أو حدوس علمية وفنية. ولكن اليوتوبيا تظل تصورا فلسفيا - مهما تنوعت أشكالها الأدبية والعملية - لمجتمعات مثالية يتحقق فيها الكمال بصفة عامة، كما تنشد انسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع مجتمعه، أي أن الفكر اليوتوبي معني بالدرجة الأولى بخلق أفكار وتصورات للانسجام الاجتماعي.
1
وقد تنوعت الأشكال اليوتوبية فكانت صورا لمجتمعات خيالية مثالية يتحقق فيها الكمال أو تقترب منه، وتم التعبير عنها في أشكال أدبية مختلفة منها المقالة والقصة والرواية والقصيدة، أو في شكل نظريات سياسية تقدم صورة نظام سياسي نموذجي بمؤسساته المختلفة مع تصور كامل لكل تنظيمات الحياة (كما عند توماس مور)، أو في بعض النظريات في فلسفة التاريخ (كما عند كوندورسيه). ويلعب الخيال الدور الأكبر في كل الأشكال اليوتوبية بدءا من جمهورية أفلاطون وانتهاء بروايات الخيال العلمي. وإذا كان هناك عصور تاريخية تميزت بالطابع اليوتوبي أكثر من غيرها، إلا أنه ليس صحيحا ما يزعمه البعض - وبخاصة الماركسيون الرسميون - عن اختفاء التفكير اليوتوبي في العصر الحديث والمعاصر. وها هو أوسكار وايلد يعترف بالتفكير اليوتوبي ويذهب إلى القول بأنه لا توجد خريطة للعالم ما لم تنظر بعين الاعتبار لدولة اليوتوبيا.
2
وإذا كانت كلمة اليوتوبيا لم تنشأ إلا في القرن السادس عشر مع توماس مور، فإن التفكير اليوتوبيي نفسه قد نشأ مع بدايات التفكير البشري، بل يمكن القول - مع بلوخ - إن الحلم بحياة أفضل بدأ مع صرخة الجوع، فكان هو الدافع الأول للتفكير اليوتوبي، إن الإنسان المتخم بالشبع لا يصرخ ولا يجأر بالشكوى، ومن لم يعان الجوع لا يمكنه الحلم برغيف الخبز. وكان الجوع هو الحافز على العمل، فالطبيعة تمنحنا الهواء والتربة، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش على الهواء وحده، كما أن التربة تحتاج إلى الحرث والغرس، والخبز لا ينمو فوق الأشجار إلا في الأحلام والحكايات الخرافية، لأن الواقع المادي يتطلب من الإنسان الكدح والكد لإشباع جوعه. ولا يوجد محرك لصنع أو خلق مشروع يوتوبي يفوق في قوته قوة الاحتياج، ولهذا كانت الأفكار والأحلام والخيالات اليوتوبية استجابة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات البشرية على مر العصور. وتكمن أصول التفكير اليوتوبي في الأساطير والحكايات القديمة عن جنة عدن أو غيرها؛ إذ تصور هذه القصص الموروثة الانسجام المطلق والسعادة الفطرية التي كان يحيا في ظلها البشر الأولون، وبقي حنينهم الدائم إلى استعادة هذه العصور الذهبية.
ويتطور التاريخ البشري أيضا من منظور يوتوبي، فكل ما في العالم يدل على الغاية اليوتوبية وهي هدف التاريخ، ولا يخلو تاريخ العلوم والفنون والكشوف الجغرافية من آثار النزعة اليوتوبية. فلم تكن لهذه العلوم والفنون أن تتطور لولا ما تضمنته من أمل في الجديد والأفضل، أي بمعنى آخر لولا ما كان فيها من عنصر يوتوبي يلقي الضوء على إمكانات الواقع الكامنة ليظهرها إلى النور. فما هي إذن تلك الإمكانات الكامنة في هذا العنصر اليوتوبي فيما أبدعته الحضارة البشرية من خيالات وتصورات مختلفة للأشكال اليوتوبية التاريخية التي ظهرت في شكل يوتوبيات للتقنية، وأخرى للجغرافيا أو الكشوف الجغرافية، وأخيرا في الأشكال اليوتوبية في تاريخ العمارة والفنون؟ ومن الطبيعي أن يكون عرض هذه اليوتوبيات من تلك الزاوية التي يبرق فيها شعاع الأمل الذي يستشرف الجديد القادم في المستقبل وسيكون الحكم عليها بقدر ما تحمل من أمل.
أولا: التجلي اليوتوبي في تاريخ التقنية «الحاجة أم الاختراع.» أثبت بلوخ صدق هذه المقولة بأن تتبع فكرة الاختراع أو الابتكار منذ بداية الخليقة ، وهي الفكرة التي تولدت من الحاجة، وقد استطاع الإنسان أن يحتفظ بوجوده وبقائه بفضل العمل والتخطيط لشيء أفضل، ولو لم يسلح الإنسان البدائي نفسه أمام الذئاب لكان الجنس البشري قد انتهى وحكم عليه بالفناء. فالحاجة إلى المحافظة على الوجود أو البقاء جعلت كل ما على ظهر الأرض يحتمي من العراء في شيء ما يصنعه أو يبتكره؛ بنى العصفور العش، وصنع الحيوان العرين، وبنى الإنسان الكهف الخشبي أو الحجري، وأشعل النار لينضج طعامه، واخترع الأدوات ليلبي احتياجاته اليومية.
3 (1) التقنية القديمة
بدأت التقنية في العصر اليوناني مع الميثولوجيا، وبخاصة في أسطورة برومثيوس سارق النار من الآلهة ليعطيها للإنسان مانحا إياه سر التقنية، ومضيئا له الطريق بالعقل الذي كان نقطة انطلاق لكل التغيرات المادية المستحدثة. وتوسط هذا العقل بين الذات البشرية المقهورة وبين الطبيعة التي فرضت سلطان الضرورة العمياء على الإنسان، وظلت أسطورة برومثيوس في تاريخ الفكر البشري رمزا للتمرد، ورغبة وأملا في التحرر من سيطرة الطبيعة. وتوسطت الطاقة - التي منحها برومثيوس للبشر - لتحول الإنسان المقهور إلى إنسان صانع أو فاعل يتحد مع الطبيعة الكونية.
ولم يكن للاختراع أو الابتكار أن يتم لو لم يتمتع الإنسان بمخيلة خصبة وخيال خلاق، وحتى عندما عجزت قدرات الإنسان العلمية والمادية - في العصور القديمة والوسيطة - عن اختراع أشياء عينية لتحقيق حياة أفضل، لم تعجز مخيلته عن اختراعها في الخيال، وهذا ما تؤكده آداب الشعوب التي حاولت بالخيال - على أقل تقدير - تخطى حدود المكان والزمان لرسم صورة مفعمة بالأماني لحياة إنسانية أفضل. كما تؤكده الحكايات الخرافية
Fairy tales
التي استخدمت الأساليب السحرية في تلبية الاحتياجات البشرية، ففي هذه الحكايات لعبت المخيلة دورا كبيرا في رسم صور خيالية لاختراعات تقنية توسطت بين ما هو موجود وبين ما تحلم البشرية بوجوده بحيث جعلت المستحيل ممكنا ولو على مستوى الخيال. ونجد أمثلة من هذه الحكايات في التراث الشعبي العربي، لا سيما في حكايات ألف ليلة وليلة مثل علاء الدين والمصباح السحري، وفي التراث الألماني نجد اختراع المائدة السحرية في حكايات الأخوين جريم
Grimm ، والصفارة الفضية السحرية في حكايات هاوف
Hauf
الفنية التي تنفذ لصاحبها ما يريد بالسحر. كذلك نجد أمثلة لها في الحكايات الخرافية التي اخترعت البساط السحري الذي يطير بصاحبه إلى حيث يشاء ووقتما يشاء، إلى جانب العديد من الحكايات التي وردت في آداب الشعوب المختلفة،
4
مثل هذه الأشياء السحرية في الحكايات الخرافية مزجت العقل بالخيال وقدمت صورا تقنية خيالية، بحيث يمكن القول بأن السحر في هذه الحكايات هو التقنية في ثوبها القديم، وترجع قيمة هذه الحكايات إلى أنها تمثل مستقبل القدرة البشرية.
في عصر النهضة تحول السحر الذي لعب دورا هاما في الحكايات الخرافية إلى سحر من نوع مختلف، إذ ارتبطت الكيمياء بالسيمياء،
5
واستخدم السحر والتنجيم لفك رموز الطبيعة. ويتصدر باراسلس (1493-1541م)، الطبيب والفيلسوف، العصر الذي اختلطت فيه الكيمياء والسيمياء لدرجة يستحيل معها فصل أحدهما عن الآخر، ولكن السيمياء عنده لا تعني فقط استخلاص الذهب من المعادن الخسيسة، بل تعني أيضا بالنسبة للإنسان - أو العالم الصغير - صحة الجسد، كما تعني بالنسبة للكون - أو العالم الكبير - استخلاص النور الأصلي. وتقوم فلسفة باراسلس على الفكرة الأساسية للتوافق بين العالم الداخلي (الميكروكوزم) والعالم الخارجي (الماكروكوزم)، لأن الداخلي ليس بإمكانه أن يعرف الطبيعة، والطبيعة ليس بإمكانها أن تعرف نفسها إلا إذا كان الذي يعرف سليما غير مريض، ومصطلح «المرض» لا يفهم هنا بالمعنى الطبي حصرا، بل يشير إلى أن الإنسان يجب ألا يكون مغرورا ممتلئا بذاته، ولا يحبس نفسه في قفص فرديته، إن الطبيب ينطق هنا بلسان الفيلسوف في قوله: يجب على الإنسان أن يسترجع صحته بأن يمتثل لمعرفة للطبيعة، كما يجب عليه أن يتوج معرفته للطبيعة بأن يعيد لها صحتها، وهكذا تظهر مقولة جديدة تماما، هي مقولة الشفاء الذاتي للعالم.
6
هكذا يرى باراسلس أن المرض ليس مجرد خلل، وإنما هو نقيضه أيضا أو «لا-كمال»، ويتجه الإنسان - بوصفه أكبر مشروع في الخليقة - ليقود الأشياء بتحسينه لها نحو مآلها في الطبيعة. هذا هو الميلاد الجديد الفاعل، النهضة النشيطة: فالإنسان المخترع «يفعل» على الطبيعة، ينطق كلمة «ليكن» معطيا إياها شكلا سحريا. وعلى السحر والسيمياء والتنجيم أن تفك رموز الطبيعة؛ فسيمياء باراسلس ما هي إلا صور رمزية في الطبيعة وبإمكان الإنسان أن يسهم في تفتحها، أي بإمكانه أن يقود العالم نحو جوهره. وبالسحر - بوصفه الشكل الأقدم للتقنية - يتم تحويل العالم، والطبيب يدعو الفيلسوف لخلق إنسان أكمل من الذي خلقه سيد العالم. وللوصول إلى ذلك يجب على الإنسان أن يتسلح بجرأة قصوى، وأن يقتنع بالعظمة الفائقة لذكائه الخلاق، هذا الذكاء المبدع يدعوه باراسلس «التخيل» أو «الخيال» وهو القوة المتفائلة.
7
ثم تأتي سيمياء ياكوب بوهمه (1575-1624م) لتنظر للطبيعة نظرة كيفية، في رؤية تتعارض بشكل ساذج مع العلم الطبيعي الميكانيكي. لقد قدم بوهمه وصفا تفصيليا لواقع الحياة الطبيعية، فحدد لها سبع قوى هي بمثابة كيفيات أو أشكال وجودية ديناميكية تدور حول نفسها في العالم، أو بالأحرى هي التي تؤلف العالم في صيرورة مستمرة، وهذا يفترض بالضرورة أن الخلق لم يتم دفعة واحدة، بل يتجدد في كل لحظة، والقوة الأولى هي الحموضة أو العنصر القابض، ينضم إليه العنصر المحرض أو القوة الثانية وهي الحركة ، والقوة الثالثة، وهي سلبية في جوهرها، هي القلق أو النار المضطرمة تحت الرماد، أو هي الكبريت الذي ما زالت النار راقدة في أعماقه.
8
ويسمي بوهمه القوى الأساسية الثلاث للواقع الطبيعي بالمصطلح السيميائي (الكيميائي) المستعمل آنذاك: سالنتير.
9
من هذه القوى الثلاث تأتي القوة أو الكيفية الرابعة وهي النار المندفعة، وهي تعين من تعينات الطبيعة يظهر في شكلين مختلفين، أحدهما مظلم سلبي يتمثل في نار الغضب التي تعبر عن نفسها في شكل مدمر كإعصار أو صاعقة أو حريق وتسبب الدمار والفزع، والشكل الآخر إيجابي، فهذه النار ذاتها هي التي تولد الحرارة والنور. إنها هي نار الموقد التي تجمع البشر، وهي التي تدفئ الكون وتضيء كل شيء، وهي الشمس التي تحمل إلينا الربيع وتجعل الحياة تتفتح. إذن فالنار هي التي تلد القوة الخامسة وهي الضوء. ويتبع الضوء قوة أساسية سادسة هي الصوت الذي يرافق الضوء دائما، ومع الصوت تولد الكلمة التي تسهل الاتفاق والتفاهم ، ومع نهاية هذه الولادات الست يبزغ الكيف السابع وهي الجسمية، أي الطبيعة المشكلة في جملتها وتمامها. وهو الامتلاء لكل الكيفيات السبع وما يسمى بالخلق أو الخليقة.
10 (2) التقنية الحديثة
في القرنين السابع عشر والثامن عشر نشأت في أوروبا الجمعيات السرية.
11 (مثل جمعية الصليب الوردي
Rosenkreutz
والماسونية) التي زعمت أنها تملك معرفة سرية بالطبيعة والدين، ومن المعروف أن العلم في القرن السابع عشر والثامن عشر كان لا يزال تابعا للعقيدة الدينية، ولم يتحرر من أسرار الدين إلا في القرن التاسع عشر حتى انفصل كل منهما عن الآخر بشكل نهائي في القرن العشرين. وفي القرن الثامن عشر انتشرت المذاهب المادية الآلية التي نظرت إلى الإنسان على أنه آلة، كما أن اختراع الساعة كان له أثر على الإحساس بالزمن في بدايات المجتمع الصناعي الأول، وارتبطت النزعة المادية الآلية بتأسيس المنهج العلمي الرياضي في تفسير العالم؛ مما انعكس على التفسير الآلي للإنسان، وتصور العالم والجنس البشري بوصفهما آلة دقيقة تحكم قوانينها الحتمية العلمية، ولعل أكثر من عبر عن هذا الاتجاه هو الفيلسوف المادي الفرنسي لاميتري
La Mettrie (1709-1751م) الذي تبنى المادية الآلية المتطرفة واعتبر الإنسان آلة حتى إن أشهر كتبه يحمل هذا العنوان «الإنسان الآلة» عام 1748م.
ظلت يوتوبيا التقنية أسيرة الميثولوجيا والسحر والسيمياء والتنجيم والاهتمام بأوضاع الكواكب والنجوم لحظة تحويل المعادن أو صنع الذهب ... إلخ. حتى إن يوتوبيا توماس مور الليبرالية كان بها إشارات خفية لهذه السيمياء. كما لم تخل يوتوبيا كامبانيلا من أسر علم التنجيم، على الرغم من أنها قدمت تصورا لاختراعات علمية عديدة اهتمت بها القرون التالية لها. ومع فرنسيس بيكون (1561-1626م) بدأت دراسة خاصة ليوتوبيا من نوع جديد لم يكن معروفا في زمنه وهي «يوتوبيا التقنية»، وتحررت التقنية من أسرها السحري؛ إذ نبذ بيكون السيمياء وعارض المنهج الاستنباطي، ووضع المنهج الاستقرائي، ودعا إلى التجربة في كتابه «الأورجانون الجديد» عام 1620م. وكانت أطلنطا الجديدة
Nova Atlantis
أول يوتبيا للتقنية أطلق عليها بلوخ اسم «مختبر يوتوبي» فاقت في خيالها ما جاء في الحكايات الخرافية، وتميزت عن غيرها من يوتوبيات اجتماعية متخلفة في مستواها التقني. وقد تميزت يوتوبيا بيكون أيضا بالتفاؤل فكشفت عن إمكانات هائلة للتطور التقني، حتى لتعد أول يوتوبيا اهتمت بالإنتاج التقني من أجل حياة أفضل، ومجدت الاختراع والاكتشاف.
وظلت «أطلنطا الجديدة» زمنا طويلا هي الكتاب الوحيد في قصص الخيال العلمي
Science fiction
وهي عبارة عن جزيرة سعيدة نائية أطلق عليها اسم «بنسالم»، انعزل أهلها عن العالم ولم يصلها إلا من ضل سبيله من الرحالة. أقام العلماء من أهل الجزيرة «دار سليمان» على نمط «هيكل سليمان» كما ورد في التوراة؛ لتنظيم البحث العلمي والاكتشاف والاهتمام بما يمكن تسميته بفن الاختراع، بحيث يمكن أن يطلق على هذه الدار مصطلح أكثر دنيوية وهو «جامعة تقنية»، فما حققه سليمان بالمعجزات حققه أهل الجزيرة بالعلم. وفي هذه المؤسسة التقنية واليوتوبية الأسطورية تصنع أشياء مدهشة، فهي تضم معهدا لعلم توليد النباتات أي زراعة أنواع مختلفة من النباتات والفواكه في المناطق الحارة، ومركزا علميا لتربية الحيوانات وتهجينها، ويمارس العلماء التشريح في هذا المركز، كما أن هناك فرعا للبيوكيمياء (الكيمياء الحيوية) لفحص نوعية الأطعمة واللحوم . واخترع العلماء محركا، وقدموا وصفا للآلة البخارية والميكروسكوب والتلسكوب والميكروفون، وتخيل علماء أهل الجزيرة فكرة التليفون بوصف شبكة أنابيب تحت الأرض خاضعة لضغط هوائي يسهل انتشار الصوت.
12
اهتم بيكون بأن يطوع العالم الخارجي لما تتطلبه الحاجات البشرية عن طريق الاختراعات، وفلسفته في ذلك تتلخص في هذه الحكمة: السيطرة على الطبيعة أو قهرها بالطاعة. وقد اقتضت هذه الحكمة معرفة كاملة بالقوانين الطبيعية واستغلالها أو ما يسمى بتطبيع الطبيعة.
13
ومعرفة أهل «أطلنطا الجديدة» بالطبيعة وتطويعها تستهدف الإنسان، فكل شيء في هذه الجزيرة صنع من أجل الإنسان وتوفير حياة أفضل له، التقنية هنا مسخرة لبناء «عصر الإنسان» ولم تجلب عليه الكوارث التي ستظهر في عصور متأخرة. ولقد وضعت «أطلنطا الجديدة» معالم الطريق، وإذا لم يكن بيكون نفسه فاتحا في هذا المجال، إلا أنه كان منقبا ورائدا مستطلعا يسجل الأماكن التي سيكون ممكنا ذات يوم احتلالها. قرأ بيكون واقع عصره ودرسه بالعلم - وليس بالسحر أو التنجيم - فاستطاع أن يستخرج إمكاناته الكامنة التي يمكن تحقيقها في المستقبل. ويتميز بيكون بأن الحقيقة التي يسعى إليها ليست من أجل ذاتها ولا من أجل غايات تأملية، لأن مفتاح المعرفة هو أداة تحسين العالم، وتحقيق مملكة البشر، على نحو ما وضع باراسلس المعرفة في خدمة الشفاء، وكما صار الفردوس دنيويا «مملكة بشرية» عند ياكوب بوهمه وغيره ممن جعلوا من الأرض مكانا أفضل للإقامة.
14
عندما ظهرت «أطلنطا الجديدة» ظهرت في نفس الوقت «مدينة الشمس»
Civitas Solis
لتوماسو كامبانيلا (1568-1639م). وفي الجانب التقني من هذه اليوتوبيا امتدح كامبانيلا في مدينته النهضة العلمية، ودعا إلى إثراء الاكتشافات العلمية والاختراعات، وقد كان لأهل مدينته اختراعات تجاوزت النهضة الأوروبية في ذلك الحين، إذ ابتكروا فن الطيران بدون أجنحة، واخترعوا منظارا لاكتشاف كواكب كانت مجهولة في عصرهم، وصنعوا سفنا تطوف البحار بدون مجاديف ولا أشرعة بل بفضل مراوح وعجلات ميكانيكية الحركة. وتميز كامبانيلا بحدس يوتوبي أضفى على تقنيته رؤية مستقبلية، وحقق التقدم العلمي والثورة الصناعية بعض رسوم اليوتوبيا التقنية كما تخيلها كامبانيلا، لا باعتبارها تنبؤات صادقة، بل من حيث هي صور الأمس المرجوة.
15
وعلى الرغم من أن كامبانيلا قدم في «مدينة الشمس» بعض الاختراعات العلمية السابقة لعصرها، إلا أنه لم يكن له عقل بيكون المفعم بالقوة. فيوتوبياه لا تنطلق في الطبيعة الموجودة، بينما تنطلق «أطلنطا الجديدة» إلى ما وراء الطبيعة وتتسم بالتفاؤل التقني، على العكس من يوتوبيا كامبانيلا التي يحكمها نظام صارم وثابت كوضع الكواكب الثابتة. إنها تقوم على علم التنجيم، فكل شيء يجب أن يوجد في موقعه، وكل شيء محدد من أعلى ومحكم في موضعه طبقا لمواضع النجوم. وهي يوتوبيا لا تسمح بأي قدر من الحرية، بل لم تستطع أن تتحرر من أسر «العلوم السرية» التي سادت العصر الوسيط وبداية عصر النهضة فوقعت في أسر التنجيم والسحر إلى حد كبير.
وجاء القرن السابع عشر ليكسب الطبيعة صورة جديدة - بعد أن توجها بيكون ملكة للعلوم - صورة لم تنظر للطبيعة ككائن حي وإنما كآلة أو ماكينة أو ساعة، مصداقا لقول عالم الكيمياء الفيلسوف روبرت بويل إن الطبيعة أشبه بساعة نادرة كتلك الموضوعة في ستراسبورج حيث صنع كل شيء بمهارة ... وتؤدي الساعة دورها المرسوم بفضل تصميمها العام والمبدئي الذي وضع للآلة برمتها.
16
في هذا القرن انتهت النظرة الغائية وسادت النظرة الآلية للطبيعة التي نظر إليها نظرة جديدة، وهي أنها ذات تكوين رياضي عندما قال جاليليو: الطبيعة مكتوبة في هذا الكتاب الكبير، أعني الكون، وهي أمامنا على الدوام نستطيع أن نحملق فيها، ولكن الكتاب لن يفهم إلا إذا عرف المرء كيف يفهم لغة الكتاب، وقرأ الحروف التي كتبت بها، فهو مكتوب بلغة الرياضة، وحروفه في المثلثات والدوائر وغيرها من الأشكال الهندسية، وبغيرها لن يستطيع بشر فهم كلمة واحدة من هذا الكتاب، فبغيرها سنتخبط في متاهات الظلمة.
17
ولكن قوانين العلم الطبيعي الميكانيكي الذي يتصف بالآلية لم ترتبط بعلاقة جدلية مع البناء التحتي للمجتمع، لأن الميكانيكا الكلاسيكية لا تسمح بالتناقض بل إنها قدمت - على لسان صاحبها جاليليو - تصورا ثنائيا للطبيعة يقوم على التفرقة بين الخصائص الكمية والخصائص النوعية للأشياء. الأولى تختص بمجال العلم، والثانية بالميتافيزيقيا؛ مما كان له أثره على التفكير الفلسفي في بدايات العصر الحديث، فجاء ديكارت (1596-1650م) بتفرقته المشهورة بين العقل والمادة، وجاء كانط من بعده ليقول بالنومينا والفينومينا. وهكذا اختفى مفهوم الطبيعة الذي قدمه جوردانو برونو وبيكون نفسه. وجاء جاليليو وديكارت وكانط ليتحدوا في فكرة إن ما ينتج بالطريقة الرياضية هو فقط ما يمكن التعرف عليه، وما يفهم بشكل ميكانيكي هو فقط المفهوم علميا، ولكن إذا نظرنا إلى السكر كسلعة مجردة وجدناه مختلفا اختلافا كليا عن حقيقة السكر. ومن هنا نشأت - في رأي بلوخ - التقنية البرجوازية التي أقامت علاقتها مع السلعة الخالصة ومقدار ما تحققه من ربح لأن الاقتصاد البرجوازي - كما يقول برشت في مسرحية «الإنسان الطيب في ستشوان» - لا يهتم بالأرز بل بسعره. إنها علاقة اغتربت منذ البداية عن قوى الطبيعة التي تعمل بفاعلية من الخارج، وأهملت هذه التقنية حقيقة أساسية هي أنه لا بد للإنسان أن يعرف الطبيعة معرفة كاملة لكي يروضها ويجعلها تخدم إرادته.
18
وعندما ابتعد العلم الطبيعي عن هندسة إقليدس وبدأ ما يسمى بتفكك-النظام
de-Organization
بدأت تبتعد «الذات» الإنسانية عن «الذات» الطبيعية. وبدت الطبيعية أكثر ابتعادا عن الإنسان الذي سيطر عليه الشعور بأنه غير منسجم أو متناغم مع الطبيعة، وبدأ يشعر حيالها بالرهبة والعظمة والتوقير وأنها تتحدى عقله وخياله. واستفحل هذا الشعور بالاغتراب بحيث بدت الطبيعة مفرغة من المعنى الإنساني، وفقدت الذات الإنسانية اتصالها بالطبيعة.
للأسباب السابقة لم تعد التقنية تتوسط بين الذات من ناحية والموضوع من ناحية أخرى، أي لم تتحول «الأشياء في ذاتها» إلى «أشياء لنا» وبذلك لم تصبح التقنية عينية، لأن هذه الأخيرة - أي التقنية - لا يمكن لها أن تستغني عن معطيات الطبيعة للأسباب الآتية: لا يمكن أن نسقط من حسابنا ما تمنحه الطبيعة للتنقية من مواد أولية أو مواد خام استخدمها الإنسان في الكيمياء الصناعية لاستحداث مواد جديدة أخرى أو استخلاصها بشكل مختلف (كتصنيع البترول من الفحم ... إلى آخر ما تنتجه الكيمياء الصناعية) أو إحداث تطور سريع على المواد الخام التي تمر بحالة من التطور الطبيعي البطيء، وذلك بعد أن هجرت الكيمياء الصناعية قوانين الميكانيكا الكلاسيكية، ولا يمكن أن نسقط من حسابنا أيضا قوانين الطبيعة التي أثبتت كل النظريات العلمية أن لها سمة موضوعية كانت عونا للقوانين الاقتصادية، وأنه مهما تغيرت الظروف الاقتصادية فلا يمكن لها القفز فوق هذه القوانين ولا تخطيها. وعلى الرغم من أن هذه القوانين ضرورية وحتمية وخارجة عن إرادة الذات البشرية بل وممتدة أمامها، وعلى الرغم أيضا من أن هذه القوانين على جانب كبير من الفعالية، إلا أن البشرية لا تتحول إلى عبد لها، بل تتوسطها وتتفاعل معها لترفع الاغتراب بين الذات والموضوع.
19
نظر الفكر البرجوازي إلى هذه القوانين على أنها ضرورة خارجية غير متوسطة مع العامل الذاتي بل تعمل ضدها، فنشأ العداء للضرورة وللممكن وللقوانين الموضوعية بصفة عامة، وهكذا ظهرت الضرورة أو الحتمية للوعي البرجوازي المجرد الذي بقي وعيا مغتربا. وهذا على عكس ما نجده في الفكر الماركسي الذي فسر قوانين العلم، سواء كانت قوانين العلم الطبيعي أو قوانين الاقتصاد السياسي، بوصفها صيرورة موضوعية تؤثر على إرادة الكائنات البشرية بحيث يمكنهم أن يكتشفوا ويتعرفوا ويبحثوا ويأخذوا بها في سلوكهم ويستغلوها في منفعة المجتمع. وهذا ما عبر عنه إنجلز بقوله: لا تكمن الحرية في الاستقلال الحالم عن قوانين الطبيعة، بل في التعرف على هذه القوانين، وفي الإمكان المتاح لجعلها تعمل بفاعلية طبقا لخطة ومن أجل أهداف محددة.
20
وتسير بصيرة هيجل في هذا الاتجاه، على الرغم من عدائه الذي لا ينكر للطبيعة ورفضه للحركة الداخلية للطبيعة، إلا أنه فهم على وجه الدقة التحكم في قوانين الطبيعة عن طريق الدهاء: تحولت هذه السلبية إلى إيجابية ... حيث إن فاعلية الطبيعة نفسها وانتظامها الذي يشبه انتظام الساعة يتدخل الإنسان ويحملهما دهاؤه على تحقيق أشياء مختلفة عما كانت تريده الطبيعة نفسها بحيث تستحيل أعمالها العمياء إلى أعمال هادفة أي إلى عكس ما كانت تريده الطبيعة.
21
فالطبيعة بالنسبة لهيجل عمياء، والإنسان يتوسط لكي يقودها. وتعبر فلسفة هيجل في النص السابق عن فلسفة الأنا والسيطرة المطلقة وتسخير كل شيء للأنا البشرية وتتفق عبارة شيللر التي تقول «مباركة هي قوى الطبيعة إذا أحسن الإنسان توجيهها.» تتفق هذه العبارة مع نص هيجل السابق وتفهم في نطاق المنفعة المستمرة من الطبيعة. والواقع أن كلا من شيللر وهيجل يعبران في هذه النقطة عن وجهة النظر الرأسمالية، وأن التصور الرأسمالي للتقنية في مجموعها يمثل السيطرة أكثر مما يمثل المودة التي عبر عنها جوته في فاوست مستلهما عصر النهضة: «أيها الروح الجليل، لقد وهبتني كل شيء، أجل كل ما طلبت، فليس سدى أنك وأنت في النار وليت وجهك نحوي.» ففي أبيات جوته هذه يعبر عن ثقته المطلقة في الطبيعة التي تدير له وجهها كصديق، على العكس مما عبرت عنه عبارة هيجل السابقة التي تمثل فكرة استعمارية إلى حد كبير.
22
إن تدخل الذات البشرية في عالم الصيرورة واختراقها لعالم الضرورة الذي تفرضه قوانين الطبيعة لهو من الأمور الأساسية والملموسة التي يمكن اقتفاء آثارها في العالم الخارجي، وذلك كما قال ليوناردو دافنشي وعبر في لوحاته: «إن قوانين الطبيعة تفرض على الرسام أن يدمج نفسه داخل روح الطبيعة ويجعل من نفسه وسيطا بين الطبيعة والفن.» وكما عبر ماركس أيضا عن هذا المعنى نفسه في كتاب العائلة المقدسة: «بين الصفات الملازمة للمادة تعتبر الحركة هي أهم هذه الصفات وأشدها تميزا، وليس المقصود هو الحركة الآلية أو الرياضية، وإنما المقصود هو النزوع والروح الحية والتوتر وعذاب المادة، على حد تعبير ياكوب بوهمه.» لذلك ظلت المشكلة الأكثر إلحاحا في العصر البرجوازي هي مشكلة الاتصال بين الذات الإنسانية المبدعة للتقنية وبين الطبيعة التي تملك معطيات التقنية، كما ظلت التقنية في العصور البرجوازية تعتمد فحسب على استغلال قوى الطبيعة، ولم تعتمد على إقامة علاقة بين الكائنات البشرية والمادة العينية المستغلة. إن برومثيوس عندما سرق النار من الآلهة ليمنحها للبشر، قد سرق معها الحكمة الطبيعية أيضا. واكتسبت التقنية جذورا جديدة في إنتاج صناعي للمواد الأولية، أي أنها اقتحمت وتوسطت نظام الطبيعة أو نسقها لتطوره.
23
إن الأشياء قابلة للتغيير لا في ظاهرها فقط، بل من جذورها أيضا. وكل تقنية تتطلب إرادة التغيير، لأن الظاهرة - رغم وجودها الموضوعي المعترف به - تظل بدون تدخل الذات غير مرتبطة بالإنسان وغريبة عنه، أي تظل ظاهرة بدون ذات. فالذات مفتقدة في التفكير الكمي والميكانيكا الكلاسيكية، أما في الميكانيكا القائمة على الهندسات اللاإقليدية فقد أصبحت ترابطا حرا لقوانين ذات طابع نسبي. ولقد أقام كانط الترابط الفيزيائي للقوانين على الذات المتعالية على نحو ما فعل مع كل ترابط آخر كما جاء في عبارته المشهورة في نقد العقل الخالص «إن الأنا أفكر يجب أن تكون قادرة على مصاحبة جميع تمثلاتي.» وهذا بطبيعة الحال لا يدخل الذات في آليات الطبيعة بل تبقى الذات عاجزة أمام التصورات الميكانيكية عن الطبيعة. هي حسب التعريف متعالية على الطبيعة وليست ملتحمة بها التحام ذات تجريبية عضوية بالذات الطبيعة. ويرجع هذا إلى إيمان كانط بأن نسق نيوتن الذي تحكمه الآلية الصارمة هو نسق موضوعي تام، وإن القوانين الطبيعية ومقولاتها الأساسية كالعلية موجودة في العقل بشكل قبلي.
24
والعلماء لا يكتشفون في الطبيعة إلا ما سبق أن وجده العقل في نفسه كما أوضح كانط هذا في مقدمته للطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص».
وظلت الذات البشرية مغتربة عن الذات الطبيعية حتى اكتشفت الماركسية - في رأي بلوخ - الذات التاريخية في الإنسان العامل. وأضفت الإرادة بمفهومها الماركسي «الذات» على الصيرورة الطبيعية، فتوسطت الكائنات البشرية مع هذه الذات، كما توسطت الذات مع الكائنات البشرية، وأخيرا توسطت هذه الذات مع نفسها. إن الإرادة التي تكمن في كل بناء فيزيائي-تقني تتطلب ذاتا اجتماعية وراءها، وذاتا أمامها تتوسط معها. فالذات الأولى بوصفها قوة إنسانية لا يمكنها أن تكون مؤثرة بشكل كاف، ولا يمكن للذات الثانية بوصفها الطبيعة المطبوعة أن تتوسط بشكل كاف، ولكي تتحقق اليوتوبيا فلا بد للذات البشرية أن تشارك الذات الطبيعية وتتحالف معها من أجل إنتاج تقنية عينية، فالذات البشرية داخلها قوة هائلة لم تتفجر بعد، وهذه القوة التي تسمى بالإرادة يطلق عليها بلوخ اسم «إليكترون الذات البشرية». لكن السؤال الآن: كيف تنطلق الإرادة من مكمنها لتعمل في التاريخ؟ وهل تصيب هدفها دائما؟ لا بد للإجابة عن هذا السؤال من تتبع الإرادة البشرية طوال تاريخها، فنموذج الإرادة الأوروبية هي إرادة القوة العسكرية الإسبرطية أي في الانضباط والطاعة وسلطة الإرادة القادرة على القتال. غير أن هذه الإرادة لا تخرج عن كونها لم تعرف التوسط، ولذلك لم تكن إرادة حرة تفعل ما تمليه عليها الحرية، بل إرادة عمياء تنصاع وهي معصوبة العينين لتحقيق الهدف الذي تؤمن به، وإرادة متعصبة لم تر الحد الأوسط للأشياء، وكل ما يخالفها الرأي أو الهدف فهو عدو لها. وتسبب هذا الشكل المجرد من أشكال الإرادة في إيجاد كائنات بشرية هي بمثابة آلات الإرادة، كائنات لا تعبر عن إرادتها الخاصة بقدر ما تنفذ إرادة الهدف الذي تؤمن به طبقا لشعار «إن لم تكن معنا فأنت ضدنا.» وهو الشعار الذي قسم العالم إلى مملكتين: مملكة المسيح، ومملكة الشيطان.
25
ويؤكد بلوخ إن الطبيعة ليست شيئا عتيقا من الماضي ولا يصح أن نفسر إنتاجها من خلال الماضي الذي يكرر نفسه باستمرار، وأن علينا أن ندرك التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري في علاقتهما التي لا تنفصم، ولا نتصور أن تجلي الطبيعة قد انتهى إلى الإنسان أو أن التاريخ الحقيقي لم يبدأ إلا بظهور الإنسان؛ ذلك أن الطبيعة كانت دائما حاضرة في التاريخ ومحيطة به، أي أن الفعالية الطبيعية في حالة استمرار، فالواقع أن تجلي الطبيعة والتاريخ الإنساني كلاهما يقع في أفق المستقبل. كما أن توسط التقنية يتجه أيضا إلى المستقبل وحده. وعندما تنجز التقنية من خلال هذا التحالف، ويتحد إنتاج الإنسان بإرادته وخياله مع إنتاج الطبيعة، فإن هذا يساعد بالتأكيد على إطلاق الطاقات أو القوى الخلاقة في الطبيعة الساكنة المجمدة.
26
والمهم في هذه الفكرة عن الاتحاد بين الطبيعة والخيال اليوتوبي الإنساني، أن الطبيعة ليست شيئا ماضيا منفصلا عن الإنسان وإنما هي الأساس والمستودع الذي يستمد منه الإنسان مواد بناء بيت المستقبل الذي لم يتمكن بعد من بنائه، فلا الطبيعة أعطت كل ما عندها، ولا الإنسان أقام بيته غير المغترب. والتقنية التي يقصدها بلوخ هي التي تقوم بهذا التوسط الجدلي بحيث لا تكون الطبيعة مغتربة عنها، ولا تكون هي نفسها - أي التقنية - مغتربة عن الإنسان. وبعبارة أوضح يمكن القول بأن هذا البيت الإنساني لا يقوم في التاريخ فقط وعلى أساس النشاط الإنساني وحده، وإنما يقوم قبل كل شيء على أساس الذات الطبيعية «الموسطة» وكذلك على أساس هذا المستودع الطبيعي الزاخر بمواد البناء.
هكذا تبقى الذات الطبيعية مشكلة ما بقي التوسط العيني للإنسان - بوصفه الابن الأصغر للطبيعة - غائبا، وقد وقعت المجتمعات البرجوازية في هذه المشكلة عندما فقدت الاتصال بالعالم الطبيعي وأنتجت ثورة صناعية اعتمدت على دافع الربح ونكبت العالم بقبح العمل الآلي. وهذا هو الذي صورته روايات الروائي الإنجليزي شارلز ديكنز عن بدايات العصر الصناعي في المجتمع البريطاني. وقد نشأت في القرن التاسع عشر حركة تدعى «لوديزم» وهي جماعة معادية للنزعة الآلية دعت إلى تحطيم الآلات والماكينات لاعتقادها بأنها ستقضي على الأيدي العاملة.
27
وعبر هذا العصر الصناعي عن مرحلة اغتراب لم تقم التقنية فيها على «التحكم في الطبيعة» بل على انتهاك الطبيعة، بحيث صارت - أي التقنية - شبيهة إلى حد كبير بجيش الاحتلال الذي يقوم بالاعتداء على بلد ما ويكون انتهاك الحرمات واستغلال الثروات هو كل ما يربطه بهذا البلد، ومن ثم لا يعرف أي شيء عن حقيقة هذا البلد من الداخل.
هكذا أدى افتقاد التوسط بين الضرورة الخارجية أو الطبيعة وبين الذات الإنسانية إلى أزمات اقتصادية. والأهم من هذا أنه أدى إلى العديد من الكوارث التكنولوجية في مقابل الكوارث الطبيعية التي تنبأ بها الأنبياء. وتنطبق كوارث التقنية على كل عصور اللاشيء التي لا يرتبط فيها ال «ليس-بعد» بهدف يجمع العالم المادي بالتاريخ البشري ليصل إلى ما يسمى بالكل اليوتوبي. وعندما ينعدم الارتباط بهذا الهدف يسقط العالم في هاوية العدم أو اللاشيء أي عندما يتحول ال «ليس-بعد» إلى أداة تدمير.
28
إن علاقة التقنية بالطبيعة تعكس بشكل مختلف علاقة الطبقة البرجوازية أو الرأسمالية بطبقات المجتمع الأخرى؛ إذ تقوم العلاقة في الحالتين على الاستغلال والافتقار إلى التوسط، أو الافتقار إلى العلاقة الجدلية التي يجب أن تكون قائمة بين المجتمع البشري والعالم المادي، والتاريخ من صنع البشر، لكن الطبيعة هي ما لم يصنعه الإنسان بعد، لذلك تظل الطبيعة كعملاق مقيد على يسار الإنسان، ويظل لغز الطبيعة - أو أبو الهول الطبيعة المحجب كما يسميه بلوخ - على يمينه. ويستمر الحال كذلك حتى يتدخل الإنسان ويحرر الطبيعة من أغلالها ويكشف عن الإبداعات النائمة في رحمها، أي لا بد أن يتدخل الإنسان تدخلا عينيا ليتحد مع الممكن الكائن في العالم الطبيعي إذا أراد أن يخطو خطوات واسعة لتحقيق يوتوبيا تقنية عينية، فالتقنية وحدها هي التي تفك سلاسل هذا العملاق الجبار وترفع الحجاب عن لغز الطبيعة.
29
بحيث تشترك مادة الطبيعة - التي يمكن أن تكون مادة عينية - في علاقة جدلية مع ذات التاريخ ومحورها هو الإنسان العامل أو الصانع
homofaber ؛ الإنسان الذي نحى القدر عن التاريخ عندما أدراك أنه صانعه أو منتجه، وأنه أيضا يتلمس مواطن الإنتاج في العالم الطبيعي، وبذلك يرفع الاغتراب التقني من الطبيعة.
هذه العلاقة أو هذا الانسجام بين الذات الإنسانية وذات الطبيعة هي هدف الفكر الماركسي وغايته، فالإنسان الذي يريده ماركس هو ذلك الذي يحقق ذاته وكماله عن طريق العمل الخلاق الذي يحرره «لأن بالنسبة لماركس لم يكن التحرر الحقيقي تحررا دينيا وسياسيا فحسب، بل كان أيضا اجتماعيا.»
30
وهذا العمل أيضا هو ما يتيح له الاتحاد العيني بالعالم الخارجي أو الطبيعة الخارجية، فالعمل هو ما يحدد ماهية الإنسان على وجه التحديد، وبتحويل الطبيعة بالعمل الخلاق والنشاط البناء تتحد الذات البشرية مع حركة الأشياء، ومع فعل الإنسان الذي يغير هذه الأشياء.
وفي العقود الأخيرة من العصر الحديث ازداد سلطان الإنسان على الطبيعة وحقق إنجازات في مجال التقنية لم يحلم بها الخيال البشري، فهل حقق التقدم التقني الهائل الذي نتج عن التقدم العلمي السريع ابتداء من القرن التاسع عشر حتى بلغ ذروته في القرن العشرين؛ هل حقق ما يسمى بيوتوبيا التقنية ؟ وهل رفع ما عانته البشرية طوال تاريخها من اغتراب عن ذاتها من ناحية، وعن الطبيعة من ناحية أخرى؟ بالنظر إلى الواقع العيني تكون الإجابة هي النفي، فطبقا لمقولة «الحاجة أم الاختراع.» لا يمكن اختراع شيء له فائدة أو نفع ما لم تكن هناك حاجة أو ضرورة اجتماعية لإيجاده أو اختراعه، وإرادة الاختراع لا تعد يوتوبيا حقيقية ما لم تتوجه إلى تلبية الحد الأقصى من الاحتياجات البشرية على مستوى تقني عال. ولكن الثورة الصناعية ومنجزاتها ومخترعاتها تتوجه إلى تحقيق الحد الأقصى من الربح.
وبعد أن كان الجوع - في العصور البدائية الأولى - نتيجة قلة الإنتاج، أصبح - في العصور الحديثة وفي ظل التقنية المتقدمة - بسبب وفرة الإنتاج وامتلاء المخازن وتكدس رأس المال في المجتمعات البرجوازية والرأسمالية. وإذا بالتقنية التي بدأت بإبداع واختراع الوسائل المعينة على الوجود، إذا بها تبدع وسائل للموت والدمار، وبدلا من أن توجه الطاقة النووية - التي هي آخر ما توصل إليه العقل البشري - لتعمير الصحراء وتخصيبها وتحويلها إلى أرض خضراء واستخدامها كأداة للحياة، أصبحت في ظل التقنية العالية أداة للموت والفناء، وهذا ما تشهد عليه أهوال حربين عالميتين وحروب إقليمية أخرى كثيرة.
هكذا أدى الاغتراب بين الطبيعة الإنسان إلى الدمار الذي أصبح صفة مميزة للتقنية، ولم يعد شعور الإنسان بالاغتراب مقصورا على موقفه من الطبيعة فقط، بل امتد هذا الشعور ليشمل العلاقة التي تربطه بإنتاجه التقني، هذا الإنتاج الذي تعملق وأصبح ماردا مجردا من الإنسانية وعجز الإنسان في أحيان كثيرة عن السيطرة عليه، بل أصبح تابعا له في أحيان أخرى، ولتجنب كوارث التقنية على المستويين الاجتماعي والطبيعي لا بد من التوسط في الحالتين مع قوى الإنتاج، أي لا بد من توسط البشر مع أنفسهم - بوصفهم ذوات منتجة للتاريخ - ولا بد من توسط البشر مع القوانين الطبيعية. وعندما يتم التغلب على الصدفة التي تلازم العالم الطبيعي، وعلى القدر الذي يلازم العالم التاريخي، عندئذ تتغلب التقنية على الجانب الكوارثي الكامن فيها وتتجه إلى الكل اليوتوبي، وتتجنب السقوط في هاوية العدم.
ثانيا: تاريخ الكشوف الجغرافية
إن البحث عن الجديد يخرجنا دائما من الظلام إلى النور، ولكنه يقتضي خوض غمار الأخطار والمصاعب، وتخطي العالم المألوف والمعتاد، والسعي للمغامرة إلى الماوراء في رحلة نتحرر فيها من الأرض التي نقف عليها لاكتشاف أخرى جديدة. وإذا كان الاكتشاف هو العثور على شيء ما أو إظهاره الوجود للمرة الأولى، فقد تنطوي كلمة الاكتشاف على معنى يتناقض مع «الجديد» أو هي - بمعنى آخر - تعني إزاحة الغطاء عن شيء كان موجودا من قبل (كاكتشاف أمريكا أو اليورانيوم) ويمثل «الجديد» بالنسبة للذات المكتشفة فقط، بحيث يكون دور المكتشف في هذه الحالة هو دور المتأمل فحسب. وعلى النقيض من هذا نجد الإنسان «الصانع» أو «المخترع» - وإن كان يفترض ضمنا المكتشف - نجده يتجاوز هذا الاكتشاف بصنع شيء ما جديد كصنع الزجاج أو الخزف. لكن هذه التفرقة بين الاكتشاف والاختراع لا تعدو - في رأي بلوخ - أن تكون ضربا من الوهم، لأن الاكتشاف أيضا - وليس الاختراع فقط - لديه القدرة على التغيير، وكل القيم الكريمة في الحياة قد تغيرت بالاكتشاف، فالتغيرات المبكرة نحو حياة أفضل لم تحدث من خلال الاختراعات فقط، بل كذلك من خلال اكتشافات هامة وعديدة. (1) القصد اليوتوبي الجغرافي
بدأت الاكتشافات الجغرافية لخدمة الأغراض التجارية. فالمكتشف الأول كان تاجرا ولا يمكن وصفه بأنه من النموذج التأملي. لقد غامر إلى «الماوراء» بحثا عن طرق جديدة للتجارة أو عن الذهب والفضة والعاج ... إلخ، فالاكتشاف لا يتم في فراغ بل في أرض مليئة بالممكن الواقعي. وكما تسعى يوتوبيا التقنية العينية لتحرير إبداعات الطبيعة أو إمكاناتها التي تكمن في رحمها، فكذلك يبدو الاكتشاف في شكله الجغرافي موازيا للاختراع. ولكي يكون الاكتشاف يوتوبيا عينية - لا مجرد وهم أو حلم لا سبيل إلى تحقيقه - فلا بد أن تتعلق القدرة على الاكتشاف بالمستقبل. واليوتوبيا الجغرافية تعني اكتشاف الطريق الجديد، والبضائع والسلع الجديدة، حتى يمكن القول بأن كل اليوتوبيا الأخرى مدينة للكشوف الجغرافية لأن هذه الأخيرة ذات قصد يوتوبي وتتجه إلى هدف موضوعي، قد يكون هو ال
Topos ، أرض الذهب، أو أرض السعادة في العالم الجديد أو جنة عدن، الموطن الأسطوري المخبأ في الأرض الجديدة.
31
إن رحلات الاكتشاف تساعد الإنسان على تحويل الممكن الواقعي إلى ممكن فعلي بالوصول إلى الأرض المخبأة. وبهذا يكون الحلم المفعم بالأماني في الكشوف الجغرافية هو البضائع السحرية أو الفروة الذهبية التي يفترض وجودها في مكان ما، مما جعل بلوخ يقول بارتباط البناء التحتي بالبناء الفوقي لهذه الكشوف بحيث يستحيل التمييز بين إلدورادو
Eldorado - أو الموطن الأسطوري للثروة - وبين بداية جنة عدن. وإلى جانب الدوافع المادية والاقتصادية التي تمثل البناء التحتي، هناك بناء فوقي للكشوف الجغرافية يتمثل في الأرض الجديدة، بل إن هذه الأرض هي الإسهام الكبير الذي قدمته هذه الكشوف إلى اليوتوبيا الاجتماعية.
32
إن البشرية لا تتوقف عن الحلم بأشياء غير موجودة في واقعها المادي. وليس أدل على ذلك من الحكايات الخرافية للشعوب التي تتضمن وادي الماس، وأنواعا غريبة من النباتات والحيوانات. والكشوف الجغرافية والرحلات البحرية هي الأماكن العينية التي يمكن أن توجد فيها مثل هذه الأشياء، كما في رحلات السندباد البحري وغيرها من أدب الرحلات التي يزدهر بها التراث العربي. لذلك كان الهدف من بعض الرحلات هو السعي وراء الحلم الأسطوري بالفروة الذهبية التي كان يعتقد أنها موجودة في مكان ما من أرض اليونان، أو وراء الحلم بالكأس الذهبية المقدسة في التراث المسيحي، وهي التي كان يعتقد أنها مخبأة ومحاطة بتحريم سماوي، إن الحلم بمثل هذه الكنوز دفع البشر إلى رحلات بحرية بعيدة، لأنها - أي الكنوز - لا تكمن تحت أرجلهم في أرض الوطن، بل في مكان ناء بعيد. هكذا كانت الفروة الذهبية والكأس المقدسة هما الهدف اليوتوبي للرحلات البحرية في الحكايات الخرافية للعصور القديمة والوسيطة.
33
واقترن الخوف بالسعادة في الرحلات البحرية القديمة، فالمغامرة إلى الماوراء تكون دائما محفوفة بالمخاطر. وركوب البحر ظل لفترة طويلة مقرونا بالفزع وبخاصة فيما كان يطلق عليه اسم «بحر الظلمات» - أي المحيط الأطلنطي - ولذلك استمرت أسطورة المحيط الغربي الممتنع على الملاحة لمئات بل لآلاف السنين. وأفزعت هذه الأسطورة الغربيين، كما عوقت تجارة الفينيقيين، وعلى الرغم من معرفتهم - أي الفينيقيين - بالمحيط الهندي ووصولهم إلى الفلبين، إلا أنهم لم يغامروا في المحيط الأطلنطي رغم امتلاكهم لسواحل إسبانيا والمغرب، ورغم التقدم الهائل للجغرافيين العرب في ذلك الوقت في رسم الخرائط.
34
وكان الإدريسي قد رسم خريطة للعالم سنة 1150م، كما كان للعرب معرفة كاملة بالنيجر وجزيرة بورينو، إلا أن معرفتهم لم تمتد للساحل الأفريقي الغربي. وكان يعتقد - طبقا للإدريسي - أن هيسبيريدس.
