الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
آمال وأقدار
آمال وأقدار
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
أحسن أبو سريع علوان تدبير خططه لمستقبله منذ بواكير الأيام، حين كان يعمل صرافا بقرى الصعيد، واستطاع بشتى وسائل ومختلف حيل - لم يكن الشرف طابعها، ولا كانت الأمانة سنتها أو ديدنها - أن يجمع ثمن سبعة أفدنة اشتراها على مهل وعلى دفعات بقريته بالشرقية التي تسمى دلجمونة، وكان أبوه يملك من قبل ثلاثة أفدنة، حتى إذا تم له العشرة أفدنة وقر في نفسه أن عمل صراف هذا لا يليق بمكانته، وقد أصبح عينا من أعيان البلدة، وواحدا من أثريائها، وطلب تسوية معاشه، وأقام بالدلجمونة يرعى أرضه وابنه لطفي معا.
ولم يكن لطفي متقدما في دراسته، ولا كان متأخرا؛ فهو ينجح في كل عام نجاحا يفرح به أبوه كل الفرح غير ناظر مثقال ذرة للدرجات المتهافتة التي ينجح بها ولده.
وما زال يسير في دراسته، حتى حصل على بكالوريوس التجارة. وإن كان أبوه قد فرح فرحا عارما بنجاح الابن وحصوله على الشهادة الجامعية، فإن فرح لطفي كان مضاعفا عشرات المرات ليس لمجرد تخرجه، وإنما أولا وقبل كل شيء لأنه يستطيع بما ناله من شهادة أن يفلت من ربقته لأبيه الذي كان يضيق عليه في المصاريف ضيقا لا يمكن أن يتصوره أحد.
فمهما يكن صرافا، ومهما يكن لحزا شحيحا، فإن لكل بخل حدا يقف عنده. وليس ينسى لطفي يوم حصل على شهادة الثانوية العامة بتقدير يتيح له أن ينتظم في كلية التجارة، راح أبوه يبحث عن الذين نالوا الثانوية العامة في نفس العام، حتى يستطيع هؤلاء الناجحون النازحون إلى القاهرة أن يتقاسموا الغرفة الوحيدة التي سيبحث لابنه عنها في أرخص أحياء القاهرة مهما تكن بعيدة عن الجامعة.
وبالمثابرة والجهد الجهيد وجد شهيدي الأهتم وسعداوي الجرف قد حصلا هما أيضا على الثانوية العامة، وكان كلاهما فقيرا معدما، ففرح أهلوهما بما اقترحه عليهم أبو سريع أن يشاركا ابنه الغرفة، ويتقاسم ثلاثتهم إيجارها.
وليس ينسى لطفي يوم نزل مع أبيه ليبحثا عن غرفة، فإذا بهما يجدان حجرة على سطح منزل بالجيزة موقعها قريب من الجامعة، وأبى أبوه أن يستأجرها وراح يدور في أنحاء القاهرة بحثا عن حجرة أشد رخصا، وقال له لطفي يومذاك: يابا إن ما سنوفره من أجرة الحجرة سننفقه في المواصلات.
وإذا أبو سريع يجيبه في سخرية: منذ متى كان المشي يدفعون له أجرة.
وجف لسان لطفي وهو يتلعثم لأبيه: أمشي من هذه الأحياء البعيدة إلى الجامعة؟ - ومن الدلجمونة وحياة والدك.
وصمت لطفي صاغرا.
واستأجر أبو سريع غرفة في أزقة عابدين.
واستمر لطفي سنوات الجامعة الأربع يأكل مرة واحدة في اليوم ليستطيع أن يركب المواصلات، وكانت أمه سلمى أم الخير حين تراه في الإجازات تفجع بهزاله، عالمة كل العلم أن أباه يقتر عليه أشد التقتير. - يا أخي حرام عليك، إنه ابنك الوحيد، وأنت رزقك واسع. - إذا أسرف اليوم أضاع الأرض غدا. - فإذا مات؟ - لا يموت أحد من المشي.
ولم ينس لطفي يوم علم أن وجدي بك صفوان كبير أعيان المنطقة وصاحب المائة فدان برتقال في الدلجمونة استدعى أباه، وكلفه أن يشرف على كاتبيه ميخائيل جرجس، وسعيد النجار في حسابات الأرض مقابل مرتب مقداره مائتا جنيه في الشهر. - وما البأس ما دمت مقيما بجانب أرضي وفي بيتي؟
وظن لطفي يومذاك أن أباه سيوسع عليه بعض السعة، ثم أدرك أنه أحمق غبي، فإن شح أبيه عليه لم يكن مصدره قلة المال عنده، وإنما مصدره طبيعة جبل عليها لا يستطيع منها فكاكا ولا مهربا.
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
وهكذا فرح لطفي فرحة لا حد لها؛ لأنه بحصوله على الشهادة يستطيع أن يعيش كما يحيا الآدميون.
أما أبو سريع فلم تكن أحلامه تقف به عند الأفدنة العشرة ولا المائتي جنيه التي ينالها من وجدي.
إنه يقرأ في الصحف عن الملايين من الجنيهات تتناقلها الأيدي، وكأنها ملاليم، ماذا الذي ينقصه ليكون بين هؤلاء اللاعبين بالملايين؟
لهذا دبر خططه للمستقبل.
وقد رأى استكمالا للوجاهة أن يعتسف لنفسه لقب الحاج، فأدى الفريضة؛ ليناديه الناس بالحاج، والله سبحانه وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور هو الحكم الحق في قبول هذه الحجة أو ردها.
وهكذا أصبح أبو سريع حاجا، وأصبح ذا وجاهة في القرية.
وحدث يوما أن جاءته نفيسة دعشوش زوجة سعد الله جابر، أو التي كانت زوجته، وقالت لأبي سريع: يا حاج يعمر بيتك. - خيرا يا نفيسة أنا تحت أمرك. - لقد طلقني سعد الله بالأمس. - أعوذ بالله. - بل قل الحمد لله، فقد كانت العيشة معه - بعيد عنك - سوداء، وكانت أيامه كلها سبا وشتما. - هكذا بلا مناسبة؟ - يعيرني أني عاقر. - يا ستي هذه الأمور أصبح الطب يحسمها بمنتهى البساطة، ألم تذهبي إلى طبيب؟ - العيب فيه هو. - إنه حقا رجل ظالم. - هو يدعي أنه كان يسيء إلي إلى حد الضرب لأني عاقر، وهو يعلم كل العلم أن السبب في ذلك هو وليس أنا، ولكن الحقيقة يا حاج أنه طلقني لسبب آخر. - أي سبب؟ - وفاة كامل الشنواني. - وما شأن وفاة كامل بطلاقك؟ - ترك لزوجته فدانين من الأرض. - وما شأن طلاقك بهذا؟ - حط سعد الله عينه على حبيبة أم عرابي أرملة كامل، فما أن أوفت العدة حتى تقدم إليها، وقالت له: لا أتزوج على ضرة. - الآن فهمت ووضحت الأمور، وماذا تريدينني أن أفعل؟ - أنا انتقلت إلى بيت أبي منذ أمس. - طبعا. - أنت تعرف أبي. - هل أحد في البلد لا يعرف الشيخ زكي دعشوش، إنه أبخل من جلدة. - إنه لم يقل لي شيئا حتى الآن، ولكنه لا شك يطمع في المؤخر الذي أخذته؟ - طبعا. - مع أنه سيحصل على نفقتي. - ألا تكفيه النفقة! - ولهذا جئت إليك. - أنا تحت أمرك. - المؤخر الذي قبضته ثلاثمائة جنيه، أريد أن أحتفظ به للزمن. - طبعا لك حق. - إن أبقيتها معي استولى عليها أبي بطريقة أو أخرى. - مؤكد. - خذ هاك الثلاثمائة جنيه أمانة معك. - أكتب لك إيصالا، فهذا حق الله. - يا حاج، وهل تراني أعرف القراءة حتى أعلم ماذا تكتب في الإيصال؟ أنا واثقة في ذمتك.
وهكذا كانت هذه الواقعة بابا جديدا فتح على مصراعيه لأبي سريع، وتدفقت عليه الأمانات وأجمع القاصدون إليه ألا يأخذوا منه ما يدل على أنهم استودعوه أموالهم.
وكثرت الأمانات لديه، ولم يكن يخشى أن يغتاله أحد في هذه الأموال، فابنه في القاهرة يبحث عن عمل، وقد بيت في نفسه أن يجد له هذا العمل، وكان يدري وسيلته إلى ذلك.
وزوجته سلمى لا يعنيها المال في شيء، فما دامت تجد لقمتها وهدمتها فليس لها مطمع بعد ذاك.
قال أبو سريع لوجدي: أراك تخدم الناس جميعا وتنسي المقربين إليك. - هل تأخرت عنك في شيء؟ - ألا تعرف أنك أهملت أمري كل الإهمال؟ - فيم؟ - ابني لطفي. - ما له؟ - ألا تعرف أنه حصل على التجارة العليا؟ - وهنأته. - نعم، وأتحفته بمائة جنيه أبى أن يعطيني منها مليما واحدا. - إذن؟ - ألا تدري؟ ما فائدة الشهادة إذا لم يتوظف بها؟ - آه والله، أنت محق، ولكنك لم تطلب مني شيئا. - وهل يحتاج الأمر إلى طلب؟ - ظننت أنك تريد له وظيفة معينة يعينك عليها أصدقاؤك الكثيرون، فأنت صراف قديم، ولك أصدقاء وجهاء في كل مكان. - لا أحد منهم في مثل وجاهتك. - أنا تحت أمرك. - سعادتك تتعامل مع بنك الوفاء الاقتصادي منذ نشأة البنك. - ولي أسهم فيه أيضا. - أعلم ذاك، أنسيت أني مطلع على كل حساباتك؟ - فليكن ما تقول.
وتم فعلا تعيين لطفي أبو سريع علوان بقسم الائتمان ببنك الوفاء الاقتصادي.
الفصل الثاني
على مقربة يسيرة من قرية أبي سريع ووجدي الدلجمونة قرية أخرى تسمى الولجة، أشهر من فيها عيدروس النمر، وهو رجل غليظ الجسم بصورة متضخمة، ولكن غلظة جسمه تعتبر نحافة وضمورا إذا قورنت بغلطة فؤاده. مات أبوه وهدان النمر، وترك ولدين وبنتين وكان أربعتهم قد بلغ سن الرشد، ولكن عيدروس كان قد كون عصابة قبل أن يموت أبوه عملها السرقة، واغتصاب الأرض والقتل بسبب يتعلق بعيدروس أو لغير ذلك من أسباب كأن يطلب منه صاحب مصلحة في زوال شخص ما أن يقتله. وطبعا لم تكن الصداقة وحدها تكفي عيدروس لينفذ قتل خصم القاصد إليه، بل كان يتقاضى مبالغ ضخمة يقدرها هو حسب مقدار الثروة التي يملكها طالب القتل.
وحين ألف عيدروس عصابته كان أبوه ما زال على قيد الحياة، هذا إذا اعتبرنا أن تردد الأنفاس حياة، فقد كان في الموهن الأخير من عمره لا يكاد يعقل ما يسمع، وقد رفق به المولى سبحانه، فلم يطل الأمد الذي كان يتنفس فيه بلا حياة.
فحين مات لم يكن يعلم عن ولده عيدروس إجرامه وجبروته، ولو كان قد علم لما صنع شيئا؛ فقد كان رجلا سلما من هؤلاء الذين يمرون بالحياة، أو تمر بهم، وكأنهم من هوان الشأن ما وجدوا.
وكان فخره الأعظم أنه حافظ على الخمسين فدانا التي تركها له أبوه لم يبع منها قيراطا واحدا، ولم يحاول أن يفكر - رغم أنه لم يكن جوادا ولا صاحب نخوة، وعيشته لم تكن ذات سعة، ولا بحبوحة- أن يزيد في أرضه فدانا واحدا.