35
كائنة في بحر الظلمات، كما تحكي أساطير الجغرافيين العرب عن وجود عمالقة في مياه الأطلنطي تشد السفن إلى أعماق المحيط وتحذر من عدم وجود أراض جديدة يمكن اكتشافها. هذا في الوقت الذي زاد فيه الاعتقاد بأن جنة عدن ترقد في منطقة ما من بحر الظلمات، ولذلك كان آباء الكنيسة أسرع من العرب في تحطيم أسطورة الفزع من الساحل الغربي.
36 (2) الجنة الجغرافية الأرضية
وتغير الهدف من الرحلات البحرية فلم يعد هو الفروة الذهبية، بل أصبح البحث عن جزيرة السعادة أو أرض السعادة، وتحول البحث عن الأرض الموعودة، وأرض النبيذ، وأرض اللبن والعسل، تحول من السماء إلى الأرض على صورة كشوف جغرافية. وإذا كانت نزعة الخلاص التي أتى بها الكتاب المقدس قد وعدت بالجنة في نهاية الزمان، إلا أنها جنة هابطة من السماء: «رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله.»
37
هذا عن جنة آخر الزمان، أما عن الجنة الأولى، أي جنة عدن، فقد بقيت جنة بكرا على الأرض، غير مسموح بالدخول إليها، وإن سمح فقط بالبحث عنها والهبوط بالقرب من أسوارها الخارجية. وقد ظل الاعتقاد في وجود الجنة الأرضية في مكان ما على الأرض قويا طوال العصور الوسطى، وعبرت عنه الكنيسة في إرساليتها النشطة التي اهتدت بأسماء الأنهار التي تنبع من محيط الجنة لبقية أجزاء الأرض،
38
كما ورد في سفر التكوين: «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس. اسم الواحد فيشون. وهو المحيط بجميع أرض الحويلة الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هناك المقل وحجر الجزع، واسم حداقل. وهو الجاري شرقي آشور. والنهر الرابع الفرات.»
39
كان يعتقد أن هذه الأنهار تأتي معها بالبركة من جنة عدن لتنعم بها على الأرض الساقطة في الخطيئة، وينظر لجنة عدن على أنها نموذج أولي لحديقة سحرية، وازداد الاعتقاد في العصور الوسطى بأن هناك قطعة من الأرض ذات طبيعة غير ساقطة في الخطيئة، وأطلقت الكنيسة العنان للخيال لتحديد موقع هذه الأرض. والجنة الأرضية كائنة في عدن طبقا لما ورد في الكتاب المقدس: «وغرس الرب الإله في عدن شرقا.»
40
كما فسرت كدليل على الموقع الشرقي للجنة، فكلمة
bereschith (أي في البدء) لا تعني البداية فقط بل تعني أيضا أنها تقع في الشرق.
41
هكذا جاء الكتاب المقدس ليحول الجنة الأرضية من المحيط الأطلنطي أو بحر الظلمات إلى الشرق، بل إلى نقطة محددة فيه وهي أورشليم - ومال التراث الغربي إلى هذا التحول نظرا لخوفه التقليدي من الساحل الغربي - طبقا لما يسمى باليوتوبيا الشرقية وخريطة العالم
mappa mundi
التي رسمت في نهاية القرن الثالث عشر والموجودة في كاتدرائية هيرفورد
Hereford
وتحدد هذه الخريطة الجنة الأرضية في منتصف أورشليم. ثم جاء دانتي ليضع الجنة الأرضية على قمة جبل الأعراف
purgatorio ، ولكنها منطقة محرمة لا يمكن الوصول إليها، ولا مكان فيها للإقامة ولا للأرواح ذاتها، لأنها منطقة عبور أو مرور فحسب، أو هي مرحلة انتقالية كما عند توما الأكويني الذي عبر دانتي عن فلسفته تعبيرا أدبيا.
وعلى الجانب الآخر كانت هناك اعتقادات أخرى في وجود الجنة الأرضية في منطقة أخرى من الشرق وهي الهند - وقد امتد هذا التراث من زمن الإسكندر الأكبر وفتوحاته - فبدأت الرحلات البرية والبحرية للأرض الاستوائية الغامضة المليئة بمعجزات الوجود. ولعل أشهر أسطورة سادت العصور الوسطى هي رحلة القديس برندان
Brendan
الشهيرة وبدأت رحلته عندما سمع صوت ملاك في الليل يخبره بأن الله هداه إلى الأرض الموعودة التي يبحث عنها، فرحل القديس غربا من إيرلندا لمدة خمسة عشر يوما، ثم أبحر لمدة سبعة شهور ليجد جزيرة مليئة بعدد لا يحصى من الخراف، وكان قد سبقه إلى هذه الجزيرة قديسان آخران. وبعد سبع سنوات عاد القديس ورفاقه الرهبان ومعهم فكرة «الأرض الموعودة للقديسين» لتصبح الهند كرمة مغروسة في الغرب.
42
وكانت هذه الجزيرة اليوتوبية من أهم معالم خريطة القرون الوسطى، فقامت بعثات وإرساليات متوالية حتى عام 1721م للبحث عنها، وقد امتزجت فيما بعد بجزر أخرى ليست من التراث المسيحي مثل الجزيرة المقدسة من التراث القديم وأسطورة العصر الذهبي، وظل موقع الجزيرة يتحرك مع الأساطير فأصبح في القرن الرابع عشر في أقصى الجنوب ثم جزر كناري. ويقول العالم الجغرافي الألماني ألكسندر فون همبولدت: إن التغير الدائم لموقع الجزيرة يعود إلى تقدم الملاحة نتيجة التجارة في البحر المتوسط، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت الجزيرة متجولة، وأن التأريخ لجزر الكناري يثبت المحاولات العديدة للهبوط على هذه الجزيرة الخيالية من عام 1487 وإلى عام 1759م.
43
ظلت الأنظار متجهة نحو الشرق سواء للبحث عن جنة عدن أو للبحث عن الثروة والربح الناجم عن التجارة مع الشرق؛ مما نتج عنه تنظيم الغرب للحملات الصليبية الأولى والثانية والثالثة. وقد أخفقت جميعها في تحقيق غرضها تحت راية الدين. وفي هذا الوقت من عام 1165م وصلت إلى بابا الكنيسة خطابات من حاكم مسيحي شرقي من الهند أطلق على نفسه اسم برسبيتر جون
، وقد امتدح في رسائله دولته العظمى التي تمتد من شروق الشمس حتى الغرب، وروى عن معجزات بلاده وما تحويه من أنواع غريبة من الحيوانات والبشر والأماكن، وما فيها من عجائب السحر والأحجار الكريمة. وأرسل البابا إلى هذا الحاكم الهندي طبيبه الخاص كمبعوث شخصي بعد أن رد على رسائله في 7 / 9 / 1177م وترجم هذا الرد إلى كل لغات أوروبا التي انحنت أمام الأمل الجديد المتمثل في الجنة الأرضية في الهند. ثم فقدت بعثة البابا ولم يعثر لها على أثر، وظلت الرسالة محور التفكير والحلم كما ظل الشرق هو قبلة اليوتوبيا الجغرافية.
44
وقد كانت الهند في ذلك الوقت مصدرا لصور خيالية مفعمة بالأماني نظرا لاتساعها الجغرافي الكبير، وما تحويه أرضها من أحجار كريمة، كما كانت موطنا للمعجزات وأرضا خصبة لأساطير مملكة خيالية ساحرة؛ مما كان له أثره على الإسكندر المقدوني الذي اتخذ من حياة «راما» - البطل الملحمي الهندوسي - مثالا يحتذى في حياته اليومية. وظلت الهند مصدرا لحكايات صورت ورسمت على نسيج العصور الوسطى في عصر القديس جيروم، وتروي هذه الحكايات كل ما في الهند من سحر الشرق.
45
هذا بالإضافة إلى سبب تاريخي على جانب كبير من الأهمية، فإلى جانب ما للهند من ثقافة مؤثرة فهي منطقة إنتاج هيمنت على خطوط التجارة العالمية وكانت قوة دافعة لها طوال العصور القديمة والوسيطة ومرحلة ما قبل الكشوف الجغرافية وما بعدها حتى نهاية عصر الاستعمار؛ مما جعلها هدفا لأكثر رحلات الاستكشاف الجغرافية - إن لم يكن جلها - لمعرفة أكثر الطرق المؤدية إليها، كما كانت الدافع القوي والخفي وراء الحملات الصليبية المتكررة على الشرق والتي تسترت وراء الصليب.
وترجع أهمية الأسطورة السابقة وانتشارها إلى ما أشاعته من أمل في نفوس شعوب أوروبا في العصر الوسيط. لقد رسمت يوتوبيا اجتماعية في صورة يوتوبيا جغرافية في مملكة كائنة في الشرق اختفى منها الفقر والمرض والجريمة، كما صورت قصرا للفقراء يشعر كل من يدخله بالشبع والامتلاء. وهناك سبب آخر سياسي وراء ترويج هذه الأسطورة، وهو حلم أوروبا بنظام سياسي شبيه إلى حد كبير بالنظام الذي صورته الأسطورة عن حياة الأمن والسلام الخالية من الحروب في ظل حكومة ثيوقراطية، وفي ظل الملكية الخاصة؛ حياة يسودها التسامح مع أعداد هائلة من غير المسيحيين في مملكة يحكمها قس مسيحي. وقد كانت هذه صورة مضادة لحياة أوروبا المعذبة التي يسودها القلق والاضطراب في ذلك الوقت. ومع أن هذه الأسطورة وما يحيطها من غموض لم يكن لها تأثير سياسي يذكر، إلا أنها أحدثت تأثيرا يوتوبيا كبيرا، فقامت العديد من رحلات الاستكشاف الجغرافي لهذه المملكة، كما اجتذبت أعدادا هائلة من التجار والمغامرين، وأرسلت إليها البعثات والإرساليات الدينية التي استغرقت قرونا. ولعل أهم الرحلات إلى هذه المنطقة من العالم هي رحلات ماركوبولو (1256-1323م) التي كانت المملكة هدفا من أهداف رحلته التي وصلت إلى الصين. وقد بحثت البارجة البرتغالية عن هذه المملكة على الشاطئ الغربي لأفريقيا، كما كانت كذلك هدفا لرحلة فاسكودي جاما التي لف فيها حول رأس الرجاء الصالح فاكتشف الهند الشرقية لا مملكة الكاهن القس برسبيتر جون.
46 (3) اكتشاف الأرض الجديدة
من الضروري أن تكون الأرض الجديدة هي الهدف، أي لا بد أن تكون هناك خطة وقصد من وراء الرحلة. فالكثير من الشواطئ التي تم اكتشافها عثر عليها بمحض الصدفة عندما جنحت السفن بطاقمها وضلت طريق العودة، وعلى سبيل المثال اكتشف الشاطئ الأمريكي - بدون قصد - ما يقرب من أحد عشرة مرة قبل أن يكتشفه كريستوفر كولمبس (؟-1506م) لكن هذه الرحلات لم تؤت ثمارها لافتقارها للقصد والخطة، على حين أن رحلات الفينيقيين كانت بهدف التجارة ولم تكن للبحث عن جنة عدن أو عن الفروة الذهبية. وقد استطاع هانو
Hanno
القرطاجني على سبيل المثال أن يبحر حول الشاطئ الغربي لأفريقيا حوالي سنة 525ق.م. ووصل إلى ما يسمى الآن بالسينغال والكاميرون وسجل رحلته في صورة تقرير عسكري.
47
كما كان ماجلان مغامرا أبحر حول القارة من الشمال إلى الجنوب.
نخلص من هذا إلى أن رحلات الاستكشاف في ذلك الزمان لم تكن تفتقر إلى الهدف، فقيام الأتراك بسد الطريق البري إلى الهند، واحتياج الاقتصاد الإقطاعي إلى الذهب لإعادة التوازن في العجز التجاري مع الشرق، ورغبة الطبقة الدنيا من النبلاء الإسبان
hidalgos
في وضع أيديهم على «الدورادو» التي ستجعل منهم طبقة من الأثرياء ما بين ليلة وضحاها، وسيطرة الحلم القديم على خيال الرحالة جميعا للوصول إلى جنة عدن، كل هذه الأهداف مجتمعة كانت وراء رحلات الاستكشاف البحرية، ولكن الغالب على هذه الأهداف جميعا هو الهدف الاقتصادي الذي بفضله حطم كولمبس أسطورة بحر الظلمات وأدخلها في نطاق التراث الأدبي، ولذلك امتدح قول سنيكا (4ق.م.-65م) إن منطقة المحيط الأطلنطي سوف تخترق يوما ما ولن تبقي هي ثوله
Thule (وهي أقصى الشمال عند الإغريق والرومان وتعني أبعد جزء في العالم). كما امتدح قول بلوتارك (45-120م) إنه إذا كان القمر مرآة للأرض فإنه يشير إلى قارة غير مكتشفة في قطعة صغيرة مظلمة . ولكن مثل هذه الأقوال لم تدفع فكر عصر النهضة - قبل كولمبس - إلى قهر وتحطيم أسطورة الرعب من المحيط الأطلنطي.
48
جاء كولمبس مسلحا بإرادة قوية وهدف واضح، فأبحر الرحالة الحالم قاصدا الساحل الغربي، وساعده على ذلك تغير الظروف الخارجية وتغير صورة الكون الموروثة عن أرسطو وبطليموس حيث كانت الأرض مركزه وحولها الأفلاك. وجاء كوبرنيكوس ليحرر الأرض من قداستها فتوقف السؤال عن موقع جنة عدن بها وانبعث سؤال آخر عما يمكن أن يوجد وراء المحيط! واحتلت الرياضيات مكانة الغايات، وتوجهت العقول إلى الحياة الإنسانية كما ينبغي أن تعاش وكما ينبغي على الأرض أن تكون. هذا بالإضافة إلى عامل اقتصادي هام حين ضاقت الزراعة عن تلبية الضرورات، وتتابعت ثورات الفلاحين، وتدفقت إلى المدن والموانئ هجرات المزارعين المتطلعين إلى الأرض والمال، فأمسكت الطبقة الوسطى في المدن التجارية والموانئ بأعنة التغيير، مستثمرة إخفاق مشروع الطبقات الإقطاعية بالتحالف مع الكنيسة لاستعادة الشرق، وتحالفت مع الملوك لتكوين دول مستقلة مطلقة السيادة على أراضيها بعيدا عن السلطة الروحية البابوية، ساعية إلى تحقيق قوة اقتصادية بتبني المشروع القديم لاستعادة التجارة ومناطق الإنتاج،
49
لا عن طريق غزو بلاد الشرق ولكن باكتشاف طرق خارجية جديدة ذات مسافات أقصر وتكاليف أقل.
واستهل البرتغال عصر الكشوف الجغرافية بريادة هنري الملاح (1394-1460م) الذي استند إلى معرفته بالعلم العربي. وتم له اكتشاف بعض الجزر القريبة من المحيط الأطلنطي مثل مادييرا وآزورس وكناري - التي كانت نقطة انطلاق رحلات كولمبس - ثم اجتذبته أفريقيا بمعادنها ورقيقها واتخذ من الوصول إلى مملكة القديس يوحنا المسيحية ستارا ودافعا لملاحيه. وقبل أن ينصرم النصف الأول من القرن الخامس عشر تحققت معظم أهدافه، وتم استعمار ثلث الساحل الغربي لأفريقيا، ثم جاء خلفه دياز
Diaz
ليعلن أن الطريق البحري للهند قد كشف؛ مما أشعل حلم كولمبس بإمكان تحقيق هذا الكشف بالإبحار غربا عبر الأطلنطي.
50
أبحر كولمبس
51
مدفوعا بما سلف من أهداف يحكمها جميعا الهدف الاقتصادي، وعندما وصل للمحيط الأطلنطي لم يجد الظلام ولا العملاق الذي يقف محذرا، وواصل إبحاره حتى بلغ بعض الجزر التي اعتقد أنها بدايات لاكتشاف الطريق البحري للهند - الذي كان هدفه ووجهته منذ البداية - وفي أكتوبر عام 1498م كتب للملكة الإسبانية ما يفيد بأنه وصل إلى النقطة الأولى التي انطلق منها النور لحظة الخلق، إذ كانت فكرة كولمبس عن الجنة الأرضية هي الفكرة القديمة في الكتاب المقدس: «كنت في عدن جنة الله. كل حجر كريم في ستارتك عقيق أحمر وياقوت أصفر وعقيق أبيض وزبرجد وجزع ويشب وياقوت أزرق وبهرمان وزمرد ذهب.»
52
ويؤكد كولمبس في خطاباته أنه توصل إلى الأرض الجديدة والسماء الجديدة، بل ويدعم اعتقاده بنصوص من الكتاب المقدس.
53
ومن المرجح أنه كتب ذلك - فيما يقول بلوخ - ليمتص العداء المتزايد له في دوائر القصر الملكي حيث بدأ الضيق من الرحلة التي تكلفت أموالا باهظة ولم تسفر إلا عن بعض جزر ليس لها أهمية كبيرة. ولم يكن كولمبس ولا معاصروه يعرفون أنه توصل إلى قارة جديدة، حتى مات وهو معتقد أنه وصل إلى الهند، وأنه قد توصل أيضا إلى جنة عدن. والمهم أن الجنة الأرضية لم تعد الآن سوى رمز للأمل الكامن والسعي البشري الدائم نحو هذا الأمل. (4) اكتشاف الفضاء
انحصرت الآمال القديمة في امتطاء متن البحار والوصول إلى الشواطئ الجديدة والهبوط عليها، ثم تحولت الآمال للتطلع إلى مكان أكثر إغراء؛ إنه الفضاء. وكان لهذه الأمنيات نماذجها الأولى عندما كانت السماء هي المكان المفضل للآلهة والنفوس الحكيمة الفاضلة، ولذلك كان ينظر دائما بإجلال واحترام وتوق إلى معرفة أسرارها. أما الآن وبعد التقدم العلمي الهائل فقد تحررت أجسادنا المقيدة بالجاذبية الأرضية، وانطلقت في الفضاء في رحلات استكشاف للكواكب الأخرى. لقد وصل رواد الفضاء إلى القمر وزحل والمريخ، ولما كانت ظروف الحياة على سطح زحل مشابهة إلى حد ما لظروف الحياة على كوكب الأرض فإن هذا شجع على آمال يوتوبية كبيرة في إمكانية صلاحية الكوكب للسكن بعد أن ضاق البشر بالأرض وتطلعوا إلى عالم النجوم الذي كان يمثل بالنسبة لهم مكانا يوتوبيا.
ونجد من الفلاسفة المحدثين من ينظر إلى الكواكب البعيدة عن الشمس نظرته إلى عالم أفضل وأسمى. إن كانط - على سبيل المثال - في مرحلته السابقة على المرحلة النقدية، يعد الأماكن السعيدة هي تلك التي تبتعد بعدا شاسعا عن مركز الأرض. وليست هي الأماكن التي تقع على مسافة متوسطة من الشمس كما هو الحال في حالة الأرض والمريخ: «إن كمال العالم الروحي وكمال العالم المادي على حد سواء، ينمو ويتقدم في الكواكب من عطارد حتى زحل، أو ربما أبعد من ذلك، إذا كان هناك كواكب أخرى، في اطراد تام طبقا لابتعادها عن الشمس.» ويستشف بلوخ المعنى اليوتوبي لنص كانط بأنه في مرحلته قبل النقدية قد تخيل - طبقا لقاعدة نيوتن عن نقص الثقل في مربع المسافة - أن النقص في جاذبية الثقل ينمو باطراد مع جاذبية النقاء طبقا للتضاد المتخيل بين الثقل والنور العقلي.
54
وكأن قانون الجاذبية الذي يتحكم في مدار الأرض حول نفسها وحول الشمس قد جعلها مكانا غير صالح لا للكائنات البشرية ولا للعقل البشري.
غير أن كانط يعود فيعدل من آرائه ويقلل من المغالاة في تفضيل عالم النجوم العلوي، فنجده يقول في كتابه أحلام راء للأشباح عام 1766م: «عندما نتحدث عن السماء بوصفها مقام أناس سعداء، فإن الفكرة الشائعة تتخيلها مكانا فوق رءوسنا في فضاء هائل الاتساع، لكننا لا نضع في اعتبارنا حقيقة هامة، وهي أن أرضنا عندما ينظر إليها من هذه الأماكن البعيدة تبدو هي الأخرى نجما من النجوم العديدة في السماء، وأن سكان العوالم الأخرى يشيرون إلينا قائلين: انظروا هناك إلى أعلى، إنه مقام الفرحة الخالدة وإقامة سماوية أعدت لاستقبالنا يوما ما، كما أن هناك اندفاعا غريبا يجعل الأمل يرتبط دائما بمفهوم الصعود، دون أن نضع في اعتبارنا أن صعودنا إلى أعلى يجب أن يسقط من جديد لنحصل على موطئ قدم ثابت في عالم آخر.»
55
معنى هذا أن هذه الأرض نفسها يمكن النظر إليها نظرة يوتوبية من سكان الكواكب الأخرى، فلا داعي إذن أن نبحث عن الكمال في عالم علوي، بل الأجدر بسكان هذه الأرض البحث عنه داخل عالمهم الأرضي. وإذا كان لعالم النجوم إغراؤه الخاص كرمز سماوي وله بعده اليوتوبي، فإن هذه الأرض أيضا تتضمن داخلها عالما أفضل من عالم النجوم الأخرى يجب البحث عنه بين الكائنات البشرية وفي سر القبة الزرقاء للأرض لا في قبة السماء. وإذا كانت النجوم المتألقة بالضوء في السماء قد جذبت إليها البشر وجعلتهم ينظرون إلى أعلى، وإذا كانت السماء المرصعة بالنجوم تمثل بالنسبة للإنسان النماذج الأولية للسلام والسمو والهدوء، فإن على هذه الأرض يجب على الإنسان أن يحول هذه الصورة إلى مهمة للتحقيق وهدف للوصول، هنا على هذه الأرض - وليس في السماء - توجد القبة، ومن هذه الأرض يبدأ الصعود.
56
لم يبق الآن شيء من الحلم الجغرافي في ثوبه القديم، لأن كل الشواطئ قد كشف عنها النقاب. أما الذي لم يكشف بعد فهو التفاعل بين الإنسان والأرض، ويتم هذا التفاعل من خلال الجغرافيا الاقتصادية والسياسية والتقنية لأن الأرض تلعب دورا هاما في التفاعل بين الإنسان والطبيعة، فالمناخ والمواد الأولية إمكانات طبيعية كان لها أثر هام في تحديد مسار العمل البشري سواء كان زراعيا أو صناعيا ... إلخ ، وفي تحديد هوية المجتمع البشري؛ ولهذا ظلت الجغرافيا ملازمة للتاريخ أو ظلت مفهومة بشكل تاريخي لأن كليهما ميدان صراع وإطار عمل.
57
هذا المجتمع البشري لا يرقد على سطح القمر، ولا يكمن داخل العقول، ولا يقع في أعماق البحار، وإنما يمتد على الأرض التي تمنحه إمكانات تغير من طبيعة العمل الإنساني، كما يغير هذا العمل بدوره من طبيعة الأرض ويعمل على إعادة بناء الكوكب الذي نعيش عليه بصورة جديدة.
لا يدين بلوخ منجزات التقنية والتقدم العلمي الحديث الذي أدى إلى اكتشاف الفضاء، وإنما يدين الأيديولوجية التي أفسدت المعرفة العلمية واستخداماتها ونتائجها. ولعل هذه الإدانة تتفق مع توجهه الاشتراكي الذي حتم عليه الانطلاق من هذا العالم ومن واقعه الفعلي، وتبنيه للمقولة الماركسية المعروفة عن ضرورة تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة، أو اتحاد الإنسان مع الطبيعة، الأمر الذي فرض عليه المطالبة بفهم جديد لهذا العالم الذي نعيش عليه، وتكريس التقنية الحديثة والاكتشافات الجديدة من أجل إيجاد حل للمشكلات المتجددة في هذا العالم. ولعل هذا التوجه كان من أهم الأسباب التي جعلته من دعاة حماية البيئة وتشجيعه ووقوفه وراء ما يطلق عليه اسم «حزب الخضر» في ألمانيا وغيرها.
وحقيقة الأمر أن محاولة علماء الفضاء رسم صور خيالية لكواكب أخرى والحلم بالسكن عليها في المستقبل - على الرغم مما تنطوي عليه هذه الآراء من تفكير مستقبلي مغر - هي محاولة للهروب من هذا العالم لا تقل في خطورتها عما رسمته الأديان لعوالم ما ورائية، ولا عما رسمه أصحاب اليوتوبيا الاجتماعية الخيالية - على الورق فقط - من صور وأماني لمجتمعات مثالية ظلت على مستوى الحلم فقط. فالتحدي الحقيقي أمام العلم والعلماء والجغرافيين على السواء هو هنا على هذه الأرض. وإذا صح الافتراض القائل بأن كل الشواطئ والأراضي التي على هذا الكوكب قد كشف النقاب عنها، فيبقى من الصحيح أيضا إزاحة الستار عما يكمن فيه من إمكانات لم تكتشف بعد، وبذل كل الجهود التي تجعل من هذا العالم أفضل عالم يمكن أن يعيش عليه الإنسان.
إن مشكلة البيئة التي برزت على قمة مشاكل العالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لهي أولى بالتفكير فيها من مشكلة الفضاء، ومكافحة التلوث الذي يحيط بكوكب الأرض لهي من أهم المشكلات التي يجب أن توجه إليها كل القدرات الهائلة على الاكتشاف، واستخدام جل أساليب التقدم العلمي من أجل تحسين الظروف على هذه الأرض التي نقطنها. كما أن مشكلة المياه هي أيضا من أهم المشكلات التي ستواجه سكان كوكب الأرض في السنوات القليلة القادمة، لتصبح من أهم المشكلات التي تطفو على سطح نهر هائل من مشاكل هذا العالم الأرضي، وقد بدأت بعض الدول بالفعل في معاناة هذه المشكلة، كما أنها تهدد عددا غفيرا من الدول في سنوات قادمة، والمهم أن مواجهة مثل هذه المشكلات هي التحدي الحقيقي أمام العلماء والجغرافيين وعامة الناس على السواء.
ثالثا: تاريخ العمارة والفنون
ترتبط اليوتوبيات المعمارية ارتباطا وثيقا باليوتوبيات الجغرافية، فمهمة العمارة هي تشكيل المكان وبناء أشكال معمارية مفعمة بالأمل سواء في الواقع على أرض الوطن، أو في حدود التصور لعالم أفضل. وقد يتبادر هذا السؤال إلى الذهن: كيف يكون البناء المعماري نوعا من اليوتوبيا؟ وكيف يتضمن فن المعمار بأنواعه - من مباني وتكوينات نحتية ورسوم تصورية بأشكالها المختلفة - كيف يتضمن عنصرا يوتوبيا؟ ربما تزول الدهشة عند معرفة أن فن العمارة بدأ بإقامة أشكال لمباني جميلة غير موجودة على أرض الواقع. وعند تأمل المباني المعمارية التي وصفتها وتخيلتها الحكايات الشعبية الخرافية، وبخاصة الحكايات التي يحفل بها التراث العربي في ألف ليلة وليلة بنماذجها المعمارية من قصور وقلاع مصنوعة من المجوهرات والياقوت وحوائط من ذهب، ونوافذ من الزجاج الملون، ومدن من البرونز وكنوز لا حصر لها، وما يمثله قصر علاء الدين من سحر المعمار؛ مما جعله نموذجا لما يسمى ب «يوتوبيا القصر» في العصور الوسطى الأوروبية. وقد كانت هذه النماذج في الحكايات الخرافية العربية والشرقية بمثابة صور يوتوبية معمارية انتقلت من الشرق إلى الغرب؛ مما جعل الشرق مركزا للإلهام الفني لعمارة خيالية في كل العصور.
ظهر تأثير ألف ليلة وليلة بشكل مباشر على فن المعمار الغربي في العصور الوسطى في الاستخدام الواسع النطاق للذهب والأحجار الكريمة ونوافذ الزجاج الملون التي تميزت بها كنائس وكاتدرائيات الغرب المسيحي. كما ظهر في قصور وقلاع الإمبراطورية البيزنطية التي تأثرت بشكل مباشر بجمال البناء الشرقي أثناء الحملات الصليبية على الشرق العربي الإسلامي. ولم يقتصر هذا التأثير على ما تم بناؤه بالفعل من كنائس وقصور، بل امتد أيضا إلى الحكايات الخرافية الغربية التي قلدت الحكايات الشرقية وبخاصة ألف ليلة وليلة واتخذت من صورها المعمارية الأسطورية نماذج يوتوبية، وذلك كما نجد في حكايات هوفمان
Hoffmann
لا سيما حكاية «الوعاء الذهبي» فحجرة البطل الزرقاء، وأشجار النخيل المصنوعة من الذهب، وغيرها من التفاصيل مستمدة من نسق معماري شرقي، كما تحول حلم العمارة الخيالية إلى عمارة حقيقية في الطراز المعماري المغربي الذي ما يزال له وقع السحر في نفوس الأوروبيين.
58
ومن الطبيعي أن يفسر بلوخ اليوتوبيات المعمارية تفسيرا يتفق مع توجهه الاشتراكي، وأن يجعل من السياق الاجتماعي - بما يشمله من ظروف سياسية واقتصادية وتاريخية - الأساس الأول لكل من الفنون والعمارة. وفي هذا المجال يعرض بلوخ العديد من النماذج المعمارية والفنية التي يحفل بها تاريخ الحضارات البشرية. ولن يتسع المجال للكم الهائل من تفاصيل تلك الفنون ومبدعيها؛ إذ يحتاج دراسة مستقلة، ولذلك يمكن الاكتفاء هنا بعرض سريع للأساس الاجتماعي للفنون بصفة عامة، والوقوف عند بعض النماذج التي يكمن فيها العنصر اليوتوبي وتستهدف الحياة الأفضل وتعبر عن النسق المفتوح على المستقبل.
وقد كان الدين هو الظاهرة الاجتماعية الكبرى التي عملت على ظهور الفن وتطوره وترقيه، ولذلك نجد أن كثيرا من علماء الاجتماع يربطون بين الدين والفن فيقولون إن الظاهرة الجمالية قد نشأت في أحضان «المعبد» الذي عمل على ظهور أقدم الفنون البشرية جميعا وهو فن المعمار، وتبعه تزيين جدران المعابد بالنقوش والتماثيل فظهر فن النحت، ثم تفنن المثالون في عمل التماثيل الملونة فظهر فن التصوير الذي لم يكن يستعمل إلا لتزيين جدران المعابد.
59 (1) اليوتوبيا المعمارية
عبر فن المعمار القديم عن أحلام مفعمة بالأماني، وتطور عن رسوم وصور معبرة عن الرغبات والأشواق. ونجد هذا في سور أو جدار بومبي
. فقد رسمت على هذا الجدار مناظر جميلة ومبان مستحيلة التنفيذ على أرض الواقع، وزخارف ومناظر أسطورية، وحدائق لها من السحر ما يجعلها تستوقف النظر، وقصور وأعمدة قصيرة ذات انحناءات مستديرة ميزت فن المعمار الروماني، ورسوم لمنازل مليئة بالأركان، ومعابد صغيرة صاعدة إلى أعلى وكأنها تسخر من القاعدة السكونية التي ترتكز عليها؛ مما جعل الحياة المصورة على سور المدينة تبدو جميلة في أعين المشاهدين. ومع ذلك لم ينظر أحد بعين الاعتبار لهذا العنصر اليوتوبي بما له من قدرة على الإيحاء بالحلم بحياة أفضل مقبلة، وما يتضمنه - وبخاصة في الطراز البومبي المتأخر - من عنصر التوقع.
60
وخضعت الدول الأوروبية في العصور الوسطى لسيطرة السلطة الدينية المسيحية، فجاء المعمار والفنون بأنواعها تعبيرا عن هذه السيطرة في منشآت دينية كالكاتدرائيات والكنائس ورسوم وصور مستوحاة من الكتاب المقدس. وظهرت الفنون كخادم لمتطلبات العقائد المسيحية، فكان فن المعمار الديني هو الذي يميز الفن القوطي.
61 (وهو الطراز السابق لفن عصر النهضة) وساد هذا الطراز سائر أنحاء أوروبا، وتحول إلى طراز قومي واجهه فن عصر النهضة ووجد صعوبة شديدة في بعض بلدان أوروبا - مثل فرنسا وألمانيا - في إزاحته. وقد تميز هذا الفن بالتخطيط والأعمدة الرشيقة والأبراج العالية والسقف ذي الأقبية المتقاطعة المدببة، والنوافذ المغطاة بالزجاج الملون، وكلها عناصر مترابطة تعطي إحساسا قويا بالقيم الدينية الرقيقة.
62
وتعد كنائس العصور الوسيطة كلها من الطراز القوطي، ولعل أشهرها كنيسة نوتردام دي باري بفرنسا، وكاتدرائية ستراسبورج بألمانيا.
في نهاية العصور الوسطى انتقل فن بومبي من الجدار الخارجي إلى داخل القصور. وبدأت أوروبا في التمرد على سلطة الكنيسة، كما بدأت النزعة الفردية في النمو مع بداية عصر النهضة الذي سادته مجموعة هائلة من التغيرات الاقتصادية والسياسية والدينية التي صاحبها تحول في الفنون يعكس ما تمتعت به الطبقة الحاكمة من ثروة ضخمة وما اكتسبه أمراء المدن وكبار تجارها من مظاهر الثروة والفخامة والعظمة، ورغبتهم في إقامة القصور البديعة الشاهقة. وقد تفتحت مجالات جديدة متعددة أمام رجال العمارة نتيجة لهذه التغيرات وازدهار المدن وما احتاجت إليه من إنشاء مباني عامة وقصور للطبقات الجديدة الغنية، واقترن هذا التغيير بتحول في البنية الاجتماعية للحياة الجديدة التي غلب عليها الصخب والاحتفالات والمهرجانات، وتبع ذلك أيضا تحول في الفن المعماري ليكون أقدر على التعبير عن قوة هذه الطبقة وإحساسها بالسعادة، فانتقل فن بومبي - كما سبق القول - من الجدار إلى داخل القصور؛ فكان الرسم على الموائد وصالات المآدب حيث صورت المهرجانات والاحتفالات بشكل أسطوري ساحر، ولم تعد الموضوعات الدينية وحدها هي مجال فن العمارة، بل دخلت موضوعات جديدة من المناظر الطبيعية ومشاهد الحياة اليومية في المدينة والريف.
63
وعندما نشبت الحروب الصليبية تحولت الرسوم والنقوش إلى تصوير الحروب والانتصارات والمناظر التي تصور القديسة التي تبارك الحرب، أي تحولت الرسوم إلى مناظر الفروسية.
بالغ فن عصر النهضة في استعمال الزخارف التي تزين البناء، وأسرف في استخدام الخطوط المنحنية، وازداد التعبير عن البذخ والحيوية والوفرة وملابس المهرجانات الفاخرة والحفلات الصاخبة ورحلات الصيد، فنشأ فن الباروك.
64
الذي تميز بنزعة التكلف وإثارة الاندهاش والانبهار المنبعث من الرسوم المفعمة بالألوان، كما تميز معماره بالفخامة والقصور الخيالية التي أراد بها تحقيق الإعجاز في فن المعمار. ونلمح في هذا الفن العنصر اليوتوبي وعمق النظرة إلى الأمام كما تتمثل في استخدامه للمنظور لجعل المكان مضاعفا أو ثلاثة أضعاف واقعه الفعلي، وفي أسلوب الفراغ لإعطاء الإحساس بأنها مبان حقيقية وليست رسوما، وهذا ما حققه
Giuseppe Galli Bibiena (1696-1757م) عبقري العمارة المسرحية، وفنان المناظر الأوبرالية. وقد قدم على المسرح منظورا جديدا من مسافة جانبية بدلا من المنظور البسيط للمشاهد، ورسم حوائط وأسقفا ذات مساحات مفتوحة، وصور على المسرح مباني مرسومة في اللامتناهي مستخدما أساليب الخداع البصري والمناظير لملء الفراغ. ومما يذكر أن هذا الفنان قام ببناء الأوبرا الشهيرة في بايرويت، والمسرح الإيطالي، وأوبرا
Dresden ، والكنيسة اليسوعية في مانهايم التي تعد إنجازا احتفاليا مبهجا بالحجارة.
65
ليس بالرسوم وحدها يكون المعمار، فلا بد من جهد البناء الفعلي طبقا للمثل الفرنسي «ما لم يتشكل لم يوجد.» ومع هذا التشكيل ينمو الجوهر أو المضمون اليوتوبي لفن المعمار. في العصور الوسطى قامت اتحادات بنائي الكنائس
The church mason’s guilds
التي اتبعت قواعد سرية - مثلما فعل المصريون القدماء - ولكنها لم تكن تعمل وفق أسس رياضية بل وفق رموز بنائية لما يسمى بأساس المعمار الحجري
basis of stone masonry
وفي العصور الوسطى المتأخرة بدأت نقابات البناء القوطي تعمل على أسس رياضية بصرف النظر عن الاحتفاظ بسر المهنة أو الإفشاء به، فلم تعد المواد الخام والتقنية والوظيفة هي وحدها التحديدات الأساسية للبناء الفعلي، بل أصبح الإلهام الفني أهم من المواد الخام والتقنية والوظيفة، فهو التخيل أو الخيال، وهو أساس الكمال المعماري الكنسي.
66
وقد كان الرمز الديني هو القصد لهذا الإلهام الخلاق أو هذا الخيال الفني الطموح، وكان الرمز المعماري لاتحاد بنائي كنائس العصور الوسطى هو معبد سليمان الذي كان في نظرهم أفضل بناء على الأرض، ولاتحاد البنائين أسلاف هم موسى والبناءون الكهنة في مصر القديمة والكلدانيون السحرة في وادي الرافدين القديم وحيرام
Hiram
البناء والمعماري لمعبد سليمان، وامتد هذا التسلسل حتى أرفن فون شتاينباخ
Erwin Von Steinbach
الذي شيد كاتدرائية ستراسبورج. وظل معبد سليمان وراء تاريخ العمارة المسيحية بأكملها على الرغم من تدميره من آلاف السنين، كما ظلت الطوائف الحرفية التي عملت في كنائس العصور الوسطى تنظر إليه باعتباره النموذج السري.
67
وتعد كنيسة
Würzburg
نموذجا لعمارة سليمان بأعمدتها المطابقة في أوصافها للكتاب المقدس: «على رأس العمودين صيغة السوسن فكمل عمل العمودين.»
68
لقد شدت اتحاد البنائين المسيحيين عاطفة سحرية إلى هيكل سليمان، وبقي الهيكل في اكتماله اليوتوبي نموذجا لكل النظم المعمارية، كما بقيت أحلام الفن المعماري المفعمة بالأماني حتى القرن التاسع عشر مرتبطة بإعادة بناء هيكل سليمان.
إن الإلهام أو الخيال الفني يعبر عن يوتوبيا تهدف لتحقيق الانسجام مع المكان بشكل أكثر كمالا. فالعمارة اليونانية - التي لم تكن سرية ولا متعالية كالعمارة المصرية القديمة أو القوطية - قائمة على محاكاة جسد الإنسان كما يتضح في النحت على وجه الخصوص، أي أن القصد اليوتوبي للعمارة اليونانية كان قصدا إنسانيا. بينما كانت الهندسة المتعالية أو السكونية هي الرمز للفن المصري القديم، والحيوية والوفرة هي الرمز المعماري للفن القوطي الوسيط. فكل من هذين النموذجين يتضمن عنصرا يوتوبيا للكمال، كما أن رموزهما المعمارية المشار إليها تعبر عن إمكانيات جمالية حقيقية طالما كانت نموذجا يحتذى في تاريخ فن العمارة، وإن كان أحدهما يمثل البلورة أو السكون، ويمثل الآخر الحيوية أو الوفرة.
يقدم كل من الفن المصري القديم والفن القوطي نظاما فريدا في فن العمارة، وكلاهما ارتبط ارتباطا وثيقا بعقيدته الدينية، فكان الدين هو البناء الفوقي لكل منهما على الرغم من اختلاف الرمز والإرادة المعمارية، وقد قدم كل منهما يوتوبيا معمارية مناقضة للآخر؛ فالحضارة المصرية القديمة قدمت - في زعم بلوخ - البلورة التي ترمز لسكون الموت، إنها حضارة تتميز بالصرامة التي لا تنطبق على فن المعمار وحده بل تنعكس أيضا على الحياة الاجتماعية، والحضارة التي ترى كمالها في الموت لا يمكن أن تبنى بمادة حية، فتماثيل الملوك ذات الأجسام المنتظمة تمثل الجسد الميت وليس الجسد الحي. ولكنها أضافت شيئا جديدا على فن المعمار، إذ اتخذت من المثلث نموذجا لبناء الهرم، وهو بناء له غرض عملي مباشر ويمثل غرفة الدفن أو مقبرة فرعون، وهو بجانب ذلك يمثل الشكل الكوني كما قال بلوتارك «هكذا تصور المصريون طبيعة الكون في صورة مثلث كبير جميل.» وعلى الرغم من أن عصر الأهرامات بدأ بهرم سقارة السداسي الشكل، وعلى الرغم أيضا من وجود أشكال أخرى للأهرامات، إلا أن المثلث بقياسه الرياضي أثبت انتصاره وانسجامه مع دائرية الأرض، ويظل الهرم واقفا صامتا كالبلورة بعيدا عن الحياة وكأنه أسطورة نجمية لكهنة الشرق القديم.
69
أما عن الفن القوطي فهو على النقيض من سابقه يكسر الصرامة ويعبر عن الحياة التي يمكن أن تعيد نفسها من جديد، ليست الهندسة هي نموذجه، بل بعث المسيح من القبر أو قيامة المسيح، ولذلك فإن رمزه المعماري هو الابتهاج والنصر والفرح التي تعد في الفن المصري خروجا عن القياس. إن الفن القوطي محاكاة ديناميكية للكون، ولبعث المسيح من القبر، أي محاكاة لإعادة الحياة. وإذا كان الفن المصري هو بلورة الموت باعتبار أن هذا الأخير هو الكمال المتوقع، فإن الفن القوطي ضد الموت، إنه فن الزخرفة إلى حد الإسراف أو هو شجرة الحياة باعتبار أن هذه الأخيرة كمال متوقع ومتجدد. تلك هي السمات الأساسية للأشكال المعمارية لكل من الهرم في النوع الأول، والكاتدرائية في النوع الثاني، وكلاهما محاولة لتشكيل المكان في شكل أكثر كمالا، في صمت الموت أو في شجرة الحياة والمجتمع.
70
إن الهدف من تشكيل المكان لا يقتصر على إرضاء حاجاتنا المعيشية، ولا هو مجرد مكان مبهج سار، فقد ارتبطت العمارة دائما بالظروف الاجتماعية، لا ببنائها الفوقي فحسب، إنها فن موضوعي ملتزم بالعالم المرئي، والبناء يعيد تشكيل العالم المرئي بشكل مادي تجريبي ملموس. ولكن ماذا يعني العالم المرئي بالنسبة لفن العمارة؟ إنه يتخذ من الأشكال الطبيعية نموذجا يحتذى، ويستمد المعماري من العالم الطبيعي أدق تفاصيله مثل البيضة أو العش كنموذج للمنزل، وهناك أمثلة عديدة على استخدام فن المعمار للأشياء الطبيعية في الزخرفة مثل اللوتس والمحارة، إلا أن الفنان المعماري لا يقلد هذه الأشياء ولا يحاكيها، بل هو يكتشفها ويخترعها إذا لم توجد في العالم الخارجي بشكل مرئي.
وهناك أنساق معمارية قديمة تعد صورا موجهة لتاريخ فن العمارة، فكل النماذج التي اتبعت الشكل الهندسي في المعمار تنتسب للنسق المعماري المصري الذي انتقل إلى أوروبا عن طريق أكثر محاورات أفلاطون تأثرا بالحضارة المصرية وهي طيماوس التي تتسم بالانسجام والنسب الهندسية. في حين أن السماء الهائلة هي الصورة الموجهة للمعمار الروماني وأن البانثينون انعكاس للكون كله، وللقبة والنجوم والكواكب السبعة، فهو يمثل آخر بناء نجمي لأن قبة العالم اختفت من العالم المسيحي بعد ذلك.
إن صورة بناء العالم
World-builder
أو نحات العالم
World sculpter
صورة مصرية ترجع للإله الفنان «إله النحت» في ممفيس، وهو الإله المصري الذي يعد النموذج البدائي لخلق العالم. ولم يكن هذا موجودا في الأساطير الوثنية عن خلق العالم ولا في الميثولوجيا البابلية التي قدمت الإله باعتباره منظم العالم وليس صانعه أو خالقه، لأن العالم مكتمل منذ البداية، والمعروف أنها ميثولوجيا بدون عالم آخر، ولذلك لم تحتج إلى بناء عالم آخر غير هذا العالم الذي افترضت كماله منذ البداية. وصورة بابل التي كان لها دائما صداها في الكتاب المقدس لم تكن صورة موجهة لأشكال معمارية أخرى في العالم الخارجي، بل جاءت هذه الصور من أرض الخروج، من مصر. وقد نسبت كل أعمال «بتاح» إلى يهوه إله الخروج، بحيث أصبح الإله المصري صورة موجهة لكل أساطير خلق العالم بما في ذلك قصة الخلق المعروفة في الكتاب المقدس. جاء إذن فن العالم من أرض الخروج.
71
وشعر يهوه شعورا غريبا تجاه العالم القائم أو الموجود والكون المنتهي بالفعل، فكانت السماء الجديدة والأرض الجديدة: «لأني ها أنا ذا خالق سموات جديدة وأرض جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال.»
72
إن النسب الهندسية السرية لمعبد سليمان مأخوذة من الهرم والمعبد المصري، فقد تحول قصر أو معبد بتاح إلى معبد للخروج، وارتبط الحلم المعماري بعالم أفضل إلى حد بعيد بتاريخ العقيدة التي امتدت من عبادة الشمس عند المصريين القدماء إلى نبوءه الخروج في الكتاب المقدس، حتى إن موسى بن ميمون يفسر وقوف إبراهيم على الجانب الغربي من جبل مورايا
Moria
بأنه نوع من المعارضة للديانة المصرية والبابلية القديمة التي اتجهت لعبادة الشمس، ولذلك أدار إبراهيم وجهه عن مشرق الشمس ليتجه ناحية الغرب. وهذه هي الأسطورة النجمية الموجهة للعمارة المسيحية التي سعت لبناء عمارة جديدة باعثة على الأمل فكانت شجرة الحياة في الفن القوطي، وتوقع أرض جديدة وسماء جديدة.
73
إذا كان للعمارة القديمة - بعد استبعاد أيديولوجيتها الدينية - وظيفة، فما هي وظيفة فن المعمار في العصر الحديث بعد أن اتخذت الأشكال المعمارية شكلا مختلفا أشد الاختلاف، فبدت المباني كما لو كانت متأهبة للرحيل، وظهرت في شكل السفينة أو الصندوق. وعلى الرغم من أنها - أي العمارة الحديثة - اتجهت للانفتاح على ضوء الشمس، وفتحت مساحات كبيرة لاستقبال ضوء الشمس من خلال نوافذ زجاجية، إلا أن هذا الضوء لم يبعث على السعادة، لأن الأماكن والنوافذ والأبواب المفتوحة التي اتجهت إليها العمارة الحديثة تحتاج إلى الحرية والأمن الذي لم تستطيع تحقيقه في ظل النظم الاستبدادية (فاشية ونارية) لذلك عاد الحلم المعماري مرة أخرى إلى منازل على هيئة كهوف وقلاع.
74
لقد قامت العمارة القديمة التي حددها
Vitruvius
على ثلاثة مبادئ هي المنفعة
Utilitas
والصلابة
Firmit
والخيال
Venustas
الذي زخرفه وزين البناء في كليته وتفاصيله، وعندما دمر العنصر أو الشكل الوظيفي أصبح البناء بشعا
monstrous
كرسوم الفنانين التعبيريين، وسعى المعماريون لإيجاد الفراغ، والبناء على مكان أجوف.
75
وعندما تطورت حركة المعمار وأصبحت المباني تحتاج إلى مدن وميادين، كان لا بد من التصميم للمدى البعيد، أي للمستقبل. واتجه المجتمع البرجوازي والرأسمالي القائم على الربح لبناء مدن صناعية بلا فكر ولا تخطيط، مدن لا يجمعها سوى الكآبة والشوارع المكشوفة في فراغ، على العكس من المدن التي نشأت في مجتمعات ما قبل الرأسمالية ولم تنشأ بطريقة عشوائية. إن تخطيط المدن لم يقتصر على العصور الحديثة بل له جذور تاريخية بعيدة. وقد انحدرت إلينا تصميمات المدن من عصر ما قبل الإسكندر - وهو المؤسس الكبير للمدن - وأشار أرسطو - في كتابه السياسة
II
فصل 8 - إلى المعماري هيبو داموس
Hippodamos
الذي اخترع تقسيم المدن وكان في نفس الوقت أول رجل وضع دستورا سياسيا، وقد قام بتخطيط مؤسسات سياسية وأبنية خاصة بالمنفعة العامة، وشرع في إقامة المدن على أساس اجتماعي، بل إن عملية التخطيط نفسها كانت تقوم على دراسة دقيقة ومنهج واضح، وكان تخطيط المدن معروفا أيضا في زمن الإمبراطورية الرومانية عندما حول أوغسطس مباني روما من الآجر إلى الرخام، وعندما أعاد قسطنطين بناء بيزنطة وجعلها عاصمة ملكية. وقد كان نصف هذا التخطيط يوضع على أساس اعتبارات هندسية ونصفه الآخر على اعتبارات نجمية.
76
ثم جاء معمار النهضة ليدخل في حسابه النسب الرياضية؛ فتحولت العمارة إلى عالم آلي ميكانيكي ساد في عصر الباروك - على الرغم من الإسراف في الزخرفة والنحت - وبقي التصميم الهندسي لفن الباروك نموذجا للمدن البرجوازية.
77
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر سادت الفوضى المعمارية، فاختفى التخطيط عندما سيطر اقتصاد الربح في المجتمعات الرأسمالية، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات في بعض الشوارع المنحنية والفيلات أو القصور الفخمة، ثم جاء دور الهندسة المدنية في تصميم وتخطيط الفوضى المعمارية بغرض إيجاد مدن مثالية وتحقيق التناسق والانسجام في فن المعمار، وهذا ما فعله المهندس الفرنسي
Ledoux (1736-1806م) عندما صمم مدينة مثالية مخططة بغرض الإقامة الدائمة، وتحتوي على نماذج مختلفة للبناء طبقا لاحتياجات السكان، ومراكز العمل ومساحات خضراء في كل مكان. ويشبه بلوخ هذا المعمار بما جاء به كامبانيلا في يوتوبياه التي قامت على النظام الصارم وعلم التنجيم؛ إذ كانت عمارة
Ledoux
تدور في نظام فلكي لأنه كان يعتقد أن البناء
builder
هو المنافس للإله، ومن ثم يسعى لتشكيل المكان على نمط النظام الكوني الذي يفترض كماله منذ البداية وإن هندسته أيضا مكتملة. وهكذا جاءت يوتوبياه المعمارية «بلورة» مصرية أي يوتوبيا ساكنة هدفها المعماري هو تحقيق الانسجام مع الكون.
78
إن العمارة في العصر الحديث - مثلها مثل التقنية - عمارة مجردة، ومدنها مدن بلا حياة، مغتربة عن الإنسان الذي يشعر نحوها بالاغتراب. إنها عمارة تعكس برودة العالم الآلي، والمكان المعماري فيها «إنشاءات مجردة» يبقى العنصر السكوني فيها مسيطرا على فن العمارة التي لم تتصل بالعالم المادي، على الرغم من أن هدفها هو الانسجام مع الكون. والسؤال الآن: كيف يمكن أن يمتزج النظام السكوني للعمارة بشجرة الحياة الحقيقية؟ وكيف يمكن التأليف بين النموذجين المعماريين المصري والقوطي؟ لا شك أن هذا أمر مستحيل بدون عنصر ثالث أصيل بتوسط بينهما ويجده بلوخ في الماركسية التي تتوسط بشكل منتج وعيني من خلال اتجاهها إلى «تطبيع» الإنسان وإلى «أنسنة» الطبيعة.
إن العمارة هي محاولة إنتاج وطن إنساني جديد في العالم القائم بشكل أكثر جمالا وانسجاما. واليوتوبيا المعمارية تمثل بداية ونهاية اليوتوبيا الجغرافية نفسها، وكأنما تقصد إلى تحقيق أحلام الجنة الأرضية، وإيجاد «أركاديا» في المكان وفي حدود عالم أفضل في بناء فعلي يبدو أكثر جمالا ويضم كل ما يرسم ويصور وينحت وينقش. والعمارة الحقيقية هي استشراف مكان أكثر ملاءمة للإنسان يقوم على مزج النظامين السكوني والحيوي، فالسكون هو الذات والعالم الخارجي هو الموضوع، وعملية التوسط بينهما طبقا للجدل الهيجلي تأتي على يد الماركسية التي «أنسنت» الطبيعة و«طبعت» الإنسان.
يتهم بلوخ الفن المصري القديم بالسكون والثبات الذي يعبر عن الجسد الميت أكثر مما يعبر عن الجسد الحي، ويصفه بأنه كالبلورة التي ترمز لسكون الموت في مقابل الفن القوطي الذي يرمز لشجرة الحياة. والحقيقة أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون مجرد ترديد لأقوال بعض الدارسين الغربيين عن الفن المصري القديم، كما يخالف الطابع العام الذي يميز تفسير بلوخ لتاريخ الفلسفة تفسيرا غير تقليدي، ولا يتفق مع توجهه الماركسي الذي يحتم عليه الاهتمام بالأساس الاجتماعي للفن. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يوضع في الاعتبار أن المجتمع المصري القديم انقسم إلى فئتين اجتماعيتين، طبقة الحكام أو الملوك الفراعنة، وطبقة عامة الشعب، وهذا التقسيم الطبقي انعكس على الفن المصري القديم الذي يمكن النظر إليه على مستويين: الفن الذي يصور بل ويخلد حياة الملوك، والفن الذي يصور حياة العامة من الناس. وإن التماثيل أو الرسوم التي يصفها بلوخ بالسكون والثبات إنما تعبر عن طبقة الملوك التي كانت تقاليدها تحتم عليها الوقار الذي يفرضه الطابع الرسمي لفئة الملوك بصفة عامة، بالإضافة إلى الجلال الذي يفرضه الاعتقاد الديني السائد في هذا المجتمع والذي يؤله هؤلاء الملوك. وربما كانت هذه هي الأسباب التي دعت بلوخ - وغيره ممن يتهمون الفن المصري القديم بالجمود - إلى إطلاق مثل هذه الأحكام العامة على هذا النوع من الفن. لكن كل هذه الاتهامات أغفلت ما يمكن أن نسميه بالمستوى الآخر من الفن المصري القديم الذي يصور عامة المصريين وتفاصيل حياتهم اليومية وعملهم في الحقول واحتفالاتهم في الأعياد والمهرجانات كأعياد الحصاد ووفاء النيل وأعمال الحرث والغرس وما اتسمت به هذه الرسوم من حركة الأشخاص وانحنائهم، وإيقاع الرقص المصري الذي نلمسه في حركة الفنانين المصورة على جدران المعابد. وتتضح الحركة وتزداد الرسوم التي تعبر عن الفعل في تلك الرسوم الخاصة بتصوير المعارك الحربية المفعمة بالحيوية، بالإضافة إلى الألوان الزاهية والمشرقة التي تتسم بها كل الرسوم المصرية القديمة والتي لا يمكن وصفها بأنها ترمز للموت، وإنما هي موحية بالحياة وبالصراع مع الموت ومقاومته. (2) فن التصوير
التصوير الفني هو الشعور أو الصوت الداخلي للفنان، وعندما يتحرك هذا الصوت للتعبير عن نفسه تعبيرا خارجيا يمر هذا الشعور عبر اليد الموهوبة المبدعة للفنان، فالصورة الفنية لا ترى فقط بل تسمع أيضا، إنها تروي - بقدر ما لديها من تأثير مبهج - ما نراه فيها بأسلوب مفعم بالألوان المشرقة. وليس مهما أن تكون هذه الألوان مطابقة للعالم الخارجي أو الواقعي، فغالبا ما تجذبنا الصور الفنية إلى عالم بعيد عن الواقع، وإنما المهم أن يكون لديها القدرة - من خلال الأضواء والظلال والتكوينات والأبعاد والزوايا - على استشراف المستقبل وإلقاء الضوء على شيء أو أشياء لم توجد بعد في عالم الواقع. ولقد مر التصوير - شأنه شأن سائر الفنون الأخرى - بمراحل تطور مختلفة كشف في كل مرحلة منها عن بعد من أبعاده اليوتوبية الكامنة في داخله.
وبالابتعاد عن المرحلة الزمنية التي كان الفن فيها خادما للدين ومكرسا لتصوير موضوعاته، والاتجاه إلى المرحلة التي عبر فيها عن الحياة اليومية؛ يتضح أن هولندا من أكثر البلاد التي شهدت نهضة فنية كبيرة في هذا المجال، وظهر بها مصورون عظام عبروا عن الموضوعات الدنيوية التي أصبح لها استقلال مطلق، وأخذت تعبر عن موقف من الحياة لا ترفع فيه، مبني على التجربة اليومية، موقف لا يترفع عن الواقع وإنما يعده شيئا تم الانتصار عليه وبالتالي أصبح مألوفا، وكأن هذا الواقع قد اكتشف، وامتلك، وتم الاستقرار فيه للمرة الأولى.
79
أبدع الفنانون الهولنديون في تصوير الحياة العائلية المتمتعة بالدفء والهدوء والسكينة والحياة الآمنة المطمئنة التي لا يعتريها أية تغيرات فجائية، كالزوجة التي تقرأ الخطاب، والأم التي تراقب الأطفال وهم يلعبون في الساحة، والسيدة العجوز التي تتنزه في الشارع بينما تتخلل أشعة الشمس المنظر الصامت، والعديد من اللوحات التي تعبر عن الهدوء واللامتناهي، والضوء الساقط من زوايا مختلفة ومن إطار النافذة والباب المفتوح، ولمبات الحائط المعلقة، والكراسي ذات المساند، إلى آخر هذه الأشياء التي تعبر عن الراحة البرجوازية وأسلوب الحياة اليومية المنتظمة والمألوفة داخل الغرف الضيقة. وعندما يلقي الفنان الضوء على العالم الخارجي من خلال النافذة، فإن المنظر لا يمتد لأكثر من مائة متر أو مائتين كما في بعض لوحات بيتر دي هوخ
Hooch (1629-بعد 1684م) الذي تعبر لوحاته عن حياة الطبقة البرجوازية المتوسطة.
80
في نهاية العصور الوسطى أصبح للبعد الثالث مكان في الصور المرسومة، واتجه الفنانون إلى تصوير المنظر المفتوح المفعم بالأمل، وظهرت في الصورة أبعاد مفتوحة على العالم الطبيعي للإيحاء بالامتداد الهائل لعالم لا متناه. صار هذا البعد جزءا لا يتجزأ من تصميم الصورة وكأن المشاهد لها ينظر من خلال نافذة كبيرة ليمتد النظر إلى ما وراء الأفق، كما يتضح في لوحة الفنان الهولندي جان فان إيك
Jan Van Eyck .
81 (1390-1441م) «مادونا» حيث وظف المنظور في خدمة المنظر الموضوع داخل إطار من العمارة، ويظهر المنظر الطبيعي نفسه بوصفه نافذة للمنزل، وأصبحت خلفية الصورة هي المدينة وأبراجها وكاتدرائيتها ، والنهر الذي تجري فيه السفن والجسر المزدحم، وتلالا خضراء صاعدة في الأفق وجبالا مغطاة بالثلوج. وهكذا أعطى المنظور من خلال إطار الصورة أرضا مفعمة بالحلم وواقعا آخر متعدد الطبقات.
82
ولا يوجد فنان اهتم بالمنظور وأبدع فيه مثلما فعل ليوناردو دافنشي (1452-1519م) في لوحته «عذراء الصخور»؛ إذ لا تبدو الصخور منفصلة عن الأشخاص الذين يبدون كأنهم طافون في هذا الجو الشاعري الغامض المغلف بالظلال. ولقد صارت الظلال منذ اكتشاف دافنشي لأهميتها عنصرا أساسيا في اللوحة ونبذت طريقة الاهتمام بتأثير الألوان الزاهية.
83
وتميز دافنشي برسم أشخاص ذات أبعاد ثلاثة باستخدام الضوء والظل دون تحديد لمعالمهما كما في لوحته التي طبقت شهرتها الآفاق «الموناليزا»، هذه اللوحة التي جاءت بعنصر ثوري في تطور مفهوم النهضة لفن البورتريه حيث أتت بعلاقة جديدة بين الوجه
Figure
وخلفية الصورة؛ مما جعل من «الموناليزا» لحظة تنوير كلية،
84
بابتساماتها الغامضة ونظراتها التي تلاحق المشاهد من كل الزوايا، وخلفيتها الضبابية. وتميز دافنشي برسم أشخاصه داخل تكوين هرمي بطريقة مبتكرة لم تكن معروفة من قبل، وخفف من التأثير الجاف للشكل الهندسي بأساليب علمية.
85
إن الحلم الذي جسدته لوحة «الموناليزا» في الخلفية، تكرر في الموناليزا نفسها، أي تكرر شكل المنظر الطبيعي في تموجات ثوبها وجفون عينيها الهادئتين، وفي ابتسامتها الغامضة، فالمنظر الطبيعي الذي تصوره خلفية الصورة لا يقل أهمية عن وجه الموناليزا نفسها؛ مما جعل اللوحة تعكس فلسفة دافنشي ومفهومه عن العالم «فكل جزء ينزع للاتحاد مع الكل مرة أخرى ليهرب من النقص، وهذا النزوع هو الخلاصة والجوهر، وصداقة الطبيعة والإنسان هي نموذج العالم كله.»
86
إن الامتزاج بين المنظر الطبيعي، بجباله وأضوائه الخافتة وبحيراته وحقوله الشاحبة اللون، وبين الموناليزا، التي تحدق في كل الزوايا مع الغموض الذي يحيط بها والأرض الضاربة في الخضرة والضوء المفعم بالدخان حولها، إنما يعبر عن وحدة كلية رسمها الفنان بالأضواء والظلال. وهذا أيضا هو الذي عبرت عنه لوحة «القديسة آن» التي أوضحت قدرة دافنشي على مزج الجمال الأنثوي بجمال الطبيعة.
وتتحول الخلفية المنفتحة على اللامتناهي عند دافنشي إلى خلفية مظلمة عند الفنان الهولندي رمبرانت
Rembrandt (1606-1669م) الذي تميز بدقة التعبير عن الوجه الإنساني فيما يعرف بفن البورتريه، واهتم اهتماما خاصا بتوزيع الضوء في لوحاته توزيعا متفردا: كانبعاث الضوء القوي من أحد جوانب اللوحة، أو تدفقه من جهة واحدة، أو سقوط الضوء الساطع خارج اللوحة على خلفية مظلمة. ويتضح هذا في اللوحات العديدة التي رسمها الفنان لزوجته ساسكيا
Saskia . كما يتضح في لوحته الشهيرة «نوبة الحراسة الليلية» حيث يسطع الضوء من الخوذة الذهبية التي يضعها قائد الحراسة الليلية على رأسه، وهذا البريق المتجمع للضوء يلقي بظلاله على خلفية مظلمة تتداخل فيها الألوان البنية والذهبية ويعمل النور داخل الظلام، وتخفي الظلال معظم جنود الحراسة الليلية وإن كانت لا تخفي حركاتهم الخافتة. ويصدق على هذا أيضا مجموعة لوحات العذاب
، وهي اللوحات التي تصور عذاب المسيح حيث يقف الأشخاص وحتى الأشياء في خلفية ممتدة منعزلة ومظلمة، وتظهر الألوان من انعكاس الضوء الذي ينبعث من مركز الصورة وإن كان لا يصدر من أشعة الشمس، ولا من ضوء صناعي، وإنما يشرق من لحظة انطفاء حياة المسيح على الصليب. هذه المفارقة في استخدام رمبرانت للضوء تعبر عما يمكن تسميته منظور نور الأمل
فقد استبدل بالمنظور الكوني المفتوح عند دافنشي مكانا مظلما، وظل الضوء الذي يتعارض كل منهما في طريقة استخدامه يرسم حقيقة الأمل والإشراق.
87
ويتحول التصوير إلى رسم مناظر يوتوبية واضحة حتى في عنوانها كما في لوحة أنطوان واتو
Antoine, J. Watteau
88 (1684-1721م) «الإبحار إلى جزيرة كيثيرا».
89
وهي تصور مجموعة من الشبان والشابات يقفون في أحضان الطبيعة في انتظار السفينة التي ستبحر بهم إلى جزيرة الحب. وقد صورت هذه اللوحة ثلاث مرات، وتعتمد النسخة الأولى منها على المرحلة الانطباعية التي يبدو فيها ترتيب الأشكال مألوفا وتعد مجرد رحلة رومانسية. وفي النسخة الثانية (في باريس) ظهرت تشكيلات في المنظور واتضح الحلم في منظر طبيعي ساحر يحيط بالأزواج الذين ينتظرون سفينة الحب على الماء الفضي، وليل الجزيرة المأمولة غير مرئي ولكنه ينعكس بشكل مباشر على الحركة والسعادة التي تنبعث من الصورة بخلفيتها اليوتوبية الواضحة. أما النسخة الثالثة (في برلين) فتبدو فيها الخلفية أكثر زينة، والسفينة التي تحوم الملائكة حولها على أهبة الاستعداد للرحيل، وثمة تجاور مباشر في استعمال اللون الأحمر الوردي والأزرق السماوي يرف حول منظر الإبحار؛ مما يوحي بأنه وعد مرسل من جزيرة الحب بسعادة متوقعة.
90
عبر التصوير عن الرحيل إلى عالم أفضل كهروب من الكدح اليومي وأمل في تحقيق السعادة في عطلة يوم الأحد الخالد، وقد تحول يوم الراحة في العصور الوسطى إلى عالم آخر يتحقق فيه السلام والخير في اللحظة الساكنة وراء هذا العالم. ولذلك ظلت صور حكايات الكتاب المقدس والحكايات الدينية هي الشكل الرئيسي للفن في البلدان الكاثوليكية، وفي تلك التي يحكمها ملوك ذوو سلطة مطلقة ... ولم تكن موضوعات الحياة اليومية والمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة سوى عناصر مساعدة في التكوينات المستمدة من الكتاب المقدس ومن التاريخ والأساطير.
91
وفي هذه الفترة لم يكن المنظور مألوفا، وربما يرجع هذا إلى طبيعة الموضوع الديني الذي تتناوله هذه الرسوم. وجاء جيوتو
Giotto (1266-1337م) في نهاية العصور الوسطى ليعبر عن التراتب في الفكر الديني، فكل شيء في لوحاته يأخذ مكانه المحدد له طبقا لنظامه أو وضعه الديني، حتى الملائكة تطير في الأماكن المحددة لها فلا تزحم اللوحة ولا يأتي وجودها مصادفة، وتوزيع الأشكال على الأماكن على أساس قيمتها الروحية.
92
وتظهر الطبيعة على حافة هذا النظام.
93
وعلى الرغم من أن جيوتو يعد مؤسس الواقعية في الغرب وصاحب ثورة كبيرة في تاريخ فن التصوير؛ حيث يعتبر أسلوبه الحد الفاصل بين التقاليد الجامدة وتقاليد فن النهضة الحديثة ونهاية فترة في فن التصوير كانت تسيطر عليها فكرة تصوير المقدسات فقط وبداية فترة تهتم بالإنسانيات،
94
كما يعده البعض أيضا من أعظم فناني النزعة الكلاسيكية البرجوازية التي حققت توازنا كاملا بين العناصر الطبيعية والعناصر الشكلية في التصوير. على الرغم من كل ذلك إلا أن فن جيوتو يتطابق مع صورة العالم كما حددها توما الأكويني، وكان فيها الإيمان بالتراتبية هو المقدمة المنطقية الوحيدة للبرهان الأنطولوجي على وجود الله. إن الله هو الوجود الحقيقي لأنه كلي وكامل، لذلك رسم جيوتو لوحاته من بعدين، وأضاف تراتبية المكان إلى تراتبية الوجود. وتحولت اليوتوبيا المميزة لعالم جيوتو إلى مجرد ميثولوجيا وانتفت عنها نزعة التفاؤل، كما تحطم بناؤه مع نهاية الثيوقراطية-الإقطاعية في العصور الوسطى.
95
وغلب على يوتوبياه طابع السكون الذي يعلو على الحركة، أي أنها يوتوبيا مكانية ساكنة وليست زمنية لا نهائية.
ثم تحرر التصوير من أسر السلطة الدينية في نموذج الفن الهولندي وتصويره للحياة المنزلية. ولكن هذا النوع من التصوير لم يرض أيضا الذات البشرية التواقة للرحيل إلى عالم أفضل من جدران المنزل وحجراته، إلى عالم يخرج بها عن نطاق الحياة اليومية الرتيبة، فتحول الرسم إلى تصوير الحياة خارج المنزل بحدوده الضيقة إلى أماكن طبيعية أكثر اتساعا وانفتاحا في الهواء الطلق. وقد صور العديد من الفنانين عطلة يوم الأحد أو يوم الراحة، مثل الفنان الهولندي بروجيل
Brueghel (1525-1569م) في لوحته «أرض الكوكايين» التي تصور حشدا من الفقراء الحالمين بالطعام والشراب في يوم الأحد، منهم الفارس والعالم والفلاح، وقد نام بعضهم بعد إشباع جوعه، وبقي العالم مفتوح الفم والعينين يحلم بمشويات ليس لها أثر في الأوعية الخاوية حوله، وربما يحلم بلحم الخنزير الذي يظهر بالفعل في خلفية المنظر الطبيعي للصورة، حيث يشرق النور من الخلف ليسلط على الخنزير الذي ربما يكون موضوع الحلم ورمز إشباع المعدة الخاوية.
وتعبر أيضا لوحة الفنان الإيطالي جيور جيوني
Giorgione (1478-1510م) «حفل موسيقي في الهواء الطلق» عن يوتوبيا يوم الأحد، فهي تصور رجالا يستمعون للموسيقى في يوم العطلة في صحبة سيدات عاريات، وفي أحضان الطبيعة الساحرة، وقد كانت هذه اللوحة نموذجا لصورة الفنان الانطباعي الفرنسي مانيه
Manet (1832-1883م) «غداء على العشب» الذي أعاد هذا المنظر بدون موسيقى، وصور حديقة أبيقورية يسطع عليها ضوء خافت يسقط من بين الأشجار ويحيط بالأزواج، وتتميز اللوحة بالبساطة والحضور والاستمتاع الحسي بعطلة يوم الأحد وما فيه من إمكان فعلي للطبقة الوسطى الصغيرة،
96
وقد أثارت هذه اللوحة ثائرة النقاد الذين اعتبروها سخرية قاسية من بعض طبقات المجتمع وخاصة الطبقة البرجوازية.
ثم تأتي لوحة الفنان الفرنسي جورج سورا
Seurat (1859-1891م) «نزهة على نهر السين» لتعبر عن المعنى السلبي ل «غداء على العشب» حيث يصور الطبقة البرجوازية الحقيقية بوجوه فارغة مسترخية، ونهرا شاحبا وقوارب مبحرة بتراخ في المؤخرة، كما تبدو الشمس وكأنها العالم السفلي هاديس. وتعد هذه اللوحة نموذجا لما يسمى بالكسل الحلو وانعدام الوعي اليوتوبي. وتحول التصوير مع سيزان (1839-1906م) إلى تبسيط للموضوعات، فقدم صورة إيجابية ليوم أحد الطبقة البرجوازية، وأصبحت اللوحات تعبيرا عن ممكن ساكن في طبيعة ريفية بسيطة، وأصبح هدوء يوم الأحد عينيا ملموسا في حاله من الطمأنينة والرضا المتمثل في قطف التفاح والبرتقال والليمون بعيدا عن صراعات الحياة المدنية التي سادت القرنين التاسع عشر والعشرين. ثم هجرت يوتوبيا يوم الأحد أوروبا كما في لوحات الفنان الفرنسي جوجان
Gauguin (1848-1903م) إلى عالم آخر بعيد وبدائي، إلى تاهيتي التي اكتشفت عام 1606م، ونظر لها الأوروبيون كأنها قطعة من الفردوس حتى دخلت في رسوم يوم الأحد التي طغت عليها السعادة.
97
والآن، كيف يحكم على العمل الفني بالأصالة أو الزيف؟ وكيف يتم تقييم الظاهرة الجمالية، فيحكم عليها بأنها حقيقة أصيلة أو وهمية مزيفة؟ إن مثل هذا السؤال يعبر عن أحد الإشكالات الهامة في علم الجمال. ولا يمكن بطبيعة الحال الاستفاضة في عرض هذه المشكلة التي تخرج عن حدود هذا البحث، ولذلك يمكن الاكتفاء بعرض وجهة نظر بلوخ في هذا الموضوع إذ يؤكد أن الحكم على العمل الفني وتقديمه لا بد أن يكون في حدود ما يحمل هذا العمل من بعد يوتوبي، أي بقدر ما يعبر مضمونه عن الأمل الكامن فيه.
إن الاستطيقا الكلاسيكية تعبر عن استطيقا خالصة للتأمل كما هي عند كانط الذي قصر موضوع الجميل على التأمل الخالص. فالفن عند كانط عمل يقصد من ورائه المتعة الجمالية الخالصة، بمعنى أنه حر منزه عن كل غرض سوى المتعة الفنية ذاتها.
98
بذلك يكون الموضوع الجمالي مقصورا على الحاضر وبعيدا عن الوجود في المستقبل، وكأن الفن يبرر العالم كظاهرة جمالية بتعبيراته الشكلية ومن خلال الكمال الشكلي، ومن هنا تنظر الاستطيقا الكلاسيكية إلى الموضوع الجمالي من ناحية مظهره فقط فيتحول إلى نوع من المتعة الجمالية، كما تصبح الاستطيقا ميتافيزيقية عند شوبنهور تحرر الإنسان من إرادة الحياة.
99
إن الفنان في نظره - أي شوبنهور - هو في لحظة الإبداع إنسان متأمل هادئ استطاع أن يحطم قيود الرغبة، ويتحرر من أسوار الفردية، فهو أشبه ما يكون بالمتصوف الغارق في سكون النظر العقلي المحض، السابح في فيض من السكينة الروحية الخالصة ... لقد قال شوبنهور باستطيقا سلبية تقوم على النظر والتأمل، وتعتبر أن مهمة الفن لا تكاد تتعدى معرفة المثل أو الماهيات.
100
وكذلك فعل هيجل على الرغم من نزعته التاريخية واهتمامه بالمضمون ومعارضته للشكلية لأن الاستطيقا عنده تنحصر أيضا في نطاق الفن الساكن المتأمل.
أما عن الاستطيقا الماركسية كما هي عند لوكاتش على سبيل المثال الذي يعبر عن النزعة الواقعية، فحتى من وجهة نظر هذه الواقعية - التي يتهمها بلوخ بأنها واقعية فجة - وحتى لو بدت الأعمال الفنية التي تعبر عنها مكتملة من الناحية الشكلية البحتة، فهي لا بد أن تكون غنية في مضمونها معبرة عن الواقع الذي هو عملية صيرورة متفتحة على آفاق مستقبلية. فالعمل الفني ليس مجرد شيء محسوس يظل دائما على ما هو عليه، بل هو حقيقة حية يطرأ عليها الكثير من التغير، بفعل تلك الصيرورة الحضارية التي لا بد لكل عمل فني من أن يندمج فيها ويتأثر بها.
101
ويدل هذا على أن الفن بالمفهوم الجدلي يعبر عن صيرورة واقعية وليست مزعومة، فهو من ناحية مضمونه ومن الناحية النظرية لا بد أن يكون فنا متفتحا وغير منته، لأنه يصور النزوعات والإمكانات الكامنة في الموضوعات. إن العمل الفني يصور الجميل على أنه جدل الوجود في مرحلة سابقة على المظهر الذي يبدو عليه. والفن بمفهومه الجدلي عمل لم يكتمل بعد شأنه شأن الواقع نفسه، فكلاهما منخرط في العملية الجدلية، وكلاهما مسيرة مفتوحة نحو كمال لم يتحقق بعد. وهذا على العكس من معالجة المثالية التي اقتربت مما يسمى امتلاء أو تحقيق كمال الواقع
fullness of perfection of the real ، وكأن العالم الذي هو متغير في كل وظائفه الثقافية الأخرى قد بلغ الغاية من روعته وكماله، مع أن الفن هو النزوع لهذا الكمال الرائع، والإمكان الواقعي الموضوعي لهذا الكمال.
102
إن المعالجة المثالية للموضوع الجمالي، تصنع وهما جماليا منفصلا عن الحياة، أما الفن الذي يتناول الإمكانيات الكامنة وراء المظهر أو المظهر البادي من الواقع الممكن فهو وحده الذي يستحق اسم الفن، لأنه يضع نفسه في أفق الواقع الذي لم يزل في سبيله إلى التحقق. والمضمون الفني يجب أن ينظر إليه نظرة يوتوبية واقعية لا نظرة وهمية مجردة تصور المظهر كأنه لعبة مكتملة. وهكذا يقاس الفن بمقياس موضوعاته ذات الدلالة اليوتوبية، لأنه يخلق علاقة معرفية بالأمل لا مجرد متعة جمالية سطحية.
وهذا هو الذي أدركه الفن الكلاسيكي أيضا وإن كان قد أدركه بشكل مثالي-موضوعي كما تؤكد عبارة شيللر «الجمال هو الحرية في المظهر.» ويقول كانط في «نقد ملكة الحكم»: «إن القدرة على إدراك الجليل تدل على قدرة في العقل تتخطى كل مقاييس الحواس ... والجليل يجلب معه فكرة اللانهاية، ولهذا فإن الجليل يكون طبيعة في أحد مظاهره التي يجلب تأملها فكرة اللانهاية.» وليست اللانهاية هنا إلا ما يجلب معه الشعور بحريتنا في المستقبل.
103
تقوم الاستطيقا القديمة إذن على فكرة الجليل التي يصفها كانط بأنها سعادة مبرأة من كل غرض أو مصلحة، تماما مثل الفن الإغريقي الذي يقوم على مقولة الجليل، والذي ينسب عادة لموضوعات دينية ويتميز برجفة الدهشة التي قال عنها جوته إنها أفضل ما في الجنس البشري.
إن مملكة الإمكان أو الممكن الواقعي هو الشرط الأساسي للفن الذي يجب أن يمتد لعالم لم يوجد بعد. والنزعة الواقعية للفن يجب ألا تكون وصفية بمعنى تفسير الواقع أو وصفه، وإنما يجب أن تكون مرآة للتوقع الباطن داخل العمل الفني. إنها نزعة واقعية ذات دلالة يوتوبية. ويخلص بلوخ من هذا كله إلى أن الإرادة الفنية يجب أن تتحرر من النزعة الشكلية التي تحمل سمات مجتمع برجوازي كل ما يميزه هو السعادة الشكلية والمظهرية، أي أن يخرج من نطاق الشكلية ومن نطاق التأمل. فلا يكفي في العمل الفني أن ننظر إلى العالم نظرة جديدة، بل يجب أن نخلقه خلقا جديدا. فالفنان ليس مجرد صانع، وإنما هو خالق - كما أطلق عليه المعمار الفرنسي
Ledoux - يذيع أسرار الآلهة، إذ يصرح لنا بتلك المعاني الخفية والعلاقات المطوية والقيم المستترة التي أودعتها الآلهة صدر المخلوقات. بل إن الفنان قد يزعم لنفسه الحق في إعادة خلق هذا الكون، لكي يبين للآلهة كيف كان يمكن أن تجيء الخليقة أفضل، أعني أكثر إثارة وأخصب وجدانا وأعمق معنى وأوقع أثرا.
104
وحتى الاستطيقا الكلاسيكية التي اهتمت بالنزعة الشكلية والكمال الشكلي لم تغفل هذا الجانب اليوتوبي المشرق على الرغم من أنها تناولته تناولا مثاليا - موضوعيا - لا بد للفن إذن أن تكون له غاية يحققها من خلال أساليبه الاستعارية والرمزية، وأن يعبر عن نزوع الواقع ونزوع الذات البشرية نحو أمل لم يتحقق بعد. ومع الماركسية لم يعد الفن - كما يرى بلوخ - تأملا فحسب، بل أصبح فيه إمكان كامن وراء المظهر أي ممكن إيجابي يملك القدرة على التحقق.
يدين بلوخ كل الفنون التي تبعث في النفس السكينة والاطمئنان أو تلك التي تركن إلى الراحة أو السعادة، ويطلق عليها المقولة الماركسية التي تزعم أنها تعبر عن الفكر البرجوازي. إنه يبحث في اللوحات الفنية عن تلك التي تعبر عن الممكن الواقعي الموضوعي أو التي توحي بعالم لم يوجد بعد، وتبعا لذلك يهاجم كل الأعمال الفنية التي تقترب من تحقيق الكمال على المستوى الاستطيقي، ويزعم أنه ليس سوى كمال شكلي يشابه إلى حد كبير ما في المجتمعات البرجوازية التي لا ترى من إمكانات الواقع سوى تلك السعادة الشكلية، بينما الفن عنده ينبغي أن يعكس الواقع المتدفق في صيرورة دائمة. لذلك كان تقييمه للعمل الفني بقدر ما يحمل من أمل، وبقدر ما فيه من نزوع يوتوبي نحو اكتشاف إمكانات واقعية موضوعية. ومن هنا قدم تحليلا للأعمال الفنية أبرز فيه ما تحمله من أمل كامن في أعماق الصور، فتحليله لتوزيع الأضواء والظلال في اللوحات الفنية وكيفية استخدام الأبعاد والزوايا والمنظور استخداما يكشف عن الجديد القادم، كان محاولة لإبراز هذا الجديد بصورة عينية، أو لجعل «الجديد» - الذي يسعى جاهدا لالتماسه في هذه الأعمال - مرئيا.
ويمكن القول إنه على قدر ما في تحليلات بلوخ للأعمال الفنية من عمق النظرة التي كشفت عن تمتع صاحبها بحس جمالي على مستوى عال من ناحية، وألقت الضوء على الجوانب الخفية لهذه الأعمال من ناحية أخرى، وقدمت تفسيرات مبدعة وخلاقة تتفق مع نظرته للموروث الثقافي الذي يعاد تشكيله وخلقه من جديد بشكل مستمر؛ أقول إنه على قدر ما في هذه التحليلات من عمق النظرة، إلا أنها انحصرت في التفسيرات الماركسية التي تربط الفن بالظروف التاريخية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن بلوخ تجاوز في مواضع كثيرة الرؤية الماركسية التي نجح في أن يطوعها للإطار العام لفلسفته، إلا أنه التزم ببعض مقولاتها في تحليله للظاهرة الجمالية، ربما لأنها تساعده أكثر من غيرها في التعبير عن فلسفته الخاصة وتطويع هذه الفنون وتفسيرها بما يتفق مع نسقه الفلسفي العام الذي لا يهتم بالوصول إلى الهدف بقدر اهتمامه بالسعي إليه. لذلك كانت نظرته إلى تلك الأعمال الفنية التي تصور الواقع على أنه مكتمل هي نفس نظرته للفلسفة المثالية التأملية، لأن الواقع الفعلي لم يبلغ كماله بعد، ولن يبلغه على الإطلاق وفقا لفلسفة بلوخ نفسه، أي وفقا لنسقه المفتوح على المستقبل اللانهائي. ومن هنا كانت وظيفة الفن عنده وظيفة يوتوبية، وكانت الأعمال الفنية التي استأثرت باهتمامه هي تلك التي تبعث في نفس من يشاهدها مشاعر أو انفعالات التوقع بعالم أو بشيء لم يأت ولم يتحقق بعد، أي هي تلك التي تعبر عن النزوع إلى الكمال وليس الوصول للكمال عينه.
وإذا كان صحيحا أن الفن يعبر عن واقع الحضارة والثقافة التي نشأ بين أحضانها، وإذا كان صحيحا أيضا أن للأحداث التاريخية آثارها على العمل الفني، فإن هذا لا يجعلنا ننظر إليه من الزاوية التاريخية فقط لأنها نظرة أحادية الجانب تفقده الطبيعة الخاصة به والتي تميزه عن غيره . فالعمل الفني باعتباره نشاطا إبداعيا حرا يختلف بطبيعة الحال عن الأعمال الإبداعية الأخرى للنشاط البشري لما له من فردية وخصوصية متفردة. والظاهرة الجمالية ليست كسائر الظواهر العلمية الأخرى التي تحدث في جميع النفوس نفس النتائج، ولكنها ظاهرة إبداعية حرة تثير في الذوات مشاعر وانفعالات متباينة أشد التباين.
إن هذه الظاهرة الجمالية، حتى في ثوبها المثالي، منخرطة - بحكم طبيعتها - في العملية الجدلية نفسها، وهذا أمر ظاهر حتى بدون أن يجهد بلوخ نفسه في البحث عن عملية التوسط في الفن وبدون الاستعانة بمقولات ماركسية لتفسيره. إن مشاهدة العمل الفني تنطوي على علاقة جدلية بين الذات المشاهدة والموضوع المشاهد، والعمل الفني ينطوي على علاقة جدلية بين الذات المشاهدة والموضوع المشاهد، والعمل الفني كرؤية إبداعية حرة إنما يعكس هذا الإبداع على المشاهد نفسه، الذي يبدع بدوره في تحليل وتفسير العمل موضوع المشاهدة، فالتفاعل مع موضوع اللوحة يثير في كل فرد إيحاءات حرة متباينة من فرد لآخر. ولذلك فإن الاستطيقا الكلاسيكية، التي يراها بلوخ مجرد استطيقا تأملية فقط، لا تخلو من هذه العلاقة الجدلية، لأنه على الرغم من أن للعمل الفني وجوده الموضوعي، إلا أنه وجود لا ينفصل عن الذات المشاهدة له، لأن هذه الموضوعية لا يمكن أن تنكشف إلا للذات وعن طريقها.
ويمكن أن ننتهي إلى القول بأن العمل الفني تجربة تعلو على الظروف التاريخية والاجتماعية، وذلك بنفس القدر الذي يمكن معه القول بأنه مرتبط كذلك بالظروف التاريخية والاجتماعية، ولعل هذا أن يكون أحد وجوه المفارقة الجدلية التي تميز العمل الفني وتجعله نقطة التقاء الزمني والأبدي، والنسبي والمطلق، والجزئي والكلي، والخاص والعام. (3) الأعمال الأدبية
إذا كنا نستطيع أن نلمس العنصر اليوتوبي في الفنون المرئية، فكيف نستشعر هذا البعد في الفنون المكتوبة والمسموعة؟ ربما يكون الاهتداء إلى بعد الأمل في الآداب المكتوبة من الأمور التي لا يصعب على الإنسان أن يستخلصها إذا استطاع أن يفض غلاف الاستعارات والرموز الفنية في العمل الأدبي ويضع يديه على المعنى العميق والهدف البعيد الذي تشير إليه الكلمات. وقد حاول بلوخ أن يفض هذا الغلاف عن عملين كبيرين ليكشف عن بعد الأمل في كليهما، وهما الكوميديا الإلهية لشاعر إيطاليا الكبير دانتي (1265-1321م) وفاوست لشاعر ألمانيا الأكبر جوته. ولم يكن اختيار بلوخ لهذين الشاعرين اختيارا عشوائيا، بل لأن كلا منهما قدم ملحمة أدبية يوتوبية تختلف عند أحدهما عنها عند الآخر اختلاف الضد عن ضده.
كانت الكوميديا الإلهية صدى لمؤثرين كبيرين، فقد وقع دانتي من ناحية تحت تأثير جغرافيا بطليموس فجاءت يوتوبيا مكانية ومطابقة لمركزية الأرض، كما كانت الكوميديا الإلهية من ناحية أخرى تعبيرا شعريا عن فلسفة توما الأكويني التي قدمت يوتوبيا تراتبية بمستويات الوجود الاجتماعية وقامت على المجتمع الإقطاعي. وقد رسم دانتي صورا خيالية لفردوس سماوي في شكل رمزي هو الوردة. لكن يجب ألا تفهم الوردة بالمعنى الدنيوي المعروف، لأنها رمز مكاني للكمال. وهي تشبيه استعمل في عصر دانتي كرمز للسماء يوحي بالشكل الدائري الذي كان يعد منذ عهد الإغريق أكمل الأشكال. وقد نشر بيترو دا مورا
كاردينال
capua ، رسالة عن الوردة الكاملة بمراحلها الثلاث، مرحلة جوقة الشهداء، ومرحلة عذراء العذارى، ومرحلة المسيح وسيط الإله والبشر.
105
وقد جاءت رمزية الكوميديا الإلهية في ثلاثة أقسام رئيسية تتفق مع هذه المراحل ؛ الجحيم، المطهر، الجنة، فكانت الوردة أو الدائرة هي الإطار لعمل دانتي. ولم تقدم يوتوبياه جنة في السماء فقط، بل أشارت إلى الجنة الأرضية التي ليست سوى مكان لعبور الأرواح الصالحة إلى الجنة السماوية. وظلت سماء دانتي سماء كاثوليكية، رمزا للسكون المركزي الأبدي الثابت، وكأن هذه السماء لا تتضمن أي هدف على الإطلاق، أو على الأصح لا تتضمن إلا هدفا واحدا هو التعبير عن كمال الوجود في ذاته ومن أجل ذاته. إن المكان أو الفضاء عند دانتي في يوتوبياه السماوية يعكس في تجليه الأسمى فلك الشمس ولكنه يعبر عن نفسه في شكل رمزي خاص وغير فلكي بالمرة. فحيثما توجد وردة السماء يكون النور الخالص كما تقول هذه الأبيات: (1) ربما تتوهج شمس الظهيرة وهي بعيدة عنا بستة آلاف ميل،
وتكاد تأخذ الدنيا تميل بظلها إلى مهادها المستوى، (4) حينما تأخذ في التحول ساحة السماء التي تعلو من فوقنا شاهقة،
حتى تحتجب بعض النجوم عن الرؤية في هذه الآفاق، (37) استأنفت بهمة الدليل المقدام وصوته: «لقد خرجنا من أعظم
الدوائر إلى السماء التي هي النور الخالص.» (40) إنه نور روحاني مفعم بالمحبة، بمحبة الخير الحق المليء
بالبهجة؛ بالبهجة التي تسمو على العذوبة. (46) وكبرق خاطف يزيغ من قوى الإبصار، حتى ليحرم العينين
من قدرتهما على رؤية أكثر الأجسام ضياء.
106
نخلص من هذا إلى أن يوتوبيا دانتي هي نوع من اليوتوبيا المكانية التي تنتهي فيها كل الأشكال بالدائرة المكتملة، أي أنها يوتوبيا وصلت لنهايتها وليس لها مستقبل. وعلى الرغم من ذلك فحتى عالم الجحيم الذي كتب على بابه «أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل.»
107
هذا العالم الأبدي السكوني الذي يستمر فيه العذاب إلى الأبد قد لا يخلو من أمل، لقد استسلم الملعونون لمصيرهم وفقدوا كل إحساس بالرغبة أو الندم فقد تصالحوا مع قدرهم وسلموا بالعناية الإلهية ورضوا بالعقاب الإلهي. ومن هنا تأتي عبارة هيجل الجريئة التي تصدق على دانتي: «حتى الملعونون في جحيم دانتي لا يزال لهم حظهم من النعمة الأبدية لقد كتبت على أبواب الجحيم عبارة «أنا باق إلى الأبد.» فالملعونون قد فقدوا كل إحساس بالألم أو الندم، وهم لا يتكلمون عما يقاسونه من عذاب لكنهم يتذكرون فقط أفكارهم وأعمالهم في الدنيا دون أن يشكوا من شيء أو يشتاقوا إلى شيء.»
108
أما عن فاوست جوته فقد سبق الحديث عن أبعاده اليوتوبية في الجزء الخاص باللحظة الممتلئة، وتجنبا للتكرار سنذكر فقط النقاط التي تخدم المقارنة مع دانتي. وقد نشأت يوتوبيا فاوست - على العكس من يوتوبيا دانتي - في جو بروتستانتي، لا كاثوليكي، وخلفيتها الاجتماعية مجتمع رأسمالي، لا أقطاعي، وقد قدم جوته كذلك صورا خيالية للسماء، إلا أن سماء فاوست ليست في السماء المتعالية التي وجدناها عند دانتي، بل هي سماء منظور إليها من العالم الأرضي، أي أنها ما زالت في هذا العالم. وإذا كان إطار كوميديا دانتي هو الدائرة، فإن إطار فاوست جوته هي السماء المتعالية التي ترتفع في تصاعد لا نهائي إلى السماء، حيث الهدف البعيد الذي تسعى الذات سعيا دءوبا للوصول إليه، على العكس من سماء دانتي الخاوية من الهدف. ويمكن القول إن يوتوبيا جوته متحركة، أي أنه كلما تحقق فيها هدف تولد آخر ليبتعد إلى مسافة لا نهائية حتى تسعى الذات مرة أخرى وراءه من أجل أن يتحقق، بحيث يوجد في فاوست الوعي بمضمون الهدف الذي لم يتحقق بعد. وإذا لم يكن الفن - كما يقول مالرو - سوى انتقال من دائرة القدر إلى دائرة الوعي والحرية، فإن هذا على خلاف يوتوبيا دانتي التي تؤمن بالهدف القادر على التحقق النهائي. والنتيجة التي أراد بلوخ أن ينتهي إليها هي أن يوتوبيا دانتي مكانية ساكنة تنشد الراحة السماوية وتهدف للوصول للنهاية التي توقف عندها الزمان ولم يبق من أبعاده سوى بعد الماضي الأزلي، بحيث يمكن القول إنها يوتوبيا مغلقة لا تسمح بالصعود، ومثلها الأعلى هو الوردة أو الدائرة رمز الكمال المتحقق بالفعل. أما يوتوبيا فاوست جوته فهي زمانية متحركة، تنبض بالوعي الحي وتبذل الجهد الإرادي لمقاومة العالم الواقعي غير المكتمل. إنها تؤمن بلا نهائية الهدف المتجدد دوما، وتصعد معه إلى الجبال العالية الممتدة في الأفق الأزرق، في يوتوبيا دانتي ينتهي اللغز إلى الحل الموجود، أما في يوتوبيا جوته فإن الحل هو اللغز الباقي.
109
وشهد العصر الحديث تطورا كبيرا في التفكير اليوتوبي فظهر عدد وفير من الأعمال الفنية التي اتخذت شكلا يوتوبيا أكثر صراحة ووضوحا، وتجلت أشكال يوتوبية جديدة في صورة أعمال روائية أدبية وأخرى علمية وهي المعروفة باسم روايات الخيال العلمي، والأعمال التي وضعها أدباء في شكل روائي ويمكن وصف بعضها بأنها يوتوبيات والبعض الآخر بوصفه يوتوبيات مضادة. ومن هؤلاء الأدباء كان كارليل
Carlyle (1795-1881م) الذي وقف معارضا للعالم الصناعي والنزعة الرأسمالية والليبرالية على السواء وتعاطف مع ضحايا العصر الصناعي معتبرا إياه جذر الشر ومؤيدا للنزعة الفردية والبطولية التي عرفت عنه. فالفكرة الأساسية عنده هي أن الفرد البطل هو صانع التاريخ. وقد صور في رواياته بؤس الطبقة العاملة الإنجليزية وقبح عصرها الصناعي، ذلك العصر الذي تمثل الثورة الفرنسية انطلاقة له. ولكنه لم يقف عند سلبيات هذه الثورة كغيره من الكتاب، وإنما أدرك أيضا إيجابياتها وانتصارها على السلطة البالية الفاسدة. وقد دعا كارليل إلى فكرة «الزعيم الصناعي» أي إلى حكم الفرد البطل حكما مطلقا مستنيرا، وإن كان سان سيمون قد سبقه في الدعوة لسيطرة رجال الصناعة على حكم الدولة. وإذا كان هذا شيئا مقبولا في تلك الأيام نظرا لضعف الطبقة العاملة في عصر سان سيمون، فكيف يكون ذلك مقبولا في أيام كارليل، وهو الذي عاش وشهد الصراع الاشتراكي والوعي البروليتاري في منتصف القرن التاسع عشر؟
لقد ظلت كلمة يوتوبي مرادفة لكلمة اشتراكي حتى أواخر القرن التاسع عشر، الأمر الذي أدى إلى زيادة تأثير الأفكار اليوتوبية على الحياة السياسية والاقتصادية، كما تجلى هذا في يوتوبيا «التطلع للوراء» لإدوارد بيلامي (1850-1898م) وهي نظرة إلى المستقبل من خلال رواية أدبية تم تنويم بطلها تنويما مغناطيسيا ليستيقظ عام 2000م في ولاية بوسطن الأمريكية ليجد دولة مثالية لا يتم التعامل فيها بالنقود بل بالبضائع التي توزع بالبطاقات، وهي دولة تسودها المساواة في الربح بين كل المواطنين الذين لا يتنافسون على الأجور بل على خدمة الدولة. لقد رسم بيلامي ملامح اشتراكية تحولت من تجمعات صغيرة إلى مجتمع واحد كبير لتكون يوتوبيا مركزية.
110
واعتمدت الحركات الاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية على هذه اليوتوبيا، كما كان لها رد فعل مضاد في اليوتوبيات الأوروبية.
وإذا كان بيلامي قد صور الدولة عام 2000م، فإن وليم موريس (1834-1896م) رسم ملامح مدينته المثالية بعد عام ألفين فكتب روايته «أنباء من لا مكان» التي صور فيها أحلام الإنسانية وأمانيها، وقدم نموذجا غير مألوف من اشتراكية يمكن أن نطلق عليها وصف الاشتراكية الشعبية. ولم يقف موريس - باعتباره فنانا وصاحب حرفة يدوية - ضد يوتوبيا بيلامي فقط بل عارض أيضا كل اليوتوبيات الآلية أو الميكانيكية، وقدم نظرة جديدة للعمل بوصفه متعة: «لقد بثثنا في العمل لذة تغري الناس به، وليس ذلك بعجيب؛ إذ الفنان الحق يستمتع بما يؤديه، وعمالنا يأخذون العمل على أنه فن جميل، كل يختار ما يستمتع به.»
111
ولا شك أن هذا تطور في فكرة العمل، ولكن العمل المقصود هنا هو الحرفة الفنية وليس العمل الصناعي الذي يقتل الجمال ويعوق سعادة الجنس البشري الذي تنبأ موريس بأنه سيثور عليه ثورة تدمر المصانع وتقضي على النزعة الصناعية غير الطبيعية من وجهة نظره، فتموت الرأسمالية ومعها كل بلاء المدنية وتعود الحرف المهنية مرة أخرى.
وتوالت أحلام اليوتوبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وتنوعت ما بين يوتوبيات علمية تفاءلت بالمستقبل ورأت إمكانية التغلب على المرض والموت والفقر والجهل والفوضى بأساليب علمية حديثة ومتطورة، وبين أخرى تصور اليوتوبيات-المضادة التي رسمت صورة قاتمة للمستقبل وتنبأت بكوارث التقدم العلمي وتدمير البيئة بتأثير عوامل التلوث، إبادة البشرية بفعل أسلحة الدمار الشامل، من أشهر هذه اليوتوبيات «العالم الطريف الشجاع» للكاتب الإنجليزي هكسلي (1894-1919م) الثائر على عالم التقنية وعلى ازدياد نفوذ العلم في الحياة، وفي هذه الرواية يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في المستقبل لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق العلم وتكوين الأطفال بطريقة علمية داخل القوارير.
112
وهكذا يصور لنا هكسلي العلم في صورة تشمئز منها النفوس وتقشعر الأبدان، ويعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس، بتصوير مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، ورأى في عالم التقنية الجديد؛ عالم العقاقير والآلات الذي انتفت منه العاطفة والشعر والدين والجمال: «في هذا العالم الجديد كل شيء آلي، وكل شيء مرسوم أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم.»
113
وكتب صمويل بتلر أيضا «إرون» أي البلد الذي لا وجود له، وإرون هي قلب لكلمة
No where . والكتاب تهكم مرير على نظام المجتمع ورجال الدين وعلى العلم وأصحابه. وما كتبه بتلر عن الآلات هو تهكم لاذع على نظرية دارون، إذ يحاول أن يطبق أصول نظرية دارون في التطور على الآلات، فلا يرى من المستحيل أن تتطور الآلة وتسبق الإنسان في تنازع البقاء كما سبق الإنسان صنوف الحيوان، وهو بذلك يريد أن يؤيد وجهة نظره بأن أساس التطور هو محاولة الوصول إلى غاية معينة وليس الصدفة البحتة كما قال دارون
114
يقول بتلر: «إما أن نعترف بأن للأشياء إدراكا، وبذلك نعترف ضمنا أن للآلات إدراكا لا نفهمه، وإما أن نقول إن الإنسان وحده يتمتع بالإدراك ولكنه هبط من أصول لا إدراك لها فتكون النتيجة المنطقية أن تتطور الآلات إلى شيء جديد له فوق ما للإنسان من إدراك وفكر. وإذن فيا بني آدم سارعوا بتحطيم الآلات خشية أن تسبقكم بعد قليل في مضمار الحياة (...) إني لأري الإنسان يعمل بنفسه على خلق خلفه في سيادة الأرض! إنه ما يفتأ يزيد من دقة الآلة ونظامها وقوتها، ولست أشك في أن الأمر سينتهي بالآلة إلى ذكاء خارق وعندئذ تعلو في سلم الكائنات وتسود.»
115
إن اليوتوبيات-المضادة التي بدأت في الظهور في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وقفت في المقام الأول ضد التقدم العلمي والتقني وكشفت ما يمكن أن ينتج عنه من أهوال وبشاعة. وقد ظلت الشيوعية هدفا لكل اليوتوبيات السابقة إلى أن ظهرت رواية «العالم سنة 1984م» لجورج أورول.
116 (1903-1950م) التي تصور نظام الحزب الشيوعي وما يجري داخله. وقد كشفت هذه الرواية عما يحدث في المجتمعات الاشتراكية من دعاوى حزبية رتيبة، شملت كل شيء وتدخلت في كل شيء؛ دعاوى قضت على أولى مبادئ الحرية، كما قضت بجرة قلم على الماضي والحاضر والمستقبل لأن الحزب يهيمن على كل شيء، حتى على مجرد تفكير الإنسان. وقد استعان الكاتب بقوى شيطانية وبجهاز استطلاع دقيق مخيف أطلق عليه اسم «بوليس الفكر» يستشف أفكار الناس حتى في خلوتهم، وعاشت الطبقة العاملة في هلع وفزع؛ الكل يرقب ويتلصص، حتى الطفل يرقب والديه ليشي بهما.
117
والكتاب يصف الصورة القاتمة - التي كانت تتمثل في ذهن المؤلف - لنظام الحزب الاشتراكي وما يجري داخله من أعمال الإرهاب والتعذيب والتسلط: «إن السلطة ليست وسيلة ولكنها غاية، والإنسان لا يمكن أن ينشئ ديكتاتورية لحماية ثورة، وإنما يثير الإنسان ثورة لإنشاء ديكتاتورية.»
118 «إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، ومن ثم فإن الهدف من السلطة هو السلطة.»
119
كما يقول أورول أيضا على لسان أوبرين؛ إحدى شخصيات روايته: «إن السلطة هي ممارسة السلطة فوق بني الإنسان، فوق أجسامهم بل وفوق عقولهم قبل كل شيء.»
120
ولا شك أن الأهوال التي رسمها المؤلف لنظم الحكم الشمولية كان أغلبها صحيحا، وهذا ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة بعد انهيار الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية.