وهكذا تملك من عيدروس احتقاره لأبيه احتقارا لا يبديه، وإنما يضمره ضخما عريضا في دخيلة نفسه، فحين انتقل أبوه إلى ربه مر أمر موته بعيدروس كأن شيئا لم يحدث، فقد كان هو وأخوه مراد وأختاه عزيزة ووهيبة يعتبرون منذ زمان بعيد أن أباهم قد مات، وإن كان على قيد الحياة.
واستولى عيدروس على أرض أبيه جميعا بلا مناقشة في الأمر، فمراد كان شابا جاهلا، لا هم له في الحياة إلا أن يحصل من أبيه على ثمن الخمور التي يدمنها إدمانا يأخذ عليه حياته، وأما زوجا عزيزة ووهيبة؛ فهمي وحسين فقد كانا يجمعان إلى الخوف الراعد والجبن المبيد هوان الشأن وامحاء الشخصية.
فكان من الطبيعي أن يستولي عيدروس على التركة جميعها دون أن تواجهه أدنى معارضة، فقد أصدر أوامره لخازن ماله شعبان السحت بأن يعطي لأخيه كل يوم ما يكفي مأكله وخمره، واعتبر مراد أنه نال أقصى المنى، فهو غير متزوج، ولا راغب في الزواج، فما دامت أم الكبائر هي مذهبه وهواه فلا بأس أن يكون الزنا ديدنه ومبتغاه.
وأما عزيزة ووهيبة فقد وعد عيدروس كلتيهما بمرتب شهري أقل من حقهما، ولكنه أوهمهما أن هذا الفارق مقابل الإدارة وارتضيتا ما قرره، ولم يكن بيد إحداهما إلا أن ترتضيه.
تزوج عيدروس في حياة أبيه فهيمة الحوت ابنة عمدة القرية سليم الحوت، وقد كان هذا العمدة شخصا بلا شخصية، وكان شبه صديق لوهدان، حتى إذا بدأ عيدروس حياته المجرمة كان له عبدا وأهون من عبد، رغم أنه حموه. وأنجب عيدروس من فهيمة ابنتهما سعدية، وكلمة أنجب هنا ليست في موضعها، فهي قريبة في حروفها من النجابة، وهي أمر بعيد كل البعد عن سعدية، ولم يولد لعيدروس وفهيمة غير سعدية رغم سنوات الزواج المتطاولة.
وكانت سعدية تذهب إلى مدرسة القرية، وكان المدرسون يحاذرون أن يوجهوا لها أي تنبيه أو لوم، فحين بلغت العاشرة لاحظ أبوها الذي كان لا يكاد يقرأ أو يكتب أنها لم تتعلم شيئا، وخاصة في مادة الحساب.
والحساب أمر خطير في حياة عيدروس، فانتهز مرة زيارة أبي سريع له، وقال له: يا أخي ألم تكن صرافا؟ - عمري كله قبل أن أسوي معاشي. - سعدية بنتي، أريدك أن تعلمها الحساب، فالمدرسون في المدرسة يخافون منها، ولا يعلمونها. - سأقول لك خيرا من هذا. - قل. - أنا سأعلمها الحساب طول السنة، وفي إجازة المدارس أجعل ابني لطفي الطالب بكلية التجارة يعلمها. - وهو كذلك. - على شرط. - اشرط. - أن يكون هذا هدية مني بلا مقابل. - تستطيع أن تتكلم عن نفسك أما ابنك فاتركه يتكلم عن نفسه. - لا وحياة رأسك لا ينال إلا رضاك.
وهكذا تعرف لطفي وهو في السنة الأولى من كلية التجارة على سعدية، وقد كانت طفولتها تنبئ أنها ستكون في مثل سمن أبيها وقبحه أيضا.
وطبعا انقطع لطفي عن تدريسها حين تخرج، فقد كان نادر الزيارة للبلدة ، حتى إذا عين أوشكت هذه الزيارة أن تنقطع تماما إلا أنه كان يبيت في نفسه أمرا.
الفصل الثالث
كانت سعدية في الرابعة عشرة من عمرها حين توقف لطفي عن التدريس لها، وكانت يومذاك تزداد سمنا ودمامة.
وقضى لطفي سنتين في البنك لم يستطع خلالهما أن ينسرب إلى خوافي البنوك ودهاليز المعاملات فيها.
وكان لطفي مصرا على أن يعوض نفسه عن شظف العيش الذي ضيقه عليه أبوه، فلم يكن عجيبا أن يزداد تمسكا بما بيت عليه أمره، ولم لا؟! ليكن أبوها مجرما، فلا شك أنه بإجرامه هذا فرض على الناس في المنطقة جميعا أن يهابوه وترجف قلوبهم عند سماع اسمه، وهو غني يتفاقم فحش غناه كل يوم بأعمال الاغتصاب وسفك الدماء التي يقوم بها بعصابته التي تزداد توحشا في كل يوم.
وأعلم أيضا أن وجدي صفوان سيغضب مما أنتويه، ولكن ما شأني به؟ رجل حريص على حدود الله والحق ومعاني الشرف والكرامة، وتلك الأشياء التي أصبحت أساطير.
نعم كان وساطتي أن أعمل بالبنك كتر خيره، ولكن هل معنى هذا أن أسير على هداه وأنهج في الحياة نهجه، هيهات.
ونعم أبي يعمل لديه بمرتب وصل إلى ثلاثمائة جنيه، ولكن ما شأني بأبي؟
لا شأن لي بأبي ولا بوجدي ولا حتى بتامر ابن وجدي الذي كان رفيق ملعبي في الطفولة، فقد سار طريقا آخر غير طريقي، فهو من هواة القراءة، وهذا الكلام الفارغ الذي لا يؤدي ولا يجيء بشيء، وقد دهشت أنه دخل كلية الحقوق، وفي نفس العام الذي دخلت أنا فيه كلية التجارة، وتخرج فيها بتقدير كما سمعت، ولكن أباه لم يشأ أن يوظفه ليجعله يعمل محاميا بأحد مكاتب المحامين الكبار، وقد أنهى مدة تمرينه وأبوه يبحث له عن شقة في القاهرة، ولا بد أنها ستكون شقة فاخرة، ومكتبا فخما، فأبوه ليس له إلا هو؛ فليس غريبا أن يغدق عليه، وأن يكون التفاهم والوئام سائدين بين الأب وولده كسنة الحياة، ليس في هذا عجب، إنما العجب حقيقة هو أبي الذي يحب القرش أكثر من حبه لابنه الوحيد، بل أكثر من حياته. ربما كان محقا فالقرش حلو، والذي يملك مالا يملك كل شيء في الوجود. ما الذي جعلني أفكر في تامر هذا التفكير الطويل؟ ربما علمي بغضبه وغضب أبيه وجدي مما أنا مقدم عليه، ولكن أيصل الغضب إلى إبعاد أبي عن العمل؟ لا أظن، وإن فعل ما شأني أنا؟ لعل أبي يدرك أن إصراره على التقتير علي كفيل بأن يجعلني أقيم حياتي كما أشاء حتى ولو أسأت إليه بعض الإساءة، أو كل الإساءة، ولكن لا أعتقد أن وجدي سيستغني عن أبي، وأنا مالي؟ ليكن من أمر أبي ووجدي وتامر وكل الناس ما يكون. أنا ليس لي في الدنيا إلا أنا وأمي، ولكنها لا تقدم ولا تؤخر كأنها صدى صوت لأبي أو كأنها ظل من ظلاله. - آبا. - مالك؟ - أريد أن أتزوج. - ألست متعجلا؟ - يا أبي إنك ليس لك ولد إلا أنا. - وما صلة هذا بذاك؟ - ألا تحب أن ترى أطفالي تلعب حولك؟ - أهذا ما يجعلك تعجل بالزواج؟ - ليس وحده. - فقل السبب الحقيقي ولا تراوغ أباك. - السبب أنني وجدت العروس المناسبة التي لن يكلفك زواجي منها إلا أقل القليل. - هذا في ذاته شيء عظيم، ولكن من هي، هل أعرفها؟ - بل أنت الذي عرفتني بها.
وانتفض أبوه واقفا وهو يصيح: يا نهارك أسو...
لم ينطق الدال، فقد أخذه الذهول، وراح لطفي يقول له: يابا اهدأ.
وانحط أبو سريع على الكرسي الذي انتفض منه وهو يقول: أهذا معقول؟! - ما هو الذي ليس معقولا؟ - ألا تخاف من أبيها؟ - أولا ليس هناك أي سبب أن أخاف أنا من أبيها، فنحن لسنا في بلدة واحدة، ولا يمكن أن يطمع في أرضك، فهو لا يغتصب أرضا خارج الولجة. - هذا أولا فما ثانيا؟ - ثانيا أنا حين أتزوج سعدية سأصبح مكان ابنه. - وما الذي يجعله يقبل؟ أنت شاب في أول حياتك ومال أبيك لا يقارن بثروته. - أبي، هل أنت حقا لا تدري السبب؟ - مال أبيها يشفع لها. - مال قارون لا يشفع لقبحها وضخامة جسمها. - فلماذا اخترتها؟ - أنا ابن أبو سريع، فلا مانع أن أكون على قدر كبير من السعي إلى القرش، حتى ولو كان في فم الأسد. - أو في فم النمر. - إذن فهل وافقت؟ - ربنا يسلم، إنني حين أخرج من عند عيدروس بعد زيارة له لا أصدق أنني على قيد الحياة. - سيتظاهر بأنه مندهش، ولكنه خبيث ويعلم أن مثل ابنته - إن كان لها مثل - من المستحيل أن تجد زوجا مثلي.
قال أبو سريع: يا سعادة البك جئتك اليوم من أجل ابني. - لطفي؟ - وهل عندي غيره؟ - سمعت أنه توظف. - نعم. - مبروك. - أجل المبروك بضع دقائق. - خيرا. - يريد أن يتزوج. - وماله، شاب متخرج في الجامعة وموظف من حقه أن يفكر في الزواج. - ليس هذا ما جئت من أجله.
وبدأ عيدروس يفهم، ولكنه في لؤم الفلاحين تخابث: فماذا تريد؟ - الولد اختار عروسا عظيمة، وبنت رجل عظيم، وأخشى كما يخشى أن نرد خائبين.
وفي نفس اللؤم قال عيدروس: أتريد أن أكلم أباها؟ - لست في حاجة إلى ذلك. - ماذا تريد مني؟ - أن تكلم نفسك. - هل جننت؟ كيف أكلم نفسي؟ - سعادتك أبو العروس. - ماذا؟
وصمت وكأنه تلقى مفاجأة، كان على ثقة أن لطفي يريد أن يتزوج ماله وسلطانه، ولكن ماذا تملك سعدية مما يرغب فيها طالبيها إلا مالي وسلطاني، فمهما تكن ابنتي فأنا أعرف مقدار جمالها. أتضحك على نفسك، وهل لها أي جمال؟ وما المانع أن يكون لطفي زوجا لها؟ ولكن علي أن أتمهل، فإن سارعت أدرك ما يعتمل في صدري. قال لأبي سريع: والله أنت فاجأتني. - أعلم ذاك. - هل هو متعجل؟ - سعادتك تعرف الشباب. - إنما لا بد أن تترك لي فرصة للتفكير. - العروسة تعرف العريس، وكان مدرسا لها. - ولكن لا بد من التفكير. - وهل يجرؤ أحد أن يقول غير هذا لها، ابنتك الوحيدة أطال الله لك عمرها، وأطال لها عمرك؟ - تعال بعد غد. - وماله، أمرك، إنما لو كان غدا يكون أحسن. - ما هذه العجلة؟ - لا نحتمل أنا وابني القلق والخوف يومين، اجعلها غدا الله لا يسيئك.
كان أبو سريع أيضا في غاية الخبث في إلحاحه هذا، فهو يريد أن يجعل عيدروس يتأكد من مقدار الرغبة الشديدة عنده وعند ابنه في إتمام هذا الزواج.
ران الصمت لحظات، ثم قال عيدروس: وهو كذلك، غدا أعطيك جوابي. - يدك أقبلها.
وقبل يده، فعلها وقام منصرفا.
وفي الغد تمت الخطبة، وبعد أسبوعين تم الزواج، وحصل عيدروس لابنته على شقة بمدينة نصر كتبها باسمها، ولم يكلف أبا سريع ولا ابنه إلا مهرا قدره بألف جنيه مقدم، ومثلها كمؤخر، فقد خشي أن يغالي في المؤخر، فيعلن بذلك عن قبح ابنته، فلم يزد المؤخر عن المقدم، وكان عيدروس يعلم كل العلم أن لطفي سيكون شبه خادم لسعدية؛ فهو - لا شك - يعرف سطوة أبيها وجبروته، والذي يقتل بالأجر لأجل الغير لا يتردد أن يقتل من أجل ابنته.
وكان أبو سريع ولطفي كلاهما يقدران كل هذا الذي دار بذهن نسيبهما الجديد، وكان لطفي يعلم غاية العلم أنه أتى لنفسه بزوجة تمتلكه جميعا، ولا يملك منها إلا ما تريد أن تجود به عليه، ولكن منذ متى كان صاحب كرامة، وهو الذي حرمه أبوه الثري أجر المواصلات إلى كليته؟! ودعنا نردد البيت الشهير الذي يصنعه لطفي، وإن كان لم يسمع به، فما كان له في الأدب نصيب مهما كان ضئيلا:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
الفصل الرابع
كان أيسر شيء على عيدروس أن يشتري أرض أختيه بأبخس الأثمان، فقد خشي أن يسبقهما إلى الآخرة، فتقاسمان سعدية الأرض، فحين عرض الشراء على عزيزة ووهيبة شجع فهمي عزيزة بمثل ما شجع به حسين وهيبة؛ نحن لا نأخذ من الأرض إلا ما شاء هو أن يقدمه لنا، ولا يجرؤ أحد منا أن يحاسبه؛ فلنأخذ ما يجود به علينا ثمنا لها، ونصبح بعيدين عن سطوته وجبروته. وتم الشراء وسجله عيدروس من أختيه إلى ابنته مباشرة واثقا أن لطفي يرتعد أن يفكر في الحصول على ريع الأرض، أما مراد فقد انتهز عيدروس فرصة الصباح قبل أن يعاقر خمره، وقال له: ما رأيك يا مراد أن تبيع أرضك لابنتي سعدية؟
ووجم مراد لحظات وقال لأخيه: أخاف يا عيدروس. - مني؟ - بل من نفسي. - أنا أعرف كما تعرف أنني حين أشرب أصبح مسرفا لا قيمة للمال عندي، وأخشى أن ينتهز الذين يشاربونني الفرصة فيستولوا على مالي كله في بضعة أيام، وأصبح يا مولاي كما خلقتني. - تفكير سليم. - لا تخف مني، فإنني حين أكون مفيقا يتلبسني العقل حتى أشرب.
ولم يكن عيدروس يتوقع أن يكون أخوه مستطيعا أن ينظر إلى المستقبل بهذا الحرص، وأدرك مراد ما يفكر فيه أخوه، فقال: لا تعجب فلو لم أكن قادرا على بعد النظر أحيانا لتزوجت. وضحك عيدروس ملء فمه، وواتته فكرة سارع بعرضها على أخيه. - عندي فكرة. - وأنا تحت أمرك. - أنت تعلم طبعا أنني لا بد أن أشتري الأرض. - أعلم ولو أن الله وحده هو الذي بيده الموت والحياة، ومن يدري ربما كنت أسبق إلى لقائه منك، فالموت لا يعرف أعمارا. - أنا أعمل احتياطي. - معقول. - ما رأيك أن أشتري منك الأرض، وأقسط ثمنها على أقساط شهرية، وأكتب لك كل شهر كمبيالة بالباقي من ثمنها، حتى إذا مت قبلك تستوفي باقي الثمن من سعدية.
وصمت مراد بعض الحين، وأدار ما يعرضه عليه أخوه في رأسه فوجده معقولا. - نتوكل على الله.
وهكذا اشترى عيدروس أرض مراد باسم سعدية، ولم ينس أن يكتب أرضه هو كلها باسمها أيضا.
ووقعت سعدية كمشترية في الشهر العقاري، وكان لطفي أحد الشهود، ولكنه كان واثقا كما كانت سعدية واثقة أن هذا الانتقال للملكية ليس له أي معنى ولا عواقب ما دام عيدروس على قيد الحياة.
الفصل الخامس
حرص أبو سريع أن يرد الأمانات إلى أصحابها عند طلبهم لها، فاشتهر في القرية بالأمانة شهرة عامة، فتزاحم عليه أصحاب الأمانات حتى شعر أنه قد آن له أن ينفذ ما ينتوي عليه فقصد إلى وجدي بك. - يا وجدي بك لي عندك رجاء. - خيرا. - تامر أطال الله عمره تزوج وأنجب لك وجدي الصغير. - ألا تفكر أن تقدم له هدية؟ - قل ما تريد دون لف ولا تحايل. - أنا لم يعد لي عيشة هنا، ابني الوحيد مقيم بمصر ومعه زوجته وهي حامل، وأريد أن أكون إلى جانبه. - وأرضك؟ - هذا ما جئت إليك فيه. - أتريدني أن أشتريها؟ - أنت تعرف ثمن الفدان الآن أصبح مرتفعا، ولا يستطيع أحد أن يشتريها إلا أنت. - أنا أعرف أنها أرض خصبة، وتصلح لزراعة الفواكه. - ومجاورة لأرضك. - كم تقدر ثمنا للفدان؟ - سعادتك تعرف أثمان الأرض عندنا. - وأنا اشتريت. - وأنا بعت. - أتريد الثمن كله دفعة واحدة؟ - أنا لا أريد أن تكون لي صلة بالدلجمونة، فليس لي إلا ابني وزوجتي سلمى التي تتوق أن تكون بجانب ابنها. - الكلام معقول. ولو أنني أريدك أن تظل رقيبا على حساباتي. - ميخائيل وسعيد في غاية الأمانة والدربة، وأنت لا تحتاج إلي. - اكتب العقد. - اسمح لي أسأل بكم؟ - الثمن معروف. - لكي يطمئن قلبي. - أربعمائة ألف جنيه. - ونعم الرجال أنت. - وسأعطيها لك كاملة عند التسجيل. - سأبدأ في الإجراءات من الغد، ولن آخذ منك عربونا. - أنت تعرفني. - كلمتك عقد وشيك معا؛ إني أعرفك حياتي كلها.
الشيخ عبد الحميد أبو جريشة شاب كفيف البصر يقرأ القرآن في المآتم وفوق القبور بقرية الدلجمونة أمله في الحياة أن يتزوج، ولهذا راح يدخر الجنيه فوق الجنيه، حتى إذا تقدم للزواج وجد عنده ما يستطيع أن يقيم به حياته وحياة بنيه، وكان الشيخ عبد الحميد حريصا أن يجالس أهل القرية، ويتعرف على أخبارهم، فالوقت على الكفيف متطاول ثقيل، ولهذا كان عبد الحميد يعتبر زواجه موضوع حياة أو موت.
وكان يسمع فيما يسمع من أهل القرية بعضهم يقول للآخر: لقد تزوج فلان من زوجة وقاك الله النظر إليها. إنها أقبح من قمر العوراء.
فاستقر عزم عبد الحميد على الزواج من قمر العوراء، وهل يصلح للعوراء إلا كفيف مثلي؟ خاصة أنها فقيرة معدمة تقوم بالخدمة في بيوت الأعيان، وعين واحدة تكفي كلينا.
ولم يتمهل عبد الحميد.
كان لعبد الحميد صديق قارئ قرآن مثله، ولكنه كان بصيرا، وكان اسمه سلامة مرسي، وكان عبد الحميد وصديقه سلامة يتسمان بالظرف والفكاهة الذكية، ومن العجب أن عبد الحميد كان أكثر أهل القرية سخرية من أناسها، فكان كثير من الشباب يستحبون أن يتحلقوا حوله في أوقات فراغهم، فتتعالى منهم الضحكات لتعليقاته اللاذعة المتجددة. وكان يجالسه مع سلامة، الورداني عوض وغيرهما من شباب القرية. وفي جلسة من هذه الجلسات تخافت الصوت حوله حتى أحس أنه لم يبق معه إلا سلامة. - سلامة. - ما لك؟ - هل نحن وحدنا؟ - نعم. - فقم بنا. - إلى أين؟ - فقط هيا بنا، وسأخبرك في الطريق. - هيا بنا.
وحين بدأ بهما الطريق قال عبد الحميد: هل يسمعنا أحد؟ - لا، انطق ماذا تعوز؟ - أعوز أن أذهب إلى قمر العوراء. - أعوذ بالله. - أعوذ بالله منك. - فيم تريدها؟ - إذا قلت لك لا تضحك. - لعلك تريد أن تتزوجها. - وأي عجيبة في ذلك. - إن قبحها لا يتصوره بشر. - فما فائدة العمى إذا لم أظفر بالزواج بها؟ - وأنا ما ذنبي حتى أراها؟ - إنك صديق لأعمى فلا عليك أن تذهب به إلى عوراء. - والله إنك على شدة قبحك أكثر صباحة منها. - حتى تعرف ميزات العمى يا مغفل. - كتر خيرك. - قل لي، الولد زردق الشنواني. - ماله؟ - كثير المجيء إلينا في هذه الأيام، كان في جلستنا اليوم، وكان هنا أيضا من يومين. - يريد أن يتزوج هو الآخر مثلك. - هكذا، ومن العروس؟ - نبوية بنت الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل. - وتمت الخطبة؟ - هو طلبها. - وطلبه معناه أن الخطبة قد تمت. - لك حق. - الشيخ عبد الفتاح كما تعرفه يخاف من خياله ويرتعد إذا ذكر أحد أمامه أنه يملك ثمانية أفدنة مخافة أن يخطف منه فدانا. - يقولون إنهما قريبا سيتزوجان. - لا بارك الله في هذا الزواج. - إي والله لا بارك الله فيه. - زواج سفاح من أرض لا من عروس. - يقولون إن سيده عيدروس مقتر عليه وعلى إخوانه من سفاحي عصابته. - فلماذا لا يتركه زردق؟ - هل جننت؟ - وماذا في ذلك، فإن لم يكن عيدروس يعطيهم ما يكفيهم، فهناك مائة عيدروس غيره. - يظهر أن زواجك من قمر العورة سيذهب بعقلك. - لماذا؟ - أولا زردق وشمندي وسرور وعبادة الذين يكونون عصابة عيدروس لا يجرؤ واحد منهم أن يتركه؛ لأنه سيأمر الثلاثة الآخرين بقتله على الفور. - وثانيا؟ - ليس في الجهة أحد يجسر على أن يستأجر واحدا كان من عصابة عيدروس، المسألة فيها رقاب يا سيدنا. - لك حق. - نحن لنا مدة طويلة نمشي، ألم نصل؟ - وصلنا. - فلماذا لم نذهب إلى البيت؟ - قلت أدور بك بعض الوقت لعلك تعدل عن فكرتك. - والله لا أعدل أبدا، ولو مشيت بي إلى الآخرة. - الأمر لله، انتظر حتى أطرق الباب.
وجاء الصوت. - من؟ - افتحي يا قمر أنا عبد الحميد. - عبد الحميد من؟ - عبد الحميد أبو جريشة. - أهلا وسهلا.
وفتحت الباب وما إن رأت الشيخين حتى صاحت: والشيخ سلامة. - كيف حالك يا قمر؟ - يسلم حالك، كان علي أن أتوقع، فأنتما لا تفترقان. - إن كنا نفترق أحيانا، فاليوم لا بد أن أكون معه. - أهلا شرفتما، أحضر لكما كوبين من الشاي.
وقال عبد الحميد: اقعدي بلا شاي بلا غيره، وهل كنا قادمين من أجل شايك؟ - قعدت، إنما الزيارة غريبة يعني. - بعد قليل تعرفين أنه لا غريب إلا الشيطان. - أعوذ بالله، خيرا يا مشايخ.