بعد أن كشف بلوخ النقاب عما في اليوتوبيات التاريخية من أمل وتأرجح بعضها بين السكون والحركة، وانغلاق بعضها على الماضي، وانفتاح البعض الآخر على المستقبل، اكتفى من يوتوبيات القرن التاسع عشر، والقرن العشرين على السواء بتلك اليوتوبيات التي كتبها أصحابها في شكل أعمال أديبة روائية ترسم ملامح مجتمعات اشتراكية مثالية؛ مما يوحي بطبيعة الحال بتفضيله لذلك النوع من اليوتوبيا التي قامت على أسس اشتراكية. وربما يبدو هذا متسقا ومتماشيا مع إيمانه - حتى آخر لحظات حياته - بالنزعة الماركسية التي وجد فيها وحدها الحل الذي ينهي كل الظروف التي سببت شقاء الإنسان وبؤسه.
وربما كان هذا الهدف نفسه هو ما جعله يهمل أو يتجاهل نوعا آخر من اليوتوبيات التي صنفت تحت اسم اليوتوبيا-المضادة، وهي تلك التي تعرضت بالسخرية حينا وبالتحليل حينا آخر لمساوئ النظم الاشتراكية (أورويل، 1984م)، أو لمخاطر التطبيقات غير الإنسانية لمنجزات العلم والتقنية (هكسلي، عالم طريف شجاع). وعلى الرغم من خطورة العديد من المساوئ التي وردت في هذه اليوتوبيات المضادة، وعلى الرغم من أن بلوخ نفسه عاصر العديد من مفاسد تلك الأنظمة وعاش تجربتها المريرة، وعلى الرغم من إيمانه باللاحتمية التاريخية التي تتفق مع نسقه الجدلي المفتوح وتتعارض تعارضا أساسيا مع الفكرة الماركسية عن حتمية التطور التاريخي؛ على الرغم من كل هذا فقد ظل إيمانه بالماركسية الإنسانية باقيا، وسيطر عليه حتى النهاية حلمه بمجتمع شيوعي إنساني؛ مما جعله ينسى أو يتناسى عن عمد تلك اليوتوبيات-المضادة.
الفصل السادس
تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية
عبرت اليوتوبيات الاجتماعية طوال تاريخها عن أمل البشرية في حياة أفضل، ورسمت صورا لمجتمعات خيالية مثالية. وقد كان من الطبيعي أن تتوجه كل اليوتوبيات على اختلافها إلى السعادة الاجتماعية غير المحدودة، والوصول إلى المجتمع العادل الذي يتحقق فيه الإخاء والمساواة بين البشر كافة، ويختفي فيه الفقر والعوز والحاجة. ورأى معظم اليوتوبيين أن مثل هذا المجتمع لا بد أن يكون في جزر بعيدة نائية وربما تكون خارج التاريخ، مما يؤكد أن مجتمعاتهم القائمة بالفعل لا تصلح أن تكون مجتمعات نموذجية أو يوتوبية. ومن ثم بحثوا عن أماكن جديدة لم تطأها قدم إنسان من قبل، أو ربما تكون غير موجودة على خريطة الواقع بل من صنع خيالاتهم. وحقيقة الأمر أن مثل هذه اليوتوبيات - التي تبدو للوهلة الأولى غير تاريخية وخارج المكان والزمان - لم تبتعد عن واقع مجتمعاتها بخطوات كبيرة، بل من الممكن وضع لوحة زمنية لها تلقي الضوء على علاقتها الوثيقة بعصرها، وتبين أنها نشأت من تناقضاته كما استشرفت العصر التالي له الذي ستحل فيه هذه التناقضات. هكذا كانت يوتوبيا توماس مور متطابقة في أقسامها غير الشيوعية مع الشكل البرلماني للسياسة الداخلية الإنجليزية، كما أن يوتوبيا كامبانيلا تتطابق مع النظام المؤيد للاستبداد الذي ساد أوروبا في ذلك الحين. مثل هذه الملاحظات تكشف عن أن الحلم الذي يميز كل يوتوبيا يتضمن اتجاه العصر ويتجاوزه إلى عصر آخر. أضف إلى هذا أن الإمكانات التي تعبر عنها هذه اليوتوبيات هي إمكانات تاريخية، وحتى الجديد الذي تستشرفه هو أيضا تاريخي. فالجديد في جمهورية أفلاطون يختلف عن الجديد في يوتوبيا مور الليبرالية وهكذا ... والشيء الثابت الوحيد هو العنصر اليوتوبي الذي يميز كل يوتوبيا على حدة، وإذا كان هذا العنصر الثابت يتغير تاريخيا واجتماعيا، فإنه ليس ساكنا كإمكانات ليبنتز الخالدة، بل ينطوي على إمكانات تتحرك في التاريخ وتتطور تطورا اجتماعيا، وحتى إذا كانت هذه الإمكانات لا تظهر بشكل عيني، إلا أنها تظل تجليات للأمل وللأماني الإنسانية. ويظل الأمل هو الهدف من عرض هذه اليوتوبيات في مراحلها المختلفة من قديمة ووسيطة وحديثة.
أولا: يوتوبيات العصور القديمة والوسيطة
بدأت الأشكال الأولى لليوتوبيات الاجتماعية منذ عهد سحيق في القدم، منذ أقام الإنسان في جماعات وعشائر صغيرة وعرف الاستقرار. وعبرت اليوتوبيات الأولى عن الذكريات الشعبية السارة والحزينة التي سجلتها حكايات الشعوب والحضارات المختلفة، وانعكست عليها الصورة المضادة لحياة اجتماعية تسودها الحروب والصراعات وتزايد عدد السكان في العصر الحديدي الذي وضعت فيه نظم التحكم الدينية والعقلية مع تأسيس المدن القديمة.
1
وقد قدمت الحضارة اليونانية مجموعة من الأفكار والتصورات لنظم مثالية كان أهم ما يميزها هو النظرة إلى الوراء بشوق وحنين لعصر ذهبي مضى ولن يعود. ونجد إرهاصات هذا التفكير عند الحكماء السبعة الذين نشدوا سعادة الإنسان في التوسط والاعتدال والفضيلة لا في الغطرسة والتملك، كما نجده عند أصحاب مذهب اللذة الذين وجدوا أن السعادة قاسم مشترك بين البشر جميعا، وأن اللذة والمتعة هي التي تميز الإنسان وترفعه عن مستوى الحيوان. وكان أرسطيبوس على رأس القائلين بمذهب اللذة، فذهب إلى القول بأن الاستمتاع هو الحالة البشرية الطبيعية. ونلمس هذا العنصر اليوتوبي أيضا عند أرسطو فانيس في مسرحية «الطيور» حيث توجد الصور المفعمة بالأماني والحنين للعصر الذهبي التي صورها المؤلف في شكل كوميدي:
سوف لا يموت الإنسان من الحاجة بعد الآن،
لأن كل شيء ملك لكل فرد؛
الخبز والكعك، واللحم المملح
والنبيذ والحبوب والعدس.
2
كذلك صور الشاعر هيزيودوس - ولد حوالي 700م - العصر الذهبي فيما تبقى من أشعاره عن الحنين الشديد لحالة الطبيعة الأولى التي يسودها الحب والمساواة والخير بين الناس جميعا.
أما عن جمهورية أفلاطون التي كتبت بين عامي 370 و360 قبل الميلاد كما سنرى بالتفصيل فيما بعد؛ فهي تعد أول عمل يوتوبي يقدم نظاما اجتماعيا مثاليا بكل تفاصيل بنائه ومؤسساته. ومع أنه ليس أول نظام تخيله الإغريق - فقد سبقته إرهاصات كثيرة - إلا أنه ظهر في وقت تفكك المدينة اليونانية واشتباك مدن الإغريق في صراعات دامية كان من أعنفها وأطولها الحرب بين أثينا وإسبرطة. لذلك حاول أفلاطون أن يقدم نموذجا معقولا لنظام اجتماعي صالح ودائم يؤكد للمواطنين الصالحين أن السعي للحياة الفاضلة والعادلة يثاب عليه في الدنيا والآخرة على السواء: «وبهذا يتحقق لنا السعادة لا على هذه الأرض وحدها، بل أيضا في تلك الرحلة التي تدوم ألف سنة.»
3
وقد أراد أفلاطون تأسيس مدينة فاضلة على نمط إسبرطة التي كانت هي نموذجه التاريخي ببنائها الصارم وطبقاتها الاجتماعية المغلقة.
كانت إسبرطة تناظر أثينا في شهرتها بالفكر اليوتوبي، وكما أسس أفلاطون مدينته المثالية في أثينا، كتب المؤرخ اليوناني بلوتارك (من حوالي 45-120م) في القرن الأول بعد الميلاد حياة ليكورجوس المشرع الإسبرطي الذي رفعه أهل مدينته إلى مصاف الآلهة فيما بعد. فعندما أراد إدارة شئون إسبرطة سافر إلى كريت وآسيا ومصر ليكتسب معرفة وخبرة سياسية على أساس علمي. وساعده مواطنوه الساخطون على حكم الملوك فساندوا تشريعاته. ولم يكن ليكورجوس يهدف إلى تغيير جزئي أو تعديل للقوانين؛ إذ رأى ضرورة تفجير ثورة شاملة والبدء في تشكيل حكومي جديد، ولهذا كون بالفعل مجموعة من ثلاثين مواطنا مدججين بالسلاح لحفظ النظام في الأسواق العامة وإثارة الرعب في نفوس معارضيه. كما شكل مجلسا للشيوخ من ثلاثين عضوا وله سلطة متساوية مع سلطة الملوك. ومن بين أكثر الرجال خلقا وفضلا تتم الترقية للمناصب العليا بالانتخاب المباشر من الشعب، كما يقوم مجلس الشيوخ بالتوسط لحفظ توازن السلطة المتأرجحة بين الاستبداد تارة والحكم الجمهوري تارة أخرى.
4
ركز ليكورجوس انتباهه على المشاكل الاجتماعية عندما اصطدم بعدم المساواة بين الغني والفقير، فقرر إعادة توزيع الأرض. لكن الحقيقة أن مشكلة عدم المساواة في توزيع الثروة لم تؤرقه لأسباب إنسانية بل لأسباب سياسية بحته، وذلك لاعتقاده أن الملكية تؤثر تأثيرا سيئا على الرجل الغني، وأن إعادة توزيعها تحفظ للدولة توازنها. ولنفس السبب لم يقم بإلغاء الملكية أو نظام الطبقات أو العبيد، وإنما اكتفى بإيجاد برجوازية صغيرة أو طبقة رأسمالية وسطى تستطيع - في رأيه - أن تخلق جسدا متجانسا للدولة.
5 (1) جمهورية أفلاطون
أعجب أفلاطون بنظام التربية والتدريب العسكري الصارم في إسبرطة فاتخذه نموذجا لمدينته الفاضلة التي تنشد السعادة القصوى للعصر الذهبي. وجاءت جمهوريته بمثابة نظام إسبرطي كامل في ثوب يوتوبي، بحيث لا تختلف عن هذا النظام إلا بفكرة الحاكم الفيلسوف أو الفيلسوف الحاكم، أي أنها قائمة على بناء عقلي يحتفظ بنزعة أرستقراطية إسبرطية.
أقام أفلاطون مدينته الفاضلة على أساس نظرية مشهورة في العدالة صدر بها الكتاب الأول من الجمهورية. وتقوم هذه النظرية على أن لكل فرد وظيفة محددة يصلح لها وفقا لطبيعته ولا يصلح لغيرها، ولهذا يقدم على لسان المتحاورين تعريفات عديدة للعدالة يجملها في النهاية بقوله على لسان سقراط: «إن وظيفة الشيء هي ما يؤديه هذا الشيء وحده، على أفضل نحو ممكن.»
6
ثم يعود في الكتاب الرابع ليقول: «إن العدالة تتحقق في الدولة إذا ما قامت كل طبقة من الطبقات التي تكونها بما يتعين عليها أداؤه.»
7
وبذلك تكون نظريته في العدالة قد اعتمدت على فكرة تقسيم المجتمع إلى طبقات، بحيث يصبح العدل هو التزام كل طبقة بما أوكلت إليها الطبيعة من أعمال بغير تدخل في شئون الطبقات الأخرى.
وللمدينة ثلاث وظائف هي الإدارة والدفاع والإنتاج، وهذه الوظائف تقابل قوى النفس الثلاث: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية. فالوظيفة الأولى للمدينة، وهي الإدارة، يتولاها الحكماء أو الفلاسفة المشرعون الذين يمثلون الطبقة الأولى في مجتمع المدينة، ويقابلها القوة العاقلة في النفس التي هي بمثابة الرأس من الجسد، فمكان هذه الملكة الإنسانية هو العقل، وفضيلتها الحكمة. والوظيفة الثانية وهي الدفاع يتولاها حراس وجنود محاربون أشداء، وهم في المرتبة الثانية من الترتيب الطبقي للمجتمع ويقابلها القوة الغضبية في النفس التي هي بمثابة الصدر أو القلب في الجسد وفضيلتها الشجاعة. أما عن الإنتاج - أي الوظيفة الثالثة - فهو من نصيب الزراع والصناع والتجار، وهم الطبقة الدنيا من سلم الهرم الاجتماعي ويقابلها في النفس القوة الشهوية ومكانها البطن والأطراف من الجسد وفضيلتها الطاعة والامتثال، وأما عن عبيد المدينة فهم يقومون بالأعمال الدنيا في المجتمع وليس لهم حق المواطنة.
بذلك قسم أفلاطون طبقات المجتمع تقسيما ثلاثيا، وعزل العامة من الناس عن الشئون السياسية في جمهوريته. ولتأكيد هذه الطبقية أشاع في أهل المدنية أكذوبته الشهيرة عن خلط الإله لمعدن بعضهم بالذهب ليؤهلهم للحكم، وخلط بعضهم الآخر بالفضة لتولي الحراسة. والباقي أي العامة بالبرونز: «إن الله الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب. ثم مزج تركيب الحراس بالفضة، وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس. ولما كنتم جميعا قد نبتم من بذرة واحدة، فإن أبناءكم على الرغم من أنهم يشبهون آباءهم عادة، قد يأتون أحيانا من الفضة لأبوين من ذهب، أو من الذهب لأبوين من الفضة، وكذلك الحال في المعادن الأخرى. لهذا عهد الله إلى الحكام أولا وقبل كل شيء برعاية الأطفال، وبالعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النحاس أو الحديد، فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة وأن يعاملوا طبيعتهم بما تستحقه، ويدخلوهم في زمرة الصناع أو العمال، أما إذا أنجب هؤلاء الأخيرون أبناء يمتزج بهم الذهب أو الفضة، فعليهم أن يقدروهم حق قدرهم، ويرفعوهم إلى مرتبة الحراس أو المحاربين؛ إذ إن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنحاس.»
8
هكذا أقام أفلاطون نظاما للحكم في مدينته قائما على عدم المساواة بين أفراد جمهوريته التي يرأسها الحاكم الفيلسوف ويحميها طبقة من الحراس الأقوياء، أما الزراع والصناع فهم الطبقة المنتجة في المدينة، وهي أيضا الطبقة المحتقرة لأنها تمتهن المهن اليدوية التي دأبت الحضارة اليونانية على احتقارها. وقد وضع أفلاطون نظاما خاصا لتربية طبقة الحكام والحراس على نمط التربية العسكرية في إسبرطة. ويبدأ هذا النظام من الطفولة باختيار الأذكياء والموهوبين من الأطفال لتتعهدهم المدينة بالتربية البدنية ليشبوا على درجة عالية من القوة الجسمية، ومراقبة ما يصل آذانهم من قصص وحكايات «فأول ما يتعين علينا عمله هو أن نراقب مبتكري القصص الخيالية، فإن كانت صالحة قبلناها، وإن كانت فاسدة رفضناها. وعلينا بعد ذلك أن نكلف الأمهات والمرضعات بألا يروين للأطفال إلا ما سمحنا به.»
9
وكذلك استبعد أفلاطون كل فنون التراجيديا والشعر: «أعني تلك التي رواها هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء وهم أعظم رواة القصص الكاذب الذي لا يزال شائعا بين الناس.»
10
وقد استبعد فن الشعر بسبب ما يرويه عن صراع الآلهة والأبطال من روايات تفسد في رأيه - أي أفلاطون - ضمائر حراس المستقبل: «كذلك ينبغي ألا نقول أبدا إن الآلهة تشن الحرب على الآلهة، وأنها تنصب الفخاخ وتحيك المؤامرات بعضها للبعض، فتلك قصص كاذبة يجب ألا تقال لحراس المستقبل إذا ما كنا نريدهم أن ينظروا إلى مقاتلة بعضهم بعضا على أنها عار ينبغي تجنبه. وعلينا أن نحذر من رواية معارك العمالقة والحروب العديدة التي شنها الآلهة والأبطال على أصدقائهم وأقربائهم، أو أن نخلد تلك المعارك في صورنا ونقوشنا، وإنما ينبغي أن ننبئهم، إذا أمكن أن نجعلهم يصدقوننا، بأن الصراع والقتال شر وأنه لم يحدث حتى الآن أي صراع بين المواطنين. وهذا ما يتعين على المسنين من الرجال والنساء أن يبدءوا بتلقينه لأطفالهم.»
11
وهكذا يشب الأطفال وقد قويت أبدانهم وتغذت نفوسهم وأرهف حسهم بالفنون الجميلة وأصبحوا في سن الثامنة عشرة مؤهلين لتلقي العلوم العقلية كالحساب والهندسة والفلك، وهي العلوم التي تقوم على البرهان لتؤهلهم لدراسة العلوم الفلسفية. وتنتزع من نفوس الحراس كل شهوات الحياة المادية وشواغلها فيحظر عليهم اقتناء الذهب أو الفضة، ويوفر لهم الشعب طعامهم وشرابهم، كما يحظر عليهم تكوين أسرة، فتعقد المدينة للحراس زواجا رسميا كل عام بغرض التناسل، وعندما يبلغ الحراس سن الثلاثين يتم اختيار من لهم كفاءة فلسفية ليعكفوا على دراسة الفلسفة ومناهجها العلمية، ويتدرجوا في المناصب الإدارية حتى إذا بلغوا سن الخمسين انصرفوا لتأمل عالم المعقولات الخالصة: الحق والخير والجمال، ويكون لهؤلاء الفلاسفة الحكم المطلق، فإذا كان الحاكم فردا واحدا كانت الملكية أو حكم الفرد، وإذا كانت جماعة كان نظام الحكم الأرستقراطي، وليس لأحد من البشر الحق في معارضة هذا الحكم المطلق؛ إذ لا يتوجب عليهم سوى الطاعة والامتثال.
إن نظام الحكم في الدولة المثالية عند أفلاطون بمثابة ربط لعلم السياسة بعلم الأخلاق، فأخلاق الطبقة الحاكمة ومدى التزامها بالحكمة والفضيلة من الأمور التي يتوقف عليها صلاح الدولة أو فسادها، وهذا البناء العقلي للمدينة المثالية يبدأ في الانهيار من لحظة اختيار الحكام للوقت غير الملائم للزواج، الأمر الذي يترتب عليه إنتاج جيل أقل صلاحية، ولو نظرنا إلى أشكال الحكم التي وصفها أفلاطون وكيف تدرجت لعرفنا كيف فعل الفساد فعله وتسبب في انهيار دولته المثالية. إن أول أشكال الحكم هو: الحكومة الأرستقراطية التي يتولاها فرد وتكون حكومة ملكية (موناركية)، أو يتولاها جماعة فتكون حكومة أرستقراطية، وهي التي تفسد عندما تنجب الدولة أولادا غير أكفاء نتيجة الخطأ في اختيار الوقت الملائم للتناسل؛ فينتج جيل يستعيض عن الفضيلة والشرف العسكري بالمال والثروة ... إلى أن تأتي الحكومة الأوليجاركية التي هي «ذلك النوع القائم على الثروة، والذي يحكم فيه الأغنياء دون أن يشاركهم الفقراء في السلطة على الإطلاق.»
12
ويدب الفساد في هذه الحكومة نتيجة لانقسام المجتمع كله إلى أغنياء وفقراء: «إنه لا مفر لهذه الدولة من أن تفقد وحدتها، وتغدو دولتين لا واحدة: دولة للأغنياء، ودولة للفقراء، وهما دولتان تعيشان على نفس الأرض وتتآمر كل منهما على الأخرى بلا انقطاع.»
13
ويثور الأقوياء من الفقراء على الأغنياء رافعين شعار الحرية والمساواة بين الجميع، ويتم انتخاب الحكام بالاقتراع، وقد يبدو أن هذه هي أفضل أنواع الحكومات حيث تكون السيادة للأغلبية الفقيرة التي شعارها الحرية والمساواة المطلقة فهي - على الأقل بمفهومها في العصر الحاضر - الأمل المنشود لكل الشعوب. ولكن الديمقراطية في نظر أفلاطون تختلط بالفوضى التي يصبح فيها مفهوم الحرية هو إباحة كل الشهوات: «لأن هذه الحكومة، بفضل الحرية التي تسودها، تشتمل على كل أنواع الدساتير، ويبدو أنه ما على المرء إذا كان ينشد نظاما من نظم الحكم إلا أن يتوجه إلى دولة ديمقراطية ليختار منها النظام الذي يروقه؛ فهي سوق للدساتير يتسنى للمرء فيه أن ينتقي الأنموذج الذي يفضله.»
14
ويترتب على الحرية المرادفة للفوضى أن تنقلب الأمور عندما يبرز أحد دعاة الديمقراطية فيحول الحرية إلى نوع من العبودية، أي عندما يتولى الحكم منفردا ويتحول إلى طاغية. وهنا تظهر آخر أنواع الحكومات وهي حكومة الطغاة: «فالتطرف في الحرية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التطرف في العبودية سواء في الفرد أو الدولة (...) وهكذا تنشأ الحكومة الاستبدادية بطريقة طبيعية من الحكومة الديمقراطية، أي أن الحرية المتطرفة تولد أكمل وأفظع أنواع الطغيان.»
15
وعندما يبرز أحد الديمقراطيين ويستأثر بالسلطة وتأييد الشعب معا، يسعى لإخضاع الجميع لسلطانه «وإذا ما شك في أن لبعض الناس من حرية التفكير ما يجعلهم يأبون الخضوع لسيطرته، فإنه يجد في الحرب ذريعة للقضاء عليهم، بأن يضعهم تحت رحمة الأعداء، لهذه الأسباب كلها كان الطاغية دائما مضطرا إلى إشعال نيران الحرب.»
16
وهكذا تنهار الدولة المثلى التي يختفي منها العدل، وتغيب الفضيلة، وتختنق الحكمة.
تلك هي الملامح الرئيسية لدولة أفلاطون المثالية، لأول وأشهر دولة يوتوبية في تاريخ الفلسفة. ولكن جمهورية أفلاطون - شأنها شأن معظم اليوتوبيات قبل القرن الثامن عشر - كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية وعن الطبيعة البشرية؛ إذ فاقت كل النظم اليوتوبية في سكونيتها وعدم تاريخيتها وبعدها عن اليوتوبيا الإنسانية،
17
وإن بقيت مع ذلك نموذجا لكل اليوتوبيات التي جاءت بعدها. إن أفلاطون الذي أقام جمهوريته على نظرية العدالة، قام بإلغاء الحقوق الطبيعية لأفراد المجتمع، هذا من جانب، ومن جانب آخر قصر العدالة على أهل اليونان دون سائر البشر، فحين تنشب الحروب بين أهل اليونان لا ينبغي أن يقتل بعضهم البعض ولا أن تدمر مدنهم، بل ينحصر التدمير والحرق في مدن الأعداء من غير اليونان، أضف إلى هذا أن عدالة أفلاطون لا تبيح أن يسترق أهل اليونان بعضهم البعض، بل يقصر الرق على الشعوب الأخرى: «فيما يتعلق بالعبودية، أترى من العدل أن تنزل مدينة يونانية إلى مرتبة العبيد؟ أليس علينا أن ننهاهم عن ذلك، على قدر استطاعتنا، حتى بالنسبة إلى بقية الدول، وأن نعودهم احترام الجنس اليوناني؟ (...) وعلى ذلك فلن يكون لنا نحن عبيد إغريق، وسننصح بقية اليونانيين بأن يحذوا حذونا.»
18
وبالعودة إلى بلوخ يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: كيف ينظر فيلسوف الأمل إلى مسرى الحلم اليوتوبي في جمهورية أفلاطون؟ وما هو الجديد والممكن الكامن داخلها؟ في رأيه أن الحلم المفعم بالأماني في هذه اليوتوبيا هو النظام الإسبرطي العسكري، كما هو أيضا الحلم باستعادة العصور الخيالية للعصر الذهبي. لذلك تعد في رأيه من أكثر اليوتوبيات رجعية، لأن النظرة إلى الوراء هي التي تميزها. ومن الطبيعي ألا تتطلع للجديد ولا تتضمن ممكنا إيجابيا؛ إذ بقيت أقرب إلى تقرير واقع اجتماعي قائم بالفعل ولم تعبر عن أي قدر من الاحتجاج أو الثورة عليه. أما ما جاء به من مشاعية فهي مقصورة على الطبقات العليا من المجتمع دون غيرها في ظل دولة كلية أو مملكة عقلية مستقرة.
19
وربما يعود ذلك إلى أن يوتوبيا أفلاطون مغروسة في واقع عصرها، فهي مشروع لإنقاذ المدينة اليونانية التي آلت انقساماتها في عصره إلى مأزق شديد، بحيث أصبحت الوحدة هي الغاية اليوتوبية التي سيطرت عليه في الجمهورية. ولم يجد أفلاطون هذه الوحدة الغائية إلا في العقل، ففيه وحده تنحل التناقضات وتمحى الفروق والنزاعات. لذلك أصبح ما هو اجتماعي وواقعي في فلسفة أفلاطون تابعا لما هو عقلي، وعندما خالف الناس تقاليد العقل حلت حركة الفساد محل السكون الخارجي والسكينة الداخلية، كما حل الانفصام محل الوحدة،
20
وهكذا اختفى الحلم من جمهورية أفلاطون كما تلاشى الجديد، وعاشت في دائرة الماضي الذهبي، وكأن مخترع الجدل قد أوقف حركته وتناقضه وتقدمه ليسكنه محطة تاريخية بعينها. (2) الرواقية والدولة العالمية
حصر أفلاطون جمهوريته المثالية داخل أسوار دولة المدينة اليونانية، وظلت اليوتوبيا ردحا طويلا من الزمن لا تتعدى مدينة أفلاطون، أو جزيرة آمبيلوس،
21
إلى أن جاءت الرواقية التي تعدت قيود الزمان والمكان ووسعت دائرة المدينة في سبيل دولة عالمية. وكان للرواقية ثلاث مدارس: المدرسة اليونانية القديمة التي أسسها زينون الأكتيومي (336-264ق.م.) ثم خلفه كريسيبوس (282-204ق.م.) والمدرسة الهلينيستية ويمثلها بوزيدونوس (135-51ق.م.)، ثم المدرسة الرومانية وكان من أعظم شخصياتها سنيكا (4-65م)وأبيكتيتوس (50-138م)، وهي المدرسة التي عاصرت معظم أباطرة الرومان وكان لها أثر عظيم على أيديولوجية الإمبراطورية الرومانية بحيث أصبحت المدرسة الرواقية ظاهرة تاريخية امتدت ما يقرب من ثلاثة عصور.
كان لفتوحات الإسكندر الأكبر والتوسع الهائل للإمبراطورية الرومانية أثره الكبير على اتساع الأفق اليوتوبي للدولة العالمية التي نادى بها الرواقيون، وهي دولة تخطت حدود كل الدول وتوسعت في فكرة النظام الاجتماعي المثالي ليشمل البشرية كلها، فلم يعد الفرد مجرد مواطن داخل أسوار المدينة. وإذا كان أفلاطون قد بدأ من الإنسان الكلي، فقد بدأت الرواقية من الموجودات البشرية المتفردة الحرة لتشكيل مجتمع إنساني كبير. لقد قامت اليوتوبيا الرواقية في الأساس على مذهب أخلاقي هو على النقيض من المذهب الأخلاقي لكل من أفلاطون وأرسطو، «فإن هذين الفيلسوفين أخضعا الفرد للدولة، وأنكرا بذلك حق الإنسان في الحرية الشخصية ولم يعرفا من روابط الصداقة والعطف إلا ما يكون بين المواطنين من أهل المدينة الواحدة، ولم يعمما صفة الإنسانية تعميما تتخطى به حدود المكان والزمان. فجاءت الرواقية للقيام بمهمة أخرى، وحاولوا القضاء على تلك العصبية وخطوا في هذه السبيل خطوات جديدة، فأحلوا «الإنسان» محل «المواطن».»
22
ليصبح مواطن-العالم
World-Citizen ، أي ليس مواطنا في مدينة أو دولة ما بل وطنه العالم، في دولة عالمية هدفها وحدة الجنس البشري، فكانت أول يوتوبيا ترفع شعار العالمية.
يقوم المجتمع اليوتوبي الرواقي على أساس عقلي، فالطبيعة قد منحت البشر جميعا - بشكل متساو - ملكة العقل. وبالعقل وحده يستطيع الإنسان الحكيم أن يأتي بالأفعال الخيرة، بأن يتوافق مع الطبيعة ويدرك أن إراداته جزء من الإرادة الكلية، وأن عقله جزء من العقل الكلي. لذلك يخضع خضوعا مطلقا للقدر بنفس راضية، وبقناعة أيضا بأن هذا دوره المكتوب له، وما عليه إلا أن يؤديه طواعية. لهذا لم يكن لدى الرواقية سبب للثورة على الواقع ولا رغبة في تغييره، بل على العكس من ذلك، تقبله كما هو بسلبية مطلقة. ولم يجد أبكتاتوس - وهو من الشخصيات الرواقية المتأخرة، الذي كان عبدا - لم يجد في العبودية سببا للثورة على الواقع، كما لم يجدها متناقضة مع فكرة الأخوة الرواقية التي تجمع كل البشر في وحدة عالمية. ولم تنظر الأخلاق الرواقية للكوارث على أنها شر، بل رأت أنها انفعالات خاطئة. إن اليوتوبيا الرواقية هي اليوتوبيا التي اتجهت إلى ما هو كامل بالفعل، أي إلى الطبيعة الموجودة والعالم المكتمل مما جعلها غير قادرة على رؤية متناقضات الواقع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أغفلت الظروف الخارجية بل واحتقرتها ودعت إلى التخلص منها بالرجوع إلى الطبيعة. أي أنها كانت دعوة لإقامة دولة عالمية لا يتم التعامل فيها بالمال ولا بالقانون ولا بالدستور، كما أنه ليس هناك حاجة لقيام أية مؤسسات ولا محاكم، ولا ضرورة لوجود جنود، لأنه مجتمع اختفت منه الحروب واستغنى عن أية تنظيمات موضوعة، كما استغنى عن التعاملات الاقتصادية ولم تعد به حاجة إلا إلى مجتمع يسوده الانسجام مع غرائز الطبيعة، مجتمع تختفي فيه الفروق الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وبين اليونان والبرابرة، والأحرار والعبيد، أي تختفي منه كل الفروق في الدولة الطبيعية الجديدة.
23
لم يرد الرواقيون لهذه الإمبراطورية الواسعة أن تكون قوة سياسية ذات كيان مادي، بل أرادوها جامعة روحية تقوم قبل كل شيء على وحدة المعرفة والإرادة. والحق أن فكرة «الجامعة» هذه لم يكن لها أول أمرها علاقة بالسياسة مطلقا؛ إذ المدن الإنسانية الواقعية تقتضي بين البشر فروقا وضروبا من التفاضل وعدم المساواة، في حين أن «المدينة الفاضلة» أو «المدينة الإلهية» - في نظر أصحاب الرواق - إنما هي مجتمع تحل فيه الوحدة العقلية محل الوحدة السياسية.
24
وعلى الرغم من ذلك فقد كان للمفهوم اليوتوبي الرواقي تأثير ملهم سواء في الإمبراطورية الرومانية قديما تحت لواء الرواقيين المتأخرين، أو في عصور لاحقة كما في النزعة العالمية اليهودية، أو في المسيحية المبكرة.
25
نخلص من ذلك إلى أن العنصر اليوتوبي في المجتمع الرواقي لا يكمن في مؤسسات سياسية أو اقتصادية أو مشاعية، وإنما يكمن في دولة-العالم، وهي دولة هدفها اليوتوبي هو إصلاح العالم وليس تغييره. لقد كان هدف اليوتوبيا الرواقية هو الانسجام الكامل مع الإله. ومع الطبيعة، فالهدف الأخلاقي عندهم هو أن يحيا الإنسان في توافق مع الطبيعة الكونية التي هو جزء منها. إن الإرادة الإنسانية جزء لا يتجزأ من الإرادة الكلية، ولذلك يصبح المجال الإنساني جزءا من المجال الكوني ويتشكل من خلاله. (3) يوتوبيا الكتاب المقدس
كان للرواقية تأثير كبير على المجتمعات اليهودية والمسيحية المبكرة. فقد قدم الكتاب المقدس ما يمكن أن يعد نموذجا أصيلا للعالمية المسالمة أو الهادئة التي تشكل مركز اليوتوبيا الرواقية. فكيف يمكن تتبع هذا الخط اليوتوبي في الكتاب المقدس؟ إنه يقدم صورة لمجتمعات بشرية نصف شيوعية، ليس بها تقسيم عمل ولا ملكية خاصة. فعندما خرج الشعب اليهودي من مصر عبر الصحراء لم يكن يعرف الملكية الخاصة، وكانت هذه «فترة عرس» لشعب إسرائيل كما سماها النبي أرميا بسبب ما اتسمت به هذه الحقبة الزمنية من براءة اقتصادية. وبعد الاستقرار في الأرض الموعودة بدأت مرحلة الحياة المدنية، فاحترف اليهود الفنون والتجارة وبدءوا الزراعة، وتطور المجتمع وبدأت التمايزات الطبقية، وباع الدائنون المدينين كعبيد. وقد عبر سفرا الملوك الأول والملوك الثاني عن المجاعة في تلك المجتمعات، كما عبرا في الوقت نفسه عما فيها من ثروة ورخاء: «وكان الجوع شديدا في السامرة.»
26
وفي الجانب الآخر ذكر عن سليمان: «وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة.»
27
هكذا انقسم المجتمع إلى طبقتين، وكان هذا الانقسام على المستوى الديني والاجتماعي على السواء. فمن الناحية الدينية أصبح يهوا - إله الصحراء - هو رب الفقراء من أبناء الناصرة ومنهم صموئيل وإيليا ويوحنا المعمدان، كما أصبح العجل الذهبي - إله كنعان - هو إله أهل الثروة. ومن الناحية الاجتماعية ساد استغلال الأغنياء للفقراء، فنأى النصرانيون (فقراء أهل الناصرة) بأنفسهم عن ثروة كنعان، وظلوا على إخلاصهم لرب الصحراء القديم الذي لا يعرف الملكية الخاصة، وأعلنوا عداءهم لثروة الكنعانيين وإلههم. فالعنصر اليوتوبي في الكتاب المقدس يبدأ مما يمكن تسميته بنزعة بدائية نصف شيوعية في أرض التيه ثم عداء أهل الناصرة - ومن بعدهم أنبياء إسرائيل القدامى - للثروة والطغيان. وها هو ذا يهوا المنتقم والمدافع عن الشعب ضد من يكدسون الأموال ويستحوذون على ملكية الأرض يقول: «وأعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم وأبطل تعظم المستكبرين وأضع تجبر العتاه. وأجعل الرجل أعز من الذهب الإبريز والإنسان أعز من ذهب أوفير.»
28
وتميز زمن السعادة في الكتاب المقدس بتوزيع الثروة التي أصبحت من أجل الكل: «أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا وهلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا.»
29
وهكذا تتشكل من نصوص إشعياء الأسس اليوتوبية أو مركز اليوتوبيا في الكتاب المقدس: «من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب. فيقضي بين شعوب كثيرين ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل لا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد. بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب.»
30
وجاء الرومان للأرض الموعودة، ولم تأت الوفرة مع المحتلين بل حل الفقر والبؤس، فوقف يوحنا المعمدان مخاطبا عامة الشعب، واعدا إياهم بنهاية شقائهم: «والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.»
31
ثم شاعت أنباء سارة في تلك الأيام، أنباء عن ثورة اجتماعية وقومية وشيكة الحدوث: «الذي سوف يأتي بعدي» قال يوحنا، «الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ.»
32
ثم كان مجيء المسيح الذي أراد وضع نهاية لمعاناة المعذبين على الأرض «نيري هين وحملي خفيف.» فهو إنسان عهد إليه بتغيير كل شيء على الأرض وفي هذا العالم وليس في عالم آخر. ولم يبشر المسيح - كما يزعم القديس بولس - بمملكة داخلية أو بعالم آخر، وإنما أراد مملكة في العالم الأرضي، كما لم يقل المسيح للفريسيين.
33 «ها ملكوت الله داخلكم.» كما جاء في إنجيل لوقا (17: 21) ولكن حقيقة العبارة هي «ملكوت الله بينكم.»
34
ولم يقل المسيح أبدا «مملكتي ليست من هذا العالم.»
35
فقد حرف القديس يوحنا هذه العبارة لاستعمالها في البلاط الروماني. والمسيح نفسه لم يحاول أن يقول للوالي الروماني مثل هذه العبارة التي لا تتفق - في رأي بلوخ - مع شجاعة مؤسس الديانة المسيحية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان هناك تعارض شديد في عصر المسيح بين معاني كلمات مثل «هذا العالم» و«العالم الآخر». فلا بد أن يفهم الفرق بين المعنيين فهما زمنيا - وقد أتى هذا المعنى من العقيدة النجمية في الشرق القديم - ولذلك يمكننا فهم كلمة «هذا العالم» على أنها مرادفة للعالم الموجود الآن في الزمن الحاضر، وأما كلمة «العالم الآخر» فهي مرادفة للعالم الذي سوف يأتي في زمن المستقبل «وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له في هذا العالم ولا في الآتي.»
36
والمقصود من هذه الكلمات ليس تقسيما جغرافيا يميز هذا العالم عن العالم الآخر، بل تقسيم زمني يعني وجود هذين العالمين في نفس الزمن الأرضي الذي ينقسم إلى الزمن الحاضر والزمن الآتي، ومن ثم يكون العالم الآخر هو الأرض اليوتوبية التي تأتي معها بسماء يوتوبية جديدة: «لأني ها أنا ذا خالق سموات جديدة وأرض جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال.»
37
لم يقصد المسيح إذن - في زعم بلوخ - عالما آخر يأتي بعد الموت، بل قصد عالما سيأتي في مملكة الحب الأرضية، بعد أن ينهار هذا العالم الفاسد. كانت مملكة هذا العالم بالنسبة له هي مملكة الشيطان: «أنتم من أب هو إبليس.»
38
لذلك نجده - وهو الذي دعا إلى الحب والسلام ونبذ القوة المسلحة - يلقي سيفه في وجه الواقع الظالم: «ما جئت لألقي سلاما بل سيفا.»
39
أما عن رفضه للقوة المسلحة في موعظة الجبل - حيث كان لمملكة السماء وضع له دلالته - فإن كل عبارة يقول فيها طوبى في هذه الموعظة لا بد أن تفهم في نطاق أوسع، فالمسيح مفكر ذو رؤية كوارثية، وكان يتوقع الكارثة الكونية في كل لحظة: «الحق أقول لكم إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض.»
40
ولن يساق المرابون بالسوط خارج المعبد فحسب، بل ستسقط الدولة كلها بفعل الكارثة الكونية كما يصورها إنجيل مرقص في الإصحاح الثالث عشر، وبدون هذه اليوتوبيا لا يمكن أن تفهم موعظة الجبل. إن هذا الزمن الحاضر والظالم سيتحطم سريعا، ولكن ليس بفعل الثورة بل بالكارثة الكونية. لذلك لم يهادن المسيح الزمن الحاضر ولم يتحالف مع الواقع الروماني الذي يرفضه. ورفضه للقوة في موعظة الجبل لم يكن إلا لإيمانه بالثورة الشاملة التي ستأتي بها الكارثة الكونية، فإذا سويت القلعة بالأرض، فإن الأمور الاقتصادية أو أي شيء آخر سيكون غير ذي شأن، غير أنه - أي المسيح - لم ينس زمن المستقبل وقوله «مملكتي ليست من هذا العالم.» إنما يعني أنها ليست من هذا العالم الروماني الظالم، بل في عالم آخر أفضل منه على هذه الأرض.
41
لا شك أن الجماعات الدينية الأولى - اليهودية والمسيحية - قد شاركت في الملكية، وطلبت الخلاص عن طريق الإيمان والفضل الإلهي. ولا شك أيضا أن المسيحية الأولى ظهرت كيوتوبيا اجتماعية تتميز بشيوعية الحب وعالميته لكل من يحمل وجها إنسانيا. إلا أن الكتاب المقدس لم يقدم يوتوبيا اجتماعية بالمعنى المفهوم الآن، لا بالمعنى الخيالي ولا بالمعنى الواقعي المقصود قيامه بجهد الإنسان وتخطيطه، على الرغم من احتوائه على رؤى يمكن تفسيرها تفسيرا يوتوبيا، إلا أنها ظلت معنيه بالموت والخروج والخلاص من هذا العالم. (4) مدينة الله للقديس أوغسطين
تأثرت اليوتوبيا المسيحية بالفلسفة الرواقية، وإن كانت هذه الأخيرة قد قدمت العالم المألوف باعتباره عالما كاملا، ولذلك لم تستطع أن تطور تنظيمات جديدة ولا أن تضع تصورا لعالم جديد، فجاءت المسيحية لتبشر بأرض جديدة وسماء جديدة. وبعد المسيح ظهر دافع للخروج من هذا العالم. والتفت الأمنية اليوتوبية حول المسيح نفسه فتحولت إلى العالم الآخر، وظهرت المملكة التي ليست من هذا العالم عند أوغسطين، فأشاد بقيام مملكة الرب المختلفة عن العالم التعس الفاسد وبشره الخطائين.
وتتركز يوتوبيا أوغسطين في آرائه الاجتماعية التي تناولها في كتابه «مدينة الله» الذي كتبه ما بين عامي 431 و427م، وقد وضع في مقابلها «المدينة الأرضية» وأرجع سائر المجتمعات البشرية إلى هاتين المدينتين. وعلى الرغم من حالة الحرب الدائمة بينهما منذ البداية، إلا أنهما تتشابكان وتختلطان ولن يفصل بينهما إلا المسيح في يوم الحساب الأخير. ويقسم أوغسطين التاريخ إلى فترات تمت فيها تحولات حاسمة وذات مضمون تاريخي يبدأ من لحظة سقوط الإنسان في الخطيئة الأولى وحتى يوم الحساب. وتبدأ مرحلة الطفولة التاريخية من آدم إلى نوح ، ثم مرحلة الصبا من نوح إلى إبراهيم، يليها مرحلة الشباب التي تمتد من إبراهيم إلى داود، وأخيرا مرحلة الرجولة التي تبدأ من داود حتى الأسر البابلي، وتمتد المرحلتان الأخيرتان حتى ميلاد المسيح لتتواصل إلى يوم الحساب الأخير. وتختلط المدينة السماوية والمدنية الأرضية منذ بداية التاريخ، ففي المرحلة الأولى منه دمرت المدينة الأرضية في الطوفان، وحفظ الله مدينته السماوية في نوح وأولاده. وبقيت مدينة الله في الأمة العبرانية، وتمثل الشعوب الأخرى المدينة الأرضية. وكأن أوغسطين - بهذا التصور - يقدم فلسفة لتاريخ الكتاب المقدس.
42
تطورت آراء أوغسطين حول المجتمع الإنساني تطورا يواكب تطور تفكيره الديني، لقد أكد دور الخطيئة في الحياة الإنسانية وفي كل المنظمات الأرضية مما جعل التاريخ البشري تاريخا للخلاص، وألح على حاجة الإنسان للخلاص عن طريق المسيح واحتياجه للنعمة الإلهية. والواقع أنه نظر إلى مصير الإنسان وتحقيقه لهذا المصير من خلال النموذج الروحي لتاريخ الخلاص، أي من خلال نظرة أفقية وتاريخية في سياق الخطة الإلهية لنجاة الإنسان، لا من خلال نظرة رأسية تقوم على علاقته بالعالم المعقول.
43
ولهذا فإن أول حدث في تاريخ الخلاص كما صوره الإنجيل هو سقوط الإنسانية بخطيئة آدم، بحيث تجسدت مقولات مثل الخلاص والخطيئة، فيما سماه أوغسطين «مدينة السماء» و«مدينة الأرض». فالمدينتان على الترتيب هما المدينة التي كتب لها المجد الأبدي والأخرى هي التي كتب عليها الشقاء الأبدي، أو بتعبير أوغسطين نفسه المدينة التي تعيش وفقا لإرادة الله، والمدينة التي تعيش وفقا لإرادة الإنسان، المدينة الغيرية والمدينة الأنانية، المدينة التي يكون الحب فيها خالصا نقيا والمدينة التي يكون الحب فيها فاسدا ... وهكذا. والواقع أن المدينتين لن يكون لهما أي واقع متميز بهذا المعنى أو ذاك حتى تنفصلا انفصالا نهائيا في يوم الحساب الأخير؛ ذلك لأن المعنيين قد ظلا متداخلين في كل المجتمعات البشرية المعروفة تداخلا شديدا.
44
وكل ما يجمعهما هو توجه كل منهما نحو المسيح بطريقة مختلفة. ففي الأولى - أي مدينة الله - يتم ذلك بالتدخل المباشر من العناية الإلهية، وفي الثانية يتم بطريق غير مباشر ولكن بتدبير من العناية الإلهية أيضا. وبهذا يكون التعارض التاريخي بين المدينتين محددا منذ البداية، أي منذ خطيئة آدم. ولا يمكن القول إن هناك إرادة يوتوبية في مدينة أوغسطين أو بمعنى آخر لا يمكن القول إن يوتوبياه من تلك اليوتوبيات التي تغير الإرادات. فمدينة الله تجعل الإنسان - بفعل العناية الإلهية - يسير للأمام، وتلك هي القوة اليوتوبية الفعالة عند أوغسطين، ولكنها مقدرة على القلة المختارة وحدها. وسيظهر مجتمع القديسين هذا على الأرض في نهاية التاريخ الحاضر، أي بعد انتهاء الدولة الدنيوية أو مدينة الشيطان.
45
وإذا كان أول حدث في سياق التاريخ هو السقوط في الخطيئة، فكيف ينظر أوغسطين إلى المجتمع البشري المنظم من قبل الدولة؟ الحياة الاجتماعية هي - في رأيه - حياة طبيعية، وهي أمر فطري بالنسبة للبشر، فبغير مجتمع لن يكون في وسعهم تحقيق إمكاناتهم البشرية، فضلا عن أن الحياة مع الرفاق من البشر أمر ضروري لا غنى عنه، ويصدق هذا على المرحلة السابقة لسقوط الإنسان كما يصدق على المرحلة التابعة له؛ فقد كان الإنسان حيوانا اجتماعيا بالفطرة في حالة البراءة الأولى وقبل أن تفسد الخطيئة فطرته، بل إن حياة الصالحين في السماء هي حياة اجتماعية. أما عن المجتمع المنظم من الناحية السياسية، بما ينطوي عليه ذلك من سلطة وحكومة وقهر، فليس شيئا طبيعيا بالنسبة للإنسان وإنما هو أمر نافع وضروري لتنظيم حياته بعد السقوط وشفائه من بعض الشرور التي أصابته على أثر السقوط. فتنظيمات الحكم وخضوع المحكومين للحاكمين وقوة الإلزام التي تفرضها السلطة السياسية على رعاياها، كلها أمثلة على إخضاع الإنسان للإنسان، ولم تكن هذه - في رأي أوغسطين - موجودة في حالة البراءة الأولى؛ إذ كان الإنسان يعيش في حالة من التكامل الطبيعي الذي لم يشعر معه بالعبودية ولا الخضوع ولا التبعية، ولا يمكن أن يكون لهذه الأمور معنى إلا إذا اعتبرناها عقابا إلهيا على الخطيئة التي ترتب عليها ضياع التكامل.
46
وقبل الاستطراد في نقد أوغسطين للدولة يجب التنويه بأن الدولة عنده مرادفة للإمبراطورية الرومانية، والتنويه أيضا بالتحول الذي طرأ على فكرته عن الدولة. فالمعروف أن الإمبراطورية الرومانية دخلت - بعد اعتناق أباطرة الرومان للمسيحية - في تاريخ الخلاص الديني، ونظر المسيحيون إليها باعتبارها خالدة، وأنها أداة الخطة الإلهية في التاريخ لتحقيق الخلاص، لكن سرعان ما انهار هذا بعد غزو البرابرة لروما فتم تجريدها من صفة الدوام، ولم تعد إمكانية الخلاص مرتبطة بالإمبراطورية الرومانية كوسيلة لتحقيق النعمة الإلهية، لقد أصبحت مجرد حلقة في سلسلة الإمبراطوريات والمجتمعات التاريخية، كما أن الكنيسة أيضا - على الرغم من إصدارها لصكوك الغفران - ليست إلا خطوة على الطريق أو حلقة من الحلقات للوصول إلى مدينة الله، لأن الكثيرين من رجال الكنيسة ليسوا من القلة المختارة. إن مدينة الله شبيهة بمدينة أفلاطون المثالية ولكنها تفوقها كمالا ونظاما لأنها لم تؤسس بأيدي البشر بل هي من قبل الله، ولذلك لا تخضع للصدفة أو القدر، ولا توجد في العالم الموجود ولا وراءه بل بعده.
ويقدم أوغسطين في مدينة الله نقدا واقعيا للدولة على أساس يوتوبيا غير واقعية عندما يسأل: «ماذا تكون الدولة الأرضية إذا اختفى منها العدل وصارت وكرا للصوص؟»
47
والعدل عند أوغسطين يفهم بمعناه عند القديس بولس، وهو الخضوع لإرادة الله من أجل الخلاص. ولما كان تحقيق العدالة في المدينة الأرضية مستحيلا فإنه يرى أن واجب الدولة هو إقرار الملكية الفردية وحمايتها، لأنه إذا أعادت الدولة توزيع الثروة بالعدل بين سائر البشر تعرض النظام الاجتماعي للخلل والانهيار لأنه من غير الممكن أن يحقق العدل في المدينة الأرضية.
هذه هي الصورة اليوتوبية لمدينة الله، يبرز فيها التاريخ في شكل صيرورة للخلاص تربط آدم بالمسيح على أساس من الوحدة الرواقية للجنس البشري. وهي صورة تغلب عليها النزعة التشاؤمية في نظرتها للمدينة الأرضية والحياة الدنيوية، صورة هدفها اليوتوبي جعل البشر قديسين، أي أنها يوتوبيا انعقدت فيها الآمال والأحلام على ميلاد روحي جديد لأغلبية البشر. ولكن ما الذي جعل هذه الأحلام والآمال لا تتجه إلى المستقبل؟ يرى بلوخ أن المستقبل عند أوغسطين منغلق على نفسه بحيث يصبح السؤال هو: هل تعد مدينة الله يوتوبيا؟ أم هي إظهار لعلو موجود بالفعل يحيط بهذا العالم؟ وهل تطور حلم اليقظة لما لم يصبح بعد اجتماعيا؟ هل غرق المتعالي في هذا العالم؟ إن العلو عند أوغسطين ليس علوا محضا، ومدينة الله حاضرة في التاريخ باعتبارها موضوعا للصراع، وهي لن تظهر بصورة نهائية وكاملة إلا إذا ذهبت المدينة الأرضية إلى الشيطان. ولن يتحقق هذا إلا في نهاية التاريخ، أي أن التاريخ البشري خطوة تمهيدية نحو الهدف. بل إن مدينة الله نفسها خطوة تمهيدية نحو هدف أبعد؛ إذ تحمل يوتوبيا أخرى داخلها، وهي مملكة المسيح النهائية. إن مدينة الله تحلق فوق العملية التاريخية في مجموعها، أنها تجسيد للأبدية «حيث لا يولد أحد لأنه لا يموت أحد، وحيث تسود السعادة الحقه، وحيث لا تشرق الشمس على الأشرار والأبرار على حد سواء، وإنما تشرق شمس العدل فوق الأبرار وحدهم.»