وقال عبد الحميد لسلامة: هل ستتكلم أنت أم أتكلم أنا يا شيخ سلامة؟ - يقولون إن الحياء في العين، وأنت والحمد لله لا ترى، ما المانع أن تتكلم أنت؟
وقالت قمر: هل الكلام خطير إلى هذه الدرجة، فليتكلم أي واحد منكما.
وقال الشيخ عبد الحميد: لا حياء في الدين يا سلامة، وعلى كل حال أعفيتك فأنا أعرف أنك نذل عند الحاجة إليك، اسمعي يا ست قمر.
وجف حلقه فسكت وصاح سلامة: الشيخ عبد الحميد يريدك زوجة له.
وساد الصمت طبعا، وهل يتزوجني إلا أعمى، أنا أعرف هذا في نفسي، ولو أن الآمال كانت تطوف بخاطري أحيانا مثل أي بنت، إلا أنها عشم إبليس في الجنة. أنت الآن مخيرة ليس في رفض عبد الحميد أو قبوله، إنما أنت مخيرة بين الزواج أو عدم الزواج إلى الأبد، ولكن في الزواج ستر، ولعله يريحني من خدمة البيوت، وتخلجت شفتاها بعد إطباق طويل لتقول: وماله، الشيخ عبد الحميد رجل طيب، وأهلا به على كل حال. - إذن موافقة؟ - لي بعض أسئلة. - اسألي ما شئت. - هل ستجعلني أخدم في البيوت كما أفعل الآن؟ - أهذا كلام، أتكونين زوجة لرجل يحمل كلام الله، وتخدمين في البيوت! - أطال الله عمرك، ويا ترى هل ستدفع مهرا؟ - يا سبحان الله، طبعا، والمهر الذي تحددينه.
وصمتت قمر ثانية، الآن أستطيع أن أكون مثل الأخريات، وأسمي المهر الذي أريده على الأقل لأعرف إن كان متمسكا بي، أم هي زيجة والسلام، وله أن يماكسني، فإذا فعل أقبل ما يعرضه، وتخلجت شفتاها مرة أخرى لتقول: ثلاثمائة جنيه. - مهرك ثلاثمائة جنيه مقدما، ومثلها في المؤخر. - على بركة الله.
وقال سلامة: نقرأ الفاتحة؟
وقالت قمر: نقرأها.
وقرءوا الفاتحة، ثم قالت قمر: متى تريد أن يتم الزواج؟ - إن كان الأمر متوقفا على إرادتي، فأنا أريد الآن، وسلامة يحضر الشيخ عمران والشاهد الثاني. - وأنا أيضا أتمنى ذلك، إلا أنني وعدت الحاجة ليلى زوجة الشيخ عبد الفتاح ألا أتركها إلا بعد أن تتزوج بنتها نبوية. - من زردق؟ - اسم النبي حارسك. - وماله. - وأخشى أن أخلف وعدي. - تخشين من زردق طبعا. - مجرم، والقتل عنده مثل شرب الماء. - وماله يا ست قمر، أوفي بوعدك. - وأنا أيضا أريد أن أشتري جهازا مثل العرائس. - من حقك. توكلي على الله.
وقال سلامة: مبروك يا شيخ عبد الحميد، مبرك يا قمر، زواج خير إن شاء الله.
وخرج الشيخان، وقال سلامة: كل شيء معقول إلا أنك ستدفع ثلاثمائة جنيه مهرا، من أين لك بها؟ - اسمع يا سلامة، نحن صديقان كأخوين، وأنا كفيف، وأنت مبصر، فأنت ترى خلجات وجهي، وتعرف كل ما يعتمل في صدري، وأنا لا أعرف خلقتك. - هذا حق. - أريد أن أحس أن لي سرا خاصا أحتفظ به لنفسي. - هذا حقك، ولن أسألك بعد اليوم.
وكان الليل قد أمسى فأوصل سلامة صديقه عبد الحميد إلى بيته، ولم ينس أن يحتضنه مكررا التهنئة، وانصرف وخلا عبد الحميد إلى الراديو يستمع إليه، ولكن خواطره تذهب به إلى ذلك اليوم الذي تخلص فيه من سلامة بحجة أنه على موعد لقراءة القرآن بالولجة في أحد المآتم، وأن أصحاب العزاء سيرسلون إليه من يأخذه. وحين خرج من بيته بعد انصراف سلامة صاح في الطريق: السلام عليكم، وأجابه شخص جالس بالقرب من منزله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. - يا مرحبا، من الرجل؟ - أنا رزق حلحول. - أهلا رزق، هل أستطيع أن أقصدك في مكرمة؟ - أنا تحت أمرك يا شيخ عبد الحميد. - هل أنت مشغول؟ - وإن كنت مشغولا أنا في خدمتك، يكفي أنك تحفظ كلام الله يا أخي، والمشي معك بركة. - بارك الله فيك، وجعل رزقك واسعا إن شاء الله يا رزق. - يسمع منك ربنا يا شيخ عبد الحميد. - خد بيدي وحياتك إلى بيت الحاج أبو سريع. - وما له، هات يدك.
ومشيا وراح عبد الحميد يبرر هذه الزيارة. - كنت مع الإخوان وسمعت أنه سأل عني. - لعله يريد أن يعمل خاتمة بمناسبة نجاح ابنه. - ربما، كلها أرزاق يا رزق.
وما هي إلا بعض جمل من الحوار، حتى وقف به رزق. - هذه هي الدار.
وطرق الباب.
وجاء صوت أبي سريع من الداخل: من الذي يخبط الباب؟ - افتح يا حاج، أنا عبد الحميد أبو جريشة.
وهمس رزق لعبد الحميد: سلام عليكم أنا يا شيخ عبد الحميد.
وانصرف وفتح أبو سريع الباب، وأخذ بيد الشاب حتى أجلسه وهو يقول: أهلا. - لا مؤاخذة يا عم الحاج، هل معنا أحد؟ - تكلم يا شيخ عبد الحميد، فزوجتي في زيارة، ولطفي في مصر كما تعلم.
وفك الشيخ زرائر صديريته ودس يده في صديري آخر تحت الأول ملاصق لجلده، وأخرج رزمة من الجنيهات واضحة الضخامة، وأعطاها لأبي سريع وهو يقول له: عد هذه الجنيهات يا عم أبو سريع.
وفي دهشة بالغة راح أبو سريع يعد جنيهات الشيخ، ثم قال: ألف وثلاثمائة جنيه. - هي كذلك، وإن شاء الله سآتي لك ببعض مئات أخرى، وأترك المبلغ كله أمانة عندك. - أحفظه بين عيني، أكتب لك إيصالا؟ - يا عم الحاج أنا كفيف. إذا لم أأتمنك ما جئت إليك، وكيف سأقرأ الإيصال الذي ستكتبه، أنا ادخرت هذا المبلغ من كدح العمر كله، والله يعلم مقدار ما عانيت في سبيل جمعه، فأنا أريد أن أتزوج ويصبح لي أبناء مبصرون أعوض بهم شقائي، وأحس أني آدمي مثل الآخرين، وخشيت أن ينتهز أحد فرصة بصري المكفوف فيفجعني فيه، وأنا لم أجئ إليك إلا بعد أن ذاع صيتك أنك ترد الأمانات إلى أهلها، وأن الناس جميعها ترفض أن تأخذ منك ورقة بما استأمنوك عليه. توكل على الله. - انتظر، كيف ستسير؟ - لن أعدم ابن حلال كالذي أوصلني إليك.
ووجد عبد الحميد من يأخذ بيده إلى صحبته الذين يجالسهم كل يوم منذ العصر حتى صلاة العشاء، أو بعدها بقليل، وكان سلامة مع الصحبة، وقال له سلامة: لماذا لم تذهب إلى مأتم الولجة؟
وقال عبد الحميد وكان قد أعد الإجابة: لم يرسلوا لي أحدا، الظاهر جاءوا بشيخ آخر أرخص مني.
نعم مثلما قلت لسلامة، لا بد أن أستمتع بسر لي لا يطلع عليه أحد، أليس هذا من حقي؟ سبحان الله. لقد أصبحت الألف والثلاثمائة اليوم ألفا وستمائة تضمن العيش لقمر ولي إن شاء الله.
الفصل السادس
كان تامر فتى قليل المثال في جيله، ولا شك أن هذا راجع إلى عناية والده به عناية فائقة، ورغم أنه يزرع أرضه بنفسه إلا أنه كان يحرص أن يهب لابنه كل الاهتمام، فتراه قد حرص منذ صغره أن يجعله يقرأ القرآن، ويحفظ سورا منه، كما شجعه على القراءات الأخرى بادئا بكتب الأطفال متدرجا معه، وحين بلغ تامر سن المدرسة أدخله مدرسة فرنسية ليتقن لغة أخرى بجانب العربية، وانتقل تامر إلى القاهرة مع والدته صالحة هانم عبد البر كريمة المستشار عبد البر الوسيمي، الذي لم ينجب إلا صالحة وأختها ثريا.
ولوجدي بيت أنيق في القاهرة، ولكنه كان يقضي أغلب وقته بالدلجمونة مع أرضه. فحين دخل تامر المدرسة انقلبت الآية، وأصبح حريصا أن تكون الإقامة الأساسية في القاهرة، مع حرصه الشديد على أن يقيم يومين أو ثلاثة كل أسبوع بالبلدة.
أما صالحة فلم يكن لها شاغل في الحياة إلا تامر، وكانت هي أيضا مثقفة ثقافة فرنسية، وإن لم تكن حاصلة على شهادة عالية، وكانت دائما تذاكر مع تامر، حتى إذا فاق ثقافتها كانت تستحثه على المذاكرة والقراءة في وقت معا، ومع هذا فقد كانت صالحة كما كان وجدي حريصين أن يقبل تامر على المذاكرة والقراءة إقبال محب، لا إقبال مرغم، فكانا يتيحان له أن يخرج مع أصدقائه حين يشاء، أو يجلس إلى التليفزيون، أو يستمع إلى أغاني الراديو، أو يذهب إلى السينما أو الحفلات كلما تاقت نفسه إلى ذلك، بل كان الوالدان يصحبان ابنهما إلى أوروبا كلما عن لهما أن يسافرا سواء كان السفر من أجل الترويح عن النفس أم كان سفرا من أجل العمل؛ فقد كان وجدي بارعا في الزراعة، ومكنت له براعته أن يصدر نتاج أرضه إلى الخارج، حين أصبح التصدير متاحا، ويشاء مؤلف القلوب أن تتواصل الألفة التي صارت إعجابا، ثم أصبحت حبا متبادلا بين تامر وابنة خالته رحاب التي حرص والدها أمجد وأمها ثريا عبد البر الوسيمي على تنشئتها أعظم تنشئة، وكان أمجد يعمل وكيل نيابة مع والد ثريا، فأعجب بالوالد، وحدث أن رأى ابنته فتقدم لخطبتها، وتم الزواج، وأنجبا رحاب، وأصبح أمجد مستشارا مثل حميه، وإن كان حموه قد سبقه إلى المعاش بطبيعة السن. وقد حرص أمجد أن تنال رحاب من التعليم أحسنه، واختار لها هو أيضا المدارس الفرنسية مثله ومثل أمها التي لم تنل هي أيضا شهادة عالية، شأنها في ذلك شأن أختها صالحة.
وكانت رحاب وضيئة القسمات، مشرقة الطوايا، وشع إشراقها المستخفي على معارف وجهها المعلنة بزينة جمال أخاذ قل أن تتمتع به فتاة ولا يتملكها الغرور والزهو، ولكن الخلاق المصور شاء أن يمنحها جمال القلب والوجه معا، ويرد عنها كبر الصباحة واستعلاءها، وقد كانت رحاب تصغر تامرا بسنتين، فكانا رفيقي ملعب وصديقي فتوة وحبيبي شباب.
وكان زواجهما أمرا متفقا عليه بين ذويهما دون مصارحة لا يحتاج إلا أن يتخذ مراسمه الشرعية.
وكان الوالدان والأمان والجدان والجدتان جميعا سعداء غاية السعادة بما يؤلف بين تامر ورحاب من حب مكين يمنعهما الحياء أن يبدياه إلا في نظرة أو تحية مشرقة أو اهتمام من كل منهما بأنباء الآخر المدرسية، ثم الجامعية، بل إنه اهتمام لا تفوته حتى الأخبار الثقافية أو أسباب الترويح والمسلاة لكل منهما.
وكانت رحاب تنتقل إلى السنة الثالثة بكلية الآداب حين تخرج تامر في كلية الحقوق بتقدير يمكنه من الانتظام بسلك النيابة ليصبح مثل جده وحميه، ولكن كليهما نصح له أن يعمل بالمحاماة، واختارا له مكتب صديقهما المحامي الشهير رشدي فاضل، ومالت نفسه إلى هذا الرأي.
وفاتح تامر أباه وأمه بمشهد: بابا أترى بأسا أن أتزوج؟ - ولكن العروس أمامها سنتان حتى تتخرج مثلك. - إننا متفقان أنها لن تعمل بالشهادة. - أخشى أن يتوجس والداها أن يشغلها الزواج عن المذاكرة. - إذا فعلا يكون الصواب قد جانبهما؛ فهما أدرى الناس بابنتهما ويعلمان مقدار حرصها على الحصول على هذه الشهادة. - والله ما أحب إلي.
وقالت صالحة: والله تامر محق؛ فيم التأخير؟ سأكلم ثريا فورا.
وتم الزواج في فرح وقور فخم.
وحين تقدمت رحاب إلى امتحان الليسانس كانت حاملا في وجدي، وتعاقبت الأفراح على الزوجين وأهليهما بالنجاح والمولود في مواعيد متزامنة، وزادهم سعادة أن تامر افتتح مكتبه بعد أن أتم سنتي المران، وأصبح محاميا مستقلا تهيئ له مرافعاته في مكتب رشدي فاضل مستقبلا زاهرا في المحاماة.
الفصل السابع
في قرية الولجة يملك سعفان الأشهب ثلاثة أفدنة ليس يدري أي عفريت زين لعيدروس أن يستولي عليها، فاستدعى سعفان. - أريد أرضك. - أنا ليس لي إلا هذه الأفدنة الثلاثة أعيش عليها أنا وعيالي. - اشتر غيرها. - إنها أرض أبي وجدي، ثم سعادتك تعلم أن أحدا لا يبيع أرضه في الولجة. - اشتر في غير الولجة.
وأترك بلدي أيضا. - هذا أصلح لك. - إنما قل لي يا بك، أرضي معي منذ مات أبي ولم تفكر في شرائها. ما الذي أغراك بها الآن؟ - كانت بجانب أرض أخي مراد، وأنا اشتريت أرض مراد ، فأصبحت بجانب أرضي. - وشراؤك لأرض أخيك يأتي على دماغي أنا. - أنا لا أناقش. - أعرف. - ففيم كلامك؟ - أقول آه. أليس من حقي أن أقول آه؟ - قل ما شئت. - الأرض عزيزة. - هل أعز من حياتك؟ - هل وصل الأمر إلى الحياة؟ - ألا تعرف ذلك؟ - ما دام الأمر كذلك، فاترك لي فرصة أشاور إخوتي، ونبحث معا عن قطعة أرض إن لم يكن في الولجة ففيما جاورها. - أنا لا أحب أن أصدر أمرا ويتأخر تنفيذه إنما لا بأس خذ وقتك.
في اليوم التالي لهذا الحديث كان أبو سريع في زيارة لعيدروس، فحين بلغ منزله أجلسه الخادم مبروك بغرفة الجلوس، وكان لها باب آخر يفضي إلى غرفة من غرفات المنزل. وجلس أبو سريع ينتظر عيدروس، فإذا بصوته يأتي إليه من الحجرة المجاورة، وكان مسموعا جليا؛ مما يدل على أن مبروك لم يخبره بمجيء أبي سريع. قال عيدروس: الولد سعفان الأشهب كان عندي أمس وابن الكلب ماطل في بيع أرضه.
وعلا صوت عرفه أبو سريع، إنه صوت شمندي رئيس عصابة عيدروس. - وما له، هل هو أحسن من الذين قتلناهم؟
وقال سرور: هي رصاصة، وياما قتلنا من هو أعظم منه.
وقال عيدروس: اليوم كم في الشهر.
قال زردق: اليوم خمسة منه. - في الخامس عشر من الشهر يذهب أربعتكم لبيته، وهو على العشاء اقتلوه واقتلوا أسرته جميعا.
ارتعدت فرائص أبي سريع، وحار في أمر نفسه إن بقي في مكانه عرف عيدروس أنه سمع ما دار من أمر المقتلة، وإن انصرف سيخبره مبروك أنني كنت هنا وانصرفت، فيدري أنني اطلعت على سره، والغالب أن يقتلني أنا أيضا.
وأتته فكرة؛ خرج من الغرفة، ووجد مبروك غير بعيد منه فقال: يا مبروك، والنبي يا بني أريد أن أتوضأ لألحق بالمغرب قبل أن يفوتني، والمغرب درة فالتقطوها. - وماله يا عم أبو سريع، تعال معي.
وذهب أبو سريع فتوضأ مع أنه كان متوضئا، وبدأ يصلي المغرب الذي كان صلاه قبل مجيئه مباشرة، وسمع وهو يصلي صوت مبروك وهو يقول لسيده: الحاج أبو سريع هنا .
وأحس أبو سريع بذعر عيدروس وهو يقول: ماذا تقول؟ متى جاء؟ - في التو واللحظة، وطلب أن يتوضأ، وهو الآن يصلي. - أين؟ - هنا بالحجرة التي بجانب الحمام. - ألم يدخل حجرة الجلوس؟
وبسليقة الكذب غير الواعي قال مبروك: طلب أن يتوضأ ساعة مجيئه. - وأدرك أبو سريع أنه نجا بكذبة مبروك، وأتم صلاته، وجلس إلى عيدروس. - يا مرحب يا حاج أبو سريع. - رحب الله بك يا سعادة البك، جئتك اليوم لأخبرك أني نويت والنية خير إن شاء الله أن أسافر لأكون بجانب لطفي وسعدية، ولأكون أيضا بجانب آل البيت. شيئا لله يا ست. - ألا تنوي المجيء إلى هنا أبدا؟ - فيما ندر. - على كل حال أنا أسافر كثيرا إلى مصر وأراك هناك، ألست تنوي الإقامة مع لطفي؟ - مؤقتا حتى أجد لنفسي بيتا. - ولماذا مؤقتا؟ - المهم أن سلمى امرأتي ستكون مع الست سعدية حتى تضع لنا الولد بالسلامة. - وفهيمة امرأتي ستذهب إليها أيضا. - قبل أن تذهب أكون وجدت بيتا إن شاء الله. - وفيم العجلة؟ نحن أصبحنا أهلا. - حفظت يا سعادة البك، أستأذن أنا.
وخلا الطريق بأبي سريع، لم يكن يصدق ما حدث؛ لا في الأمر بالقتل في هذه البساطة، ولا في أنه سمع ما سمع، ونجا قبل أن يقتل هو الآخر.
كان أبو سريع يعرف مقصده؛ فهو مع خوفه فكر أن الله سبحانه وتعالى إذا أراح الناس من عيدروس، فإن ملكه كله سيئول إلى ابنته، وطبعا سيكون لطفي هو المتحكم في كل الثروة. إن للمولى حكمة واسعة أن أسمع ما سمعت، وأن أنجو به أيضا.
كان وجدي على وشك النوم حين أعلنه الخادم بقدوم أبي سريع، الأمر الذي أدهشه فلم يكن الوقت صالحا لزيارة.
بدأ وجدي الحديث: هل أنهيت إجراءات التسجيل يا أبو سريع؟ - على وشك، ولكني جئتك في مصيبة كبرى. - فعلا لونك مخطوف، مالك؟
وقص أبو سريع كل ما سمعه من عيدروس وعصابته على وجدي الذي لم تأخذه الدهشة قدر ما أخذه الاهتمام، وقال أبو سريع: أنا تركت الأمر بين يديك، وأنا كأني ما سمعت شيئا. - طبعا كأنك ما سمعت شيئا.
وانصرف أبو سريع، وعاجل وجدي التليفون، وصاح: يا تامر إلى هنا غدا في الفجر.
وقال له تامر: عندي قضية هامة غدا. - اترك نوتة بها وتعال، بل إذا استطعت أن تجيء الآن يكون أحسن. - خيرا؟ - ليس خيرا، ولكنه مهم جدا جدا. - ماما صحتها حسنة؟ - والدتك بخير، وليس الأمر متعلقا بنا، ولكنه غاية في الأهمية. - أمرك.
وقبل أن يصحو وجدي كان تامر عنده، وعرض الوالد الأمر على ولده، وقال تامر: البس ملابسك، وهيا بنا. - نعم أعرف ما تريد، وأنا رأيي مثل رأيك، ولكنني لم أحب أن أذهب وحدي في مسألة قانونية كهذه. وذهب وجدي وتامر إلى مدير الأمن، وأبلغاه بكل الذي عرفاه، واهتم الرجل اهتماما كبيرا.
في اليوم التالي لهذه الواقعة ذهب أبو سريع إلى الشهر العقاري، ولم يقم إلا على موعد في الغد أن ينتقل معه الموثق برسم انتقال إلى وجدي ليتم الصفقة.
وفعلا تمت الصفقة، وقبض أبو سريع شيكا بالمبلغ، ولم يكن قد أخبر سلمى بنيته، وكان قد انتوى السفر في باكر الصباح، فإذا به يبده سلمى بقوله: ما رأيك نسافر غدا إلى مصر؟ - هكذا بلا ترتيب؟ - أي ترتيب؟ ستأخذين ملابسك، وآخذ ملابسي، وسنأجر سيارة تصل بنا إلى بيت لطفي. - وأذهب بيدي فاضية؟! - يا ستي نشتري من حلويات مصر ما نريد. - وهل هناك مثل صنع يدي؟ - اسمعي، لا مناقشة، إننا سنسافر غدا إلى مصر، وسنبقى بها مدة طويلة، والسيارة آتية قبل صلاة الفجر.
وتم له ما أراد، واستولى على الأمانات التي كانت عنده، والتي كانت تزيد على مائة ألف جنيه، وذهب إلى القاهرة، ولكنه لم يذهب مباشرة إلى بيت لطفي، وإنما قصد البنك مباشرة ليصرف شيك وجدي، ولم يودع المبلغ في نفس البنك، فقد كان ابنه لطفي يعمل به، وقد حرص ألا يلقاه في يومه هذا.
أخذ المبلغ، وذهب إلى بنك الشرق، وأودع المبلغ، وسلمى في السيارة طوال هذه المدة غير مدركة شيئا إلا أن زوجها دخل إلى البناء الأول بحقيبة في يده ، ولم تكن تعلم أن هذا هو البنك الذي يعمل به ولدها، فما دام أبو سريع لم يخبرها، فمن أين لها أن تعلم؟ وانتظرت وقتا أحست أنه طويل، إلا أن الزمن لم يكن ذا أهمية عند سلمى، وخرج زوجها إلى مبنى آخر لا تعرف من شأنه شيئا هو الآخر، وبعد الزيارتين اللتين قام بهما زوجها ذهبا معا إلى بيت لطفي الذي كان ما يزال في عمله.
تزوج زردق من نبوية، وبدأت قمر تعد لزواجها هي، ولكن حين ذهب عبد الحميد أبو جريشة إلى بيت أبي سريع علوان وجده قاعا صفصفا أو هكذا أخبره من صحبه إلى البيت.
لم يتوقع أحد من أصحاب الأمانات أن أبا سريع هرب بأموالهم، وكان جميعهم مزمعا أن يهب له فترة انتظار، فإن أحدا لم يتصور أنه هاجر إلى القاهرة هجرة مقيم لا زائر.
حل موعد الجريمة، وذهب السفاحون الأربعة إلى بيت سعفان، وضرب زردق باب سعفان برجله، فإذا بالذي يقابلهم الكمين الذي أعدته الشرطة، وسارع شمندي بإطلاق الرصاص فجاوبه رصاص الشرطة، وقتل وألقى الثلاثة الآخرون سلاحهم، وقبض عليهم رجال الأمن.