48
ويحاول بلوخ التقاط الملامح اليوتوبية عند أوغسطين مستندا إلى هذه العبارة اليوتوبية: «نحن أنفسنا سوف نكون اليوم السابع.»
49
فهذه العبارة - في رأيه - تعبر عن نوع من العلو الذي يمكن أن يثير في الإنسان، بمجرد أن يتغلغل فيه، الرغبة في أن يحقق هذا العلو بنفسه ولنفسه.
50
والواقع أن هذا تفسير يخالف تفسير أوغسطين الذي ربط الخلاص بالكنيسة وجعله دفاعا عنها، باعتبار أن الخلاص لا يتحقق إلا على يد الكنيسة. وإذا كانت هذه المحاولة من بلوخ تتسق مع تفكيره اليوتوبي الذي يؤكد أن فكرة الخلاص كانت فكرة معبرة عن إرادة سياسية بشرية سواء في العصور الوسطى أو في بداية العصر الحديث، إلا أنها تتنافى مع تفكير أوغسطين بصورة تغني عن التفصيل. والحق أن مثل هذه المحاولات استخدمها بلوخ مع نصوص عديدة ليطوعها لأفكاره الخاصة شأنه في هذا شأن العديد من الفلاسفة الذين يجتهدون في تفسير تاريخ الفلسفة بأكمله من خلال فلسفاتهم الخاصة. (5) مملكة الإنجيل الثالث
كان يواخيم الفيوري.
51 (1135-1202م) صاحب أهم يوتوبيا في القرن الثالث عشر، وقد نقل مملكة النور من العالم الآخر إلى داخل التاريخ في دولة نهائية للتاريخ. وإذا كان أفلاطون قد وضع مجتمعه المثالي في عالم المثل، ووضعه أمبيلوس في جزيرة نائية، ووضعه أوغسطين في العلو، فقد جاء يواخيم الفيوري ليودعه في المستقبل التاريخي حيث قال بثلاث مراحل للتاريخ يقابلها وجود ثلاث ممالك على الأرض تقع بين الخلق ونهاية التاريخ: (أ) مملكة الآب التي تبدأ مع بداية الخلق ويمثلها العهد القديم القائم على الخوف. (ب) مملكة الابن التي تبدأ بالخلاص عن طريق المسيح ويمثلها العهد الجديد القائم على الحب وتسود العناية الإلهية أنحاء المملكة.
52 (ج) مملكة الروح القدس التي توقع أن تبدأ مع بداية القرن الثالث عشر، وهي مرحلة تنوير تقوم على الديمقراطية بدون آباء ولا كنيسة، ويسودها الكمال الروحي والحب، وينشأ العهد الثالث (أو الإنجيل الثالث) من العهد الجديد ويمثل مرحلة لم تأت بعد.
53
في هذا العهد الثالث يكون المجتمع بلا طبقات، ويكون العصر عصر رهبان ذا نزعة مشاعية، وعصر الحرية والتنوير الروحي، وتتحول القلة المختارة التي وجدت عند أوغسطين إلى جموع الفقراء الذين سيدخلون الجنة بأجسادهم الحية لا بأرواحهم فقط، وتغمر الجسد سعادة بلا ذنوب. وفي هذا العهد يتخلص المجتمع من الخوف وعبودية القانون ودولته، كما يتخلص من سلطة الكنيسة. ولم يكن مذهب يواخيم الفيوري هروبا من الواقع للسماء أو لعالم آخر، وإنما كان على العكس من ذلك مذهبا علمانيا - إن جاز هذا التعبير - فالمسيحية في مملكته بلا وعود خاوية ولا أسياد ولا ملكية، وحتى المسيح نفسه سيذوب في المملكة ليصبح فردا في مجتمع من الأصدقاء.
54
وقد قام مذهب يواخيم الفيوري على نقد المبادئ الاجتماعية الأساسية في المسيحية التي قامت على المجتمع الطبقي والحق الطبيعي للملكية، وهو المجتمع الذي وضع ركائزه القديس بولس. وكان من الطبيعي أن تدين الكنيسة مذهبه عن الطبيعة الثلاثية داخل التثليث.
ثانيا: يوتوبيات عصر النهضة
الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة - هذه النهضة التي يعدها بلوخ الميلاد الجديد الذي شمل كل ميادين الفكر والروح والمعرفة -
55
يكشف عن البعث الحقيقي للكتابات اليوتوبية التي تأثرت بتيارات عديدة أحدثت فعلها في فكر النهضة. فمع نشأة المدن البرجوازية وسيطرة النزعة الطبيعية والإنسانية والعلمانية المتفائلة بالمستقبل تكونت رؤى شبه يوتوبية عند رجال مثل نيقولا دي كوزا
56 (1401-1464م) الذي افترض نظاما نصف يوتوبي يضم كل البشر في العالم الذي تمزقه الاضطرابات السياسية والدينية. كما أن الحياة البرجوازية للمدن الإيطالية دفعت رجالا مثل ليوناردو دافنشي للتفكير في إعادة تشكيل العالم.
57
وتأثرت يوتوبيات عصر النهضة أيضا بتطور الحركة العلمية والفنية الهائلة، وبالاكتشافات الجغرافية والتعرف على جزر جديدة وسواحل نائية، وما ترتب على ذلك من ازدياد النشاط التجاري وما صاحبه من نمو اقتصادي للعديد من المدن الأوروبية، وظهور النزعات القومية وميل مجتمع النهضة إلى تأكيد النزعة الفردية للإنسان وتطور ملكاته النقدية واتساع معرفته. كل هذه العوامل لها جذورها في أول عمل يوتوبي بالمعنى الحديث، وهو «يوتوبيا» لتوماس مور (1478-1535م). (1) يوتوبيا توماس مور
لم تكن الأحلام والخيالات والأفكار اليوتوبية سوى استجابات مختلفة للمجتمعات التي نشأت فيها. ولا يمكن أن نفهم التفكير اليوتوبي قديمه وحديثه حتى نضعه في سياق التطور التاريخي والاجتماعي، لأنه كان تعبيرا عن الرغبة في الإصلاح والتغيير، أو كان على الأقل بمثابة احتجاج على أوضاع وظروف اجتماعية واقتصادية خيم عليها الظلم والفساد. ولا يمكن أن ننظر ليوتوبيا توماس مور (1516م) إلا من هذا المنظور لوضعها في إطار العصر الذي كتبت فيه، وهو عصر ما قبل الإصلاح الديني، أي فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة . وربما كانت الأوضاع العامة لهذه الفترة من الأسباب التي ربطت توماس مور بصداقة قوية مع أراسموس.
58 (1466-1536م) فكلاهما يضمر الإعجاب بالفلسفة اليونانية ويبغض المذاهب المدرسية، وكلاهما يهاجم السلطة الطاغية للكنيسة والملكية، ويؤمن بالحاجة إلى إصلاح الكنيسة، وبضرورة تغلب الإنسان على أنانيته وغروره قبل خلق مجتمع مثالي أفضل.
59
وتتألف «يوتوبيا» من كتابين وضعا في أوقات مختلفة، ولا يعرف على وجه الدقة أيهما كتب قبل الآخر. يتناول الكتاب الأول وصفا للجزيرة، وإن كان موقعها لا يزال غامضا، وهو وصف تفصيلي للتقسيم الداخلي للجزيرة إلى أربعة وخمسين مدينة متساوية في عدد السكان والمنشآت، يتحدث أهلها لغة واحدة ولهم قوانين وعادات واحدة ويمارسون مهنة الزراعة ، ويقوم النظام المثالي للجزيرة على أساس من العدالة التي لا تتحقق إلا عن طريق اشتراكية الحياة وإلغاء الملكية الخاصة، ويحتوي الكتاب الثاني على وصف تفصيلي للحياة في الجزيرة، وهو ينقسم إلى عدة أقسام، يتضمن القسم الأول وصفا لجغرافيا الجزيرة وتخطيط المدن وحياة السكان، ويتناول الثاني نظام الحكم واختيار الرؤساء ونظام العمل والحياة الاجتماعية، أما الثالث فيعالج الأساس الفلسفي للحياة في الجزيرة والأخلاقيات ونظام الزواج والقوانين العامة. يلي ذلك الجزء الرابع الذي يتناول علاقة «يوتوبيا» بجيرانها وأمور الحرب. ثم يتناول الفصل الأخير الأديان في يوتوبيا.
60
وتتميز الحياة في «يوتوبيا» بالتعاون والمشاركة بين أهل الجزيرة. والأسرة هي أساس الحياة المدنية، ويقوم نظام الحكم فيها على النظام النيابي الذي يعتمد على الانتخابات الحرة، ومع أن اللذة الإبيقورية هي هدف الحياة الإنسانية، فإن يوتوبيا مور تقوم على أسس عقلانية وواقعية ملائمة لروح عصر النهضة، لقد تصورت مجتمعا مثاليا من صنع الإنسان لا من صنع الله.
ولا حاجة للخوض في تفاصيل «يوتوبيا» التي تعتبر أشهر يوتوبيات عصر النهضة وقامت عنها وحولها العديد من الدراسات، بل كانت مصدرا ملهما للعديد من اليوتوبيات التي جاءت بعدها. ولكن لا بد من التوقف عند المؤثرات العديدة التي شكلت مضمون يوتوبيا أو الحكومة المثلى لها والتي هي في المقام الأول تنظيم سياسي أكثر منه تنظيما اجتماعيا.
لا شك أن جمهورية أفلاطون كانت من أهم المؤثرات في يوتوبيات عصر النهضة بوجه عام، ويوتوبيا توماس مور بوجه خاص، حيث استعار مور فن الحوار الأفلاطوني ومنهج التوليد السقراطي في صياغة يوتوبياه. وأخذ النزعة المشاعية من جمهورية أفلاطون وإن لم يقصرها على طبقة ضئيلة متميزة بل جعلها حقا لكل أهل الجزيرة. وعلى الرغم من المسحة الأفلاطونية التي تميز «يوتوبيا» إلا أن هناك تباينا هاما بين مور وأفلاطون يتمثل في عدة أمور، منها موقف كل منهما من العمل وتكوين الأسرة، والنظرة إلى العبيد. إن الأخير - أي أفلاطون - قد احتقر العمل اليدوي وقصره على العبيد والحرفيين، وحرر الطبقات العليا في المجتمع من ممارسة العمل وجعلها تتفرغ للنظر والتأمل العقلي. بينما جعل مور العمل - وبخاصة العمل في ميدان الزراعة - هو القاسم المشترك بين كل أفراد الجزيرة رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا: «الزراعة هي العمل الوحيد الذي يقوم به الجميع رجالا ونساء دون استثناء ويتعلمونها جميعا في طفولتهم (...) وإلى جانب الزراعة يتعلم كل منهم حرفة معينة خاصة به.»
61
ولا شك أن ضرورة العمل كان أحد متطلبات عصر مور، بعد أن اكتسب الاحترام والأهمية من جديد، فلم يعد محتقرا ولا علامة على الطبقة الاجتماعية، بل أصبح في بعض يوتوبيات عصر النهضة مصدرا للسعادة والبهجة التي يدخلها في نفوس العاملين. ويعود اهتمام مور الواضح بالعمل - وبخاصة العمل الزراعي - إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها إنجلترا في عصره حيث زاد الفقر بين الفلاحين، وتخلف الريف الإنجليزي وراء المدينة. كما كان كذلك تعبيرا عن الاحتجاج على الرأسمالية النامية وبدايات المجتمع الصناعي في عهده. والحقيقة أن يوتوبيا مور نجحت فيما أخفقت فيه العصور الوسطى التي بقي فيها الفلاح رازحا تحت ظروف العبودية، كما عانى الفلاحون الظلم والفقر في معظم الدول الأوروبية؛ إذ لم يكن للعمل الزراعي على وجه الخصوص وضع مشرف أو مساو للمهن الأخرى. وبعد أن تبين لكتاب اليوتوبيا في القرن السادس عشر والسابع عشر أن ثبات المجتمع لا يتحقق إلا بإدماج الريف والمدينة، اختلفت نظرة عصر النهضة للعمل عن تلك التي توجد في جمهورية أفلاطون.
أما عن نقطة الاختلاف الثانية بين «يوتوبيا» مور وجمهورية أفلاطون فهي تكوين الأسرة وإقرار الزواج الذي رفضه أفلاطون وأقره مور على الرغم من النزعة المشاعية في يوتوبياه المقصورة على الأملاك دون الأسرة والزواج، وربما يرجع إعجابه بمشاعية أفلاطون إلى أنه وجد فيها الحل لبعض مشكلات عصره. لقد كان هناك عدد كبير من النبلاء الذين يعتمدون على جهد البشر في الأرض، ولكن عندما يمرض هؤلاء الفلاحون الكادحون يطردون خارجها ويعانون الفقر والمرض، ولذلك كانت مشاعية الأرض هي الحل الأمثل لمعضلة عصره. أما نقطة الاختلاف الثالثة فهي النظرة إلى طبقة العبيد التي فرضت عليها العبودية طوال حياتها في جمهورية أفلاطون، ولكنها اقتصرت في يوتوبيا مور على أسرى الحرب الذين يؤخذون كعبيد حتى يظهروا الولاء فيتم تحريرهم، كما أن أولادهم - على خلاف ما كان عند أفلاطون - ليسوا عبيدا بالتبعية لآبائهم.
وعلى الرغم من التأثير الواضح للفلسفة اليونانية - وبخاصة جمهورية أفلاطون - على يوتوبيا مور، إلا أنها كانت رد فعل أيضا للنزعة الفردية المتطرفة التي اجتاحت عصر النهضة. جاءت «يوتوبيا» لتمحو آثار الفردية، كما يلاحظ في النمط الموحد للعمارة والمنازل والملابس، كما جاءت معبرة عن تناقضات مرحلة انتقالية أو فترة تحول تاريخي، وهي مرحلة النهضة التي بدا فيها أن الأمل في الإصلاحات الاقتصادية والدينية يمكن تحقيقه بالطرق السلمية. وتجلى أحد هذه التناقضات في دفاع مور عن حرية العقيدة والتسامح الديني اللذين سمح بهما في يوتوبياه من جانب، ودفاعه عن الكنيسة الكاثوليكية في مرحلة تفككها وانهيارها من جانب آخر.
وتعد يوتوبيا مور أول صورة حديثة للأحلام المفعمة بالأماني لشيوعية-ديمقراطية نمت مع بداية القوى الرأسمالية، كما هي تعبير عن نزعة ليبرالية حرة مضمونها ديمقراطية إنسانية. هذا المضمون جعل من «يوتوبيا» كتابا جديرا بأن يذكر في مجال الاشتراكية والشيوعية.
62
وتنطلق الحرية عند مور من إلغاء الملكية الخاصة التي تخلق طبقة الأسياد والعبيد، ودعوته إلى العدل والمساواة بين طبقات الشعب، كما يتضح من نهاية الكتاب الأول من يوتوبيا: «يبدو لي أنه حيثما وجدت الملكية الخاصة ، وكان المال هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، فيكاد يكون من المستحيل أن يسود المجتمع العدل أو الرخاء (...) إن الطريق الوحيد الذي لا يوجد سواه لتحقيق الرفاهية للجميع هو تحقيق المساواة في جميع الأمور ... وإني لمقتنع تمام الاقتناع بأنه لن يمكن إجراء تقسيم عادل ومتساو للسلع، ولا أن تتحقق السعادة في الحياة الإنسانية ما لم تلغ الملكية الخاصة تماما. فطالما بقيت سيظل الجزء الأكبر بكثير والأفضل بكثير من الجنس البشري مثقلا دائما بعبء ثقيل لا مفر معه من الفقر.»
63
إن تحليل مور لبنية المجتمع الطبقي وتصويره لمعاناة الفقراء وصراعهم مع طبقة الأغنياء المستغلين جعلت منه سابقا لعصره ورائدا لكل من ماركس وإنجلز اللذين جاءا بعده بقرون، كما يكشف هذا النص من نهاية «يوتوبيا» عن حس مسبق أو تنويه عن فائض القيمة: «إن الأغنياء ينتزعون كل يوم من الفقراء جزءا من مخصصاتهم اليومية لا عن طريق ما يمارسه الأفراد منهم من خداع، بل عن طريق القانون العام (...) عندما أفكر في هذه الأمور وأتأمل حالة الدول المزدهرة في كل مكان الآن، فإني لا أرى سوى نوع من المؤامرة التي يديرها الأغنياء، الذين يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة باسم المصلحة العامة وهم يعدون ويخططون الطرق والوسائل التي يستطيعون بواسطتها أن يحتفظوا أولا بكل ما جمعوه عن طريق ما يمارسونه من أعمال شريرة، دون أن يخشوا ضياعه، وأن يتمكنوا، ثانيا، من شراء واستغلال جهد جميع الفقراء بأرخص ما يمكن. وما تلبث هذه الوسائل أن تصبح قوانين بمجرد أن يقرر الأغنياء مراعاتها باسم الشعب، أي باسم الفقراء أيضا.»
64
لقد تجنب مور في يوتوبياه شر استغلال الفقراء وما ينتج عنه من مظاهر اجتماعية سيئة: «ففي يوتوبيا قد قضى تماما على كل جشع للمال بالقضاء على استعمال النقود. فما أثقل الهموم التي قضى عليها بذلك، وما أكثر الجرائم التي اقتلعت من جذورها. من ذا الذي لا يعرف أن الغش، والسرقة، والسلب، والخصام، والفوضى، والشغب، والفتنة، والقتل والخيانة، والقتل بدس السم، والتي تعد عمليات الإعدام التي تنفذ يوميا نوعا من الثأر من مرتكبيها أكثر منها رادعا لهم؛ ستختفي تماما باختفاء النقود؟ من ذا الذي لا يعرف أن الخوف، والقلق، والهم، والعمل الشاق، والسهر ستنتهي كلها أيضا في نفس الوقت الذي ينتهي فيه استخدام النقود؟»
65
ويمكن القول إن «يوتوبيا» هي بناء عقلي مفعم بالأماني يفترض في نفسه القدرة على الوجود بجهوده الذاتية، وهي بناء لم يستمد الأمل من عنصر ألفي أو من عنصر متعال «ترانسندنتالي»، بل من تخطيط لم يصبح بعد داخل هذا العالم وعلى هذه الأرض، في دولة مثلى تنشد الحرية وتحقيق الحد الأقصى من السعادة.
66 (2) مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا
ننتقل الآن من الحرية الليبرالية وتسامح الأديان في يوتوبيا توماس مور إلى الوجه الآخر لهذه الحرية، إلى النظام الصارم الذي يضع كل شيء في موضعه، إلى يوتوبيا تعتمد على فكرة إقامة حكومة كاثوليكية وشيوعية عالمية تخضع جميع الدول تحت رئاسة البابا، فقد جاء الراهب الدومينكاني توماسو كامبانيلا (1568-1639م) ليعكس الاتجاهات العقلية السائدة في القرن السابع عشر، ويصوغ - في فترة سجنه الطويل التي دامت سبعة وعشرين عاما - «مدينة الشمس»
Civitas Solis
عام 1623م والتي تم عرض الجانب التقني منها في الفصل السابق ونعرض الآن الجانب الاجتماعي أو المدني.
كان توماسو كامبانيلا من أوائل المناهضين في مطلع العصر الحديث لفلسفة أرسطو وللعلم المدرسي بوجه عام الذي ساد الفكر الأوروبي في العصر الوسيط. وقد أهاب بالعلم الجديد وتحمس لجاليليو، ومع ذلك فقد أخذ بالنظام «التراتبي» للكون والموجودات الذي ساد في العصور الوسطى. وبالنظر إلى الترتيب الذي يحكم فن جيوتو وكيف أن كل موضوع من موضوعات اللوحة الفنية مرسوم في المكان المحدد حيث يجب أن يكون، أي في المكان المناسب لمرتبته، وبالنظر إلى نظام الكوميديا الإلهية حيث لكل ميت موقعه الدقيق في الجحيم، وفي المطهر وفي الفردوس؛ أصبح من السهل إدراك أن هذا الترتيب وذلك النظام قد انتقلا إلى يوتوبيا كامبانيلا، حيث كان العلم الأساسي فيها هو علم التنجيم، فالشمس هي الله والكواكب تقيم معه عهدا. إنه نظام يستوحي وضع الكواكب السيارة التي هي بمثابة قادة الحياة الاجتماعية، بل إن الدولة الشمس تقيم موظفين يحددون، حسب وضعية النجوم، ساعة ومكان المضاجعة، فالحياة الفردية لا مكان لها، والحرية ملغاة نهائيا،
67
والنظام هو البديل للحرية، وحرية الاختيار - بل والحرية بوجه عام - لم تسلب من أهل المدينة بطريقة آلية بل بطريقة ديكتاتورية النجوم التي تحيط بالبشر من فوقهم ومن كل الجهات.
على الرغم من سيطرة التنجيم على حياة البشر في مدينة الشمس، إلا أنها يوتوبيا عكست الإعلاء من شأن العقل الذي ساد القرن السابع عشر، والأخذ بمبادئ العلم الجديد والإيمان اللامحدود بضرورة التقدم المادي لأنه من أهم الشروط التي تحقق السعادة المدنية. كانت هذه الخاصية لمدينة الشمس هي المنظور الوحيد للأمل في يوتوبيا كامبانيلا التي انتفت فيها الحرية، وخيم عليها سكون التأمل. فقد تميزت مدينة الشمس بالاختراعات العلمية التي وجهت بصرها ناحية المستقبل وتجاوزت اختراعات أهل المدينة ما وصل إليه العلم الأوروبي في ذلك الحين، ولا بد أن يكون ازدهار البرجوازية الأوروبية في القرن السابع عشر قد أثر في تطور الإنتاج من الإنتاج اليدوي إلى الإنتاج الصناعي وما صاحب هذا من تطور علمي وتقني.
68
ساد الاعتقاد في عصر كامبانيلا بأن نهاية القرن - أي السابع عشر - ستجلب معها تغيرات حاسمة وربما يأتي العالم إلى نهايته. وتأثر كامبانيلا بهذه الشائعات وبزغ في ذهنه حلم غريب ومفعم بالقوة دفعه للإيمان بأن التغيرات القادمة ستقود إلى إصلاح شامل للمجتمع. وإن هذه اللحظة ستأتي بجمهورية عالمية وستكون كالابريا
Calabria
موطنه ومسقط رأسه؛ نقطة انطلاق هذا التغيير. وأغلب الظن أنه تمادى في أحلامه فتخيل أن هذا التغيير سيتم تحت قيادته، وأخذ يهاجم في كتاباته الأفكار القديمة ويدعو للإصلاح على ثلاثة مستويات: مستوى اجتماعي، عن طريق تحسين ظروف الشعب؛ ومستوى سياسي، يجعل الإسبان قادة العالم؛ ومستوى ديني، عن طريق إصلاح الكنيسة. ولكن كامبانيلا لم يفهم الإصلاح بالمعنى المعروف عند كالفن أو لوثر - اللذين نأيا بنفسيها عن سيطرة كنيسة روما - ونادى بتوحيد العالم تحت لواء العقيدة الكاثوليكية وتطهير الكنيسة من المذاهب المدرسية، مؤكدا أنها - أي الكنيسة - لن تستطيع استعادة قوتها إلا إذا تبنت أفكارا فلسفية جديدة. وبذلك يكون قد سعى إلى تحديث الكنيسة أكثر من سعيه لإصلاحها،
69
وكانت أفكاره الفلسفية قد جذبت السلطات الدينية، ولكنه لم يكن ثائرا بالمعنى الحقيقي بل مصلحا متفردا، سعى إلى تحديث الكنيسة أكثر من سعيه لإصلاحها جذريا. ففي شبابه والسنوات الأولى من سجنه ناضل في سبيل أفكاره الفلسفية الجديدة ومن أجل نظام أفضل للمجتمع. وعندما ولت سنوات السجن واستعاد حريته هجرته روح التمرد، وحاول أن يجعل أفكاره مقبولة من السلطات، بل كان في نهاية حياته يطمح في أن يصبح كاردينالا في الكنيسة التي اضطهدته، فكتب أشعارا يتملق فيها ملك فرنسا اعتقادا منه بأنه الشخص القادر على تحقيق دولته «الشمس».
70
إن مدينة الشمس صورة لحياة اجتماعية منظمة تنظيما دقيقا أو هي بالأحرى منظومة متمركزة حول الشمس، فكل شيء فيها محدد من أعلى، وكل شيء في موقعه المعين له سلفا، وعلى رأس هذه الدولة يتربع الملك الشمس الذي يطلق عليه كامبانيلا «ميتافيزيقوس» أي الإمبراطور الروحي، أو السلطة البابوية، ويساعده في الحكم ثلاثة حكام يمثلون القوة أو السلطة، والمعرفة أو الحكمة، والإرادة أو المحبة: «إن الحاكم الكبير كاهن يدعونه باسم «هو»
HoH
وإن كان علينا أن نسميه الميتافيزيقوس
Metaphysic
وهو على رأس الجميع، ويمسك بزمام الأمور الروحية والزمنية ويشرف على كل الأعمال ويضع كل القوانين باعتباره السلطة العليا، ويساعده ثلاثة أمراء يتمتعون بسلطات متساوية وهم بون وسين ومور، ومعناها في لغتنا: القوة، والحكمة، والمحبة.»
71
وهذا تأكيد على قوة الدولة وأهميتها في مدينة الشمس التي أصبحت - على العكس مما هي عند مور - هي الهدف والغاية الأسمى للمجتمع الذي تتصاعد السلطة فيه من البيت إلى الكومونة فالمدينة فالإقليم فالإمبراطور، حتى تصل إلى المونارشية الكونية. وينتشر هذا النظام على شكل دوائر ذات مركز عالمي واحد شامل، وعلى رأس هذه الكاتدرائية السياسية الصارمة تقف المملكة البابوية العالمية. إنها يوتوبيا النظام المحكم الذي لا يتساهل ولا يسمح بالمصادفة ويحدد لكل شيء شكله ومكانه. وتتميز حكومة مدينة الشمس بأنها شيوعية تختفي فيها الملكية الخاصة ، فليس هناك ربح ولا استغلال بل مساواة طبيعية. ووقت العمل مخفض إلى أربع ساعات فقط: «في مدينة الشمس يوزع العمل بين الجميع، وعلى كل فرد أن يعمل أربع ساعات يوميا في التعليم، والمسابقات والقراءة والكتابة والتريض وفي ممارسة التمارين للعقل والبدن (...) ويقول الناس في مدينة الشمس: إن الفقر يخلف اللصوص والدهاء والكذابين المشردين، وإن الثروة تخلف الغرور والجهل والطغاة. ولكن أفراد المجتمع الحق ينشئون من الغنى والفقر معا، فهم أغنياء لا يريدون شيئا، فقراء لأنهم لا يملكون شيئا، ونتيجة ذلك أنهم ليسوا عبيدا للظروف وإنما الظروف هي التي تخدمهم.»
72
وهذه هي نفسها المبادئ النظرية التي قامت عليها يوتوبيات القرن التاسع عشر مع فورييه وسان سيمون وأتباعه.
إن المقابلة بين «يوتوبيا» مور و«مدينة الشمس» لكامبانيلا هي مقابلة بين الحرية والنظام، واليوتوبيات التي قامت على أحدهما دون الآخر كان مآلها الفشل أو انتهت إلى التجريد والسكون. فالعلاقة بين الحرية والنظام يجب ألا تكون هي علاقة إما هذا أو ذاك بل يجب أن تفهم في إطار جدلي مادي لكي تنتهي إلى اليوتوبيا العينية. وقد استطاع ماركس أن يربط بين العنصر الفيدرالي الحر عند مور وأتباعه وبين عنصر التنظيم المركزي عند كامبانيلا وأتباعه. وبذلك أصبح النظام هو الشيء الجديد أي المركزية الديمقراطية التي هي تنظيم مشترك لعملية الإنتاج، وخطة جماعية موحدة لتعليم الإنسان وتهذيبه. بذلك ابتعد عن الدولة المنظمة البعيدة عن التاريخ والشعب، كما تجنب الثقافة المجردة لأن كليهما قد وجد إطاره العيني وخلاصه الحقيقي، وبذلك جعل للحرية مضمونا واضحا. هكذا يرى بلوخ أن ماركس قد ربط الحرية بالنظام عن طريق جدله المادي بعد أن كانا طرفين متضادين في اليوتوبيات المجردة، وبهذا تحول الوجود العيني الحر إلى نظام، كما تحول هذا الوجود العيني المنظم إلى الحرية.
73
ثالثا: يوتوبيات العصر الحديث
تنوعت الأشكال اليوتوبية في العصر الحديث تنوعا هائلا، واتخذت أشكالا مختلفة تمثلت في الرؤى اليوتوبية التي ظهرت في نظريات القانون الطبيعي، وفي الأفكار الاشتراكية التي صاحبت ميلاد الحركة الاجتماعية فظهرت يوتوبيات فيدرالية وأخرى مركزية. كما ظهرت في العصر الحديث يوتوبيات عنصرية ولدت مع بداية الحركات القومية في أوروبا وتمثلت في الصهيونية العالمية التي قامت على أساس عرقي وديني. كما تبلورت النظرية الماركسية التي نظر إليها البعض - مثل بلوخ - على أنها تمثل اليوتوبيا العينية. فإلى أي مدى عبرت هذه الأشكال اليوتوبية - على اختلافها - عن أمل البشرية في حياة أفضل؟ وإلى أي مدى عبر هذا الأمل - إذا كان أملا حقيقيا - عن الممكن الواقعي والموضوعي الكامن في الواقع المادي؟ (1) اليوتوبيا والحق الطبيعي
وجد بلوخ الانعكاس الاجتماعي «للخير» المتوقع في تيارين من تيارات التراث الفكري وهما اليوتوبيات الاجتماعية التي نبعت من خيال متطلع لآفاق المستقبل ، وتغلغل في آفاق الممكن ليقيم فيها مملكته، مبتدئا من الأوضاع القائمة وثائرا عليها في كثير من الأحيان، كما وجده في القانون الطبيعي.
74 (وهو ابن عم اليوتوبيا كما سماه!) الذي يتقدم من الاستنباطات العقلية إلى شروط إمكان تحقيق الوجود الإنساني الكريم وغير المنقوص في المجتمع. وهنالك أدلة عديدة على الارتباط بين الأوضاع القانونية الطبيعية وبين الفروض التي تطرحها اليوتوبيات الاجتماعية، فكلاهما يقف من الوضع القائم موقف الاحتجاج، ويحرص على التخلص من الواقع السيئ، وكلاهما يتحدث عن إمكان الإنسان أكثر مما يتحدث عن وجوده التاريخي، لذلك تقوم اليوتوبيات الاجتماعية كما يقوم القانون الطبيعي - بالنسبة للوعي الثوري والتاريخي - بدور الأفكار المنظمة التي تقاس عليها مضامين ال «ليس-بعد» (أو المضامين الواعدة بالتحقق) الكامنة في الوضع الاجتماعي السائد. ومع ذلك فإن القانون الطبيعي، الذي يؤدي دورا هاما منذ بداية الفلسفة عند الإغريق، يحتفظ من الناحية الأيديولوجية بطابع ازدواجي، فكثيرا ما كانت العلاقات الطبقية تبدو فيه علاقات طبيعية لمجرد أنها موغلة في القدم، غير أن القانون الطبيعي يكشف كذلك عن وجه آخر عندما اتجه في عصر التنوير إلى الهجوم على الأوضاع الفاسدة بينما استغلته التوماوية الجديدة في تبرير هذه الأوضاع وتأييدها.
ما هي - إذن - علاقة القانون الطبيعي - ذي الوظيفة المزدوجة - باليوتوبيا الاجتماعية؟ الواقع أن هناك علاقة تربط الحقوق الطبيعية بالمبادئ اليوتوبية، ففي بعض العصور اتحد القانون الطبيعي مع التفكير اليوتوبي في الاحتجاج على الواقع السائد والظروف السيئة. غير أن بلوخ يميز بين اليوتوبيا والقانون الطبيعي من حيث إن اليوتوبيات تكون تقدمية بصورة لا تقبل الشك. أما القانون الطبيعي فيظل الغموض يحيط به من الناحية الأيديولوجية، بحيث كان يستخدم لتبرير نظم تقليدية تناهض التطور. ولذلك يرفض بلوخ ما يمكن تسميته بالحقوق الطبيعية الفطرية، لأن مثل هذه الحقوق هي في الواقع مكتسبة أو لا بد أن تكتسب من خلال النضال في سبيل الحرية، كما ينكر أن يكون حق الملكية من الحقوق البديهية أو الطبيعية وكأنما هو شيء يمكن استنباطه بصورة عقلية قبلية، ويرفض أن تشتق المعايير القانونية من مبدأ غائي متعال على الواقع وغير نابع منه، لأن ذلك كله يتضمن القول بطبيعة إنسانية معيارية ثابتة، وهو أمر لا يمكن تصوره إلا في إطار تفكير غير تاريخي أو متعال على التاريخ. إن العيب فيما يسمى بالحقوق والقوانين الطبيعية يكمن في أنها لم تستمد من التطور التاريخي، بل هبطت من أعلى أي من طبيعة أولية أو قبلية مزعومة وفرضت على الواقع باعتبارها مثلا عليا.
وإذا كانت هناك علاقات تربط بين القانون الطبيعي العقلاني التقليدي وبين اليوتوبيات الاجتماعية فهناك أيضا فروق، وأول فارق بينهما زمني؛ إذ كان ازدهار القانون الطبيعي الكلاسيكي العقلاني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مستندا إلى الوعد البرجوازي التقدمي، وصاغ مطالب البرجوازية الثورية بشكل قانوني متفتح، وتوافق مع ازدهار الاقتصاد السياسي ومدرسة الفيزيوقراطيين. بينما تقع فترة ازدهار اليوتوبيات الاجتماعية أو الاشتراكية في عصر الثورة الصناعية (وهي يوتوبيات فورييه، وسان سيمون وأوين) في القرن التاسع عشر.
75
والفرق الثاني منهجي، إذ ارتبط القانون الطبيعي بعصر التجريد والبناء العقلي والمنهج الاستنباطي، بينما ارتبطت اليوتوبيات الاجتماعية بعصر الأزمات الاقتصادية وبالنزعة التاريخية المضادة للبناء العقلي فرسمت صورا مستقبلية لمجتمع أفضل. وهذا يرتبط بالفرق الثالث بين نظريات القانون الطبيعي واليوتوبيات الاجتماعية وهو فرق في الأهداف أو المقاصد؛ إذ إن أصحاب القانون الطبيعي يهدفون إلى تأكيد كرامة الإنسان وحقوقه وضماناته، بينما تهدف اليوتوبيات إلى سعادته وإلغاء ما يسبب بؤسه.
76
ولكنهما يشتركان - على الرغم من الفروق السابقة - في أنهما نمطان للحلم بعالم اجتماعي أفضل، بحيث يمكن الحديث عن يوتوبيات قانونية تقوم على تجاوز الواقع، لأن جميع اليوتوبيات الاجتماعية على مدى تاريخها الطويل من أفلاطون والرواقيين وأوغسطين إلى مور وكامبانيلا وبيكون تحتوي على نظرات قانونية إلى الدولة المثلى والقانون الأمثل.
وللقانون الطبيعي كذلك تراث طويل منذ العصر اليوناني، فهناك مذهب الأبيقوريين الذي يقول بأن الدولة مدينة بوجودها لعقد مبرم بين أفراد، وإذا لم يحترم أحد المتعاقدين (والمقصود هنا الدولة) بنود العقد، يكون الشعب مجابها بحالة جديدة هي الثورة ضد من صادر حقوقه وسيادته. وأعاد ألتوسيوس (1557-1638م) هذا المذهب الأبيقوري ونهض مدافعا عن حق الشعوب، فذهب إلى أن من حق الشعب نفسه - وليس فقط ممثليه - إسقاط السلطة إذا توقفت عن العمل لصالح الشعب، فالدولة ليست إلا مندوبين عن الشعب، ولذلك فإن مقاومة الأسياد غير العادلين ليست تمردا وإنما هي حماية لحقوق الإنسان المنتهكة.
77
ومن ألتوسيوس رائد التصور الحديث للأصل الطبيعي للحق إلى المبدع الحقيقي لما يسمى بالحق الطبيعي، وهو جروسيوس (1583-1645م) مؤلف «قانون الحرب والسلام» عام 1625م، وفيه تظهر لأول مرة الفكرة الأساسية وهي فكرة حق كلي أو قانون كلي. وقد حدد جروسيوس مذهب ألتوسيوس عن العقد الاجتماعي الذي يعد أساس حق الشعوب، وهو المذهب الذي ينطلق من فكرة نقل الحقوق الفردية إلى مجتمع منظم. ويؤكد جروسيوس أن مهمة الدولة هي أن تلبي على نحو منظم متطلبات الإنسان الاجتماعية. فالحق الطبيعي يعني حقوق البشر التي اؤتمنت الدولة عليها بموجب عقد ووفق إرادة المتعاقدين لإقامة مجتمع منظم، ويصبح هذا العقد باطلا إذا لم تحترم الدولة شروطه. ولكن الشيء الجوهري في القانون أو الحق الطبيعي لم يكن هو العقد الاجتماعي، بل البناء العقلي الاستنباطي القائم على قانون عدم التناقض. ولذلك كانت الرياضة هي نموذجه الأمثل، وظل التأثير الثوري للحق الطبيعي محدودا من الناحية التاريخية، ولم يمتد إلى المستقبل الذي قامت عليه اليوتوبيات. ولهذا لا يتبقى من العقد الاجتماعي لجروسيوس - ممثل الأرستقراطية في رأي بلوخ - سوى نقطة هامة وهي أنه لا ينتمي للميدان التاريخي، بل لنبضة وهمية أفسحت المجال لعقد غير تاريخي ووهمي.
78
وربما يكون ذلك بسب افتقار نظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي إلى الحس التاريخي. (أ) نظرية العقد الاجتماعي
يبرز توماس هوبز (1588-1679م) على رأس المنظرين لفلسفة الحق أو الحق الطبيعي، والمعروف عن فلسفة هوبز أنها تقوم على مقولة أساسية عنده وهي أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأن الطبيعة الذئبية للإنسان هي حالة الطبيعة الأولى. لذلك فالعقد عنده ليس من قبيل التحالف بين الدولة والأفراد، بل هو خضوع مطلق من قبل الطرف الثاني للطرف الأول، فرضته طبيعة الإنسان الفاسدة وجعلته ضروريا. تلك هي نقطة انطلاق نظريته عن العقد الاجتماعي أو الحق الطبيعي. ويتميز هوبز عن ألتوسيوس وجروسيوس بواقعيته، فالغريزة الأساسية التي تحرك الأجسام البشرية هي الأنانية: «الإنسان ذئب للإنسان
homo homini lupus est » والمجتمع الأول ليس مدفوعا بالغريزة الاجتماعية، بل هو مقحم في «حرب الجميع»، وهذه هي النار الراقدة تحت الرماد في كل المجتمعات، و«الحالة الطبيعية» التي تهدد في كل لحظة بأن تستيقظ وتسود.
لقد أسقط هوبز صراع الطبقات الذي بدأ في عصره وأهوال المجتمع الرأسمالي الإنجليزي على مرحلة ما قبل التاريخ، أي على المجتمع البدائي فأقر بأنه مجتمع ذئاب. وتتشارك الذئاب كي تضع نفسها في مأمن من شر بعضها البعض، تاركة ذئبا واحدا فقط هو ذئب الذئاب للدفاع عن المجتمع.
79
بمعنى آخر يتنازل الشعب باختياره عن إرادته للحاكم بموجب عقد، وبمجرد إبرامه يصبح للحاكم سلطة وضع القوانين وصياغة الأحكام والحقوق والواجبات، وعلى أفراد الشعب الطاعة المطلقة، فهذا الحاكم الذي يسمى المونارك أو الملك هو فوق القانون وتلك هي أيديولوجية الحكم المطلق. فالذئب الأعلى لا يقدم حسابات، وما يقوله لا يمكن أن يوضع موضع مساءلة، لأن السلطة وليس العقل هي التي تضع القانون.
80
يوجد عند هوبز الرجعية والتقدم، أيديولوجية البرجوازية الصاعدة وسلطة الدولة التي لا ترحم ولا جدوى من مقاومتها. ما لم يجد الذئب نفسه مجابها بذئاب أقوى منه.
81
ولكن وسط هذا القهر والخضوع في دولة هوبز يوجد نوع من الديمقراطية عندما يجتمع أفراد الشعب جميعا بقصد إنشاء دولة، كما أن السلطة المطلقة للدولة التي وصفها هوبز بالتنين، تسقط الفروق بين الشعب والطبقة الاجتماعية لأن كل الناس متساوون، ولأن كل شيء في مقابل الحاكم. أضف إلى هذا أن هوبز لم يقل بملكية مطلقة للدولة ومن الممكن أن تتمثل هذه السلطة في شكل الحكم الجمهوري وليس بالضرورة في شكل حكم ملكي.
82
تتحول الطبيعة الذئبية عند هوبز إلى طبيعة خيرة واجتماعية عند جان جاك روسو (1712-1778م) فالإنسان عنده خير في الحالة الطبيعية أو حالة الفطرة، وهو لا يكتسب الشر إلا من خلال المدنية والدولة الشريرة غير العادلة التي يسودها نظام متعدد الطبقات وتنتشر فيها اللامساواة في الملكية التي ينتج عنها الأنانية الاجتماعية. والمبدأ الذي يقوم عليه الحق الطبيعي عند روسو هو الحرية الفردية (التي طمسها هوبز)، وهي حرية أناس خيرين بفطرتهم، وليست حرية الذئاب.
83
ولذلك يسخر روسو من الأمة الإنجليزية قائلا: «إن الشعب البريطاني يعتقد أنه حر، غير أن هذه الحرية لا توجد إلا في لحظة الانتخاب فقط، وعندما تنتهي هذه اللحظة يصبح عبدا بل ولا شيء على الإطلاق.»
84
ومن الضروري أن تكون الحرية هي الهدف الحقيقي للدولة. ولهذا يسأل متعجبا كيف تنشأ دولة ليس بها فرد واحد يتمتع بالحرية؟ إن الحرية التي تسلمها الدولة للفرد في لحظة الانتخاب (وهي اللحظة الوحيدة التي يكون الفرد فيها مجبرا على أن يكون حرا) تعود فتستردها مرة أخرى عندما يتنازل الفرد للدولة عن كامل حريته عند إتمام العقد.
ذهب روسو إلى العكس من هوبز عندما جعل العقد الاجتماعي - الذي أصدره عام 1762م - مجرد وسيلة لحماية هذه الحرية الفردية. بذلك تحول القانون الطبيعي لأول مرة إلى سيادة الشعب. وما يميز العقد الاجتماعي هو أن الفرد يدخل بإرادته في علاقة مباشرة مع المجتمع، بمعنى أنه لا يسلم حريته لأي نوع من التمثيل سواء كان ملكا أو أميرا أو حتى تمثيلا برلمانيا.
85
لذلك طالب روسو الفرد أن يشارك مشاركة مباشرة في أعمال الحكومة بالمساعدة في صنع القوانين، وبأن يكون حرا في انتقادها واقتراح بدائل لها. ولا يعني هذا أن تتمادى الفردية في غيها، وإنما هي بحاجة إلى الانضباط. وقد أكد العقد الاجتماعي تأكيدا شديدا على أداء الواجب إلى جانب الحقوق. فالانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة التحضر المدني تحدث تغيرا ملحوظا في الإنسان لأنها تستعيض عن «الحرية الطبيعية» المرتبطة بقوة الفرد «بالحرية الحضارية» المقيدة بالإرادة العامة، وبحرية أخلاقية جديدة تكبح جماح شهواته.
86
بحيث يمكن القول بأنه إذا استبعد من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره لتقلص إلى العبارات التالية: «يسهم كل منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإدارة العامة العليا، وفي المقابل نسترد كل عضو باعتباره جزءا لا يتجزأ من الكل.»
87
فالذات لا تغترب عن حريتها، منذ أن أصبحت جزءا متساويا من الإرادة العامة أي أن الأساس الأيديولوجي لفلسفة روسو يكمن في مبدأ الحرية الفردية وقوتها الكلية التي تتخلل الإرادة العامة للمجتمع.
88
ومذهب الإرادة العامة عند روسو لا يلغي الحقوق الطبيعية للفرد بل يتجه لتحقيق المساواة في الملكية الخاصة. ومن خلال أيديولوجيته في الملكية الخاصة لمس جوهر الشيوعية في كل اليوتوبيات الاجتماعية: «إن قوة السلطة ليس لها أي حق في المساس بملكية فرد أو جملة أفراد، ولكن لديها كل الحق شرعا في الاستيلاء على أملاك الجميع بلا استثناء.»
89
وإذا لم يكن روسو هو أول من نادى بهذا المبدأ - أي مبدأ مصادرة الملكية - إلا أن مذهبه من المذاهب القليلة في نظريات القانون الطبيعي التي نادت بهذا المبدأ الأساسي عند كل رواد النزعات اليوتوبية الاشتراكية الذين قالوا بالمساواة في الحياة الاقتصادية. ولكن قوة الحق الطبيعي الكلاسيكي لا تكمن في التمرد الاقتصادي وحده؛ إذ إنها امتدت أيضا إلى المجال السياسي وأقامت ما يسمى بالحقوق الأساسية للفرد وهي: الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة الظلم. وقد كانت هذه الحقوق - التي تمثل البناء الفوقي القانوني - كانت هي المبادئ الأساسية للبرجوازية المتأخرة.
90
والآن ما حقيقة العلاقة بين الحق الطبيعي - بما ينشده من عدل وتأكيد للكرامة الإنسانية - واليوتوبيات الاجتماعية - بما تنشده من سعادة البشرية؟ لقد اتضح في بداية الحديث عن القانون الطبيعي أوجه الاختلاف والاتفاق بينه وبين اليوتوبيات الاجتماعية. فهل اجتمعا لخلق مجتمع أفضل يسوده الحق والعدل وتعمه السعادة والمساواة؟ أم سار كل منهما في طريق مواز للآخر؛ مما جعل من الصعب أن يلتقيا في أي مرحلة تاريخية؟ وأيهما كان أكثر من غيره تأثيرا في المجتمع؟ يمكن القول إنه في مرحلة الصراع البرجوازي كاد الحق الطبيعي أن يسيطر سيطرة كاملة، بل وجاء معبرا عن آمال الطبقة البرجوازية حتى بدا أنه من الممكن أن يحل محل اليوتوبيات الاجتماعية. ولا بد من الإشارة إلى أن الفترة التاريخية التي ازدهر فيها الحق الطبيعي كانت الطبيعة هي المرشد الموجه لكل الاتجاهات الفكرية في المجتمع، فازدهر الدين الطبيعي والعلم الطبيعي والمنهج الرياضي ممثلا في ديكارت وليبنتز.
وقد كان لسيطرة الحق الطبيعي تأثيرها على مواد ونصوص الحقوق الدولية، فاستعان المشرعون للقانون الدولي بنظريات جروسيوس وغيره، كما استعانت الثورة الفرنسية بنظرية العقد الاجتماعي لروسو وبخاصة المادة التي تنص على أن القانون يعبر عن الإرادة العامة. كذلك استعان القانون البروسي بنظريات القانون الطبيعي، في حين لم يكن لليوتوبيات الاجتماعية تأثير يذكر في المجتمع، لا سيما في القرن الثامن عشر الذي لم تظهر فيه أي يوتوبيات أصيلة، فمنذ توماس مور وكامبانيلا في القرن السابع عشر لم تظهر يوتوبيات حقيقية إلا في القرن التاسع عشر مع أوين وفورييه وسان سيمون.
91
وعلى الرغم من سيطرة نظريات القانون الطبيعي في القرن الثامن عشر وغياب اليوتوبيا بالمعنى الحقيقي، إلا أن الحق الطبيعي كان له صدى يوتوبي في كل العصور، كما أن الحق الطبيعي ليس إلا يوتوبيا قانونية، فنظم اليوتوبيات الاجتماعية التي تنشد تحقيق السعادة للإنسان لا تريد جنة لحيوانات غير مسئولة، كما أن مذاهب القانون الطبيعي التي تنشد الكرامة الإنسانية لا تقف في وجه الحياة الخيرة، وكلاهما يؤمن بأن الوجود الحاضر يجب دفعه للأمام لكي يتحرر من كل الظروف التي تعوق فتح الطريق لحياة أفضل. واليوتوبيات بتاريخها الطويل لا تخلو من القانون الطبيعي، بدليل أن الرواقية قد طورت يوتوبياها عن الدولة العالمية من خلال القانون الطبيعي، ولم تخل أية يوتوبيا - من الرواقية وجروسيوس حتى سان سيمون وأتباعه ومعاصريه الذين كانوا رغم عدم تعاصرهم رواقيين بهذا المعنى، بمعنى إيمانهم بالحقوق الطبيعية - من لمحات عن الحق الطبيعي. كما ارتبطت نظريات القانون الطبيعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر باليوتوبيات الاجتماعية عن طريق القاسم المشترك بينهما وهو القصد الطيب الذي وجههما معا ودفع بهما إلى التطور انطلاقا من الطبيعة البشرية والظروف السيئة التي تعيشها. وهذا القصد الطيب يفهم بمعنى سلبي: ففي الحالتين نجد إهمالا للظروف السيئة في العالم الواقعي، وفي الحالتين يوجد تطور هادئ يبدأ من الطبيعة البشرية ويخدم هذه الطبيعة، واتجاه بطيء نحو هدف إنساني بوسائل تفضل الوسائل التي استخدمت من قبل. ولكن هناك أيضا معنى إيجابي يجب أن يفهم من خلاله هذا القصد الطيب، وهو أنه يوجد في الحالتين كيان سياسي يشكل تشكيلا جديدا على ضوء مفهوم الغاية والهدف، فالنظرية اليوتوبية عند توماس مور تقوم على أساس الفكرة الرئيسية في القانون الطبيعي وهي الحرية الطبيعية للفرد، بينما يقوم القانون الطبيعي عند جروسيوس على أساس الليبرالية اليوتوبية (تحرير المصالح الفردية)، كذلك هناك نوع من الارتباط بين يوتوبيا كامبانيلا ذات النظام الصارم وبين نسق القانون الطبيعي ذي النزعة المطلقة عند هوبز. وفي مشروع كانط عن السلام الدائم نجد أن أحد موضوعات القانون الطبيعي - وهي فكرة القانون الدولي والدولة العالمية التي تترتب عليه - نجد أن هذا الموضوع يتحول إلى المستقبل كما يرتبط ارتباطا وثيقا حسب لغة كانط بالحلم اليوتوبي بنظام عالمي.
92
إن اليوتوبيات السابقة تحلم باقتصاد يرضي حاجات الشعوب ويعبر عن نزعة شيوعية تنشد السعادة. ولكن البناء العقلي لنظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي القائم على العلاقات والاستنباطات الرياضية كان سببا في بعض الضربات التي وجهت إليه، فكان نقد كانط للعقل بمثابة الضربة الأولى لهذا البناء، ثم جاء الجدل الهيجلي ليوجه الضربة الثانية. وأخيرا جاء ماركس ليستبعد العلاقات الزائفة القائمة على الاستنتاج العقلي الرياضي التي عاقت هذا التراث عن التعامل مع الواقع.
93
ومع ازدهار اليوتوبيات الاشتراكية في القرن التاسع عشر نظر الماركسيون باستياء شديد إلى نظريات القانون الطبيعي واعتبروه مجردا ولا يعبر إلا عن الطبقة البرجوازية التي نشأ في ظلها. وربما يعود ذلك إلى الطبيعة المزدوجة التي تميز بها هذا التراث، ولذلك لم يقدره بعض الماركسيين حق قدره، ولم ينظروا للجانب الثوري فيه.