وبلغ الأمر عيدروس، فلم يحر جوابا، فقد أصيب من فوره بجلطة في المخ، منعته من الكلام والحركة، بل من الوعي أيضا.
وبدأ التحقيق مع أفراد العصابة الثلاثة، وقد كان ثلاثتهم معروفين لدى جهات الأمن، وما منع هذه الجهات من القبض عليهم إلا عدم وجود أدلة دامغة تدينهم في جرائم القتل التي وقعت فعلا، ولكن الشهود خافوا أن يذكروا الحق من أمر المجرمين، وقد أدرك ثلاثتهم أنهم سيحاكمون على الشروع في القتل الذي ضبطوا متلبسين به وعلى جرائم القتل التي دارت حولهم فيها الشبهات، فلم يجد ثلاثتهم مناصا أن يبيحوا أسرار العصابة جميعها قديمها وحديثها، كما ذكروا أسماء الذين قتلوهم بأمر من عيدروس، وانكشف للشرطة خفايا كثير من الجرائم التي لم يكونوا يعرفون فاعليها. أما عيدروس فأمسى غير صالح للمحاكمة، بل غير صالح لأي حديث من أي نوع، ووكل سعفان تامرا محاميا عنه كمدع بالحق المدني، وأبى تامر أن يتقاضى أتعابا.
الفصل الثامن
لم يمهل أبو سريع الأيام، بل ألهب ظهرها بالسياط. إنه الآن يملك نصف مليون جنيه يريدها أن تكون عددا لا يحصى من الملايين.
بدأ بأن استأجر شقة مفروشة منذ اليوم التالي لوصوله، وكان قد سمع عن سمسار بحي السيدة قادر على أن يجد له قطعة أرض بناء واسعة بالوسائل التي يلجأ إليها المغتصبون. ذهب إليه وكان اسمه محروس الزيني. - يا عم محروس صباح الخير. - أهلا وسهلا. تفضل. - الحمد لله ليس معنا أحد، وأستطيع أن أحدثك فيما جئتك فيه. - أنا تحت أمرك. - أريد قطعة أرض يكون صاحبها مجهولا. - ماذا؟ لا، لا يا عم، حد الله بيننا وبين الحرام. - لك حق أنت لا تعرفني، هذه هي بطاقتي انقل الاسم عندك، واسأل عني، وآتي إليك بعد ثلاثة أيام. - ثلاثة لا تكفي. - بل تكفي، الوقت عندي مهم.
وفي خبرة التاجر المتمرس أدرك محروس أن محدثه ليس مدسوسا عليه من جهة أمن، أو أي جهة حكومية، قال له: مكتوب في البطاقة صراف. - كنت، وتركت الصرافة منذ سنوات عديدة، وأضف على اسم البطاقة لقب الحاج أيضا، فأنا لم أكن حججت حين استخرجتها.
قال محروس: قل ما تريد الآن. - أنت تعرف ما أريد. - عندي قطعة أرض مساحتها ألفا متر تساوي سبعة ملايين جنيه صاحبها هاجر منذ سنوات، ويمكن القيام بإجراءاتها. - ما هي هذه الإجراءات؟ - من الذي دلك علي؟ - كثيرون. - أهمهم؟ - مسعود سليم زميلي السابق. - إنه يعرفني كل المعرفة. - وأنت أيضا تعرفه كل المعرفة. - إذن اترك لي هذه الإجراءات، ولنتكلم في نصيبي. - المبلغ الذي تقدره. - الأرض تساوي كثيرا. - فماذا تقدر لنفسك؟ - لنفسي فقط أم للذين سيتعاونون معي؟ - حدثنا عن نفسك أولا. - لن أقول مائة ألف، بل سبعين فقط. - اجعلهم ستين، وخذ عد هذه الجنيهات.
وبدأ محروس العد، حتى إذا انتهى منه قال: هذه عشرون ألفا. - نعم. - مقبولة. - متى أراك؟ - اترك لي يومين.
الفصل التاسع
تسامع الناس في قرية الدلجمونة بأمر أبي سريع، وأنه أخذ أماناتهم إلى غير رجعة.
وذهبوا جميعا إلى وجدي الذي أدرك آنذاك لماذا باع له أبو سريع أرضه، ولكنه سأل جميعهم إن كان أحد منهم يملك ورقة تثبت حقه، ولكن هيهات.
شب في البلدة حريق، واجتمع منهم عدد كبير، وذهبوا إلى لطفي بالبنك، وكان قد عرف ما فعله أبوه وواجههم لطفي في صلافة قائلا لهم في صفاقة: ليعطني أي واحد منكم ورقة آت له بالمبلغ في هذه اللحظة، أما أن تشنعوا على أبي بمجرد كلام، فإنه أمر لا يمكن السكوت عليه، وليبلغ الحاضر منكم الغائب أنكم إذا جئتم لي بلا ورق، فسأبلغ الشرطة أنكم تتهمون أبي ظلما وزورا وعدوانا وأتهمكم بإساءة السمعة.
وتخاذل الجمع، وأدرك كل منهم أنه لا سبيل له أن يصل إلى ماله، وخشي كثير منهم تهديد لطفي، فانصرفوا إلى غير عودة.
وعرف عبد الحميد أبو جريشة ما حصل، فأصابه الذعر والهلع؛ لقد فقد عمره كله؛ الماضي والقادم. قال لسلامة: بنا إلى بيت قمر.
وذهبا، وقال لها: يا بنت الحلال، المال الذي كان عندي سرق، وهو الذي كنت سأحميك به من خدمة البيوت، وهو الذي كنت سأعطيك منه المهر، فإن قبلت شيخا أعمى لا يملك إلا مائة جنيه هي الباقية معي، والحمد لله نجت من براثن أبو سريع أهلا وسهلا. - لا أهلا ولا سهلا، ولا يلزمني الزواج جميعا. - لك حق، قم بنا يا سلامة.
وهكذا انهارت البقية الباقية من آمال عبد الحميد في الحياة جميعا، وعزم أمره على شيء انتوى منذ تلك اللحظة أن يكرس حياته في سبيل إنفاذه.
الفصل العاشر
سارت الأمور مع أبي سريع كما يشاء، وفي فترة قصيرة استولى على أرض البناء الفضاء بعد أن رشا الخبير الذي خصص لمعاينة الأرض بخمسين ألف جنيه، ورشا الشهود الأربعة الذين دبر أمرهم محروس بأربعين ألفا.
ولم تكن الأرض مبتغاه؛ فهو يقول لابنه مفتتحا معه الحديث: البقية في حياتك في حميك. - الله يرحمه، لقد مات منذ اللحظة التي قبض فيها على رجاله.
ولم يشأ أبو سريع أن يخبر ابنه أنه هو السبب الأساسي في كل ما حدث لعيدروس وعصابته، وإنما قال: لقد أصبحت أنت الوارث الحقيقي؛ فسعدية لا تعرف عن الأرض شيئا. - كله لأولادها. - المهم ماذا لو طلبت سلفة على الأرض بضمان أرض البناء؟ - بكم الأرض؟ - يتراوح ثمنها بين ستة وسبعة ملايين جنيه. - وإذا حققت لك ما تريد، ما نصيبي؟ - نصيبك؟! - طبعا أنا الآن والد وصاحب أسرة قابلة للتضخم. - على فكرة، لماذا أسميته سامي؟ - وماذا كنت تريدني أن أسميه؟ - أبو سريع أو عيدروس. - يابا هذه أسماء لا تصلح لعصر الولد.
على أي خيبة أسميه أبو سريع، وأنا لم أر منك ومضة حنان، أنا إن كنت أعاونك الآن فلنفسي ولأسرتي، ومن أجل هذا فقط، وكم أتوق أن تطلع على ما يدور في رأسي الآن ... وأيقظه صوت أبيه من سرحته: هيه، ماذا قلت؟ - فيم؟ - في سلفة على الأرض. - لم تقل ما نصيبي! - أي نصيب؟ أليس كل مالي لك؟ - أطال الله عمرك، ولكن أليس من الطبيعي أن أعيش كما أشتهي وأنت على قيد الحياة؟ - لا بأس، كم تريد؟ - النصف. - حقا إنك أهبل، ماذا تظنني فاعلا بالسلفة التي سيمنحها لك البنك؟ - أتنوي أن تفعل؟ - طبعا أتراني مجنونا لدرجة أن أترك ملايين لا تعمل. - ماذا تنوي؟ - أعمل بها في السوق. - أي سوق؟ - إنني صراف ومثلي يكون خبيرا في كل مناحي المال. - ففي أي مجال ستعمل؟ - أفضل شيء أراه أن أعمل في المقاولات. - عظيم، ولكن لا بد لك من مهندس. - بل قل مهندسين. - ولا بد أن يكونوا طوع أمرك. - الفلوس تعمل كل شيء، قل لي أولا كم أستطيع أن آخذ من البنك؟ - بل قل لي أنت أولا ماذا ستعطيني؟ - أجعلك شريكا لي في كل أعمالي. - بكم قدر الخبير الأرض؟ - الخبير لم تكن وظيفته تقدير الثمن، وإنما كان عمله أن يثبت ملكيتي للأرض. - إذن فالبنك هو الذي سيقدر ثمنها، وعلى أساس هذا التقدير تكون السلفة. - كم تستطيع أن تجعل البنك يعطيني؟ - عشرة ملايين على شرط. - اشرط. - ليس الشرط لي. - فلمن إذن؟ - للخبير الذي سينتدبه البنك. - ماذا تقدر له؟ - المسألة لم تصبح تقديرا، إنها مبالغ محددة معروفة. - كم؟ - نصف مليون. - نصف مليون؟! - ومثلها لزملائي الذين سيسهلون الائتمان. - أليس لك خاطر عندهم؟ - في مثل هذه الأمور لا خواطر.
وقبل أن يتكلم أبو سريع دق جرس الباب في بيت لطفي، وقام لطفي إلى الباب، وفوجئ بوجدي واقفا عليه، وتولته الدهشة وهو يصيح: أهلا سعادة البك تفضل. - أهلا بك، عرفت عنوانك من البنك. - وماله تفضل. - مبروك البيت، أنا أريد أن أعرف عنوان أبيك. - أبي هنا. - أهو هنا؟ - تفضل. - إذن أدخل.
قال وجدي لأبي سريع: سنشرب القهوة في منزلك. - أمرك. - هيا بنا.
وقال لطفي: من غير أن أكرمك؟ - سأجيء لك خصيصا مرة أخرى، إلا أنني اليوم على عجل، ولا بد لي أن أرجع إلى البلد اليوم. - أمرك. - هيا يا أبو سريع. - أنا تحت أمرك، هيا.
وما إن استقر بهما المقام في بيت أبي سريع، حتى سارع قائلا لوجدي: أنا أعرف فيم تريدني. - هل الذي فعلته معقول؟ - انتظرني لحظات.
وما لبث أن عاد وبيده مصحف شريف، وما إن جلس حتى فاجأ وجدي بأن قال: ما هذا؟ - إن كنت تنوي أن تحلف عليه فاخش الله.
وضع أبو سريع يده على المصحف، وقال: أقسم بهذا المصحف كلام الله المنزل، وأنا حججت إلى بيته المقدس أنني سددت كل أمانات أهل البلد لأصحابها، وليس لأحد منهم مليم في ذمتي، سواء كان هذا المليم أمانة أو كان دينا.
وساد الصمت هنيهة وقال وجدي: حتى عبد الحميد أبو جريشة؟
في وقاحة منقطعة النظير، قال أبو سريع: من عبد الحميد أبو جريشة؟ - ألا تعرفه؟ - ربما الشيخ الأعمى المقطوع. - أليس له عندك ألف وستمائة جنيه؟ - وهذا الفقي الأعمى من أين له بمبلغ كهذا؟ - ألم يقل لك؟ - أنا لم أره وحدنا عمري كله، أنا لا أراه إلا في المآتم، وحين نقوم بدفن أحد الأموات. لقد سمع الإشاعة، فقال: فرصة أعمل لنفسي شأنا ومكانة. ومتى يجد مثل هذه الفرصة، حتى يجعل الناس يلوكون اسمه.
وصمت وجدي لحظات قائلا: إنه الوحيد بين الذين يقولون إنهم استأمنوك وخنت أماناتهم الذي فكرت أن أرد له مبلغه، فقد تألمت لأمره كل الألم. - خصيمك النبي إن فعلت. - ما دمت تنفي كل هذا النفي سأصدقك، والأمر الآن أصبح بينك وبين الله. - يا رجل لقد عرفتني منذ نحن أطفال، وعملت معك سنوات، وكنت أتصور أنه إذا صدق الجميع عني هذه الشائعات فأنت بالذات ستنفيها. - إنهم كثيرون يا أبو سريع. - مهما كثروا. - فكيف تتصور أن يكونوا في مثل هذا العدد؟ - واحد أراد أن يسيء إلى سمعتي فتبعه الآخرون واجدين فرصة عندك لعلك تجود عليهم بشيء أو يتظاهرون بأنهم كانوا ضحية لثري، وخصوصا بعد أن عرفوا، فإنني بعت لك أرضي بهذا المبلغ الكبير، وشرفك يا وجدي بك كلهم شأنهم كشأن عبد الحميد أبو جريشة. - أنا منذ اليوم لن أكلمك في هذا الموضوع، وسأترك أمرك لله وكلامه ورسله فهم خصومك إن كنت من الكاذبين. - فقط ألم يقل لك أحد أنه استأمنني على مبلغ كبير بلا إيصال مني، ولا سند في يده ورددت له أمانته؟ - الحقيقة أن كثيرين قالوا ذلك، وأكبر المدافعين عنك الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل. - ألم يقل لك المبلغ الذي استأمنني عليه؟ - يقول عشرة آلاف. - ألم يكن هذا أولى من عبد الحميد أبو جريشة؟ - كما قلت لك إنك ستقف بين يدي الله الذي حلفت به وبقرآنه، وهو الواحد الديان، أما عني فإني أعيذ نفسي أن أصدق شيئا لا أجد عليه دليلا ماديا حتى الآن. - ولن تجد، والأيام بيننا. أتسمح لي أن أقول لك شيئا؟ - قل. - إذا قدم أي مدع من الذين يتهمونني زورا ورقة واحدة تثبت كذبي وصدقه، سأدفع لكل من يتهمونني المبالغ التي يدعون أنهم أودعوها عندي بصفة أمانة. - أهذا عهد؟ - عهد الله بيني وبينك، فإن رأيتني أخيس به فلا تعرفني بعدها أبدا. - اللهم فاشهد، أنا عملت ما رأيت أنه واجبي، وليس لي شأن بهذا الموضوع إلا إذا ظهر فيه جديد. - إذا ظهر هذا الجديد ستجدني بين يديك أنفذ عهد الله الذي وثقته بيني وبينك. - وهو كذلك، سلام عليكم. - وعليكم السلام يا سعادة البك، زيارتك هذه لا تحسب، وهذا شرف أحب أن أناله بغير أن يكون السبب له هو شكك في. - الأيام القادمة كثيرة، ومن يدري ربما أكثر من زيارتك حين تنكشف هذه الغمة، بيتك جميل. كيف وجدته؟ - إنه شقة مفروشة، حين تأتي المرة القادمة سيكون ذلك في بيتي إن شاء الله. - إن شاء الله، سلام عليكم.
وتصافح الرجلان، وانصرف وجدي، وقد تمكن أبو سريع أن يزعزع ثقته التي جاءه بها من أنه خائن الأمانة.
استطاع أبو سريع بمعاونة من لطفي أن يحصلا من البنك بالوسائل غير المشروعة على عشرة ملايين من الجنيهات، وما يلبث أبو سريع أن يشتري قطعا أخرى من الأرض، وينال عليها بنفس الوسائل عشرات الملايين من الجنيهات سواء كان حصوله على هذه الأراضي بعقود بيع وشراء صحيحة، أو بنفس الوسيلة التي حصل بها على قطعة الأرض الأولى، واشترى أيضا بوسائله شقة أقام فيها هو وسلمى.
أما لطفي فقد أصبح كما قدر أبوه هو المشرف على أرض سعدية وأموالها منذ مات أبوها بعد أن ظل فترة يصدق عليه قول المنتقم الجبار: لا يموت فيها ولا يحيا.
الفصل الحادي عشر
قالت نبوية لأبيها: أنا لا أعرف يابا لماذا لم تسع في طلاقي من زردق حتى الآن؟ - يا بنتي هل جننت؟ - أجنون أن أطلق من مجرم في قضية قتل ضبط فيها متلبسا؟! اسمع يابا والله إن لم تطلب طلاقي من هذا الزواج الذي لم يستمر إلا أياما معدودة، سأذهب إلى تامر ابن وجدي بك، وأجعله يرفع لي قضية وهو لا يأخذ من أبناء البلد قرشا. - يا عبيطة، وهل أنا متأخر؟ - شهور الآن وأنت تسوف. - لأن القضية لم يحكم فيها. - إنها ثابتة يابا. - المحكمة لم تقل شيئا حتى الآن، وما دام لم يحكم على زردق فنحن لا نستطيع أن نطالب بالطلاق. - يابا المحاكم حبالها طويلة. - حكمة ربنا يا بنتي، وأنا ماذا بيدي أن أصنع؟ - أيرضيك أن أظل هكذا كالبيت الوقف لا أنا حرة، ولا أنا زوجة؟ - لا يرضيني، ولا يرضي أحدا، ولكن ماذا نفعل؟ - كان عليك أن ترفضه أول الأمر. - وأجعله يقتلنا جميعا أنا وأنت وأمك وإخوتك. - الأعمار بيد الله. - إنما قال الله: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. - هذا الرعب هو الذي جعلهم يفيعون كالذئاب في خلق الله. - يا بنتي البني آدم إذا قتل مرة واحدة يقتل مائة مرة، فما بالك برجل وظيفته في الدنيا أن يقتل؟! - نهايته سلام عليكم. - وعليكم السلام، إلى أين؟ - في ستين داهية.
وخرجت نبوية وصفقت الباب خلفها، وكان الليل في موهنه الأول، وبدأت الظلمات تلقي دكنتها على الأرض، وكان هذا هو الوقت الذي أرادته نبوية لتنفذ ما عزمت عليه في نفسها.
كان الشيخ عبد الحميد في منزله يستمع إلى الراديو، وإن كان منصرفا عنه بفكره إلى ذلك الأمر الذي صمم أن ينفذه مهما كانت الصعاب، ومهما كانت العواقب.
وطرق الباب، وكان الشيخ عبد الحميد يجلس دائما بجانب الباب، حتى يسارع بفتحه إن جاءه رسول يطلبه إلى عمل.
فتح عبد الحميد الباب أولا، ثم قال: من؟
وجاءه صوت نسائي: ندخل أولا، ثم أخبرك.
ولم تمهله نبوية، وإنما دفعته فاندفع، وأغلقت هي الباب، وأحكمت إغلاقه، ثم التفتت إليه. - ألم تعرفني؟ - العتب على النظر. - أليس عندك مصباح؟ - الكهرباء في البيت ومفتاح النور على يسار الداخل من الباب، ولكن ماذا أفعل أنا بالنور؟
وأضاءت نبوية المصباح وهي تقول: معك حق، اجلس؟ - قولي لي أولا من أنت؟ - أنا نبوية. - بسم الله الرحمن الرحيم، بنت الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل. - أعفريت أنا يا شيخ قرد! - يا ليتني يا ستي كنت قردا على أقل كنت أراك. - النهاية. - خيرا؟ - أنت تعرف أن زردق كان عنده سلاح كثير. - كان، وأين ذهب السلاح؟ - ألم يفتشوا البيت بعد القبض عليه وأخذوا السلاح؟ - كله؟ - كله إلا ... - إلا ماذا؟ - إلا مسدس صغير تاه منهم. - وأين هذا المسدس؟ - انتظر، المسدس معي. خفت أن تأتوا للتفتيش مرة أخرى، ويتهموا أبي بأنه عنده سلاح فلن يصدقوا أنهم لم يروا المسدس في التفتيش الأول. - كلام معقول. - وأنت تعرف أن أبي لا يحب وجع الدماغ. - أعرف هذا جيدا، إنه يخاف من خياله. - جاءك خابط. - وماله. - المهم. - نعم، المهم ما شأني أنا بهذا الموضوع كله؟ - أنا أفكر أن أبيع المسدس بعد أن يتم طلاقي من المجرم زردق. - لك حق، أهو مسدس من نوع جيد؟ - سلاح رجل لا عمل له إلا القتل. - على رأيك، إنه يساوي على الأقل ثلاثمائة جنيه. - إن لم يكن أكثر. - فعلا إن لم يكن أكثر. - ولكن أنا ما شأني بهذا، أتريدينني أن أتمرن عليه؟
وقهقهت نبوية وهي تقول: من أجل هذا جئت لك. - لأنني أعمى تعنين؟ - من يفكر أن مثلك يملك مسدسا. - غير معقول. - وإذا ملكته ما فائدته لك؟
وصمت عبد الحميد هنيهة حتى صاحت به نبوية: ما فائدته لك؟ - لا فائدة طبعا. - خفت أن أعطيه لغيرك فيأخذه ولا يرده، فقلت: ليس لها إلا عبد الحميد. - الأعمى؟! - لا داعي لقولها. - أو قوليها فقد تعودت عليها. - ما رأيك في هذه الفكرة؟ - فكرة عظيمة فعلا، إنني لن أنتفع به في شيء، حتى ولو فكرت أبيعه سأجعل من نفسي مسخرة؛ من أين للأعمى بالمسدس، وتصبح أحدوثة بين الناس. - هاك المسدس. - هل به رصاص؟ - وماذا تنتظر، ولكن لماذا تسأل؟ - حتى لا ألعب به. - على كل حال أنت لا شأن لك به حتى أجيء إليك وآخذه منك. - وأنا ما الذي يجعلني أقترب من آلة لا أعرف عنها شيئا؟ - أقوم أنا إذن. تركتك بعافية. - مع السلامة يا أختي.
وخلا عبد الحميد بنفسه، أمعقول هذا الذي يحدث؟ سبحانه له في ذلك حكم.
في الندوة التي يشارك فيها عبد الحميد جرى الحديث عن أبي سريع، وقال سلامة: ابن الكلب يضحك على بلد بأكمله.
وقال صديقهم ورداني: اشترى بيتا فخما في مصر في عمارة بالغة العظمة.
وإذا بعبد الحميد يقول: حجرة منه ملكي أنا، لا سامحه الله.
وضحك الجالسون وعاد عبد الحميد يقول: أتعرف هذا البيت؟ - وشرفك لم أرجع من مصر إلا بعد أن رأيته بعيني. - وما الذي دعاك لهذا؟ - فضول وفراغ، أنت تعرف أنني كنت صديقا للطفي، ذهبت إليه في البنك، وكان على وشك الانصراف فحملني معه في سيارته ليريني العز الذي أصبح يتمتع به، وحين بدأ السير بسيارته قال لي: إلى أين أنت ذاهب؟ - ألم يدعك على الغداء؟ - أنتم تعرفونه؛ طول عمره نتن. - ولكنه الآن أصبح في حال غير الحال. - يا بني النتن يظل على حاله في الفقر والغنى على السواء. - المهم هل أوصلك إلى حيث كنت ذاهبا؟ - قال لي تحب أن ترى بيت أبي الذي انتقل إليه الأسبوع الماضي؟ - أحب جدا.
وذهب بي إلى حي المهندسين، وحين بلغنا شارعا متسعا ترك بعض عمارات على اليسار، ثم أشار لي إلى عمارة ضخمة وقال: شقة أبي هنا.