94
ولكن الماركسية لا تستطيع أن تستبعده أو تتجاهله بسبب ما فيه من جوانب إنسانية لا تستغني عنها المجتمعات الاشتراكية، ولا بد من التمييز الدقيق لمضمون هذا التراث وتأكيد الجانب الإنساني فيه. كما أن القانون الدولي في أمس الحاجة إلى قوانين ومعايير موضوعية تنظم حقوق الإنسان وأسس السلام العالمي، الأمر الذي يحتم الرجوع لأصحاب القانون الطبيعي للاسترشاد بآرائهم.
إن من واجب الماركسية - كما يقول بلوخ - أن تفهم الماضي أكثر مما فهم نفسه،
95
لأن استبعادها لنظريات القانون الطبيعي لم يجعلها تدرك تداخل هذا التراث الكلاسيكي مع اليوتوبيات الاجتماعية وأن كليها مهد للإنسانية الماركسية. ويمكن القول إن النزعة الماركسية هي التي ربطت بينهما بعد أن كانا منفصلين، وارتفعت بهما معا من الناحية العملية؛ إذ لا كرامة للإنسان بدون القضاء على الحاجة والحرمان، ولا سعادة بغير القضاء على أشكال العبودية القديمة والحديثة.
96
ومن الطبيعي ألا ينظر بلوخ لميراث القانون الطبيعي نظرة تقليدية، وأن يدرك سبب إخفاق التراث الماركسي الذي يتلخص في غياب فكرة القانون وقضية الحقوق الإنسانية من جدول أعمال الثورات الاشتراكية. لقد وضع كتابه مع بدايات إخفاق هذه الثورات، وتبين الظلم الواقع على الإنسان فكرس جهده للتغلب عليه بحثا عما هو حق، وما هو عدل. وواجب كل ثورة اشتراكية أن تدرك بوعي ما تتضمنه من أمل ومن حقوق طبيعية وكرامة إنسانية.
إن على الماركسية التي تسعى لتحقيق مجتمع خال من الطبقات أن تعي أن مثل هذا المجتمع لا بد أن يكون له قصد حقيقي للقانون الطبيعي الذي هو بمثابة القوة التي تقاوم تعسف الدولة، فيصبح هذا القانون هو أساس مملكة الحرية، ولا بد لها أن تنظر لمذاهب القانون الطبيعي نظرة إيجابية وتعيد صياغة هذا التراث للتغلب على وظيفته الثنائية. وإذا كانت الماركسية تهتم بنقد الواقع القائم، فيجب ألا يغيب عنها أن الحق هو الذي يقاوم الاستغلال والإهانات الواقعة على الكرامة الإنسانية. إن العدل الحقيقي هو محط آمال البشر المستضعفين الذين تصوروا أن المخلص سيأتيهم من الخارج، وظلوا ينتظرون مملكة الله العادلة التي لم تتحقق في الواقع الفعلي بل في آخر الزمان،
97
لذلك كانت مهمة بلوخ البحث عما هو اشتراكي في ميراث الحق الطبيعي، وكانت نظرته أقرب إلى الواقع العيني بما فيه من ظلم وجد رموزه في التناقضات الاجتماعية والمعاناة والاغتراب. وكان هذا أمرا ضروريا وطبيعيا بالنسبة لمفكر يسعى لتخليص المجتمع من الانحلال والاستغلال والعبودية وتحقيق مجتمع متكامل غير مغترب.
وإذا كانت الماركسية تتحدث عن تطبيع الإنسان فهي تتحدث أيضا عن أنسنة الطبيعة، وفي هذا ثقة وإيمان بكمال الطبيعة، ولكنها ليست هي الطبيعة الحيوانية ولا قوانين الطبيعة الرياضية كما بدت في نظريات القانون الطبيعي التي استبعدتها، بل تلك الطبيعة التي تكون في حالة صيرورة متجددة بحيث يمكن أن تكون طبيعة يوتوبية.
98
وإذا كان هوبز قد عرف هذه الطبيعة بأنها مجبولة على الشر، ووصفها روسو بأنها خيرة بالفطرة، فإن ماركس لم يؤمن بجوهر ثابت للإنسان، وليس لدية «السكونية» التي يقوم عليها القانون الطبيعي، فالواقع الفعلي ومسار التاريخ دليلان كافيان على تحولات الطبيعة البشرية، والإنسان طبقا لتعريفه التاريخي والأخلاقي هو نتاج العلاقات الاجتماعية.
99
خلاصة هذا أن كلا من اليوتوبيات الاجتماعية ونظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي جزء من خلفية التراث الثوري الاشتراكي، وأن كليهما يتضمن بالضرورة القدرة على توقع شيء ما أفضل من ذلك الذي أصبح بالفعل، لأن كليهما ينتمي إلى مملكة الأمل الإنساني. (2) اليوتوبيا الفيدرالية
تعددت أقسام المعرفة في القرن التاسع عشر واتجهت اتجاهات شتى: «إن من سمات الحياة الحديثة أنها أخرجت من داخلها تيارات من الفكر متنوعة تنوعا هائلا، ومتعارضة أشد التعارض، ولذلك لا نستطيع أن ننظر للقرن التاسع عشر ككل أو كوحدة واحدة، بل علينا أن نجزئه إلى عدد من أساليب الفكر أو عوالم الفكر.»
100
وبطبيعة الحال كان لا بد أن ينعكس هذا على التفكير اليوتوبي حيث تنوعت الأشكال اليوتوبية، فنشأت يوتوبيات تبحث عن السعادة والمتع الحسية، وأخرى تصور مجتمعات شيوعية مثالية وإنسانية اختفت منها الملكية الفردية، إلى جانب يوتوبيات تندفع إلى المستقبل في تفاؤل شديد، متأثرة بأفكار فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر ومصلحيه الكبار الذين رسم بعضهم مشروعات نظرية وحضارية تدور حول فكرة التقدم الحتمي في الفنون والعلوم والأخلاق ونظم الاجتماع وإمكان تشكيل الطبيعة البشرية والوصول بها إلى الكمال عن طريق التربية المعرفية الأخلاقية والجمالية.
101
وقد تبلورت هذه الأفكار المستقبلية وأخرجت التفكير اليوتوبي من سكونيته ولاتاريخيته السابقة.
وجاءت يوتوبيات القرن التاسع عشر مفعمة بالحركة والتفاؤل بالمستقبل بعد أن صبت أفكارها بصورة غير مباشرة في الثورتين الكبيرتين في أواخر القرن الثامن عشر، وهما ثورة الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية. وحملت هذه الأفكار اليوتوبية أصداء أزمات العصر وطموحاته، وارتبط تاريخ اليوتوبيا بميلاد الحركة الاجتماعية التي ازدهرت وانتشرت في القرن التاسع عشر، بحيث يصعب التمييز بين الأعمال التي تخص الفكر اليوتوبي والأخرى التي تعالج المشاكل الاجتماعية التي نشأت في تلك الفترة، إذ فقدت الكلمة - أي اليوتوبيا - معناها الأصلي في تلك الحقبة الزمنية بسبب إساءة استخدام أنصار الماركسية لها إلى الحد الذي جعلهم يتهمون بها خصومهم في الفكر.
102
لقد اتهموا كتاب اليوتوبيا بإهمال الدور الريادي لطبقة البروليتاريا التي أنتجها التطور التاريخي، وعدم فهمهم للمذهب الاشتراكي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد بلوغ الرأسمالية درجة معينة من التطور، واستبعادهم للثورة التي بإمكانها وحدها السيطرة على الأوضاع الاقتصادية ووسائل الإنتاج وإلغاء الطبقات، بحكم أن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على إنجاز هذه الثورة. وكانت أكبر تهمة وجهوها إلى كتاب اليوتوبيا أنهم تصوروا أن المجتمع الجديد يمكن أن يوجد في أي مكان أو زمان، وأنه لا علاقة بين تطور النزعة الرأسمالية وإمكانية تحقيق مجتمع جديد، وإن الدولة يمكنها السيطرة على وسائل الإنتاج والأوضاع الاقتصادية بالطرق السلمية والإصلاح الاجتماعي.
103
أثر آباء النزعة الاجتماعية تأثيرا كبيرا على كتاب اليوتوبيا في القرن التاسع عشر، ولم يقتصر هذا التأثير على كتاباتهم النظرية فقط، بل شمل المشروعات الاجتماعية الإصلاحية التي تصوروها لشكل المجتمع اليوتوبي - سواء كانت خططا اجتماعية أو قرى تعاونية - والتي أوحت بأشكال عديدة من اليوتوبيات التي كتبت بعد ذلك. وعلى الرغم من الثورة الصناعية التي فتحت مجالات جديدة وبدت للكثيرين وكأنها قدمت الحل الحاسم لمشكلات الفقر وعدم المساواة، إلا أن الفقر في الدول المتقدمة اقتصاديا كان أكثر بشاعة مما في غيرها. فقد وصل عدد ساعات العمل إلى ما يتجاوز الثمانية عشر ساعة في اليوم، وازداد الأغنياء غنى، بينما ازداد الفقراء فقرا. وظهرت مجموعة من المفكرين والكتاب الاشتراكيين كانت مهمتهم التركيز على تحقيق اليوتوبيا أكثر من التركيز على الشكل المحدد للمجتمع اليوتوبي أمثال أوين وفورييه وسان سيمون وأتباعه.
ويأتي اسم روبرت أوين
Owen (1771-1859م) على رأس أصحاب اليوتوبيات الفيدرالية التي لم تقر بالحكومة المركزية. ولم يوجه أوين اهتماما كبيرا للصناعة، بل وضع نظاما جديدا للإنتاج على أساس التنظيمات التعاونية؛ فاهتم بالتجمعات الزراعية المستقلة التي لا يزيد عدد سكانها عن الثلاثة آلاف، وعليها أن تحقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء عن طريق تقسيم البضائع المنتجة على أعضاء الجماعة بالتساوي. أما عن الحكم فيتم من قبل إدارة مستقلة، ويدير الشئون الداخلية مجلس عام يتكون من كل أعضاء الجماعة الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والأربعين عاما، ويحكمون وفق قوانين الطبيعة البشرية، بينما يحكم الشئون الخارجية مجلس عام آخر يتكون أعضاؤه ممن تتراوح أعمارهم ما بين الأربعين والستين عاما، وعندما يبلغ العالم حد الاكتفاء من الغذاء الزراعي تصبح الحكومات غير ضرورية وتختفي.
104
ويؤمن أوين بأن التربية هي إحدى الطرق الموصلة إلى الهدف، ولذلك نراه يقدم نظاما في التعليم - كان له تأثيره على كتاب اليوتوبيا فيما بعد - يؤكد فيه إمكانية تعديل الطبيعة البشرية لدى الأطفال عن طريق التوجيه الرشيد إلى حب الغير، والتربية العاقلة للفكر، والسلوك المستقيم. وقد وضع في ذلك كتابه «النظرة الجديدة إلى العالم - أو مقالات عن مبدأ تشكيل الطبع الإنساني وتطبيقه في الواقع العملي» عام 1816م. وكذلك قدم كتاب «العالم الأخلاقي الجديد» عام 1836م ووضع أوين أساس نزعة شيوعية تدعو لحب الجنس البشري، وتنظر إلى الملكية الخاصة والزواج والدين الوضعي باعتبارها ثلاثية الشر التي تخلق التعاسة البشرية. ودعا إلى قيام مجتمع خال من البطالة والفقر والجريمة والعقاب، وأوصى بإصلاح المجتمع بالتسوية السلمية وبدون صراع أو إضراب، كما ناشد رجال الصناعة التخلي عن النزعة الرأسمالية، وإن لم يدع إلى تدمير الآلة بل شجع أعضاء الجماعة على الميكنة المنزلية. والمهم أن حلمه اليوتوبي المفعم بالأماني لم يتطلع لإقامة مجتمع صناعي كبير، بل إلى مجتمعات فيدرالية صغيرة.
105
إذا كانت يوتوبيا أوين تقوم على تفكير غير تاريخي فإنه يختلف عن فيدرالي آخر هو شارل فورييه
Fourier (1772-1837م) الذي أقام نقده للواقع القائم على أساس تاريخي، ورأى أن تقديم نموذج حي وناجح لمجتمع يوتوبي هو السبيل لإقناع الجنس البشري بتبني مثل هذا النموذج. فكان بذلك رائد الحركة التعاونية وتكوين اقتصاد جديد مجرد من الأنانية، وأقام مدينته الفاضلة على تقسيم الدولة إلى مناطق أو معسكرات تعاونية أطلق على كل منها اسم الفالنستير
.
106
وفيها يتحرر الفرد من كل المعوقات ويطلق العنان لغرائزه وأهوائه ورغباته دون اعتبار لقيود أخلاقية. وينتقل من متعة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر في حرية تامة وفقا لميوله. وقد أقام فورييه آراءه في الإصلاح على أساس نقده للمدينة والمجتمع المتحضر، فكان عمله الأول «نظرية الحركات الأربع» عام 1808م - تعبيرا عن نزعة نقدية للحياة المعاصرة. وكذلك كتابه «التجمع الأهلي الزراعي» عام 1822م وفي كتاب «العالم الصناعي الجديد» الذي وضعه عام 1829م وصف الحياة الحضارية بأنها حالة البربرية المتوحشة التي أوجدت الرذيلة وأنتجت الفساد والانحلال في كل مكان وزمان، وأنه عندما تتخطى المجتمعات البشرية هذه الحالة البربرية سيحل التناغم والانسجام وتتحقق مدينة السعادة.
107
وتختلف آراء فورييه الفيدرالية عن آراء الاشتراكية الماركسية للقرن التاسع عشر، فهو لا يؤمن بأن الثورة والعنف هما السبيل لتحقيق مجتمع أفضل، ويفضل طريق التغيير والإصلاح الاجتماعي السلمي. هذا بالإضافة إلى أن مشروعه اليوتوبي يقوم على أساس الإقرار بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والعمل على زيادة الإنتاج لرفع مستوى المعيشة، والسماح بتكوين ثروات صغيرة لا تهدف إلى استغلال الآخرين ولكن لمنع ذوبان الفرد في الجماعة، وإقامة التوازن في كل «فلنستر»، وهو يسمح كذلك بتقسيم الأرباح بين المساهمين - وهم مجموعات رأسمالية صغيرة - ويبقي على حافز الربح للتشجيع على المزيد من الإنتاج وإشباع غريزة الطموح عند الإنسان؛ مما يؤكد في النهاية أن حلم فورييه المفعم بالأماني هو التخطيط لمجتمعات تعاونية صناعية صغيرة.
وتحول الحلم اليوتوبي الفردي الفيدرالي عند أوين وفورييه إلى حلم يوتوبي مركزي عند كابيه وسان سيمون، فلم تعد الجماعات الصغيرة أو الكوميونات هي الهدف، بل اتجه كل منهما إلى تكوين تنظيمات اقتصادية كبيرة. ولم تعد الحرية فردية ذات شكل اقتصادي بل تحولت إلى حرية اجتماعية موجهة إلى غايات عامة، بمعنى تحقيق نظام ينكر النزعة الذاتية السابقة ويحولها إلى نزعة جماعية صناعية يسميها بلوخ باليوتوبيا المركزية.
108
ويمثل كابيه
Cabet (1788-1856م) هذا النظام الاتحادي، وتقوم يوتوبياه على النظام الصارم الذي عرضه في كتابه الذائع الصيت «رحلة إلى إيكاريا» عام 1839م، وتداولته الطبقة العاملة. وقد باشر كابيه بنفسه تأسيس مجتمعه اليوتوبي في ولاية تكساس الأمريكية، ولكنه اضطر للعودة إلى باريس عام 1853م فأصاب مجتمعه اليوتوبي الوهن بعد رحيله بسبب الصراعات الداخلية، وعندما عاد إلى أمريكا ثانية لم يستطع أن يعيد لمجتمعه عهده الأول فمرض ومات، وظل مجتمعه قائما بضعة عقود حتى عام 1898م.
109
يقوم مجتمع إيكاريا على المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. أما نظام الحكم فهو جمهوري يعبر فيه الشعب عن نفسه من خلال مجالس قومية ونيابية. والشعب الذي يملك حق التصويت، له السلطة العليا في منظمة سياسية قائمة على جمهورية ديمقراطية. ويقوم هذا المجتمع أيضا على النظام العشري، فالدولة مقسمة إلى مائة ولاية، مقسمة إلى عشر كميونات. وإيكاريا هي مركز هذه الولايات والكميونات. وتعتمد إيكاريا الموحدة على الصناعة المنظمة التي تصنع عالم المستقبل، فالإبداع الصناعي بها على مستوى عال من التقنية بفضل عمال مهرة ومهندسين يعملون سبع ساعات كل يوم من خلال خطة اقتصادية اشتراكية.
110
ويعبر سان سيمون (1670-1825م) أيضا عن يوتوبيا مركزية مناوئة للنزعة الذاتية الاقتصادية التي تتلخص في المبدأ الليبرالي «دعه يعمل، دعه يمر.» وإذا كان أوين وفورييه قد أقاما يوتوبياهما على أساس تجمعات تعاونية زراعية صغيرة، فإن كابيه وسان سيمون قد أقاماها على تنظيمات صناعية كبيرة. فقد كان سان سيمون «يعتقد أن كل مجتمع سوف يصبح مصنعا كبيرا أو خلية واسعة للإنتاج. وحكومة هذا المجتمع يجب أن يتولاها بالضرورة رجال أكفاء هم رجال الصناعة، بمعنى أنه يجب أن تحل حكومة تقوم على أساس اقتصادي محل الحكومات السياسية.»
111
فالغاية الوحيدة ليوتوبيا سان سيمون هي إقامة مجتمع صناعي كبير شعاره أن كل إنسان يجب أن يعمل، وعلى قمته رجال الصناعة، حتى إنه طالب بسحب السلطة السياسية من أيدي رجال الدين وإيداعها في أيدي رجال الصناعة، «كان هدف سان سيمون أن يجعل من السياسة علما وضعيا، فالسياسة في نظره هي «علم الإنتاج» والصناعة بالنسبة إليه هي حجر الزاوية في سعادة الإنسانية، فهو يرى في العمل الوسيلة الوحيدة للتحرر والاستقلال الذاتي.»
112
وينظر سان سيمون بعطف متزايد نحو الطبقة العاملة، ويحس بحالة البؤس التي يعانيها العمال، ويرى في إلغاء الامتيازات الوسيلة الوحيدة لعلاج هذه الحالة. ويتحقق إلغاء الامتيازات - في نظره - عن طريق تنمية الإنتاج المادي وتثقيف الطبقة العاملة بطريقة مثمرة.
113
ويقتصر دور الحكومة في المجتمع الذي ينشده سان سيمون على أمن الإنتاج وحريته، ويتكون مجتمعه اليوتوبي من رجال الصناعة والعلماء والفنانين، وفيما عدا هذه الفئات الثلاث لا يوجد إلا الطفيليون والمتسلطون. وتمثل هذه الفئات الثلاث المثل الأعلى لنظام الحكم في برلمان مؤلف من ثلاثة مجالس: مجلس الاختراع ويتكون من الفنانين، ومجلس الفحص من العلماء، ومجلس التنفيذ من رجال الصناعة.
وقد استمد سان سيمون اقتناعه بنظريته من مظاهر التاريخ نفسه ومن خلال الوعي التاريخي، فقد مر التاريخ - في رأيه - بثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية التي تم فيها خلق الآلهة للعالم، والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على القوى الطبيعية أو الأفكار المجردة، ثم المرحلة الوضعية التي تأتي من تحليل الوقائع، وهذه هي مرحلة المجتمع الصناعي الحديث. والدولة الصناعية المنظمة هي الكاهن الاجتماعي الأسمى، أو هي نوع من البابوية الصناعية التي ستكون على رأس هذه الدولة.
114
التي يتحقق فيها التناغم والانسجام بلا عنف ولا ثورات ولا لجوء إلى استخدام القوة. (3) الصهيونية ويوتوبيا الأرض الجديدة-القديمة
بدأت الحركات القومية في أوروبا مع بدايات القرن التاسع عشر؛ مما ترتب عليه ظهور المشكلة اليهودية، فلم يستطع الشعب اليهودي - في الشتات - الذوبان في المجتمعات التي استوطنها، بل ظل مغلقا على نفسه محتفظا بهويته. ولم يكن حلم استعادة مملكة داود قد مات، بل بقي المتزمتون من اليهود لمدة ألفي عام يختمون صلواتهم بعبارة: العام القادم في أورشليم. وظلوا يحترقون شوقا لذكرى الأرض والسعادة التي فقدت، سواء في فلسطين أو في إسبانيا بعد طرد اليهود منها، فالحنين إلى الماضي كان دائما صفة مميزة للشعب اليهودي. وجاء موسى هيس (1812-1875م) في وقت كانت فيه الحركة القومية تحتل مركز الصدارة في أوروبا، وأصبح على اقتناع كامل بأن عالم المستقبل يجب أن ينظم على أساس الثقافات القومية، وقد حاول في كتابه «روما والقدس» عام 1862م إثبات أن الاتجاه الداعي إلى ذوبان اليهود في المجتمعات الأوروبية لا يشكل حلا عمليا بالنسبة للمسألة اليهودية، لأن اليهود المقيمين وسط الأمم الأخرى لا يمكن أن يلتحموا عضويا بهذه المجتمعات.
115
كان الجنس أو العرق عند هيس هو القوة المشكلة للتاريخ، وكان أول من رسم حدود الحلم الصهيوني قبل مؤسس الحركة تيودور هرتزل.
وعلى الرغم من دوافع هيس الاشتراكية إلا أنه لا ينظر للاقتصاد باعتباره المحرك الأول للتاريخ، بل جعل العرقية هي أساس نزعته الاشتراكية، ودعا أبناء شعبه إلى إقامة المستعمرات في الأرض المقدسة، وأن يزرعوها كما فعلوا منذ ألفي عام خلت: «إن البذور المختزنة في داخلكم، شأنها شأن بذور القمح التي كانت توضع بجانب المومياوات المصرية، قد ظلت هاجعة لآلاف السنين ومع ذلك لم تفقد قدرتها على التكاثر، إن البعث القومي وحده هو الذي ستستمد منه العبقرية الدينية لليهود قوة جديدة وتفعم من جديد بالروح المقدسة للأنبياء، وذلك مثل العملاق الذي تلمس قدماه الأرض التي ولد فيها فتبعث فيه القوة.»
116
أصبحت النزعة الاشتراكية بالنسبة لهيس هي انتصار الرسالة اليهودية في روح الأنبياء، ومن أجل هذا الهدف وضع خطة اشتراكية عالمية تتحول إلى فعل في فلسطين، وهي المكان الذي يمكن أن ينشأ فيه اليهود مرة أخرى.
117
ورسم هيس حلما مفعما بالأماني ليوتوبيا صهيونية اشتراكية ترتكز منذ البداية على ما أورده الأنبياء في الكتاب المقدس، «وبهذا وصلت العنصرية الإسرائيلية إلى ذروتها بالجمع بين العنصرية الجنسية أو العرقية والعنصرية الدينية.»
118
لكن اليهود الغربيين كان أغلبهم من الطبقة البرجوازية ولم يكن بينهم عدد كبير من العمال؛ لذلك لم تحقق هذه الأحلام الصهيونية تأثيرا كبيرا إلا في الطبقة الوسطى الدنيا التي ليس لها مراكز اجتماعية في مجتمعاتها.
وجاء هرتزل (1860-1904م) الذي وضع البرنامج الصهيوني الأكثر تأثيرا لاستقطاب الطبقة البرجوازية اليهودية، ومواجهة أزمة الطبقة الوسطى، والوقوف في وجه موجة العداء للسامية التي بدأت تظهر وتزداد حدتها في أوروبا في ذلك الحين. وأصبح هذا البرنامج الصهيوني بالفعل مقبولا من البرجوازية الليبرالية اليهودية.
119
ورأى هرتزل أن المسألة اليهودية ليست مسألة اجتماعية أو دينية بل مسألة قومية، وأن المخرج الوحيد لمشاكل اليهود ومعاناتهم لا يمكن أن يكون إلا عبر توكيد اليهود على قوميتهم وسعيهم لإقامة دولتهم.
120
ولم تكن القدس في بداية الأمر هي الصوت الذهبي ليوتوبيا هرتزل للبحث عن أرض المستقبل، فقد تأرجحت هذه الأرض بين الأرجنتين وفلسطين، وكان حلمه اليوتوبي هو تشكيل دولة رأسمالية ديمقراطية بمساعدة إنجلترا وألمانيا. وظهرت فكرة «الدولة اليهودية» عام 1896م وهي دولة رأسمالية تعاونية لإصلاح الأرض التي ستصبح ملكية عامة، وتبلور الحلم لجعل الحكاية الخرافية حقيقة على الأرض إذا أراد لها اليهود ذلك. وظهرت الرواية اليوتوبية «أرض قديمة جديدة» عام 1900م لتصور أرض التقدم البرجوازي يوتوبيا ليست في المستقبل البعيد، بل تقرر لها أن تكون ابتداء من عام 1920م في الدولة اليهودية التي تقوم على التعاونيات الزراعية. وتمركزت يوتوبيا هرتزل وتمحورت حول الشيء الوحيد الذي لا تمتلكه وهو الأرض.
121
وحام الحلم اليوتوبي حول فلسطين: «إن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام.» كانت هذه العبارة هي الهدف الذي أعلنه هرتزل في أول مؤتمر صهيوني في مدينة بال عام 1897م.
اختلفت يوتوبيا هرتزل عنها عند موسى هيس، فهذا الأخير ربط يوتوبياه الاشتراكية بحركة العمل الدولية، وربط رسالته الاشتراكية بتراث أنبياء اليهود، وجعل محور عمله في فلسطين. ولكن هرتزل حول هذا الحلم إلى آخر برجوازي، وأخذ الحلم ينمو ويزدهر بمساعدة بعض المفكرين الإنجليز الذين أثاروا المشاعر اليهودية القبلية، كما أثاروا تعاطف الإمبريالية الألمانية - في ذلك الوقت - مع الحركة الصهيونية. والحقيقة أن هذا الاهتمام بالنزعة الصهيونية كان جزءا من السياسة الإمبريالية الغربية، فقد كانت إنجلترا تريد تأمين الطريق البري للهند، واقترح بعض الكتاب السياسيين - مثل هو لنجروت - إقامة دولة يهودية في تلك البقعة. كما كانت السلطات الألمانية تريد تأمين مصالحها في الشرق بمساعدة تركيا رجل أوروبا المريض - كما أطلق عليها في ذلك الحين - فبحثت الأمر مع هرتزل عام 1898م بشأن إقامة دولة تحت الحماية الألمانية والسلطة التركية. ولكن هذا المشروع فشل بسبب انسحاب ألمانيا من اللعبة. وحانت لحظة اقتراب الحلم من التحقق في إعلان وعد بلفور عام 1917م الذي وعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين التي كانت حتى هذا الإعلان دولة عربية تحت الحماية البريطانية. ووجدت الإمبريالية البريطانية أن أجزاء من برنامج هرتزل الصهيوني تناسب السياسة البريطانية فأعلنت تحت قناع إنسانية مزيفة إقامة مأوى لما تبقى من ضحايا النازية والفاشية، على ألا يزيد عدد السكان اليهود عن ثلث السكان العرب في ذلك الحين. وهكذا بدأت دولة هرتزل الصهيونية بأعداد محدودة، وتشكلت كميونات زراعية على غرار تلك التي رسمها أوين وكابيه في أمريكا الشمالية.
وبدأت المأساة على أرض فلسطين، وليس من الغريب أن نجد بلوخ - وهو الذي ينحدر من أصل يهودي - وقد تغلبت عليه نزعته الاشتراكية الإنسانية فيصف الصهيونية بأنها نزعة عنصرية قائمة على الوعي الزائف، ويقر بأن دولة إسرائيل التي قامت للهروب من الفاشية أصبحت هي نفسها دولة فاشية، هذا من جانب، ومن جانب آخر أصبحت إسرائيل قلب النزعة الإمبريالية الأمريكية في الشرق.
122
يضاف إلى هذا أنه ينظر للمشكلة اليهودية من وجهة النظر الماركسية التي عبر عنها ماركس في كتابه «المسألة اليهودية» الذي أكد فيه أن استمرار الشعب اليهودي ليس لصفات ذاتية عرقية أو جنسية أو لأنه شعب الله المختار على حد زعمه، لأن استمراره في البقاء لم يكن برغم التاريخ بل في التاريخ وبفضله. إن البحث في المسألة اليهودية يجب أن يكون بالبحث في الظروف المادية التي أحاطت بهذه المسألة عبر التاريخ، وبذلك وضع ماركس القضية في إطار يتجاوز الأطر البرجوازية إلى رحاب الثورة العالمية البروليتارية.
123
معنى هذا - في رأي بلوخ أيضا - أنه ليس هناك حل منعزل للمشكلة اليهودية بدون حل شامل للمشكلة الاجتماعية-الاقتصادية. وإن الفترات التي تزايدت فيها كراهية البشرية للجنس اليهودي - حتى قبل فترة الاضطهاد النازي - إنما تعود إلى أسباب اجتماعية واقتصادية منذ البداية. ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها هذه الأسباب إلى ثلاث مراحل مختلفة، في العصور القديمة كانت غطرسة اليهود وتكبرهم على الأمم الأخرى وانغلاقهم على أنفسهم بدعوى أنهم شعب الله المختار سببا في إثارة مشاعر الكراهية في نفوس الشعوب الأخرى. وفي العصور الوسطى تعود الكراهية إلى أسباب دينية وهي خيانة يهوذا للمسيح التي أثارت حنق الشعوب المسيحية ورغبتها في الانتقام. أما في العصر الحديث فقد كان للصهيونية والنظرية العرقية أثر كبير في إثارة العداء للسامية، فاجتمعت الأسباب المحرضة ضد اليهود. ويرى بلوخ أن هذه الأسباب كانت مبررة لأن اقتصار الكتاب المقدس على الشعب اليهودي - الذي يشعر بالفخر لهذا بل وما زال مخدوعا بهذا الوهم - دون سائر شعوب الجنس البشرى حادثة غير مسبوقة في التاريخ.
124
والحقيقة أن الأسباب التي ذكرها بلوخ ونتج عنها العداء للسامية في العصر الحديث تكتمل بالتفسيرات الأخرى لحقيقة هذا العداء، وأن الصراع الذي تميز بالدموية والوحشية في مطلع هذه العصور، كان بعيدا تماما عن أن يكون صراعا بين مجموعتين أو قوميتين أو دينين كما قد يبدو في الظاهر، لقد كان في واقع الأمر بين طبقتين، إذ كانت البرجوازية القومية الناشئة في بلدان أوروبا تصارع بضراوة ضد الاحتكار اليهودي التاريخي للتجارة. وكانت البرجوازية التجارية اليهودية هي الحاجز الرئيسي في طريقها، وكان هدم التسلط اليهودي هو شرط نموها واستيلائها على السوق. وقد كانت الطبقات الدنيا هي التي تصارع ضد اليهود، تقودها البرجوازية الناشئة وينضم إليها أحيانا النبلاء بدافع الحقد على دائنيهم. ولا شك أن اضطهاد اليهود خلال العصور الوسطى تحت شعار إبادة الخونة كان بمثابة الإرهاصات الأولى للثورة الاجتماعية البرجوازية.
125
فالظروف الاجتماعية والاقتصادية إذن هي - في رأي بلوخ وأنصار الماركسية - العوامل التي تختفي وراء المسألة اليهودية. والعداء للسامية ليس من الأمور الخالدة أو الأبدية كما يريد الصهاينة أن يقنعونا بذلك. وحتى إذا كان الأمر كذلك فلن يخفف - في رأي بلوخ - من هذا العداء غزو البلاد العربية وخلق خلافات جديدة ونزعة يهودية جديدة، ولا عن طريق دولة رأسمالية-ديمقراطية كما يتصورها هرتزل، ولا بوسائل هيس الاشتراكية التي تحوم حول القدس، فليست المسألة أن يكون لليهود أمة أم لا!
126
ولكن السؤال الآن: هل ما زال لدى اليهود - سواء أكانوا أمة أم لا - وعي بما قاله إله الخروج لعبده إسرائيل وكلفه به كمهمة لا كمجرد وعد: «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم.»
127
إن هذه المهمة التي وجهها الرب لأمة ابتليت بالشقاء تتلخص في: «لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.»
128
ويؤكد بلوخ أن اليهود قد قاموا بهذه المهمة الخلاصية وإن لم يقوموا بها على نفس المستوى الذي نجده في المسيحية والإسلام، ففي القرن الثاني بعد الميلاد انتشرت الديانة اليهودية ووصلت إلى الصين، وفي القرن الثامن الميلادي دخلت إمبراطورية كازار
Chazar - وعاصمتها استراخان - في اليهودية. صحيح أن هذا كله تم في وقت متأخر، ولكن معظم النصوص اليهودية المقدسة - كما يقول بلوخ - تطرق فكرة التبشير ورسالة الخلاص وتنبه اليهود لنشرها: «لا يسوءون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.»
129
وقد ظلت ذكرى هذه النزعات التبشيرية والخلاصية موجودة في اليهود الذين تجردوا من النزعة القومية الصهيونية. ولكن النزعة التبشيرية الخلاصية المستقبلية يمكن - على العكس من ذلك - أن تغيب تماما عن اليهود الذين يحصرون أنفسهم في وعي قومي ضيق أو يتبنون نزعات التوسع التجاري الدولي، لقد اقتصر وعيهم عام 1917 - وهو عام وعد بلفور - في الركن الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تحت الحماية البريطانية ومصالحها التجارية في قناة السويس وبترول الموصل. ثم دخل الوعي الآن في دائرة الرأسمالية الغربية ومناطق النفوذ البريطاني وتحت حماية الوحش الأمريكي. لكن إذا أرادت الأمة اليهودية أن تبقى فلا بد أن تعي رسالتها بين الأمم الأخرى وتدرك دورها في حركة التحرير الاجتماعي وإلا فلن يكون لها مستقبل على الإطلاق.
130
لا شك أن نزعة بلوخ الإنسانية الاشتراكية قد غلبت عليه في تحليله للصهيونية كحركة قومية عنصرية. ولم تمنعه ديانته اليهودية - خلافا لغيره من الماركسيين اليهود - من أن يدين العنف الإسرائيلي الموجه ضد العرب، ولا أن يوجه نقده إلى أمته التي رأى فيها بوادر نازية جديدة، وعلى الرغم من ذلك فهو لا ينكر حقها في أن تحتفظ بهويتها القومية شأنها شأن غيرها من الأقليات القومية الأخرى، وأن تنمي لغتها وتراثها وثقافتها على الأرض التي ولدت فيها وتربت عليها في إطار نزعة اشتراكية عالمية تساهم مساهمة فعالة جنبا إلى جنب مع الأمم الأخرى في حركات التحرير الاجتماعي. وأغلب الظن أن المواطن العربي قد يؤيد هذا المطلب المشروع في حق الأمة اليهودية في الاحتفاظ بهويتها وثقافتها الوطنية. ولكن السؤال: هل كان من الضروري أن يتحول الشعب الذي كان مقهورا فيما مضى إلى شعب قاهر لكل الشعوب العربية المحيطة به؟ هل كان من الضروري - لكي تحتفظ الأمة اليهودية بهويتها الدينية والثقافية - أن يتشرد شعب بأكمله وتسلب أرضه ويطرد من دياره؟ وهل كان من الضروري أن تقوم الهوية اليهودية في أرض فلسطين؟ ألم يعترف بلوخ نفسه بأن جبل صهيون في فلسطين لم يكن إلا رمزا فحسب، وإنه من الممكن أن يكون هناك جبل صهيون حيث يكون اليهود في أي مكان؟ ألا يمكنهم الاحتفاظ بهويتهم وقوميتهم وتراثهم في الدول التي نشئوا فيها ونهلوا من ثقافتها؟ ألم يكن من الممكن إدماج ثقافتهم وتراثهم في التراث الإنساني كما فعل فلاسفة اليهود في ظل الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس قديما، وكما فعلت قلة قليلة من المثقفين اليهود المعاصرين الذين أسهموا في إثراء التراث الإنساني من خلال إسهامهم في تراث الأمم التي نشئوا على أرضها؟ بذلك وحده تتحول النزعة القومية العنصرية المقصورة على الجنس اليهودي إلى نزعة اشتراكية عالمية، وليس مهما أن يكون لها وطن، فحل المسألة اليهودية لا يحتاج إلى صهيونية جغرافية في فلسطين، لأن هذا يمكن تحقيقه في أي دولة ينتمي إليها الشعب اليهودي. (4) الماركسية واليوتوبيا العينية
بعد هذا العرض الموجز السريع لأهم اليوتوبيات منذ بدايات التفكير البشري وحتى القرن العشرين لا بد أن يطرح السؤال: ما مدى ما حققته من تغيير في مجتمعاتها؟ إن هؤلاء الحالمين الذين وقفوا في وجه الفساد والاستغلال في عصرهم، وأدانوا الظلم بقلوبهم، ونشدوا العدل الاجتماعي، وسعوا بعقولهم وخيالهم - باعتبارهم يوتوبيين تأمليين - إلى بناء عالم أفضل، توافرت لديهم جميعا النية الطيبة والرغبة في الإصلاح، ولكن ندر بينهم من امتلك إرادة التغيير واكتشف التوسط التاريخي - مثل فورييه، وبنسبة أقل سان سيمون - وقليل منهم كان لديه الحس المسبق بالاتجاهات والإمكانات الواقعية الموجودة في عصرهم؛ الأمر الذي جعل من هذه اليوتوبيات أشكالا مجردة لدول خيالية بعيدة عن سياق التاريخ - لا يوتوبيات عينية متحققة - وكأن الحلم اليوتوبي يمكن أن يشرق في فراغ، والصور الخيالية اليوتوبية المفعمة بالأماني يمكن أن تطبق خارج التاريخ وصيرورته الجدلية، بل بطريقة سكونية على واقع لا يعرف عنها شيئا أو على أفضل تقدير يعرف عنها القليل.
131
ولا يرجع ضعف هذه اليوتوبيات فحسب لعوامل ذاتية كامنة في شخص أو شخصيات المفكرين اليوتوبيين ونزعتهم العقلية التأملية والمجردة، ولكن يرجع أيضا لعوامل موضوعية من أهمها أن الظروف الاجتماعية والواقع الفعلي لم يكونا قد وصلا لمرحلة النضج بالقدر الذي يسمح بالتغيير. لم تكن الصناعة قد طورت بشكل كاف، ولم تكن الرأسمالية قد واصلت تطورها بحيث تنشأ طبقة بروليتاريا ناضجة كما يقول ماركس في «بؤس الفلسفة».
132
كانت اليوتوبيات الكلاسيكية إذن وحتى نهاية القرن الثامن عشر على أقل تقدير يوتوبيات نظرية، وكان المنهج الرياضي الاستنباطي هو المنهج المتبع فيها وليس المنهج التاريخي. ومعنى هذا أنها انحصرت في استنباطات من الفكر الخالص كما اتضح من نظريات الحق الطبيعي التي افتقدت الحس الحقيقي بالتاريخ. أما عن اليوتوبيات الحديثة فقد خرجت من نطاق العقل المجرد، وبخاصة تلك التي ارتبط أصحابها بنظريات علم الاجتماع. فهؤلاء الحالمون كانت لهم أفكار لا يمكن تجاهلها، وعلى الرغم من مظهرها المجرد، إلا أنهم لم يكونوا أبدا من المفكرين التأمليين، بل هم يوتوبيون اقتصاديون سياسيون، وإرادة التغيير لديهم لا شك فيها. لقد شرع بعضهم في التطبيق الفعلي الذي لم يحالفه الحظ، وإذا كانت إرادة التغيير الكامنة في بعضها لم تخرج إلى حيز التأثير الفعال، فإنما يرجع ذلك لضعف ارتباطها بالطبقة العاملة، وكذلك بسبب التحليل غير الكافي للاتجاهات الموضوعية والإمكانات الواقعية في المجتمع القائم، أو بسبب عدم نضج الظروف الاقتصادية نضجا كافيا بحيث تفجر إرادة الفعل في الذات، فهذه الظروف الموضوعية من الأمور التي تساعد على الانتصار الثوري.
133
ظلت اليوتوبيات السابقة الذكر عهودا طويلة تعبر عن أمل يوتوبي غير دنيوي، وذلك باستثناء بعض اليوتوبيات التي نظرت إلى الواقع وانطلقت منه ولكنها كانت غير ناضجة فصورت العالم الأفضل بشكل مجرد وأقامت نسقا في عقول مبدعيها فقط. إن الماركسية وحدها هي التي قهرت التجريد، وإن تحسين العالم لا يأتي بالتأمل بل بالفعل، بالنظرة الجدلية إلى الواقع مع مراعاة قوانين العالم الموضوعي، حتى تتحول اليوتوبيا من تأملية مجردة إلى يوتوبيا عينية ذات نزعة اشتراكية. وتاريخ اليوتوبيات الاجتماعية يثبت أن هذه النزعة الاشتراكية قديمة قدم العالم الغربي، وقدم الحلم بالعصر الذهبي.
134
ولا عجب بعد ذلك أن ينتهي الفيلسوف الاشتراكي إلى أن تاريخ اليوتوبيا ما هو إلا تطور تدريجي لهذه النزعة التي اكتملت في الماركسية.
مع الماركسية تقدمت النزعة الاشتراكية من اليوتوبيا إلى العلم، وبدأت فكرة تحسين العالم من الاتجاهات الفعلية للواقع. لم ينظر للبؤس كحالة تدعو للرثاء، ولكن بدأ بحث أسبابه وتفجير قوته الثورية الكامنة للقضاء عليه. ولم يسمح ماركس لسخطه على المجتمع أن يجعله يغفل عن العوامل الثورية الموجودة فيه. وإذا كان بعض اليوتوبيين قد رأى أن أجور العمال في المجتمع الرأسمالي غير منصفة، وطالبوا بمجتمع جديد بأجور أكثر إنصافا، فإن ماركس لم ينظر للأمر من هذه الزاوية، وإنما حلل العوامل الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، واكتشف ما فيه من تناقضات تسبب انهياره في نهاية الأمر بفعل عوامل جدلية باطنه. وبذلك وضع أسسا جديدة للنقد الاقتصادي كانت مفتقدة في اليوتوبيات الاجتماعية المجردة في مرحلة ما قبل الماركسية، وهي التي خصصت تسعة أعشار مساحتها في وصف دولة المستقبل، والعشر الباقي للنقد، بينما كرس ماركس تسعة أعشار كتاباته للتحليل النقدي للحاضر وسمح بمساحة ضئيلة لوصف المستقبل، لأن كل عمله، وليس فقط جزء منه، موجه للمستقبل، كما أنه لم يرسم صورة للجنة بل تناول بالنقد والتحليل الحياة الاقتصادية، وكشف سر الاستغلال وفساد الربح.
135
جسد ماركس بشكل مادي توقعات اليوتوبيا بوسائل اقتصادية عندما بحث في جدل الإنتاج وفائض القيمة، وبذلك وضع الأسس المادية لجدل التاريخ، وألغى الثنائية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين الممارسة التجريبية واليوتوبيا من أجل إعادة تنظيم المجتمع بشكل ثوري، ولذلك أغفل كل اليوتوبيات السابقة من أجل نزعة واقعية مفعمة بالمستقبل؛ المستقبل الذي استنار بعوامل مادية-تاريخية من الماضي والحاضر تعمل باستمرار لتصب في المستقبل.
136
في الماركسية يزداد الحلم العيني وضوحا، ويتطور مضمونه ليصبح حلما متحققا تحققا فعليا. كما تهتم الماركسية - بوصفها يوتوبيا عينية - بأن تفهم الحلم لأنه يكمن في النزوع التاريخي نفسه، وتتوسط هذه اليوتوبيا مع الصيرورة وتركز اهتمامها على تحقيق الأشكال والمفاهيم التي طورتها في رحم المجتمع الحاضر، إنها يوتوبيا عينية تقدمية بسبب ارتكازها على عنصرين أساسيين هما: توجهها للمستقبل، وارتباطها بإمكانات حقيقية موضوعية كامنة في الواقع الفعلي وإن لم تتحقق بعد في العالم الخارجي. وتتجه هذه اليوتوبيا العينية إلى الجمع بين النظرية والتطبيق، ولا ينحصر قصدها اليوتوبي في أرض الحلم المنعزلة أو في أفضل نظام اجتماعي متصور كما كان الحال في اليوتوبيات الاجتماعية، بل يتسع ليشمل كل الميادين الأخرى من تقنية وعمارة وفنون تشكيلية وأدب وموسيقى ... إلخ، فكل هذه الميادين لها صور مفعمة بالأمل ومتشابكة مع بعضها البعض من أجل خلق عالم بشري، وكل فلسفة وكل عمل فني له نافذة يوتوبية تطل على المستقبل، أو هو محاط بعنصر يوتوبي قائم على أساس موضوعي يكون كامنا في البداية ويحمل داخله بذرة نمائه حتى يشرق في إمكانات حقيقية قد تؤدي في النهاية إلى كارثة محققة، أو تكون بذرة الأمل الممكن، وذلك حسبما تقرره إرادة الموجوادت البشرية.
137
وتمتد اليوتوبيا لتنتشر كالمادة المشعة في كل الأنشطة الإنسانية، وتدفع معوقات الطبيعة للخلف بصنع البشر - المتمتعين بوعي كامل - التاريخ لأول مرة بدون فكرة الضرورة أو القدر الأعمى، لأن هذه الفكرة الأخيرة تجد من يتعبدها في المجتمع الطبقي وحده. أما اليوتوبيا التي أصبحت عينية فلا تعرف القدر أو الضرورة لأنها وضعت أساسا لنظام غير مغترب في حدود عالم أفضل.
138
عندما يصبح الجدل عينيا، وعندما يجعل نفسه في خدمة هدف يضع المستقبل والمتمنى نصب عينيه، لا تكفي الرغبة وحدها ولا بد أن تضاف لها الإرادة، ومع الإرادة التبصر النافذ. عندئذ تتحول اليوتوبيا إلى علم، ويصبح العلم دليلا يهدي إلى السلوك الصحيح، وذلك وفقا للقضية الحادية عشرة من قضايا فويرباخ التي تطالب بأن تصب كل النظريات الصحيحة في تغيير العالم: «إن فويرباخ في جهوده لتوليد الوعي يقطع أبعد شوط يمكن لنظري أن يقطعه دون أن يكف عن أن يكون نظريا وفلسفيا (...) إنه يؤول مجرد تأويل العالم المحسوس القائم، ويسلك تجاهه سلوك النظري، في حين أن المسألة هي أحداث الثورة في العالم القائم ومهاجمة حالة الأشياء كما وجدها وتبديلها عمليا.»
139
ويرتبط بالعلم العيني أو الواقعي قدر من العاطفة التي لا غنى عنها لتحويل المعرفة إلى عمل وممارسة، ذلك أن المبادرة لا تأتي أبدا من المعرفة وحدها، وإنما تنبع أساسا من الإرادة. إن المعرفة يمكنها أن تهدي الإرادة، ولكن الإرادة هي التي تحقق المعرفة. وبغير العاطفة الثورية والحماس الإرادي القوي لتغيير العالم تبقى أنطولوجيا الإمكان والمستقبل وال «ليس-بعد» مجرد أفكار مهما وصفت هذه الأفكار بأنها تقدمية، ولو تشبعت بالعاطفة الثورية لأصبحت أداة لتحقيق اليوتوبيا.
لكن بعض الثوريين الذين تحركت ضمائرهم أمام البؤس المنتشر وانضموا إلى صفوف الاشتراكية ظلوا في أعماقهم برجوازيين، لذلك أدانتهم الماركسية كما أدانت الاشتراكية النابعة من عوامل إنسانية فقط، أي من التعاطف والرغبة فحسب؛ إذ لا بد من تضافر الضمير والمعرفة لتوفير الوعي الاشتراكي «الموضوعي» لا الذاتي فحسب من أجل قلب كل الظروف والعلاقات التي يكون فيها الإنسان كائنا مهانا مستعبدا مهجورا ومحتقرا. وإذا كان هناك محاولات وجودية للتقليل من شأن ثورية ماركس وتصويره في صورة القريب من كيركيجورد أو باسكال فإن من المستحيل - في رأي بلوخ - تزييف ماركس الحقيقي لأنه نموذج الإنسانية الماضية في تحرير نفسها بصورة فعالة. وهي إنسانية ترفض معاملة البشر كما تعامل الكلاب؛ إنسانية واقعية موجهة لمن يستحقها، تمسك السوط بيدها في غضب وسخط كما تنادي وتهيب وتبحث عن سبيل موضوعي للإنقاذ.
140
ولا تقتصر هذه الإنسانية الماركسية على الطبقة العاملة المغتربة وحدها، بل تمتد إلى كل المستغلين والمغتربين في ظل الرأسمالية. ولا تقتصر هذه الثورية الإنسانية على كتابات ماركس الشاب، لأن إنسانيته الواقعية تمتد لتشمل تفسيره المادي للتاريخ. صحيح أن مصطلح الاغتراب لا يظهر في كتاباته المتأخرة، ولكنه اختفى كلفظ فقط وظل الموضوع الإنساني باقيا في تحليلاته ليوم العمل ولمجموع العلاقات الاجتماعية، كما ظلت الإنسانية «الفاعلة» ماثلة في نصوص عديدة.
141
ويهاجم بلوخ المحاولات العديدة لتجريد ماركس والماركسية من النزعة المستقبلية وإبعادها حتى عن التراث الليبرالي، كما يحمل حملة شديدة على محاولات إعادة الماركسية لجذورها العقلية لا المادية الواقعية، وتصوير ماركس على أنه كانطي أو هيجلي جديد أو رد نظريته إلى أفكار الخلاص القديمة من أوغسطين ويواخيم الفيوري لتصوير الماركسية في صورة مسيحية علمانية وكأنها مجرد نسخة اقتصادية أو تحول اقتصادي فاسد لعقيدة الخلاص اليهودية-المسيحية. إن كل الذين يبذلون هذه المحاولات ينسون أن الماركسية تلغي مجتمع الطبقات الذي سمح بوجود السيد والعبد، وتحرر إرادة الأمل من عقالها، كما أن أصالة ماركس لا تنفي أن له آباء وأجدادا، وأنه حقق حلمهم الماضي وارتفع به إلى مستوى الوعي الثوري وجعله شيئا جديدا كل الجدة.
142
وقد تصور بعض الأدباء والباحثين الرومانسيين مثل كرويتسر
Creuzer
وفيلكر
welcker
أن علم الأساطير يعبر عن المجموع الكلي للمعرفة الذي وجد منذ أزمان لا تعيها الذاكرة، وإن كل ما جاء بعد ذلك - مثل نظرية المثل لأفلاطون على سبيل المثال - لم يكن إلا صدى شاحبا لهذا العلم الشامل، ومن ثم تصوروا أن ماركس حالم رومانسي مثل غيره من العلماء الرومانسيين الذين قالوا إن العلم كله أصله أسطوري. ولذلك اتهم ماركس بأنه وضع الأساطير في هذا العالم وأضفى الصبغة الدنيوية عليها. ويدافع بلوخ عن ماركس مستشهدا بهذه العبارة التي كتبها إلى روجا عام 1843م: «سوف يتضح أن العالم كان يملك منذ أمد طويل حلما عن المادة، وهي المادة التي يتحتم عليه أن يعيها لكي يملكها بحق، وسوف يتضح أيضا أن المسألة ليست خطا فاصلا بين الماضي والمستقبل، وإنما الأمر يتعلق بمواصلة أفكار الماضي.» إن هذه العبارات التي قالها ماركس هي في الواقع الجوهر الحقيقي للأصالة، وتعبر عن موقف جديد كل الجدة من الماضي. ويتضح هذا من قول ماركس نفسه بأنه موقف يقوم على تحليل الوعي الأسطوري الذي لم يتضح لنفسه على نحو ما كان عليه في الماضي، وبدون الانفصال عن ذلك الماضي بشكل مجرد أو صارم، وعلى هذا فإن ماركس لم يضعف من جانب المعرفة الأسطورية بل صححها.
143
إن الجديد الرائد الذي جاء به ماركس هو في معرفة فائض القيمة، وفي التفسير الاقتصادي الجدلي للتاريخ، وفي فهمه للعلاقة بين النظرية والممارسة. وإذا لم يفهم الرومانسيون هذا الجديد الرائد - بالمعنى السابق أي انفصال العلوم عن أصولها الأسطورية - فإن هذا يكشف عن انتماءاتهم البرجوازية وعقليتهم التي تنزع إلى الترميم والإصلاح، لا إلى الثورة الحقيقية. كما أن جهلهم بهذا الجديد ليس إدانة للماركسية على الإطلاق، لأن موقفهم المتخلف هذا لا يمكن أن يعي الإنسانية الجديدة والفاعلية الجديدة وتغيير العالم والحلم المتجه إلى الإمام على الدوام في الماركسية المفتوحة.
144
ولننظر إلى الأخلاق ... فهل انتقص من قدر الأخلاقية لأنها لم تعد لصالح عالم آخر أم أنها أصبحت أكثر نقاء وصفاء؟ ولننظر إلى المسيحية نفسها ... هل شوهها «توماس مونتسر» لاهوتي ثورة الإصلاح الديني عندما سلك سلوكا ثوريا ولم يقبل أن يسالم؟ ألم تصبح المسيحية - على العكس من ذلك - أكثر أصالة عندما دفع بها إلى النشاط الفعلي وإلى التاريخ المعاصر. ولننظر إلى تاريخ العلم الذي نشأ عند اليونان نشأة انفصل فيها عن الأسطورة على الرغم من أن الأسطورة كانت دائما تدخل في إيضاح الأفكار غير الأسطورية. هل أصبحت الفلسفة والعلم - بعد أن فصل اليونان العلم عن الأسطورة - أفقر مما كانا عليه أم أنهما ازدادا غنى وثراء عندما انفتحا على آفاق جديدة لم تر من قبل ولم يفكر فيها أحد من قبل كما فعل سقراط على سبيل المثال عندما حاول أن ينزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وكما فعل ديمقريطس بفكرته عن الضرورة عندما غرسها في البنية الذرية
145 ... إلخ.
لا شك أن هناك نداء أسطوريا أو صوفيا يتردد من بعض أفكار ماركس الإنسانية والجدلية. ولكن هذه الإنسانية وهذه الجدلية تتجه بدون شك نحو النور والظهور في نهضة مستقبلية. ويتجلى هذا الجانب الأسطوري في فكرة الخلاص عند ماركس التي يحيط بها وينبعث منها بريق أسطوري. وإن المؤمن بالتنوير الحقيقي لن يضن على هذه الروح التنبئية بالخلاص عند ماركس، لن يضن عليها بعرفانه واندهاشه وتعلمه من مثل هذه الأفكار التنبئية. والواقع أن ما يصحح مسار العالم ويضيف إليه ويضيئه من داخله لا يمكن أن يبرز إلا عندما يصل الوعي إلى موقف علمي صحيح. فلم يعد من المكن أن يتحقق هذا أو أن يفهم في مجتمع لا يعيش فيه إلا فيلسوفان فقط، أحدهما فيلسوف يائس تخلى عن كل شيء، والآخر فيلسوف عنكبوتي يحاول أن يقدم لنا كنوز الحكمة المدرسية الوسيطة وكأنما هي فصل الخلاص الأخير . إن الماركسية الخلاقة وحدها هي المعبرة عن عصرنا، وهو العصر الذي يبدع ويواصل تراث الماضي ويحققه في نفس الوقت. والماركسية وحدها تمثل الإنسانية الحقيقية التي ترفع من شأن الأرض ولا تجعلها مجرد شبح يعكس الصورة الأسطورية القديمة. وهي التي تحقق ما يعرف بأنه حق وفقا للإمكانيات الواقعية وللمنظور الواقعي للمستقبل. وفي هذه الممارسة لا يتم فصل العالي أو علمنته عندما تنفصل الماركسية عما هو فوق الإنسان ولا يؤثر في صيرورة الإنسان، وما لم تفهم العلمنة بالمعنى الماركسي الجديد وحده الذي يوحد بين النظرية والتطبيق فلن تفهم أبدا.
146
وعلى حين كان كل عظماء الفكر قبل ماركس قانعين بأن يصبح العالم فلسفيا، فإن الإنسانية الماركسية قد فتحت على طريقتها - ووفقا لعبارة ماركس الشهيرة عن ضرورة تغيير العالم بدلا من الاكتفاء بتفسيره - آفاقا جديدة يمكن أن تجعل الفلسفة عالمية، وبهذا تكون الفلسفة قد أوقفت على قدميها من جديد، ووهبت القدرة والكفاءة لإعادة بناء هذا الكوكب الأرضي. ولا بد أن نلاحظ أن الماركسية لم تنقص من قدر الأفكار العظيمة بحق في الماضي، ولم تختزلها لأن ذلك الماضي ظل غنيا بالأفكار الحقيقية.
147
إن الأمل النابع من خطة علمية مدروسة والمرتبط بالممكن الوشيك التحقق هو أفضل ما يوجد في حياة الإنسان، بشرط أن يرتبط بالمعرفة الدقيقة بالواقع مع الممارسة. لا يمكن أن يزدهر العقل بغير الأمل، ولا يمكن أن يتكلم الأمل بغير العقل، لأن وحدتهما وحدة ضرورية. والذين يتهمون الماركسية بأنها أخروية لا يدركون نزعة الحلم، فقد حرص ماركس على تعقيل الحلم لا إغراقه في سحب العواطف، كما حرص على أن يقترن التعقيل بالحماس بحيث تربط الماركسية بينهما لإبراز «الجديد» واليوتوبي الواقعي. والمهم هو التوحيد بين التعقيل والحماس - أي الخيال في حالة الفعل - وتوجيههما نحو الأمل المتطور المدروس. وتعد الماركسية نظرا وتطبيقا هي الطريق الوحيد لتحقيق حلم العصر الذهبي، إنها لا تنسى الواقع، كما تفعل اليوتوبيات الاجتماعية، بل تطوره جدليا واقتصاديا وعلميا دون أن تتخلى عن التراث أو عن صور أحلام يقظته عن المستقبل، لأنها تخلصها من اغترابها القديم ومن تحولها إلى تأملات مجردة. فالماركسية هي التي تحقق مضامين الأمل وتضفي عليه الوجود العيني، والسبيل الوحيد إلى ذلك هو المجتمع الخالي من الطبقات.
148
ولا بد من التفرقة بين الأمل الذاتي - الذي يظل أملا ذاتيا - والأمل الموضوعي وهو الأمل بالمعنى الصحيح الذي يتوسط النزوع التاريخي، كما يتم في العالم وعن طريقه ويتجه نحو هدفه، وهو تحقيق الإنسانية الاشتراكية. والفلسفة رحلة جدلية شجاعة تضع الأمل في المقدمة، الأمل في تحقيق الممكن والكشف عن المجهول، أي الأمل الموضوعي الواقعي المؤسس على معرفة الشروط الذاتية والموضوعية معرفة دقيقة وعلى الإرادة الثورية التي توجهه وتكافح في سبيل تحقيقه. إنه أمل يرتبط بالمادة بحيث يتجاوز أرسطو وفهمه للمادة بكثير، وهو ليس كامنا في الذرة المادية ولا هو مغلق فيها وإلا حال هذا دون تصور الوثبة الجدلية الكيفية ل «ليس-بعد» نحو الجديد.
149
وهنا يختلف الهدف والغاية المادية خلال العملية الجدلية عنهما في المذاهب الغائية الدينية التي تفترض قبليا من منظور العناية الإلهية والحقيقة النهائية. وبذلك يكون عصب المفهوم التاريخي الصحيح هو الجديد، وعصب المفهوم الفلسفي الصحيح هو الجديد الأفضل، وكلاهما غير متحقق في الأنطولوجيات الثابتة للماهيات الثابتة. هذا بالإضافة إلى أن عيب كل الفلسفات الميتافيزيقية السابقة على ماركس أنها تأملية وأنها تتجاهل حقيقة المادة الأساسية وهي أنها مادة متجهة إلى الإمام.
150
هكذا وجد بلوخ أن الماركسية هي فقط المعنية بتحقيق الهدف النهائي للأمل وهي الفلسفة الوحيدة القادرة على تحقيق الحلم اليوتوبي والوصول به إلى غايته المنشودة إلى مملكة الحرية. وقد ظل على رأيه حتى مات 1977م ولم يشهد انهيار المعسكر الاشتراكي في أواخر عام 1989م، إلا أنه استشعر بداية النهاية. ونزعته التفاؤلية وإصراره على الأمل حتى اللحظة الأخيرة لم يحجبا عنه رؤية الواقع الفعلي وتجاربه المريرة، فما كان منه إلا أن طرح هذا السؤال: «هل يمكن أن يخيب الأمل في الأمل؟»
151
إنه سؤال تفرضه الأمثلة العديدة التي يقدمها التاريخ على اليأس والإحباط بعد هزيمة الإرادة الثورية على المستوى الفردي والجماعي في مختلف العصور التاريخية . وقد وجد بلوخ أن السؤال لا يزال معاصرا إلى أبعد حد بعد أن رأى مع الزمن أن البداية العظيمة قد وقعت في أيد صغيرة، غير أنه لم يتخل عن «الأمل» ولم يفرط في الهدف، وإنما وضع في حسابه الحواجز والانحرافات التي تقف في طريقهما، وأخطار الفشل والانتكاس الذي يهددهما. بل إنه لم يعد يقتصر على «اللا» الكامنة في الصيغة الأنطولوجية والشعورية التي أسس عليها فلسفته، وهي وجود ال «ليس-بعد» أو الوجود الذي لم يتحقق بعد، وإنما أخذ يفكر في «العدم» أو قوة السلب المطلقة التي تقضي على الأمل وتعوق الطريق إلى الهدف إن لم تدمره تدميرا. بيد أن خيبة الأمل التي درس أسبابها واستقصى أنواعها لا تصدر عن يأس أو قلق وجودي، لذلك ازداد تمسكا بالأمل والنضال في سبيل تحقيق الهدف الذي بدا له بعيدا وإن لم يكن مستبعدا ولا مستحيلا؛ إذ لولا التمسك به لما وجد على الإطلاق. وإذا كان بلوخ يؤكد دور العامل الذاتي في تحقيق هذا الهدف، فإن عينه لم تغفل عن المصاعب الموضوعية التي تواجه تحقيق الأمل المتجدد دون أن تؤدي به إلى اليأس.
اقتضت الضرورة طرح هذا السؤال الذي فرضته الأحداث: هل يمكن أن يخيب الأمل أو هل يمكن أن تخيب أساليبه؟ إن هذا أمر شائع ومتكرر، فأي حياة مملوءة بأحلام لم تتحقق، هذا أمر لا بد منه بالنسبة للتفكير الذي يقتصر على التمني وإقامة قصور في الهواء لا أساس لها ترتكز عليه؛ ذلك أن مثل هذا التفكير يتلذذ بنفسه ولا يسأل فيه عن الواقع. كذلك أحلام اليقظة العامة كم سبحت دون أن تنزل في الماء! وكم غرر بالشباب مثل هذا الأمل! فكانت خيبة الأمل التي أعقبته هي الشيء الحقيقي فيه. من الأرجح أن أحلام اليقظة وحدها تؤدي دائما إلى خيبة الأمل، سواء كانت أحلاما خاصة أو عامة. ولكن هل الأمل القائم على أساس، ويقوم بدور «التوسط» لهدف حقيقي يبشر به، يختلف عن الأمل السالف الذكر؟ مثل هذا الأمل الأخير يمكن بل يتحتم أن يخيب لأنه كان نوعا من التمني والاسترسال وراء أحلام اليقظة، ولم يقم على أي أساس موضوعي، فهو أمل يختلف تماما عن ذلك الذي يعتمد على الوعي الكافي بالإمكانات والنزعات الكامنة في الواقع.
ولهذا يمكن أن يخيب الأمل في الأمل، أولا، لأنه منفتح على الأمام (الآتي والمستقبل) ولا يقصد الحاضر. ولأنه دائما في حالة عدم تحدد ويهتم بما هو متغير لا بتكرار ما هو قائم، فإنه ينطوي على عنصر الصدفة الذي يجب أن يحسب حسابه. ثانيا، من الممكن أن يخيب الأمل في الأمل لأنه - باعتباره توسطا عينيا - لا يتعامل مع وقائع ثابتة أو جامدة. فما يسمى وقائع ثابتة إما أن تكون الذات قد شيأتها، أو تعتبر من الناحية الموضوعية مرحلة توقف للمسار التاريخي، بيد أن هذا المسار التاريخي جدلي مستمر وليس فيه واقعة ثابتة. ولهذا يبقى الأمل كعاطفة مع الخوف المتعلق به، كما يبقى الأمل كمنهج في مجال ال «ليس-بعد»، أي في مجال لا يتحدد فيه تحققه ولا امتلاؤه بالمضمون. ومعنى هذا بعبارة أخرى أن الأمل ينطوي على احتمال إفساده وإبطاله؛ إذ إنه ليس ضمانا موثوقا به، لأن فيه ما في العملية التاريخية والكونية نفسها من عدم تحدد، فلا هي تبطل تماما ولا هي تكسب تماما. ولهذا كله ينتمي الأمل للإمكان الموضوعي والواقعي الذي يطوق الواقع السائد تطويق الخطر والنجاة الممكنة معا. ذلك الممكن هو المشروط جزئيا لا كليا مثل الوجود الواقعي الراهن، وعدم الضمان هذا لا يعني عدم الثقة والاطمئنان التام الذي يجعل كل ممكن وكل انتظار نوعا من اللامعقول الذي يناقض الشروط الجزئية القائمة في عالم الإمكان الموضوعي والواقعي. وحتى لو أضيفت العوامل الذاتية إلى المعرفة الموضوعية بالشروط القائمة، فإن الأمل لا يفقد طابع «عدم الضمان» الذي يميزه.
152
وهنا تعترف اليوتوبيا الواقعية بأنها على الطريق، هذا الطريق الذي توجد عليه ماهية العالم التي تمكنه أن يتحقق بعيدا عن الشك، ولهذا لا تدعي مثل هذه اليوتوبيا الكمال طالما أنها تظل معلقة بخيبة الأمل وانعدام كل ثقة وضمان، ثم ألا يؤكد الواقع نفسه - حتى لو كانت مضامينه كلها قد تحققت - أنه لم يصل إلى مستوى الكمال الذي كان يرجي له قبل تحققه؟ وإذا كانت خيبة الأمل لا يخلو منها الواقع الذي تحقق منه القليل، فإن هذا مما يؤكد الطموح الوجودي والماهوي للأمل. إن خيبة الأمل تتعلم من الخسائر والأضرار التي تحيق بها، وتزداد فطنة بالانتباه إلى النزوع الكامن في الوقائع المزعومة التي تظل في حالة صيرورة. ولكنها من ناحية أخرى لا تتعلم منها، إذ إن «الأمل المؤسس» لن يقنع بأي واقع بل سيدينه على أساس أنه لم يحقق الجوهر الكامن أو مضمون الهدف الذي كان ينزع إليه الموجود الواقعي، وإنما شوهه أو وضع عليه قناعا، ولذلك، فإن هذا الموجود سيدان من اليوتوبيا المؤسسة، وكم ستزيد هذه الإدانة إذا كان هذا الهدف - وهو الإنسانية الواقعية - لا يزال في حيز الإمكان أو مجال ال «ليس-بعد» ثم إذا كان الواقع الذي يدعي أنه يعبر عن الوجود الحقيقي - أو عن ذلك الهدف - أبعد ما يكون عن الإنسانية بل ضدها.
153
على وجه الإجمال ومصداقا لعبارة اسبينوزا إن الحق ليس دليلا على نفسه فحسب، بل هو دليل على الكذب أيضا. فإن خيبة الأمل لا تتعلق بتحقق الواقع تحققا جزئيا لا يعبر عن النزوع الكامن فيه، وإنما تتعلق خيبة الأمل الحقيقية بالأمل بحكم أنها ترفض الواقع المشوه إلى حد عدم القدرة على التعرف عليه، وبحكم أن الأمل، ومضمون الهدف الذي يسعى إليه، وهو «مملكة الحرية»، يفرض واجبه عليه أن يكون مقياسا للحكم على ذلك الواقع المشوه وإدانته. يقينا ستساعد التحليلات الاقتصادية-الاجتماعية على النفاذ إلى أصل هذا الواقع المشوه. ولكن لا بد أن يكون «الكل» اليوتوبي أو الهدف حاضرا فيها ولا يغيب عنها. وهذا الهدف الكلي نفسه موجود في أقدم حلم يقظة حلمته البشرية، وهو قلب كل الظروف التي يكون فيها الإنسان كائنا مهانا ومحتقرا ومهجورا ومستعبدا. وكون هذه العبارة جاءت على لسان ماركس يجعلها تصلح أن تكون شعارا للأمل، ولما كانت قوة اليوتوبيا المؤسسة في إصرارها على النضال، فإن هذا على التحديد هو مصدر خيبة أملها في النتيجة التي انتهت إليها، وهذا بالضبط هو المقياس الذي يجعلها محصنة من خيبة الأمل. وكما كان تولستوي وتذكيره بالمسيحية الأولى مزعجا للقيصر فإن التذكير بروزا لوكسمبرج أو بالذين تشبثوا بمبادئ الاشتراكية الإنسانية مزعج للذين أوصلوا الاشتراكية إلى ما وصلت إليه. إذن فالأمل كمقياس لذاته لا يمكن أن يكون سببا في خيبة الأمل، وكذلك فإن الالتزام به - أي بالأمل - لا يمكن أن يكون سببا فيه. ولو كان من الممكن القضاء عليه - أي على الأمل - لما أصبح في نظر أعدائه شيئا غير محتمل (أي أعدائه من أصحاب السلطة الذين جنوا على الاشتراكية الإنسانية والمسئولين عن نقيضها) والأمر هنا شبيه بالعبقري والعبقرية في تاريخ البشرية، فلو كان من الممكن القضاء عليها لما وجد عبقري أبدا.
154
ليس هناك ما هو أكثر إنسانية من تجاوز ما هو كائن. ومن المعروف منذ القدم أن زهور الأحلام لم تنضج ثمراتها إلا فيما ندر. والأمل - الذي امتحن بتجارب طويلة - يعرف هذا أكثر من غيره، ولهذا لم يبلغ أبدا حد اليقين المطمئن. وهو لا يعرف فقط - بحكم تعريفه - إنه حيث يكون الخطر تظهر النجاة منه، كما يقول هولدرلين، وإنما يعرف أيضا أنه حيث تكون النجاة أو الخلاص يكون الخطر. إنه يعلم أن الإفساد يجوس في العالم مؤديا دور العدم، وإن العبث كامن داخل الإمكان الموضوعي والواقعي الذي يطوي النعيم كما يطوي البلاء. إن صيرورة العالم لم تكتسب تماما، كما أنها لم يقض عليها القضاء التام، والبشر يمكنهم أن يكونوا الحراس على هذا الطريق الذي لم يحسم بعد. ويبقى العالم في مجموعه هو معمل الخلاص الممكن. ولهذا يمكن القول على لسان هيراقليطس: إن من لا يأمل في البعيد المستبعد، لا يمكنه أن يعثر عليه. إن الوجود الإنساني، بالمعنى المتعالي الذي يقوم عليه، هو التجاوز. وهذا القول يتفق مع الكرامة الإنسانية، كما يفتح الأبواب على بحر الإمكانيات الواقعية-الموضوعية، وهو البحر الذي لن تستطيع الوضعية أن تجفف مياهه، ولن يستطيع التأمل المجرد أن يسبح فيه. هكذا يتطلب الأمل في المستقبل دراسة جادة، لا تنسى المحنة ولا تنسى قبل ذلك الخروج منها. إن للتجاوز أشكالا عديدة، وفلسفة الأمل المتجاوزة أو المتعالية بطبيعتها هي التي تجمع هذه الأشكال جميعا وتفكر فيها مهتدية بقول «لوكريتوس»: «إنني إنسان، وما من شيء إنساني غريب علي.»
155
الحق أن عرض بلوخ لليوتوبيات بصفة عامة، سواء التاريخية منها أو الاجتماعية، إنما جاء بهدف واضح ومحدد وهو إلقاء الضوء على الجوانب التي يشرق منها الأمل في هذه اليوتوبيات، والمواضيع التي تستشرف الجديد وتتطلع إلى المستقبل. وبمعنى آخر يمكن القول بأن هدفه هو تحديد ما هو تاريخي منها وما هو غير تاريخي أيضا، فكأنه عرض تمهيدي موجه لما يريد أن يؤكده في نهاية الأمر، وهو أن كل هذا التفكير ما هو إلا خطوة أو - بمعنى أدق - خطوات قطعتها البشرية طوال تاريخها لكي تتوج في النهاية بتاج ماركسي - بما يوحى إلى حد كبير بإيمانه بأن التطور التاريخي لا بد أن ينتهي إلى الماركسية حتى ولو كانت ماركسية مفتوحة إلى ما لا نهاية على المستقبل كما يفترض - في حين أن بلوخ نفسه لا يؤمن بالمقولة الماركسية المزعومة عن حتمية التطور التاريخي. والحقيقة أن عدم إيمان بلوخ بهذه المقولة إنما يتسق تماما مع نسقه الفلسفي وجدله المفتوح الذي يتحدث عن نزوع ممكن أو كامن لم يتقرر بعد، ويستحيل أن يوجد في هذا النسق المفتوح علة ثابتة تسبب نتيجة محددة، كما تصور بعض المنظرين الماركسيين. لقد زعم هؤلاء أن العلية الاقتصادية هي التي تسبب الحتمية التاريخية، لأن هذه الحتمية تعني أن النتيجة موجودة وجودا مسبقا في العلة ولا بد أن تنتج عنها، وهو الأمر الذي أدى بهم إلى القطع بالحتمية الاشتراكية كنتيجة ضرورية لما سموه بالحتمية التاريخية. صحيح أنه لا بد من توافر جميع الشروط لإمكان ظهور الجديد في المستقبل، ولكن هذه الشروط ليست عللا تتسبب في إحداث نتائج ضرورية، لأن توافر الشروط الضرورية «يمكن» أن يسبب النتيجة المتوقعة، ولكن ليس ثمة ضرورة ملزمة لذلك. إن الجديد يمكن أن يظهر، ولكن ليس حتما أن يظهر، والعملية التاريخية يمكن أن تنجح وتؤدي إلى تحقيق الخير، كما يمكن أن تفشل وتنتهي إلى العدم أو الكارثة. وهذا ما يتفق تماما - في رأينا - مع فلسفة بلوخ. ولكن كيف يستقيم هذا التحليل - الذي يقبله منطق العقل والجدل، ويؤمن به بلوخ نفسه - مع تأكيده في مواضع عديدة على أن الماركسية هي بالضرورة الحل الذي ينتهي إليه رفع الاغتراب بين الذات والموضوع؟ أليس في هذا نوع من الحتمية التاريخية التي لا تبعد كثيرا عما تفترضه الماركسية الرسمية؟ ألا يتناقض هذا مع التوجه العام لهذه الفلسفة المفتوحة على المستقبل اللانهائي غير محدد المعالم؟ ربما يكون هذا التناقض بالإضافة إلى تناقضات أخرى أشرنا إليها في موضعها من الأمور التي توقعنا في دائرة الحيرة أمام هذا النسق الفلسفي الضخم الذي ما زال في حاجة إلى دراسات تفصيلية لفك الكثير من غموضه ورموزه.
يضاف إلى ما سبق أن اليوتوبيا العينية التي نسبها بلوخ إلى الماركسية وحدها دون سائر اليوتوبيات ليست في حقيقة الأمر سوى يوتوبيا بلوخ نفسه. فمن المعروف أن ماركس يرفض التفكير اليوتوبي من أساسه لأنه بتحقيق المجتمع الشيوعي - الذي زعم أنه خاتمة المطاف التاريخي - ينتفي أي تفكير يوتوبي باعتباره فكرا متحققا بالفعل. فكيف يمكن - بهذا المعنى - أن ينسب للماركسية يوتوبيا لم تتحقق بعد؟ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يمكن القول إنه على الرغم من استعمال بلوخ للعديد من المقولات الماركسية، إلا أنه قدم اليوتوبيا العينية بمفرادت نسقه الفلسفي الخاص ومقولاته الأساسية، كأنطولوجيا الإمكان وال «ليس-بعد» و«الكل» اليوتوبي ... إلخ بحيث يصعب فهم هذه اليوتوبيا العينية بغير تلك المفردات الخاصة ببلوخ نفسه لا بمفردات ماركس والماركسيين التقليديين. كما يمكن الانتهاء إلى حقيقة هامة، وهي أنه على الرغم من أن بلوخ يعتبر نفسه فيلسوفا ماركسيا وكثيرا ما يستشهد بنصوص ماركس، إلا أنه لم يأخذ من الماركسية سوى منهجها النقدي وأسقط معظم مقولاتها التقليدية والحرفية المعروفة، بحيث يمكن القول بأنه اتخذ من الماركسية مدخلا لفلسفته الخاصة أو ل «بلوخيته» - إذا جاز هذا التعبير - أي مدخلا لماركسية جديدة هي فلسفة بلوخ نفسه، ماركسية لها مقولات أخرى مختلفة عن تلك التي أسسها كارل ماركس، بحيث تصبح هذه الأخيرة مجرد حالة خاصة داخل إطارها الأوسع والأشمل. وعلى الرغم من ذلك فإن يوتوبياه ظلت في نطاق الحلم العاطفي الغامض، فقد قدم نسقا نظريا هائلا ولكنه لم يقدم تخطيطا مدروسا لمعالم مجتمع مدني إنساني مثالي يمكن أن يكون هو الوطن للبشر جميعا وتختفي معه كل أخطار الحروب والدمار والتلوث. ويمكن القول إن اليوتوبيا العينية التي مهد لها بدراساته الضخمة لتاريخ الأمل وتجلياته لم تأت بصورة عينية كما كان متوقعا منه.
ملاحظات نقدية ختامية
بعد عرض النسق الفلسفي الأساسي لفلسفة الأمل، يمكن القول إن بلوخ أقام هيكلا فلسفيا ضخما وضع فيه كل التراث الإنساني، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يكون هناك أخطاء وتفصيلات كثيرة يمكن الخلاف حولها، وقد ورد ذكر هذه التفصيلات في موضعها، ويبقى أن نسلط الضوء على بعض القضايا الأساسية التي أثارها هذا الهيكل الكلي، والتي يمكن توجيه النقد إليها. ويقتضي التقييم النهائي لهذه الفلسفة طرح بعض الأسئلة التي ستترتب عليها الملاحظات الختامية. (1) الأمل والفكر الماركسي
قدم بلوخ فلسفته في الأمل بوصفها فلسفة ماركسية، فهل كان بلوخ ماركسيا حقا؟ وهل اختلفت رؤيته الماركسية عن الماركسية التقليدية أو الحرفية؟ وماذا يبقى من فلسفته بعد انهيار التطبيق الاشتراكي للفكر الماركسي؟ على الرغم من أن بلوخ لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي فيما كان يسمى بألمانيا الشرقية، إلا أنه كان يعد نفسه مفكرا ماركسيا، ولكنه تعرض للنقد الشديد من قبل رجال الحزب ومفكريه الرسميين، بسبب ما في فلسفته من آفاق مستقبلية ويوتوبية تدعو إلى تجديد الفكر الماركسي. وقد وجد الماركسيون الرسميون في هذه الأفكار مخالفة لروح الفلسفة الماركسية؛ مما دفعهم إلى التشكك في انتمائه الفكري واتهامه بأنه يخرب الماركسية من الداخل. والحقيقة أن بلوخ أخذ من الفكر الماركسي فلسفته المادية ومنهجه، وآمن به كعقيدة ثورية، ولكنه تخلى عن روحه وفلسفته المغلقة، فجمع بين الرؤية الماركسية الأساسية للتاريخ والتغير الاجتماعي، ونزعة الخلاص التي تمتد جذورها في ثقافته وتراثه الحضاري من التراث اليهودي-المسيحي، وقرأ التاريخ من منظور الظلم والاضطهاد وإهدار حقوق الإنسان؛ مما جعل خصومه يعتقدون أن ماركس - وبخاصة ماركس الشاب - قد أصبح مجرد مرحلة انتقال ممهدة لفلسفة الأمل عنده، وكأن فلسفته «الأخروية-الدنيوية» في الخلاص يمكن أن تحل محل الماركسية اللينينية، وكأن نظريته في الخلاص لم تقدم إجابات فلسفية ولا واقعية على مشكلات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، واكتفت بالنظر إليها نظرة خالصة، بل ذهب بعض نقاده إلى القول بأنها قد عاقت حل هذه المشكلات في مرحلة البناء الاشتراكي لأنها - في رأيهم - لم تكن فلسفة علمية بالمعنى الصحيح، ولم تملك النظرية ولا المنهج القادرين على مواجهة المشكلات التاريخية والاجتماعية الواقعية في تلك المرحلة (مرحلة البناء الاشتراكي) بل إن هذه الفلسفة اليوتوبية يمكن - في نظر خصومه - أن تظهر في العالم الرأسمالي في مظهر ثوري وإنساني وإن بقيت مع ذلك عاجزة عن بيان الطريق الواقعي للقضاء على تناقضات الرأسمالية. ولذلك فإن تصور بلوخ اليوتوبي والمثالي للاشتراكية قد أثبت عجزه من الناحيتين النظرية والعملية، كما أن اشتراكيته ونزعته الإنسانية قد وقعتا في التجريد والمثالية بحيث اقتلعتا الاشتراكية والإنسانية معا من جذورهما الواقعية. وبذلك أصبحت الاشتراكية في فلسفته مجرد فكرة إنسانية عامة أو نزعة أخلاقية أصيلة نحو الحرية والعدالة والكرامة البشرية. وما دام بلوخ قد تجاهل الظروف الاجتماعية والتاريخية الواقعية ولم يكترث - على حد زعمهم - بالصراعات الطبقية ولا بالإنجازات السياسية والعملية الفعلية، فإن اشتراكيته تصبح اشتراكية مجردة بلا مضمون، وإدخال العامل الذاتي في التاريخ - في صورة النزوع والأمل المفتوح على الدوام وفي الخلاص - لا بد أن يؤدي إلى نزعة إرادية وفردية.
ويمكن الرد على هذه الانتقادات بأنه من الطبيعي أن يهاجم الماركسيون الرسميون إدخال بلوخ لعامل الذات في التاريخ لأن النظرية الماركسية - كفلسفة شمولية - قد رسمت صورة كلية للإنسان والعالم وأهملت التفاصيل الجزئية لهذه الصورة إلى حد أنها أدمجت الفرد في المجموع الكلي، ففقدت الذوات الفردية هويتها واتحدت بالكل من أجل أهداف كلية. وبناء على ذلك ترفض الماركسية كل من يخالفها الرأي في هذا الشأن وتتهمه بالرجعية. وعندما أعاد بلوخ للذات الفردية كيانها وكرامتها اتهم بخروجه عن روح الفلسفة الماركسية الحقيقية. ولم يدرك هؤلاء أن النظرية الماركسية ذاتها هي التي ابتعدت عن روح الفلسفة الحقيقية بتجمدها عند أفكار ثابتة وبعدها عن النقد الذاتي الذي هو السمة الأساسية لكل فلسفة حقيقية . إن فشل النظم الاشتراكية والأخطاء التي ارتكبت في ظلها، لا يعود فقط لأخطاء في التطبيق، وإنما يعود بالدرجة الأولى إلى وجود خلل في البنية المعرفية للنظرية الماركسية نفسها. وإن فلسفة بلوخ - على الرغم من أنها تتضمن عناصر صوفية - تنطوي على عناصر تقدمية وديمقراطية. لقد كان طموحه الأكبر هو تجديد الماركسية وتفسيرها تفسيرا خلاقا وتحريرها من التزمت وعبادة الأشخاص. وينبغي - كما يقول موريس جودولييه - فهم النظرية الماركسية في المجتمع المدني وممارستها باعتبارها ثقافة نظرية لا تستطيع احتكار الحقيقة. إن الماركسية هي «ساحة فكرية للحوار أكثر من كونها مجموعة من الطروحات المتفق عليها سلفا.»
1
لذلك يحمد لبلوخ أنه أراد أن يخرج الماركسية من أيديولوجيتها المغلقة ويفتحها على آفاق مستقبلية أوسع.
وإذا كان خصوم بلوخ يتهمونه بأنه يحاول تدمير الماركسية وتخريبها من الداخل، فهل كان مسئولا عن انهيارها بعد وفاته باثني عشر عاما؟ ألم يكن من الممكن أن يتغير المسار التاريخي للمجتمعات الاشتراكية لو كانت قد أخذت في الاعتبار النقد الذي وجهه بلوخ - وغيره من الفلاسفة - لتجديد الفكر الماركسي؟! لقد أعلنت المجتمعات الاشتراكية أنها جاءت لتقضي على مجتمع الطبقات، فهل استطاعت بالفعل أن تقيم مجتمعا خاليا من الطبقات؟ أم أنها أزالت الطبقات الإقطاعية والرأسمالية لتقيم مجتمعا طبقيا من نوع آخر؟! ألم يؤسس الحزب الاشتراكي مجتمعا طبقيا جديدا تربع رجاله على القمة؟ ألم تخلق هذه المجتمعات فجوة عميقة بين الحزب من جانب والشعب الذي زعمت أنها جاءت لخدمة مصالحه من جانب آخر؟! لقد فسر جاك بيديه سبب طبقية النظام الاشتراكي بأن الحركة الشيوعية كانت متوجهة بالضرورة نحو المجتمع المخطط الشامل وهو بطبيعته مجتمع طبقي، والتخطيط الشامل يبني نظاما تراتبيا، أوجد بالضرورة وعلى طول السلسلة التراتبية خطا فاصلا بين الحكام والمحكومين، وترتب على هذا أن أصبح شكل التخطيط نوعا من أنواع احتكار السلطة في الإنتاج وسيطرة البعض على البعض الآخر.
2
وإذا كانت الملكية تحدد السلطة، فإن انتزاع الملكية من أصحابها يعني بالضرورة انتزاع حريتهم أيضا وتركيز الملكية والحرية والسلطة معا في قبضة الدولة أو الحزب الذي أعطى لنفسه الحق الأبدي في أن يكون هو الحزب الحاكم الوحيد بلا منازع.
والآن وبعد انهيار المجتمعات الاشتراكية، ماذا يبقى من الماركسية، إذا قدر لها أن تنهض مرة أخرى؟ ربما يكون الأمل الوحيد لبعثها من الرماد هو أن تكتسي ثوبا أكثر إنسانية. وهنا يبقى الجانب الإيجابي من فلسفة بلوخ الذي يجب التأكيد عليه والإشادة به، وهو أن الأفكار المتعلقة بالأمل تمثل أسمى تطلعات الروح الإنساني. وسيكشف المستقبل عما إذا كانت فلسفة الأمل هي الوسيلة الصحيحة التي يتم فيها هذا البعث أم أنها ستكون مجرد خيالات عابرة في عقول من أبدعوها. (2) الأمل والحقوق الإنسانية
لقد جاءت الماركسية من أجل القضاء على كل الظروف التي تجعل الإنسان مستعبدا ومهجورا ومحتقرا، فهل أزالت بالفعل أسباب قهره؟ وهل رفعت الظلم الواقع عليه؟ وهل أمكنها تحقيق العدل الاجتماعي بين أبناء مجتمعاتها؟ وهل كفلت لهم قدرا من الحرية بما يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية؟ ربما لا تكون هناك حاجة الآن للإجابة عن هذه الأسئلة، فالانهيار الأخير للنظم الاشتراكية قدم الإجابة بشكل عملي. وليست هذه الأطروحة مجالا لبحث أسباب انهيار التطبيق العملي للفكر الاشتراكي، فقد سارع المفكرون والمحللون السياسيون - فور الانهيار العظيم - إلى شرح أسبابه ونتائجه وهي كثيرة ومعقدة وبعضها يتعلق بأسباب خارجية وأخرى داخلية. ولكن المهم في هذا الموضع هو اكتشاف بلوخ المبكر - وفي ذروة التطبيق الاشتراكي للفكر الماركسي - لأهم أسباب الإخفاق ألا وهو إغفال الحقوق الإنسانية. ولم يكن هذا الإغفال أحد أخطاء التطبيق - وهي عديدة - ولكنه كان أحد عيوب النظرية الماركسية ذاتها؛ إذ أعلن ماركس «أن الحق ليس هو هدفنا بل الثورة»، وكذلك دعا إنجلز الطبقة العاملة إلى التخلص من المعنى الزائف للعدل والإنسانية والبحث عن حل لمشاكلها في الصراع الطبقي للبروليتاريا. وهذا الصراع لا يقوم على أساس من القانون باعتبار هذا الأخير - في رأي إنجلز - أيديولوجية برجوازية، وأن الهدف الأقصى للنزعة الاشتراكية ليس بناء مجتمع عادل ولكن بناء مجتمع بلا طبقات.
أدرك بلوخ هذا الخلل الأساسي في الماركسية وسلط عليه الضوء. وفي ذروة الطغيان الستاليني رفع راية الحق وبين أن إنهاء استغلال الإنسان لإنسان آخر لا يمكن أن يتحقق في مجتمع تهان فيه الكرامة البشرية، وأن السعادة لا يمكن لها أن تزدهر إلا في مناخ الحرية، كما لا يمكن أن يأتي العدل من فوق كقدر، ولكن لا بد أن يأتي العدل من أسفل، وبدونه لن تقوم للحقوق الإنسانية قائمة، فلا ديمقراطية بدون اشتراكية، ولا اشتراكية بدون ديمقراطية. أما الماركسية فقد سمحت بقيام مجتمعات اشتراكية بدون ديمقراطية. والواقع أن موقف بلوخ - كما يقول
Ljubomir Tadie - يستحق التقدير، ففي ذروة الأزمة أكد على ضرورة إحياء التراث الثوري، كما شدد على أن التفكير بشكل فلسفي في قضية الحقوق الإنسانية يعني أن نبحث عن الحقيقة والحرية والمعنى، فالحرية بالنسبة له هي أساس الحق. وفي حوار له مع «فرتس فليمار» أشار بلوخ إلى أن مقولة الديكتاتورية لم تحلل بالقدر الكافي في النظرية الماركسية، ونتيجة لهذا سمحت بإمكانية ممارسة الظلم من مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا.
3
وعلى المجتمعات الاشتراكية ألا تكتفي بالقضاء على الاستغلال الرأسمالي وطغيان المصنع، بل عليها أيضا ألا تقيم مصنعا للطغيان. فتصور بلوخ للاستغلال كان أعمق من التصور الماركسي له؛ إذ لم يحصره في الإنتاج الرأسمالي فقط كشكل من أشكال السيطرة القديمة والجديدة، بل نظر إليه كأحد أشكال إهانة الإنسان والحط من كرامته. (3) الأمل واللاهوت
من الإشكالات الهامة التي تثيرها فلسفة بلوخ للأمل اتهامها بالغائية الدينية، وبأنها ليست إلا محاولة للتوفيق بين الماركسية والدين. فهل يمكن القول بأن الأمل - بعد رحلته الطويلة عبر التراث البشري - انتهى في اللاهوت؟ وهل اهتمامه بالتراث الديني لكل ديانات العالم واستخدامه الدائم للغة الكتاب المقدس واستعارته للكثير من آياته انتهت إلى غلبة الفكر الديني على فلسفته؟ الحقيقة أن هذه المشكلة تبلورت في المساحة الواسعة التي أفسحها بلوخ لأهمية التراث الثقافي بالنسبة لتاريخ الفلسفة. وقد فهم التراث بالمعنى الواسع الذي يشمل كل ميادين الفكر والفلسفة والأدب والفن والعلم والدين، وقدم نسقه الفلسفي في إطار تقييم الإنجازات الثقافية للماضي وإمكان استخدامها في بناء الوعي الاجتماعي للجماهير. وجاء طرح بلوخ لمثل هذه القضايا من منطلق خوفه على المستقبل الذي يعد من أهم أبعاد فلسفته، خوفه من أن تلقي الماركسية بكل الميراث الثقافي بعيدا وتشكك في قيمته العقلية، وخوفه أيضا من خطر التعرض للوقوع في هاوية الفراغ الثقافي إذا بدأت البروليتاريا - التي كان من المفترض أن تنتصر في نهاية الأمر - من فجوة فلسفية ومعرفية فأراد أن يربطها بالتراث الإنساني. وقد اعتبر الماركسيون الرسميون - مثل مانفريد بور
4 - أن هذه نظرة تشاؤمية للطاقات الإبداعية الخلاقة للطبقة العاملة، وأنه ليس هناك تراث ثقافي يصلح لكل الأزمان، وأن ما هو صالح ومفيد من التراث مرتبط بفترة تاريخية محددة لأن مضمون التراث الثقافي يتغير بتطور النظام الاجتماعي.
5
وواقع الأمر أن وجهة النظر هذه مردود عليها؛ فعلى الرغم من أن كل ثقافة مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بظروف عصرها، إلا أن الثقافات والحضارات الأصيلة والعريقة التي تركت بصماتها على التاريخ تتضمن جزءا يعلو على الزمان والمكان، كما تتضمن إمكانات قابلة للتطور. وإذا لم يكن هذا صحيحا فكيف نفسر أن أعمالا لأفلاطون وأرسطو - في مجال الفلسفة - ما زالت قيد البحث والدراسة في العصر الحاضر. وكيف أن أعمالا لشكسبير وجوته وغيرهما - في مجال الأدب - ما زال يعاد تشكيلها؟! ولو لم تكن لهذه الأعمال قيمة ثقافية وعقلية لما أمكن تناولها بالدراسة والبحث على مدى عصور طويلة، ولو لم يكن في هذه الأعمال بذور أمل لما أمكن أن يلتقطها الباحثون والمبدعون ليكتشفوا ما فيها من إمكانات ويطوروه في أشكال وصيغ متجددة.
كان من الطبيعي أن يكون الدين هو أحد جوانب التراث الثقافي الذي يتعين على الماركسية - في رأي بلوخ - أن تأخذه بعين الاعتبار. والواقع أن هذه نتيجة حتمية لفلسفته - إذا أراد أن يكون صادقا مع نفسه وما يؤكده من عدم إهمال التراث الثقافي بمعناه الشامل - وجدير بالذكر أن اعتراضات بلوخ على الإهمال الماركسي للدين قد ظهرت في العديد من كتبه، ولكنها اتخذت شكلا صريحا ومباشرا في كتاباته المبكرة مثل «روح اليوتوبيا» و«توماس مونتسر» في حين اتخذت شكلا مقنعا في «مبدأ الأمل» الذي حاول فيه بلوخ أن يطابق بين الأمل والماركسية، على نحو ما تحولت «مملكة الخلاص» في الكتابات الأولى إلى «مملكة الحرية» في مبدأ الأمل. كتب بلوخ في روح اليوتوبيا قائلا: «هناك مشاكل أبدية للاشتياق (...) مشاكل تتجاوز التاريخ وتلهب روح الإنسان وتخلق وعيه الديني (...) حتى يوم الحساب الأخير، حتى الحصاد المروع لسفر الرؤيا.» وكتب أيضا ما يفيد بأن هذا الاشتياق هو القوة الدافعة للتغيير، وأن الاشتياق للخلاص هو القوة الدافعة للتطور التاريخي: «الاشتياق، الحلم، الحنين إلى المملكة المتعالية التي تقدم أساسا لجدل قوى الإنتاج، والصراع الطبقي ومقولات أخرى للصيرورة التاريخية.»
وفي كتابه عن «توماس مونتسر» لاهوتي الثورة أخذ بلوخ العنصر الديني بشكل أكثر جدية - كما ظهر واضحا من عنوان الكتاب الذي يربط بين اللاهوت والثورة - وأثبت أن هناك علاقة بين الظاهرة الاجتماعية التاريخية والظاهرة الدينية، وأن الوعي الثوري في الحركات الدينية ينمو في تاريخية عينية ويساعد في خلق وعي تاريخي. والنقطة الأساسية في دراسته التحليلية التاريخية لحياة مونتسر هي الارتباط الإيجابي بين اللاهوت والتحول الاجتماعي، فعلى الرغم من ارتباط مونتسر عقليا وروحيا بالتصوف إلا أنه لم يهرب إلى عالم صوفي روحاني، بل اهتم بتغيير العالم الواقعي، لأن التحول الداخلي يأتي أولا ثم يتجه إلى الخارج؛ إلى الواقع الاجتماعي المحيط به. وعلى الرغم كذلك من أهمية العامل الاقتصادي والسياسي في عمليات التغير الاجتماعي، إلا أن هناك شيئا ما أكثر من مجرد نظرية اقتصادية لتفسير الثورة والحركات التي تطالب بالتغير الاجتماعي. والمطلوب هو فهم وتحليل الخيال الديني، ومعرفة أن الأحلام والدوافع والخيال لم تكن أبدا مجرد أيديولوجيات فارغة لأن أحلام اليقظة نشأت من الروح.
في «مبدأ الأمل» يتجاوز بلوخ الرؤية الماركسية التي تؤكد دور العامل الاقتصادي والاجتماعي في تشكيل الإنسان والتاريخ، ويضيف إليها دور التاريخ الثقافي والتراث العقلي أو «البناء الفوقي» الذي يراه ماركس مجرد انعكاس للبناء التحتي. وهذا التراث العقلي يتضمن الدين الذي حث ماركس البروليتاريا على التخلص منه. لقد التف بلوخ حول صورة المستقبل التي رسمها ماركس وألقى بالعامل الاقتصادي في ميتافيزيقا أوسع، وأضاف للماركسية أبعادا أنثروبولوجية متعددة الجوانب تساهم في تشكيل المستقبل. وهذه الصورة اليوتوبية المستقبلية التي رسمها بلوخ دفعت خصومه إلى اتهام فلسفة الأمل بأنها ليست ماركسية بأية حال. ذلك لأن الفلسفة الماركسية الرسمية - كما يقول مانفريد بور - يجب أن تبدأ فيما وراء كل دين، ولأنها تطورت من صراعها مع الدين وانقطاع الجسور بينهما، كما أن كل من يريد بناء عالم أفضل لا بد أن يمحو كل تفكير ديني، بل ويحيل الدين إلى متحف التاريخ. والخلاصة أن المنبع الديني لفلسفة الأمل يجعلها متناقضة مع الماركسية ومتطابقة مع الفلسفة البرجوازية المعاصرة. والقول بأن هناك أسرارا في العالم، والإصرار على الحاجة المستمرة للدين في المجتمع الخالي من الطبقات، وطرح أسئلة عن الوجود وعن معنى الموت، وارتباط كل هذه المشكلات بظاهرة الاغتراب، وارتباط كل شيء بالأمل، كل هذا جعل بلوخ قريبا من فلسفات الوجود.
6
لا شك أن هذا النقد محاولة لوضع الفكر الفلسفي في قالب محدد، وتصنيفه وفق إطار ضيق الأفق كأن يكون الفيلسوف وجوديا أو ماركسيا أو مثاليا ... إلخ، في حين أن الفكر الفلسفي الذي يعبر عن أبعاد التجربة الإنسانية لا يمكن تقطيع أوصاله أو قولبته على هذا النحو، وليس هناك ما يمنع أن يجمع الفيلسوف في فكره أبعادا مختلفة ومتنوعة من الفلسفات الأخرى. وليس هذا دفاعا عن بلوخ بوجه خاص، ولكنه دفاع عن أي فكر حر بوجه عام. هذا من جانب، ومن جانب آخر يفرض هذا السؤال نفسه في هذا المجال: هل هناك ضرورة لإلغاء الدين من أجل قيام مجتمع اشتراكي؟ وهل استطاعت الماركسية - بالفعل - أن تمحو الدين من ذاكرة الشعوب التي سيطرت عليها فيما كان يسمى بالمجتمعات الاشتراكية؟ إن الانهيار الهائل والسريع لهذه المجتمعات، وما أعقبه من ظهور النزعات الدينية والقومية يشهد على زيف هذا الادعاء. وما فعلته الماركسية ما هو إلا محاولة للاستعاضة عن الدين السماوي بآخر دنيوي، وتحويل عبادة الإنسان لله إلى عبادة الإنسان للإنسان، وخلق فئة معصومة من الخطأ وضعت نفسها في مصاف الأنبياء، ومحاولة استبدال الاستشهاد بنصوص من ماركس وإنجلز ولينين بآيات الكتب المقدسة. ربما نتفق مع الرأي القائل بضرورة فصل الدين عن الدولة، ولكن ليس هناك ضرورة على الإطلاق لفصل الإنسان عن دينه ومشاعره الروحية من أجل قيام مجتمع اشتراكي عادل. وإذا كانت الديانات السماوية، وغير السماوية، قد دعت إلى التسامح، فإن الديانة الماركسية - إذا صح هذا التعبير - لم تعرف التسامح، بل قهرت كل من لا يعتنقها أو يخالفها الرأي؛ مما جعل النظم الاشتراكية تتحول إلى نظم استبدادية. والحقيقة أن نظرة بلوخ للتراث الديني كانت أوسع أفقا وأكثر عمقا من الماركسية، التي أحالت الدين إلى متحف التاريخ وتجاهلت أن التراث الديني كان أساسا للإبداعات الفنية والأدبية والعلمية. وإذا كان بلوخ يرفض الدين بمعناه الماورائي فهو ينظر إلى الجانب الثوري منه، وإلى منظور الأمل في كل ديانات العالم. ومحاولة تثوير الدين هي من الأمور المشروعة، فالدين بطبيعته ينطوي على جانب ثوري ضد أوضاع فاسدة، وجاء ليبشر بأمل جديد لنصرة الفقراء والضعفاء والمضطهدين في الأرض.