وسأل عبد الحميد: أعرفت اسم الشارع؟ - عرفته لكي أؤكد لكم حقيقة ما أقول. - ما اسمه؟ - شارع الأشجار رقم 9. - لا، سهل. - ماذا، أتنوي أن تذهب إليه؟ - قد تدركه الشفقة علي.
وقال سلامة: احك له حكاية قمر. - احكها له أنت. - وأنا ما شأني؟ - ألم تسمع عن واجبات الصحبة؟ - صحبة هباب. - إنما هي صحبة مفروضة عليك والسلام.
كان الجمع قد انفض، ولم يبق إلا سلامة وعبد الحميد.
وقال: الجميع مشوا، ألا تنوي أن تروح؟ - قم بنا.
وفي الطريق قال سلامة: أتنوي حقا أن تذهب لأبي سريع؟ - أعجيبة أن أحاول؟ - لا عجيبة ولا حاجة. - سأذهب إليه. - متى؟ - حدد أنت الموعد. - أنا ليس ورائي شيء في هذه الأيام. - في أي يوم نحن من أيام ربنا؟ ألسنا اليوم يوم الخميس؟ - نعم. - ماذا وراءك غدا؟ - لا شيء. - نصلي الفجر، ونركب القطار. - التذاكر على حسابك. - والتاكسي أيضا الذي سنأخذه من المحطة إلى بيته.
كان اليوم جمعة، وكان أبو سريع في بيته مرتديا جلبابه حين دق جرس الباب، وذهبت الخادمة وقال سلامة: الحاج أبو سريع هنا؟ - نعم. أقول له من؟ - قولي له أصدقاء. - تفضلا.
وذهبت بهما إلى حجرة الجلوس، وأخبرت أبا سريع بمجيئهما وسألها: ألم تسألي عن أسمائهم؟ - يقولون أصدقاء.
لاحظ سلامة أن عبد الحميد منذ دخلا بيت أبي سريع لم يخرج يده اليمنى من جيب كاكولته، ولكنه لم يعلق على الأمر، فإنها ملاحظة عابرة لا تستحق السؤال .
لم يتعجل أبو سريع وذهب في استرخاء إلى حجرة الجلوس، وما إن رآهما حتى صاح: أنتما؟! ماذا جاء بكما؟!
وقال عبد الحميد: بلدياتك، ونريد أن نهنئك على البيت الجديد.
وصافحهما أبو سريع، فإذا بعبد الحميد يصافحه بيده اليسرى، فقال أبو سريع: أين يدك اليمنى؟ عسى الله تكون قطعت.
وقال عبد الحميد في استخفاف: لا، إنه مجرد جرح.
وازدادت دهشة سلامة، فهو يعلم أن يد عبد الحميد سليمة، ولكنه لم ينطق بحرف، وقال أبو سريع في جرأة: من أعمالك السوداء، كيف تجرؤ على زيارتي بعد أن كذبت على الناس، وادعيت أنني أخذت منك مبالغ من المال؟ - ألم تأخذ؟ - ومن أين لمثلك بالمال حتى آخذه؟ - وماذا تقول لربك؟ - بل ماذا تقول أنت لربك وأنت تسيء إلى سمعة الشرفاء من أمثالي؟
وقال سلامة: على مهلك يا عم الحاج. - أنت لا تتكلم مطلقا. - أمرك.
قال عبد الحميد: يعني أنا ليس لي عندك ألف وستمائة جنيه؟ - أما إنك لوقح، هل جننت يا ولد؟ - فعلا جننت هيا بنا يا سلامة.
وقاما واقفين وقال عبد الحميد: سامحك الله يا حاج أعطني يدك حتى أسلم عليك وأعتذر لك أنني كذبت عليك. - إن كان على يدي هاك يدي.
ومد عبد الحميد يده اليسرى.
وفي لمح البصر أمسك عبد الحميد بيده يد أبي سريع، وتمكن منها، وأخرج المسدس من جيب الكاكولة، وأطلق النار على أبي سريع، ولم يكتف بطلقة ولا اثنتين، وإنما أفرغ الرصاصات الست في جسم أبي سريع وسلامة ذاهل في دوار أخاذ لا يزيد عن قوله: الله ... الله ... الله. - وارتمى أبو سريع مضرجا بدمائه، والتفت عبد الحميد إلى حيث يسمع صياح سلامة، وقال له: هل مات؟ - أنت جننت. - أجبني؛ هل مات؟ - وماذا تنتظر؟ - هل دخل الرصاص جسمه؟ - وهو الآن صريع، ولا بد أنه ميت لا محالة إن لم يكن مات فعلا. - الآن استرحت، أجلسني. - وقعتنا سوداء. - أنت مالك؟ - ألست معك؟ - لا تخف أنا عندي لكل سؤال جواب. - أي جواب، الله يخرب بيتك.
طبعا جاءت سلمى والخادمة على صوت الرصاص، وراحتا تطلقان الصراخ المجنون المذعور، وقال عبد الحميد لسلامة بصوت آمر: أبلغ الشرطة يا سلامة. - أي شرطة؟
جاء البواب وسكان العمارة، ولم يمر كثير وقت حتى كان عبد الحميد وسلامة بين يدي الشرطة، وبدأ التحقيق.
س :
هل قتلت أبو سريع علوان؟
ج :
نعم قتلته.
س :
لماذا؟
ج :
لأنه سرق حياتي.
س :
ها أنت ذا حي.
ج :
يتهيأ لك.
س :
هل تعترف أنك قتلته وحدك؟
ج :
نعم، أنا وحدي المسئول، قتلته مع سبق الإصرار وبلا ترصد طبعا؛ لأني ليس لي عينان أترصد بهما.
س :
كيف وأنت أعمى؟
ج :
أمسكته بيدي اليسرى وقتلته.
س :
وما شأن سلامة؟
ج :
إنه لا شأن له بأي شيء، ولا يعلم أنني سأقتله.
س :
فلماذا كان معك؟
ج :
كلك نظر يا حضرة الضابط، كيف كنت سأذهب إليه وأنا كما ترى؟
س :
ألم يكن متفقا معك على قتله؟
ج :
إنه لو كان يعلم أن معي مسدسا لما جاء معي.
س :
ومن أين لك بالمسدس؟
ج :
إنها حكاية طويلة، إنما قل لي يا حضرة الضابط أنا أعلم من الجرائم التي أسمعها بالراديو أن من حقي طلب محام.
س :
هذا حقك، هل تعرف محاميا؟
ج :
ولا أقبل أن يحضر معي غيره.
س :
من هو؟
ج :
الأستاذ تامر وجدي صفوان.
س :
ما صلته بك؟
ج :
إنه من بلدنا وهو وأبوه لم يقدما إلا كل خير لأهل البلد جميعا.
س :
أهذه كل صلتك؟
ج :
وكيف يمكن أن تكون هناك صلة أخرى بين فقي أعمى ومحام مشهور؟
س :
أتحفظ رقم تليفونه؟
ج :
أنا أسمع أن هناك شيئا اسمه دليل تليفون.
وما هي إلا ساعة حتى حضر تامر، وما لبث وكيل النائب العام أن بدأ تحقيقه مع عبد الحميد بحضور تامر، وفي التحقيق روى عبد الحميد كل ما كان من شأن أبي سريع وشأنه، وروى قصته مع قمر، بل وروى أيضا قصته مع نبوية، وكيف حصل منها على المسدس، ثم قال لوكيل النيابة: يا سعادة الوكيل، أنا حين قتلت كنت أعرف مصيري، وأنا رجل أحفظ كلام الله، وأعرف أن القتل هو أعظم جريمة عند الله والناس، وأحفظ قوله تعالى:
أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ؛ فجزائي في الدنيا أعرفه، وأنا مستعد له، أما جزائي في الآخرة فإني أعتمد على قول الغفور الرحيم:
أو فساد في الأرض ، وقد كان أبو سريع مفسدا في الأرض، فإن لم يكن هناك أدلة لأهل الأرض على فساده، فالله الرقيب الحسيب يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وأنا لم يصبح لي في الأرض أمل أعيش عليه، فقد كنت أرجو أن أتزوج، ويكون لي أولاد أرى بأعينهم الدنيا التي حرمتها، وقضى أبو سريع على كل أمل لي في ذلك.
وقال وكيل النيابة: هل اطلعت على الغيب؟ - إذا كنت لا أرى الحاضر، فكيف لي بالاطلاع على الغيب يا سعادة الوكيل؟ لقد ولدت فاقد البصر بفعل الله وله في ذلك حكمته التي لا يعرفها إلا هو، إلا أنني قد أصبحت فاقد البصيرة بفعلي أنا، وبهذا الفعل أقبل حكم البشر، أما شأني مع الله فلا يعرفه إلا هو. وانتهى التحقيق وحولت القضية إلى المحكمة وتكلمت النيابة تطلب أقصى العقوبة، ثم تكلم تامر فقال: يا حضرات المستشارين إنني لن أقدم للمحكمة دفاعا خيرا مما قاله المتهم أمام النيابة، ولو كنت أتقاضى أتعابا على هذه القضية لرددت الأتعاب، وأنا لا أتقدم إلى ساحتكم المقدسة طالبا البراءة، وإنما أطلب الرأفة ما وجدت ضمائركم المشرقة بنور الله سبيلا إليها، والسلام عليكم ورحمة الله، ورفعت الجلسة للمداولة.
وصدر حكم المحكمة بالسجن خمسة عشر عاما، وقال عبد الحميد: سبحانك يا علي يا قدير لقد ضمنت لنفسي القوت، ومن كان في سجني الرباني لا يعنيه سجن البشر. تقدست أسماؤك وجل جلالك.
الفصل الثاني عشر
كان تامر جالسا في مكتبه حين أعلنه وكيل المكتب بحضور شخص واضح أنه محترم اسمه الدكتور وائل نعمان، فأمره تامر أن يسمح له بالدخول.
شخصية ترغم رائيها على الإجلال والاحترام، يلبس في أناقة، وقور، وبيده حقيبة من جلد التمساح، وقدم نفسه لتامر: الدكتور وائل نعمان. - يا مرحبا، دكتور طبيب؟ - بل دكتور في الآداب من السربون. - أهلا وسهلا شرفت. وفيم نلت الدكتوراه؟ - كانت رسالتي عن أثر الأدب الفرنسي في الأدب العربي. - موضوع شيق وعظيم، هل طبعت الرسالة؟ - الجامعة أمرت بطبعها. - أرجو أن يكون لي حظ قراءتها. - يسعدني كل السعادة أن يقرأها شخص له ثقافتك وشهرتك. - المحاماة هي عملي، أما هوايتي فهي الأدب. - ليس هذا مستغربا عليك. - أنا تحت أمرك، من الذي نصحك بتشريفي؟ - أنا طبعا حين فوجئت بأن أرضي اغتصبت ذهبت إلى أكبر محام في مصر. - أنت إذن قادم من عند أستاذنا رشدي فاضل؟ - الذي اغتصب أرضي من بلدكم، وحين عرف رشدي بك ذلك أرسلني إليك. - لا بد أنه المرحوم أبو سريع علوان. - وابنه لطفي. - ما القضية؟ - قطعة أرض لي بالسيدة زينب مساحتها ألفا متر مربع غبت عنها سنوات دراستي الست، وعدت وجدت الأرض قد اغتصبت وبحثت وتبينت الحقيقة الفاجرة. - أمر ليس مستغربا على الوالد أو ابنه. - هذه أوراقي أتيت بها معي لا مجال للشك فيها أو المناقشة حولها.
واستطاع تامر أن يكشف جميع أعمال التزوير والاحتيال التي ارتكبها المرحوم أبو سريع وابنه لطفي، وصدر الحكم بسجن لطفي عشر سنوات مع مصادرة جميع أمواله وأموال أسرته بلا استثناء.
وسبحان الملك القدوس الذي قال في كتابه العزيز:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها
صدق الله العظيم. (انتهت بحمد الله.)
أوتيل أولاك - لوزان - أوشي
السبت 11 من جمادى الأولى سنة 1418ه
الموافق 13 من سبتمبر سنة 1997م
الساعة الخامسة وخمسون دقيقة
صفحة غير معروفة