وعلى الرغم من كل ما سبق فإن فلسفة بلوخ ستبقى ناقصة ومجتزأة إذا لم نضعها في أفق ماركس والماركسية والصراع الطبقي والحركة الاشتراكية العالمية. ولا يستقيم البحث في هذه الفلسفة بغير وضعها في هذا السياق «الأيديولوجي» الذي حاول الكثيرون من النقاد أن يخففوا منه، أو يقللوا من شأنه، أو يبينوا بعده عن الماركسية الأصيلة واختلاطه بعناصر غريبة عليها من مثالية وصوفية ودينية ووجودية ... إلخ. وقد كانت الماركسية هي الخلفية الأيديولوجية لمبدأ الأمل، بحيث كانت هذه الخلفية بمثابة الرصيد المدخر والإعداد الضروري للجبهة التي يدور فيها الصراع من أجل إبراز «الجديد»، ويتم فيها قلب الأوضاع بغية تحقيق «الحلم» أو «الأمل» اليوتوبي في مجتمع الحرية والعدالة. وجملة القول أن «مبدأ الأمل» لا ينتهي بالإطلال على عالم أخروي مثل مملكة الرب التي ينتظر المؤمنون المسيحيون أن تصبح يوما من الأيام حقيقة على الأرض، وإنما يختتم الكتاب بتأكيد الجانب الإنساني الخالص من الماركسية الذي سيقضي على اغتراب الإنسان والمحاولات التاريخية المتكررة لتجريده من إنسانيته، وكذلك بتأكيد أن هذه الإنسانية الماركسية لم تستنفد بعد ولم تتحقق كتجربة حية معيشة. وتقف الحرية - هذه الكلمة التي طالما أسيء فهمها واستعمالها - عند نهاية الطريق باعتبارها الهدف الذي يتوجه إليه الأمل وهي - أي الحرية - ليست هدفا يتحقق في لا مكان (وهي الترجمة الحرفية لكلمة يوتوبيا) وإنما يتحقق خطوة خطوة؛ بالتحرر من الحاجة والخوف، بحرية تفتيح الطاقات والإمكانات لدى الفرد والجماعة، وحرية التضامن مع جميع البشر. فالحرية ليست حلما بعيدا في الضباب، وإنما هي قابلة للتحقق في الواقع، وإن كان ذلك بطريقة تدريجية. إن الحرية «إمكان واقعي» كما يؤكد بلوخ بصفة مستمرة، وعلينا نحن ألا نضيع فرصتها. (4) الأمل كمقولة معرفية
أثارت مقولة الأمل مشكلات عديدة، من أهمها الاعتراض على إمكان إقامة نسق فلسفي على أساس مقولة غير عقلية. لقد ارتبطت الكلمة لفترة طويلة بمعنى عاطفي يقصد به التمني أو الرجاء. فهل نجح بلوخ في أن يتجاوز المعنى الوجداني الذي يوحي به مفهوم الكلمة إلى معنى فلسفي أكثر شمولا؟ وبمعنى آخر: هل أصابه التوفيق في تحليله للوعي الذاتي والموضوعي بالأمل؟ وهل استطاع بتحليله الأنثروبولوجي والأنطولوجي لحلم اليقظة وال «ليس-بعد» أن يؤسس الأمل كمقولة معرفية تتضمن مضمونا معرفيا حقيقيا بالمستقبل وتستشرف ما لم يأت بعد في الحاضر؟ إن هذه الأسئلة تعبر عن أحد الإشكالات العديدة التي تثيرها فلسفة الأمل. وقد أقام بلوخ - كفيلسوف ماركسي - نسقه الفلسفي على بعض القضايا المنهجية الأساسية للماركسية وأهمها أن مهمة الفلاسفة ليست تفسير العالم، بل تغييره، وأنه «في المجتمع البرجوازي يتحكم الماضي في الحاضر، وفي المجتمع الشيوعي يتحكم الحاضر في الماضي.» أخذ بلوخ هاتين القضيتين وأضاف إليهما قضية أخرى «والحاضر يحكم الماضي بانفتاحه على المستقبل»، ولم يكتف بربط مبدئه المعرفي الأساسي بما تم في الماضي فقط، بل بشكل أساسي بما سوف يأتي في المستقبل. بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل هناك جانب معرفي حقيقي لمقولة الأمل، أم أن فلسفة الأمل تحمل الأمور أكثر مما تحتمل، وتنفتح على المستقبل انفتاحا غير مسئول من الناحية المعرفية؟ بعبارة أخرى، هل يمكن الكلام بشكل جاد عن الجانب المعرفي للأمل؟
لقد سبق التعريف بالبنية الأنثروبولوجية والأنطولوجية للأمل في التوقع وال «ليس-بعد» كما سبق شرح اتجاه المادة والوعي كليهما نحو المستقبل. ولكن هذا الاتجاه للمستقبل يمكن في رأي هارولد ه. أوليفر
7
أن يعقد الأساس الذي بنى عليه بلوخ فكره. فلو سلمنا معه بأن الجوع هو الفزع الأول من الفراغ، وأن الحياة تتجه دائما ناحية الإشباع، فإنه لا يقف عند هذا الحد وإنما يصر على طريقته اليوتوبية على أن أي إشباع لا يتحقق تحققا كاملا شاملا، أي على أن كل إشباع بطبيعته ناقص، ومن ثم لا تكمن عظمة الحياة في أنها إشباع كامل، بل في أنها تتجه على الدوام إلى الأمام حيث إمكانية الجديد المتجدد باستمرار، هذا الجديد الذي يتجه بدوره إلى أقصى وأشمل جديد ممكن.
8
ويمكن الرد على هذا الاعتراض بأنه من الطبيعي أن يختار بلوخ التعالي المتجه إلى الأمام، خاصة إذا كان ينكر التعالي الرأسي والماورائي ويحاول أن يقيم فلسفته على أساس دنيوي وواقعي مادي. ومع هذا يظل السؤال قائما: هل هناك معنى للحديث عن معرفة بواقع لم يتحقق بعد؟ يتفق أوليفر مع بلوخ - أو غيره ممن يستخدمون مقولة الأمل - على وجود عنصر مستقبلي أو توقعي في فعل المعرفة، ولكن الاعتراف بهذا لا يتضمن - في رأيه - أن لغة الخطاب المستقبلي تقدم لنا أي معرفة حقيقية بالمستقبل، مهما نظرنا إلى الوجود والتاريخ من جهة الغاية النهائية التي يتجهان إليها والتي يسميها بلوخ بأوصاف مختلفة مثل الجديد والأقصى ... إلخ .
9
والرد على هذا الاعتراض بأن المعرفة بالمستقبل هي بالضرورة معرفة غامضة أو لا ترقى إلى حد وصفها بأنها معرفة؛ يمكن أن نوجزه فيما يلي:
أولا: إن هذه المعرفة المستقبلية هي عند بلوخ معرفة جدلية قابلة للنمو والتطور باستمرار. ثانيا: إن حديثه عن الجديد والممكن - إلى آخر ما تم عرضه في مقولة الإمكان وال «ليس-بعد» - لا يتضمن أن أي جديد أو أي ممكن يحمل بذور التحقق، وإنما يحملها الجديد الذي يتم الوعي به ودراسته دراسة علمية في سياق الشروط الذاتية والموضوعية المحيطة به، بحيث يبقى على الإرادة الإنسانية أن تحقق هذا الجديد الممكن في الواقع العيني. ومعنى هذا كله أن المعرفة المستقبلية ليست غامضة كما يتصور بعض نقاد بلوخ، وإنما تقوم دائما على أساس جدلي وعلى وعي دقيق وإرادة ثورية حتى تتحول إلى معرفة واقعية عينية.
وتتضمن مقولة الأمل في رأي بعض النقاد التحليليين بعض الأسئلة التي تدور حول منطقية هذه المقولة ومدى صدقها أو دلالتها الحقيقية من الناحية المعرفية. فقد تبدو هذه الناحية المنطقية غير أساسية أو غير مهمة بالنسبة للفلاسفة الذين يهتمون بتغيير العالم. ولكن هل يمكن - في نظر النقاد التحليليين - أن يحميهم هذا من النقد اللغوي والمنطقي لعباراتهم المتوهجة عن الأمل؟ وهل يمكن القول بأن عبارات الأمل التي تنطوي على توقع معين عن المستقبل، هي عبارات صادقة أو كاذبة، أم هي - كما يقول بعض الوضعيين المناطقة - شبيهة بعبارات الميتافيزيقا التي لا هي صادقة ولا كاذبة بل فارغة من المعنى؟ سنورد هنا مثلا لهذا النقد التحليلي المنطقي ورد في المقال السابق الذكر لهارولد أوليفر، فهو يقول فيه إن هناك ثلاث نظريات عن الوضع الأنطولوجي للمستقبل وكل منها تقدم إجابة مختلفة عن الأسئلة التالية: هل المستقبل واقعي تماما ومحدد أم لا؟ هل التنبؤ بالمستقبل أو الإخبار عنه صادق أم كاذب أم خال من المعنى؟ هل العبارات التي تشير إلى أشياء أو أحداث في المستقبل لها مدلولات تدل عليها أم أنها تفشل في ذلك لأن هذه المدلولات الجزئية لا وجود لها؟ ويستطرد الناقد التحليلي قائلا إنه إذا صحت النظرية التي تقول إن مقولة المستقبل مقولة «فارغة» لأن المستقبل غير واقعي، فإن العبارات التي تتحدث عن أحداث مستقبلية معينة لا تكون من الناحية المنطقية صادقة ولا كاذبة، لأن هذه العبارات لا يكون لها معنى إلا إذا تحققت الأحداث المستقبلية التي تتحدث عنها تحققا واقعيا أو لم تتحقق على الإطلاق في الواقع، بحيث يمكن الحكم عليها في الحالتين بالصدق أو بالكذب. أما العبارة التي تقول إن المستقبل غير واقعي إلى حد ما فهي تقرر أن المستقبل لا يكون واقعيا إلا إذا تحدد تحددا عليا (أو سببيا) بالحاضر أو بالماضي، ومعنى هذا أن جوانب المستقبل التي ليس لها علل محددة هي جوانب غير موجودة أو غير واقعية، أما النظرية الثالثة عن المستقبل الكامل فتذهب إلى أن المستقبل بأكمله واقعي أو عيني، وبيان هذا أن كل عبارة ذات معنى عما سوف يحدث في المستقبل هي إما صادقة وإما كاذبة، بحيث يمكن الإحالة إلى مدلولاتها الجزئية في المستقبل.
10
الواقع أن وضع المشكلة في هذا الإطار الذي تحدده الفلسفة التحليلية المنطقية شيء بعيد عن بلوخ، كما أنه سيكون من وجهة نظره وضعا مملا وعقيما. وربما يكون فلاسفة التحليل المنطقي محقين في مطالبتهم بالتحليل المنطقي للعبارات والقضايا المهمة التي ترد عند فلاسفة الأمل ومنهم بلوخ، وذلك مثل الوضع المعرفي للأمل وطبيعة المستقبل والمشكلات المنطقية المتعلقة بالاحتمال والإمكان والوضع الأنطولوجي للمستقبل الذي لا نستطيع في رأيهم الحكم عليه لأنه لم يتم بعد. ولكن السؤال هو: هل هذا التحليل المنطقي هو الإطار الملائم لتوضيح أمثال هذه القضايا، أم أن مناقشتها تحتاج بالضرورة إلى وضعها في سياق ميتافيزيقي وسياسي وفلسفي أوسع؟ الحق أن إثارة مثل هذه القضايا - أي وضع مقولات المستقبل في إطار تحليل منطقي - لا يأتي عن اقتناع برأي أصحابها أو بمنهجهم، بقدر ما يعبر عن أهمية هذه المقولات واحتياجها إلى دراسة معرفية دقيقة. ولا نستطيع أن نقطع بأن إحدى النظريات السابقة عن المستقبل هي النظرية الصادقة، ولكن مجرد الحديث عن المستقبل يشير إلى تناهي التجربة البشرية، كما أن الإصرار على الأمل في المستقبل واللغة الغنية التي يتم بها الحديث عما لم يأت بعد يؤكدان أن صور المستقبل وخيالاته تنطوي على رموز شديدة القوة والأهمية في التجربة الإنسانية سواء في الماضي أو في الحاضر. وإذا كان كل حديث عن المستقبل ينطوي على قدر من الرمزية، كما أن عبارات الأمل لا يمكن أن تؤخذ حرفيا على أنها معرفة بالمستقبل، فلا يمكن في الوقت نفسه الاكتفاء بدلالاتها الرمزية، ولا يمكن أيضا غض الطرف عنها بحجة أنها مجرد خيالات أو تخيلات. والاحتجاج بأن عبارات المستقبل لم تصدق بعد يؤجل السؤال عن صدقها ويجعلها تعبيرات هشة عن الانجذاب للجديد والاندفاع إلى التغيير. كما أنها تعرض فلسفة سياسية مثل فلسفة بلوخ لأن تؤخذ مأخذا غير نقدي ولا جاد باعتبار أن صدقها لن يتحقق إلا في المستقبل. وخلاصة القول أن السؤال عن صدق هذه العبارات أمر مشروع ولا يصح أن يؤجل، كما ينبغي عدم إعفائها من الفحص النقدي حتى لا تظل رموزها رموزا غامضة ولا يساء فهمها أو تأويلها بأنها مضللة.
إن إثارة مثل هذه المشكلات المنطقية والتحليلية عن قيمة الصدق في عبارات الأمل وال «ليس-بعد» ليس إلا من قبيل الحرص على ألا تتهم فلسفة بلوخ بأنها مجرد فلسفة رمزية غامضة، وأن مشروعيتها تقوم فقط على حقيقة أن بعد الأمل يمثل بعدا هاما من أبعاد التجربة الإنسانية في الحاضر والماضي على السواء؛ مما يشكك في قيمتها المعرفية والمنطقية إلى حد اتهامها بالغموض والتضليل. ولعل التحليل السابق لطبقات مقولة الإمكان يؤكد أن بلوخ نفسه لم يغفل تماما البعد المعرفي لمقولتي الإمكان وال «ليس-بعد» اللتين تمثلان العصب الأساسي لمقولة الأمل. وإذا كان بلوخ قد تناول هذا التحليل المعرفي في سياق فلسفته السياسية والمادية الجدلية، فيمكن القول بأن هذا الجانب المعرفي والمنطقي يحتاج إلى مزيد من الفحص والتحليل، سواء من وجهة النظر الإبستمولوجية الخالصة أو من وجهة النظر التحليلية المنطقية. وعلى أية حال فإن تجربة الأمل ليست مجرد وضع أو جمع أفكار عن المستقبل، وإن كانت صيغتها ستتضمن بالضرورة رموزا مستقبلية، إذ يمكن القول بأن الأمل في النهاية هو أسلوب في الحياة، وأن الأمل الأصيل هو الذي يؤدي بنا إلى مواجهة الحياة مواجهة مسئولة بحيث يكون الوجود البشري هو «الوجود في الأمل». (5) الأمل والمستقبل
تتسم فلسفة بلوخ بأنها فلسفة مستقبلية تنظر إلى الزمان والتاريخ من منظور توجههما نحو المستقبل. فما هي أهمية هذه الفلسفة المستقبلية؟ وماذا يعني المستقبل - هذا البعد الهام من أبعاد الزمان - للفكر الفلسفي بصفة عامة؟ وما أهميته في فلسفة بلوخ بصفة خاصة؟ الحقيقة أنه لا يمكن لأي مشتغل بالفكر في عصرنا أن يغفل أهمية المستقبل بالنسبة للفلسفة عامة. فقد أصبح - أي المستقبل - يمثل مشكلة فلسفية، بل ومن أهم المشكلات التي تشغل الفلسفة في الوقت الراهن، كما أصبح هو التحدي الحقيقي الذي يواجهها. أما عن أهمية المستقبل في فلسفة بلوخ، فقد انعكس في عدم طرحها أفكارا نهائية وعدم تقديمها نسقا مغلقا، بل إن تمسكها ببعد المستقبل جعل منها فلسفة حية ومفتوحة وقابلة لكل من يأتي من بعده - أي بعد بلوخ - لأن يضيف إليها ويستكملها ويجددها.
ومن هذا المنظور المستقبلي نظر بلوخ إلى الماركسية التي لا يمكن في نظره أن تنحصر مهمتها في بناء مجتمع اشتراكي قائم على اقتصاد موجه فقط، بل يجب أن تعكس أفق المستقبل الذي هو موضوع الفلسفة، ولا بد للفلسفة أن تقفز إلى ما وراء الحاضر الاشتراكي وأن تتجه للهدف البعيد؛ الهدف الذي لا يتحدد ويصفه بلوخ بأوصاف عديدة كالجديد والخير الأسمى والكل اليوتوبي والوطن ... إلخ. إن مقولة ال «ليس-بعد» تنطبق على الماركسية أيضا باعتبارها فلسفة لم تكتمل بعد، وبهذا يكون بلوخ صادقا مع نسقه الفكري المفتوح، وتمسكه بالماركسية حتى اللحظة الأخيرة من حياته لم يجعله يقصر فلسفته على الاشتراكية القائمة أو يحصرها فيها، بل طالب دائما بتجاوزها وفتح أبواب أوسع على آفاق المستقبل. ولكن الماركسية الرسمية نظرت إلى المستقبل المفتوح عند بلوخ على أنه موضوع للتأمل، وأن فلسفته برمتها ما هي إلا مثالية صوفية تأملية. وقد عبر بور عن ذلك بقوله: «إن المستقبل ليس موضوعا للتأمل وإنما هو مشروع تاريخي عيني، وقد أصبح المستقبل واقعا وحاضرا (...) ومنذ ماركس نظريا ولينين وثورة أكتوبر عمليا لم يعد الإنسان والعالم في صراع مع بعضهما البعض، بل دخلا مملكة الحرية. إن مهمة الفلسفة في المقام الأول هو الدفاع عن الإنجازات الاشتراكية بكل الوسائل، وإن البعد الاشتراكي في الماركسية لا يتوافق مع المبدأ التاريخي للأمل الذي لم يحدد عينيا، والذي ما زال في طي الأفق (...) ويؤمن بلوخ بأن الماركسية - بلغة كانط - نقد للعقل الخالص ويجب أن تتم بنقد للعقل العملي.»
11
ولكن بور يؤكد أن نقد العقل العملي هذا لا داعي له أبدا لأنه في الواقع هو التطبيق العملي للاشتراكية.
وفي مقالة أخرى اتهم مانفريد بور بلوخ بأنه يحاول إيجاد مكان للماركسية في تفكيره الخاص وإدماجها - أي الماركسية - فيه باعتبارها جزءا منه، بدلا من أن يجعل فكره الخاص جزءا من الفكر الماركسي كما ينبغي لإنسان يصف نفسه بأنه ماركسي. وقد اتهمه كذلك بأنه رفض الدخول في الحزب الاشتراكي لأنه تصور أن هذا يعني الخضوع للحزب والتخلي عن «روح اليوتوبيا» التي لا تتقيد بحدود ثابتة ولا تنحصر في إطار محدد. ويورد بور نصا من روح اليوتوبيا يشرح فيه بلوخ سبب ضعف اهتمام الماركسية بالعقل العملي: «إن التأكيد الشديد على العوامل الاقتصادية وإهمال الجوانب المتعالية هما اللذان جعلا الماركسية نقدا للعقل الخالص الذي ما زال يبحث عن نقد ملائم للعقل العملي، لقد أبرزت الماركسية الجانب الاقتصادي لكنها تركته مجردا من الروح.» ويدعم بلوخ هذا المطلب الأساسي لنقد العقل العملي الذي تفتقر إليه الماركسية من خلال تأكيد العلاقة بين الخارج والباطن. فالماركسية والدين - اللذان يتفقان في إرادة السيطرة - ينطويان على تيارات سفلية مشابهة هي الروح والمخلص، حيث نجد أن الانتباه إلى الكل الشامل هو الدافع إلى العمل والمعرفة، كما أنهما يكونان الشروط القبلية لكل سياسة أو ثقافة. ويتهم بور بلوخ بأنه عجز في ذروة تفكيره عن كسر مرآة المجتمع البرجوازي فلم يستطع أن يرى أن نقد العقل العملي الماركسي الذي، يطالب به هو على التحديد، الكفاح التاريخي للطبقة العاملة وللتنظيم الحزبي. إن تفكير بلوخ يظل محصورا في حدود المجتمع البرجوازي، ولكنه تفكير يعبر عن مرحلة انتقال. وحديث بلوخ عن التقدم للأمام هو في الواقع قفز وراء الواقع التاريخي الدائر من حوله والعمليات الواقعية التي تحركه. وبدلا من أن يشعر بهذه العملية التاريخية من حوله نجده يستبدل بها غاية نهائية يضعها بصورة أولية في العالم نفسه لا في الصيرورة الاجتماعية.
12
ومعنى هذا أن بور يتهم بلوخ بأنه يستبدل بالكفاح التاريخي صيرورة كونية غامضة. وحقيقة الأمر أن تفكير بلوخ ليس محصورا في حدود المجتمع البرجوازي كما يزعم بور، ولكن اتساع نظرته على المستوى الإنساني والكوني جعله يدخل الماركسية-اللينينية كجزء من هذا المتطور الكلي، فلا يمكن تجاهل السمات الأساسية في تفكير بلوخ كالثراء الثقافي وتعدد المناظير والإبداع والنزعة الإنسانية والنزعة التفاؤلية، كل هذا جعل الماركسية بصفة عامة تنطوي في نسقه الفكري إلى الحد الذي دعا بور إلى التساؤل: هل كان ماركسيا أم لم يكن؟ ويمكن الرد على السؤال بآخر: وهل يتهم الفيلسوف - سواء كان ماركسيا أم لم يكن - بعمق تفكيره؟ ألم يكن بلوخ أكثر إحساسا بالتاريخ عندما أعلن أن الماركسية لم تقدم إلا نقدا للعقل الخالص، وما زال عليها أن تستكمله بنقد للعقل العملي؟ ألم يثبت الانهيار الأخير للنظم الاشتراكية صدق حسه بالتاريخ! لقد أثبتت الدراسات التي اهتمت ببحث أسباب فشل هذه النظم أن الماركسية ما زالت بالفعل نظرية ناقصة، فها هو جاك بيديه يعلن أن «ما أنتجته الماركسية هو نظرية نصف عامة للتاريخ، نظرية تعبرها خطوط فلسفية مختلفة، ثم وجدت نفسها بعد ذلك متبلورة في لغات فلسفية مختلفة (...) فالماركسية بهذا المعنى في حاجة إلى من يكملها.»
13
إن فلسفة بلوخ للأمل - على الرغم من أنها فلسفة تقدمية - تتسم بنزعة تفاؤلية وانفتاح هائل ودائم على المستقبل، إلا أنها لم تؤمن بحتمية هذا التقدم المتجه إلى الإمام إلى الحد الذي يجعلها تغفل الجانب السلبي من الأمل، بل وضعت نصب عينيها دائما الواقع العيني المتغير، فهي تستقرئ ما فيه من تحولات وإمكانات كامنة، كما أنها لم تغفل الطبيعة الإنسانية المتغيرة في التاريخ، فليس هناك حتمية تاريخية تجعل الأمل يتجه بالضرورة إلى الأمام، فمن الممكن - كما حدث في فترات كثيرة من التاريخ - أن يصاب الأمل بخيبة الأمل. وربما يكون الانهيار الأخير في النظم الاشتراكية - طبقا لفلسفة بلوخ الجدلية - هو إحدى فترات خيبة الأمل. ولا يعني هذا أن يموت الأمل، فمن الممكن أن ينهض من كبوته مرة أخرى بعد أن تدرس تحولات الواقع وشروطه الذاتية والموضوعية دراسة دقيقة، وربما تنهض الاشتراكية مرة أخرى، في المستقبل القريب أو البعيد، في ثوب أكثر إنسانية وحرية وتسامحا. إن نظرة بلوخ الجدلية للتاريخ وللواقع تتسم بالمرونة وتبتعد عن التصلب الذي طبع النظرية الماركسية وجعلها تؤمن إيمانا لا رجعة فيه بقوانين الحتمية التاريخية وحتمية الثورة في إحداث التحولات الكبرى في التاريخ؛ مما جعلها ترفض أي تحول سلمي لمراحل التطور، بل وتنظر إليه على أنه من قبيل الأيديولوجية البرجوازية. وإيمانها - أي النظرية الماركسية - بالحتمية التاريخية جعلها - كما يقول د. فؤاد زكريا - تغلب النظرية على الواقع المعقد المتجدد (...) ولا شك أن الإسراف في الفكر النظري يؤدي إلى الإفراط في التنبؤ، فيبدو التاريخ وكأنه مراحل حتمية لا مفر من حدوثها. كما انتقل التاريخ من مرحلة العبودية إلى مرحلة الإقطاع، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية. ويصور هذا الانتقال كما لو كان قدرا محتوما لا فكاك منه، وكأن هناك قوة تعلو على الأفراد والأنظمة والحكومات اسمها «حتمية التاريخ» تعمل على دفع الأحداث في الاتجاه الذي تتنبأ به النظرية.
14
وضع خصوم بلوخ فلسفته في سياق ما يسمونه الفلسفة البرجوازية، وراحوا يؤكدون ارتباطه بالفلسفة الألمانية الكلاسيكية من ناحية وبفلسفة الحياة والوجودية من ناحية أخرى، بل يؤكدون أنها وجودية معكوسة تضع الأمل في مكان «الهم والقلق» وأنها تعبر عن احتجاج فردي على الرأسمالية وتعد بخلاص دنيوي في «مملكة الحرية» أو الجنة الأرضية، لكي تشتت أنظار الساخطين والمضطهدين بالأمل الغامض في مجتمع أفضل لا يقل عنه غموضا. ولهذا يظل بلوخ في نظرهم فيلسوفا مثاليا امتزجت في فلسفته عناصر صوفية ودينية ومثالية من التراث بحيث لا تتصل ماديته أدنى صلة بالمادية الجدلية، لأن جدليته المثالية والذاتية تبتعد في رأيهم بعدا شديدا عن الجدلية الماركسية «الموضوعية»، كما أن فلسفته في الأمل والاشتراكية اليوتوبية وفكرة الخلاص العالمي لا يمكن التوفيق بينها وبين المادية الجدلية التاريخية و«العلمية». وقد تصور هؤلاء الماركسيون الحرفيون أن الاشتراكية العلمية قد أنهت كل تفكير يوتوبي بحيث أصبح مفهوم اليوتوبيا مفهوما مجردا ومتعارضا مع البناء الاشتراكي والتطور العقلي والاجتماعي، ونسوا أن الجدل المادي - بحكم مفهومه نفسه - يوتوبي بحكم طبيعته، ومنفتح على المستقبل.
خلاصة القول أن مادية بلوخ تتهم بأنها مادية تأملية، كما تتهم ماركسيته بأنها ماركسية مثالية وصوفية، حتى إن هابرماس - وهو من الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت - يصفه بأنه شيلنج الماركسية، كما يوصف أيضا بأنه نبي جديد يبشر بالخلاص على لسان ماركس. ويمكن الرد على كل الاتجاهات السابقة بأنه لا يؤخذ على الفيلسوف أن تكون ثقافته موسوعية، ولا يمكن أن يعاب عليه أن تستوعب فلسفته كل التراث الإنساني وكل التيارات الفلسفية في عصره وفي تراثه القومي والوطني بوجه خاص، لأن المهم هو كيف تتفاعل كل هذه الفلسفات في نسق فلسفي جديد وأصيل ومتميز. لقد عاش بلوخ في عصر تفاعلت فيه الثقافات والفلسفات، ومن الطبيعي أن تلتحم فلسفته بمشاكل عصره وهمومه، وما أثارته فلسفته من مشكلات وما طرحته من أسئلة - لم يجب عنها هو نفسه - إنما تعبر عن أزمة الماركسية المعاصرة، وليس عن أزمة في فلسفته ذاتها، لأن الفلسفة الحقة ليست هي تلك التي تقدم إجابات جاهزة أو تطرح حلولا صالحة لكل زمان ومكان، وإنما هي تلك التي تقاس أصالتها بقدر ما تطرحه من مشكلات وأسئلة وقضايا، وعلى كل عصر أن يحاول الإجابة عنها وإيجاد حلول لها بما يتفق مع واقعه الاجتماعي وسياقه التاريخي ومتطلبات عصره. لذلك لا يمكن القول بأن شيلنج - المثالي الصوفي - هو المنتصر في نهاية «مبدأ الأمل»، وإنما المنتصر هو ماركس الحقيقي، أو بمعنى أكثر دقة الماركسية الإنسانية. ويعود إصرار بلوخ على الفكر الماركسي إلى اهتمام هذا الأخير بالاندفاع نحو المستقبل، فتاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى هيجل قد حصر الفكر في دائرة الماضي، ثم جاء ماركس ليدفعه نحو المستقبل، وأقامه على أسس اقتصادية وعلى تحليله للصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي. واتخذ بلوخ من هذه الاندفاعة الأولى نقطة انطلاق ليؤسس هذا المستقبل فلسفيا، وتجاوز الحدود الماركسية لينطلق إلى آفاق أرحب، وأقام نسقا فلسفيا كاملا ومفتوحا على مستقبل إنساني وواقعي ممكن.
وعلى الرغم من صعوبة استخلاص هذا النسق الفلسفي كما قلنا في بداية هذا البحث بسبب ما يتسم به من غموض وتعقيد شديدين، واستطراد في تفاصيل لا نهائية إلى حد التشوش وبأسلوب تغلب عليه الصور الفنية (الاستعارة والمجاز والرمز) على الرغم من كل هذا، فلا نستطيع أن نغفل ما قدمه هذا النسق عن أهمية الأمل ودوره في إحيائه في عصر استفحلت فيه الأزمات والاضطرابات والحروب وسائر المشكلات العالمية الملحة التي جعلت عددا كبيرا من المشتغلين بالفلسفة والفكر يهتمون بقضية المستقبل بكل أبعادها. كما لا يمكن إغفال انفتاحه الهائل على المستقبل، هذا البعد الغائب إلى حد كبير في فلسفتنا العربية. وقد لا يكون أمل بلوخ هو بالضرورة أملنا، وقد لا يكون هدفه هو بالضرورة هدفنا، ولكن ما يهمنا من هذه الفلسفة هو التشبث بالأمل ليكون عونا لنا في عالمنا الثالث لفتح آفاق أوسع للمستقبل، حتى نخطو خطواتنا الأولى نحو التاريخ الحقيقي الذي هو بداية الطريق للوصول إلى الغاية النهائية إلى «مملكة الحرية». وهنا يمكننا أن نقول مع بلوخ إن الإنسان لا يزال يحيا فيما قبل التاريخ، وإن كل شيء لا يزال في مرحلة سابقة على خلق العالم الحق، وإن «النشوء» أو «التكوين» الحقيقي لا يكون في البداية، وإنما يبدأ من النهاية - أي نهاية تاريخ الظلم والاغتراب والاستغلال - وسيبدأ هذا التاريخ «الجديد» و«الأصيل» عندما يصبح المجتمع والإنسان جذريين، أي عندما يتشبثان بالجذور، وجذر التاريخ هو الإنسان الذي يعمل ويبدع ويعيد تشكيل المعطيات القائمة ويتجاوزها. فإذا استطاع أن يمسك بجذوره ويؤسس إنسانيته بعيدا عن الاغتراب الذي خيم عليه طوال تاريخه السابق أو بالأحرى ما قبل التاريخ الحقيقي؛ إذا استطاع أن يفعل هذا بروح ديمقراطية حقيقية، فسوف يظهر في العالم شيء لم يوجد أبدا من قبل ولم يقدر لإنسان أن يعيش فيه. هذا الشيء اسمه «الوطن». وهذا «الوطن» الإنساني الحق هو الغاية النهائية لفلسفة بلوخ. وما إن يدرك الإنسان نفسه ووجوده إدراكا خاليا من التخارج والاغتراب ويؤسسها على أساس من الديمقراطية الواقعية حتى ينشأ في العالم شيء يظهر للجميع في مرحلة الطفولة؛ شيء لم يبلغه أحد حتى الآن، ألا وهو «الوطن». هذا الوطن هو الهدف الأخير للطبيعة الإنسانية عندما تحقق غناها، وهذا الذي سيبنيه ويعيش فيه اسمه الإنسان نعم ... الإنسان.
مراجع البحث
أولا: مؤلفات إرنست بلوخ (أ) الطبعة الألمانية
تقع الطبعة الألمانية الكاملة في ستة عشر مجلدا وقد أصدرتها دار النشر زور كامب. فرانكفورت على نهر الماين، ابتداء من عام 1959م، وبياناتها كالآتي:
Werke Gesamtausgabe Frankfurt. a. m. Suhrkamp. (1)
Spuren, 1969. (2)
Thomas Munzer als Theologe der Rovolution, 1969 . (3)
Geist der Utopie (2. Fassungvon, 1923), 1964 . (4)
Erbschaft dieser Zeit, 1976 . (5)
Das Prinzip Hoffnung (in Zwei Halbbanden), 1959 . (6)
Naturrecht und menshliche Wurde, 1961 . (7)
Das Materialismus-Problem-seine Geschichte und substanz, 1972 . (8)
Subjekt-Object. Erlauterungen zu Hegel, 1985 . (9)
Literarische Aufsatze, 1973 . (10)
objektiven Phantasie, 1969 . (11)
Vor marz, 1970 . (12)
Zwischen welten in der
Vorlesungen), 1977 . (13)
Tubinger Einleitung in die
. (14)
Atheismus im Christentum, 1968 . (15)
Experimentum Mundi, 1975 . (16)
Geist der Utopie (nach der 1. Auflage von 1918), 1971 . (17)
Erganzungsband; Tendenz - Latenz - Utopie, 1978 .
مجلد ملحق بالطبعة الكاملة نشر بعد وفاة بلوخ. (18)
Avicenna und die Aristotelische Linke. Frankfurt/M. Suhrkamp, 1963 .
صدر في الذكرى الألفية لابن سينا ولم ينشر في الطبعة الكاملة. (ب) الترجمات الإنجليزية وطبعاتها (1)
Bloch, Ernst: The principle of Hope. Trans. by Neville Plaice, Stephen
Blackwell, 1986. (in 3 Volumes ). (2)
Bloch, Ernst: Natural Law and Human Dignity. Trans. Dennis J. Schmidt. London, Cambridge, 1986 . (3)
Bloch, E and others: Aesthetics and politics with an afterword by Fredric Jameson. London. Verso, 1977 . (ج) الترجمات العربية (1)
إرنست بلوخ: فلسفة عصر النهضة، ترجمة إلياس مرقص، بيروت، دار الحقيقة، 1980م.
ثانيا: مراجع عن بلوخ (1)
Horster, Detlef: Bloch Zur Einfuhrung. Hamburg. Junius Verlag, 1987 . (2)
Holz, Hans Heinz: Ernst Bloch. Auswahl aus seinen Schriften, Frankfurt, Fischer, 1967 . (3)
Hudson, Wayne: The Marxist philosophy of Ernst Bloch. London, Macmillan, 1982 . (4)
Markun, Silvia: Ernst Bloch in Selbstzeugnissen und Bild-dokumenten. Hamburg, Rowohlt, 1977 .
ثالثا: مراجع أجنبية (1)
Alexander, p. and Gill, R. (Eds): Utopias. London, Duckworth, 1984 . (2)
Aristotles: The Metaphysics with an English Translation by Hugh Tredennick, London, Loeb Classical Library, 1936 . (3)
Armytage, W. H. G. Yesterday’s Tomorrows, A Historical Survey of Future Societies. London, Routhledge & Kegan Paul, 1968 . (4)
Augustine (St): The City of God. An abridged version from translation by Gerald G. Walsh and others. Edited with an introduction by Vernon J. Bourke. New York, Image Books, 1958 . (5)
Bahro, Rudolf: The Alternative in Eastern Europe: London, New Left Books, 1978 . (6)
Bauman, Zygmunt: Socialism, The Active Utopia, London, Allen & Unwin, 1976 . (7)
Beck, Lewis White (Editor): The Eighteenth Century philosophy. New York, The Free
. (8)
Berki, R. N.: Insight and Vision: The problem of communism in Marx’s Thought. London, Dent, 1983 . (9)
Berneri, Marie Louise: Journey Through Utopia. Foreword by George Woodcock. New York, Schocken, 1971 . (10)
Burke, J. p. Crocker, L and Legters, LH. (Eds): Marxism and the Good Society, Cambridge., Cambridge University Press, 1981 . (11)
Bury, J. B.: the Idea of progress. London, Macmillan, 1923 . (12)
Cappas, Walter H. (Ed.): The Future of Hope. Philadelphia, 1970 . (13)
Cicero: De Oratore III. Together with De Fato, with English Translation by H. Rackham, the Loeb Classical Library . (14)
Crossman, Richard (Ed.): the God that Failed: Six studies in communisum. London, Hamish Hamilton, 1950 . (15)
Donner, Henry Wolfgang: Introduction to Utopia,: London, 1945 . (16)
Erasmus, Charles J. In Search of the Common Good: Utopian experiments Past and Future. New York, 1977 . (17)
Finely, M. I.: Utopianism Ancient and Modern In Critical Spirit, Essays in Honor of Herbert Marcuse. Boston, Beacon Press, 1967 . (18)
Fishman, R.: Urban Utopias in the Twentieth Century. New York, Basic Books, 1977 . (19)
Gardiner, Patrick (Ed.): Ninteenth Century Philosophy. New York. The Free Press, 1969 . (20)
Gorz, Andre: Farewell to the Working Class: An Essay on post-Industrial Socialism. London. Pluto Press, 1982 . (21)
Hegel, G. W. F.: The Phenomenology of Mind. Trans. With an Introduction and Notes by J. B. Baillie. Second Edition Revised and corrected throughout. London. Unwin, 1939 . (22)
Hertzler, Joyce Ormael: The History of Utopian Thought. New York, Cooper Square Publishers, 1965 . (23)
Kant, Immanuel: Critique of Pure Reason. Trans. By J. M. D. Meiklejohn. New York, Willey Book Comp, 1943 . (24)
Kanter, Rosabeth Moss: Commitment and community: Communes and Utopias in Sociological perspective. Cambridge, Mass., Harvard University
. (25)
Kateb, George: Utopia and Its Enemies. New York, Schocken Books, 1972 . (26)
Kaufmann, Moritz: Utopias, or Schemes of Social Imporovement, from Sir Thomas More to Karl Marx. London, 1879 . (27)
Kolakowski, Leszek: Toward a Marxist Humanism: Essays on the left Today. New York Grove
. (28)
Kumar, Krishan: Religion and Utopia. Canterbury, Center for the study of Religion and Society, 1985 . (29)
Kumar, Krishan: Utopia and Anti-Utopia in Modern Times, Oxford, Basil Blackwell, 1987 . (30)
Lasky, Melvin J: Utopia and Revolution. Chicago, University of Chicago Press, 1976 . (31)
Leibniz, G.W.: Nouveaux Essais sur L’entendement Humain. Paris, Ernest Flammarion . (32)
Manuel, Frank E, and Manuel, Fritzie, p. Utopian Thought in the Western World. Oxford, Basil Blackwell, 1979 . (33)
Marcuse, Herbert: an Essay on Liberation. London, Allen Lane, 1969 . (34)
Marcuse, Herbert: Five Lectures:
1970 . (35)
Marx, Karl: Capital. Trans. Form the third Germaned Progress Puplishers. V. I., 1965 . (36)
Monti, Raffaele: Leonardo Da Vinci. Trans. from the Italian by Pearl Sanders. London, Thames and Hudson, 1967 . (37)
Morgan, Arthur E.: Nowhere was somewhre: How History Makes Utopias and How Utopias Make History. Chapel Hill, Nc, University of North Carolina Press, 1946 . (38)
future. Amsterdam, Elsevier, 1973 . (39)
philosophy of the 16th and 17th Centuries. New York, The Free Press, 1966 . (40)
1969 . (41)
Sargent, Lyman Tower: British and American Utopian Literature, 1516-1975. Boston, G. K. Hall, 1979 . (42)
Scholem, Gershom: The Messianic Idea in Judaism, and Other Essays on Jewish Spirituality, London, Allen & Unwin, 1971 . (43)
Scholes, Robert and Rabkin, Erics: Science Fiction: History, Science, Vision. New York, Oxford University Press, 1977 . (44)
Spinoza: Ethics. Edited with revised translation by G. R. Parkinson. London, Everyman’s, Library, 1989 . (45)
Tod, I, and Wheeler, M.: Utopia: An Illustrated History London, Orbis Books, 1978 . (46)
Tuveson, Ernest Lee: Millennium and Utopia. A Study in Background of Idea of Progress, New York, Harper & Row, 1964 . (47)
White, R. Frederic (Introduction and Notes): Famous Utopias of the Renaissance. New York, Hendricks House, 1955 . (48)
Wippel, John F. and Allan B. Wolter (Eds): Medieval Philosophy. New York, the Free
.
رابعا: دوائر معارف، قواميس ومعاجم (1)
Baldwin, J. M. (Ed.): Dictionary of philosophy and Psychology, V. I. U.S.A., Peter Smith, 1960 . (2)
Edwards, Paul (Ed.): Encyclopedia of philosophy. London, Macmillan Publisher. V. I. V. 8. 1970 . (3)
Emerson, L. Roger: Dictionary of History of Ideas. New York, Charles Scribner’s uns, 1973 . (4)
Encyclopedia of World Art. London, Mc Graw-Hill Puplishing Company, V. II, V. VI, 1962 . (5)
Flew, Antony,: A Dictionary of
1979 . (6)
Hammond, N. G. and Scullard, H. H. (Eds): The Oxford Classical Dictionary, Oxford, Clarendon Press, 1970 . (7)
Kellner, Douglas, In: Thinkers of the Twentieth Century, London, Macmillan,1983 . (8)
Lacey, A. R.: A Dictionary of
1976 . (9)
Liddell - Scott: Greek - English Lexicon. Oxford, 1959 . (10)
Metzler Philosophen - Lexikon. Stuttgart, 1989 . (11)
Art and Artists, London., Penguin Books, 1959 . (12)
Rosental, M. and Yudin, p. (Eds): A Dictionary of Philosophy. Moscow Progress
. (13)
Wilpert, Gero Von: Sachwörterbuch der Literatur. Stuttgart, Kröner, 1964 .
خامسا: دوريات (1)
Buhar, Manfred: A Critique of Ernst Bloch’s Philosophy of Hope. Presented by: Robert Schreiter. Philosophy Today, V. 14, 1970 . (2)
Buhr, Manfred: Seven Comments on Ernst Bloch’s Philosophy. Studies in Soviet Thought, 33, 1987 . (3)
Oliver, H. Harold: Hope and Knowledge, the Epistemic status of Religious Language, in Cultural Hermaneutics 2. Dordrech Holland, 1974 . (4)
Reimer, A. James: Bloch’s Interpretation of Muenzer: History, Theology and Social change U.S.A. CLIO, V. 9, 1980 . (5)
Tadie, L jubomir: The Marxist Critique of Right in philosophy of Ernst Bloch. Praxis International. V. I., 1982 .
سادسا: المراجع العربية (أ) الكتب (1)
ابن سينا: النجاة، الناشر محيي الدين صبري الكردي، القاهرة، مطبعة السعادة، ط1، 1331ه. (2)
أبو صالح الألفي: الموجز في تاريخ الفن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973م. (3)
أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1954م. (4)
أديب ديمتري: الماركسية والدولة الصهيونية (الوجود والكيان)، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1970م. (5)
أرسطوطاليس: الطبيعة، ترجمة إسحق بن حنين، مع شرح ابن السمح وآخرين، حققه وقدم له د. عبد الرحمن بدوي، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، ج1، 1964م. (6)
أسعد عبد الرحمن: المنظمة الصهيونية العالمية (تنظيمها وأعمالها 1897-1948م)، بيروت، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث د.ت. (7)
أفلاطون: الجمهورية، ترجمة د . فؤاد زكريا، مراجعة د. محمد سليم سالم القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1968م. (8)
أفلاطون: فايدروس، ترجمة وتقديم د. أميرة حلمي مطر، القاهرة، دار المعرفة، ط1، 1969م. (9)
أفلاطون: طيماوس، ترجمة الأب فؤاد جرجي بربارة، تحقيق وتقديم ألبير ريفو، دمشق، منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد، 1968م. (10)
إمام عبد الفتاح إمام: سرن كير كيجورد، رائد الوجودية، بيروت، دار التنوير ، ج1، ط3، 1983م. (11)
إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، بيروت، دار التنوير، ط2، 1982م. (12)
إمام عبد الفتاح إمام: دراسات هيجيلية، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985م. (13)
أميرة حلمي مطر: دراسات في الفلسفة اليونانية، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1980م. (14)
أورول، جورج: العالم 1984م، ترجمة شفيق أسعد فريد وعبد الحميد محبوب، راجعه عبد الرحيم رشوان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1956م. (15)
بارندر، جوفري وآخرون: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، الكويت، عالم المعرفة العدد 173، مايو 1993م. (16)
باومر ل. فرانكلين: الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 4 أجزاء، 1987م، 1988م، 1989م على التوالي. (17)
برجسون، هنري: التطور الخالق، ترجمة د. محمد محمود قاسم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م. (18)
برشت، برتولد: الاستثناء والقاعدة، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، المسرح العالمي، الدار القومية للطباعة والنشر والثقافة والإرشاد القومي، 15 مايو 1965م. (19)
جارودي، روجيه: كارل ماركس، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الآداب، 1970م. (20)
جلسون، إتين: روح الفلسفة في العصر الوسيط، عرض وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، مكتبة سعيد رأفت، 1972م. (21)
جوته: فاوست، ترجمة وتقديم د. عبد الرحمن بدوي، الكويت، وزارة الإعلام، المسرح العالمي، 3 أجزاء، 1989م. (22)
جوليفيه ريجيس: المذاهب الوجودية، من كيركيجورد إلى جان بول سارتر، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م. (23)
حسن حنفي: قضايا معاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، ج2، 1977م. (24)
حسن حنفي: نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ترجمة وتقديم وتعليق د. حسن حنفي، بيروت، دار التنوير، 1981م. (25)
حسن عيسى: الإبداع في الفن والعلم، الكويت، عالم المعرفة، العدد 24، ديسمبر 1979م. (26)
حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، بيروت، دار الفارابي، ج2، ط7، 1991م. (27)
دانتي أليجييري: الكوميديا الإلهية، ترجمة حسن عثمان، القاهرة، دار المعارف، 3 أجزاء صدرت أعوام 1959م، 1964م، 1969م على التوالي. (28)
ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة د. زكي نجيب محمود، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ج3 من المجلد الأول، ط3، 1968م. (29)
رسل، برتراند: ألف باء النسبية، ترجمة فؤاد كامل، القاهرة، دار الثقافة العربية للطباعة، 1965م. (30)
رسل، برتراند: حكمة الغرب، ترجمة د. فؤاد زكريا، الكويت، عالم المعرفة، عدد 62، فبراير 1983م. (31)
روسو، جان جاك: العقد الاجتماعي، ترجمة ذوقان قرقوط، بيروت، دار القلم، د.ت. (32)
روسو، جان جاك: إميل، ترجمة د. نظمي لوقا، قدم له الأستاذ أحمد زكي محمد، القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1958م. (33)
زكريا إبراهيم: كانط أو الفلسفة النقدية، القاهرة، مكتبة مصر، 1963م. (34)
زكريا إبراهيم مشكلة الفن، القاهرة، مكتبة مصر، 1976م. (35)
زكي نجيب محمود: أرض الأحلام، القاهرة، دار الهلال، 1977م. (36)
ستيس، والتر: فلسفة هيجل، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1980م. (37)
سرفبالي، راد أكرشنا وشارلزمور: الفكر الفلسفي الهندي، ترجمة ندرة اليازجي، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، 1967م. (38)
شتروفه، ف: فلسفة العلو «الترانسندنس» ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، مكتبة الشباب، 1975م. (39)
شورون، جاك: الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، الكويت، عالم المعرفة، أبريل 1984م. (40)
عبد الرحمن بدوي: المثالية الألمانية، شيلنج، القاهرة، دار النهضة العربية، 1965م. (41)
عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط3، 1968م. (42)
عبد الغفار مكاوي: البلد البعيد، القاهرة، دار الكاتب العربي، 1968م. (43)
عبد الغفار مكاوي: النور والفراشة، القاهرة، دار المعارف، اقرأ، مارس 1979م. (44)
عبد الغفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، تمهيد وتعقيب نقدي، الكويت، جامعة الكويت، حوليات كلية الآداب، حولية 13، رسالة 88، 1993م. (45)
عبد الغفار مكاوي: التعبيرية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971م. (46)
عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، القاهرة، مكتبة النهضة العربية، 1959م. (47)
علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت، بيروت، منشورات الإنماء القومي، د.ت. (48)
فروم، إريك: الإنسان بين الجوهر والمظهر، الكويت، عالم المعرفة، عدد 140، أغسطس 1989م. (49)
فرويد، سيجموند: محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ترجمة د. أحمد عزت راجح، مراجعة محمد فتحي، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1966م. (50)
فؤاد زكريا: اسبينوزا، القاهرة، دار النهضة العربية، 1962م. (51)
كلود فيلو، جان : اللاوعي، ترجمة جان كميد، بيروت، المنشورات العربية، د.ت. (52)
لاوتسي: الطريق والفضيلة، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، الألف كتاب، 1967م. (53)
لوكاتش، جورج: جوته وعصره، ترجمة بديع عمر نظمي، بيروت، دار الطليعة 1984م. (54)
ليبنتز: المونادولوجيا، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978م. (55)
ماركس، كارل: مخطوطات كارل ماركس لعام 1844م، ترجمة محمد مستجير مصطفى، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1974م. (56)
ماركس وإنجلز: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة جورج طرابيشي، دمشق، دار دمشق للطباعة والنشر، 1966م. (57)
مارو، هنري، أ. م. لابونارديار: القديس أوغسطين، نقله عن الفرنسية الأب ج. عقيقي اليسوعي، القاهرة، منشورات معهد المعادي، 1963م. (58)
ماركيوز، هربرت: العقل والثورة، هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م. (59)
مانهايم، كارل: الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة د. محمد رجا عبد الرحمن الدريني، الكويت، شركة المكتبات الكويتية، 1980م. (60)
محمد خليفة حسن: ظاهرة النبوة الإسرائيلية، القاهرة، دار الزهراء للنشر، 1991م. (61)
محمد خليفة حسن: دراسات في تاريخ الشعوب السامية القديمة، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985م. (62)
محمد طلعت عيسى: أتباع سان سيمون، فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، القاهرة، مطبعة جامعة القاهرة، 1963م. (63)
محمود رجب: الاغتراب، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1987م. (64)
مور، توماس: يوتوبيا، ترجمة د. أنجيل بطرس سمعان، القاهرة، دار المعارف، 1974م. (65)
نعمت إسماعيل: فنون الغرب في العصور الوسطى والنهضة والباروك، القاهرة، دار المعارف، 1976م. (66)
هاوزر، أرنولد: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة د. فؤاد زكريا، مراجعة أحمد خاكي، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ج1، 1967م. (67)
هكسلي، أولدس: العالم الطريف الشجاع، ترجمة محمود محمود، القاهرة، دار الكاتب المصري، 1947م. (68)
هوسرل، إدموند: تأملات ديكارتية، المدخل إلى الظاهريات، ترجمة وتقديم د. نازلي إسماعيل حسين، القاهرة، دار المعارف، 1969م. (69)
هيجل، ج. ف. ف: أصول فلسفة الحق، ترجمة وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير، المجلد الأول، ط2، 1983م. (70)
هيجل، ج. ف. ف: موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير، ط1، 1983م. (71)
هيدجر، مارتن: نداء الحقيقة، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1977م. (72)
يحيى هويدي: مقدمة في الفلسفة، القاهرة، دار النهضة العربية، ط6، 1970م. (ب) الموسوعات والمعاجم (1)
د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2 جزء، الطبعة الأولى، 1984م. (2)
عبد المنعم الحفني: المعجم الفلسفي، بيروت، دار ابن زيدون، ط1، 1992م. (3)
عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، نموذج تصنيفي وتفسيري جديد، تحت الطبع. (ج) كتب مقدسة (1)
الكتاب المقدس: دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، 1990م. (2)
القرآن الكريم: دار الشروق، 1988م. (د) دوريات (1)
بيديه، جاك: الأخضر والأحمر جنبا إلى جنب، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مجلة القاهرة، العدد 118، سبتمبر 1992م. (2)
بيير هارود: في الحاضر وحده سعادتنا، ترجمة موسى بدوي، مركز مطبوعات اليونسكو، مجلة ديوجين، العدد 77، د.ت. (3)
جود ولييه، موريس: سياق الوهم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مجلة القاهرة، العدد 119، أكتوبر 1992م. (4)
حسن حنفي: الاغتراب الديني عند فوير باخ، الكويت، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الأول (أبريل، مايو، يونيو) 1979م. (5)
حسن حنفي: شروط الإبداع الفلسفي، القاهرة، مجلة إبداع، العدد السادس، يونيو 1991م. (6)
عبد العزيز لبيب: الإيطوبيا والإيطوبيات، القاهرة، مجلة فصول، المجلد السابع (أبريل-سبتمبر) 1987م. (7)
عبد الغفار مكاوي: الحاضر السرمدي واللحظة الأبدية، مجلة الحكمة، جامعة طرابلس، كلية التربية قسم الفلسفة والاجتماع، العدد 3، السنة الثانية، أكتوبر 1978م. (8)
عمر الفاروق: بانوراما رحلة كولمبس، صورة العالم عشية الرحلة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مجلة القاهرة، فبراير 1993م. (9)
فؤاد زكريا: مقامرة التاريخ الكبرى، الكويت، جريدة الوطن، العدد 3560، الخميس 18 يناير 1990م.
صفحة غير معروفة