وقد يخيل إلى الناس أن المأساة اليونانية هي وحدها الأدب الأسود في الحياة العقلية اليونانية، ولكن شيئا من التفكير اليسير يظهرنا على أن السواد كان يجلل الأدب اليوناني كله في ذلك العصر المجيد الذي أورث الإنسانية هذا التراث الخالد العظيم.
ففلسفة السفسطائيين في القرن الخامس قبل المسيح لم تكن إلا نوعا من التشاؤم؛ لأنها كانت تنكر الحقائق، وتقيم أمر الحياة كله على التخييل والخداع، لم يكن المهم عند الفلاسفة السفسطائيين أن يعرفوا الحق لأنهم يئسوا من معرفة الحق، وإنما كان المهم أن يلبسوا الحق بالباطل، ويخدعوا نظراءهم من الناس، وواضح جدا أن الفلسفة التي تقوم على اليأس ليست من الإشراق ولا من السطوع في شيء.
والملهاة اليونانية التي كانت تملأ الملاعب ضحكا وتخرج النظارة عن أطوارهم، لم تكن في حقيقة الأمر مشرقة ولا ناصعة، وإنما كان إشراقها تكلفا ونصوعا وخداعا؛ فهي كانت تضحك النظارة من أنفسهم، وتعبث أمامهم بما كانوا يكبرون من القيم، وهي كانت تظفر منهم بالرضا وتضطرهم إلى الإعجاب، ومعنى ذلك أنها كانت تكشف لهم عما في حياتهم الفردية والاجتماعية من السخف الذي لا يستحق منهم إعجابا ولا إكبارا، وإنما يستحق منهم سخرية واستهزاء.
فأرستوفان حين كان يضحك الشعب من حكومة الشعب، وحين كان يعبث بفلسفة الفلاسفة، وسياسة الساسة، وأدب الأدباء، إنما كان يسخر ويحمل الأتينيين على أن يسخروا معه من هذه القيم الفلسفية والسياسية والأدبية التي كانوا يقدرونها ويكبرونها خارج الملعب صادقين فيما بينهم وبين أنفسهم أو كاذبين.
لم يكن أرستوفان يزيد على أن يثبت للأتينيين أن ما كانوا يزهون به على المدن اليونانية، ويزينون به حياتهم لم يكن إلا سخفا وباطلا. ومن هنا نفهم ما يقال في تاريخ الفلسفة من أن سقراط وتلاميذه إنما أنفقوا جهودهم الهائلة الخصبة ليقاوموا هذه النزعات السفسطائية التي تؤيس الإنسان من نفسه، وتفسد الصلة بينه وبين آلهته، وتدفعه إلى نوع من الفوضى لا ينتج له إلا العبث والشك والاستهانة بكل شيء والانتقاض على كل سلطان، وليس يعنيني أن أبين الآن ما أتيح لسقراط وتلاميذه من الفوز بقدر ما يعنيني أن ألاحظ أن الجهود التي بذلها سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس لرد الإنسان إلى شيء من النظام والاستواء، ولتنظيم الصلة بينه وبين هذه القوة العليا التي تدبر أمره، هذه الجهود نفسها قد انتهت إلى الإخفاق.
وقد يكون الأدب اليوناني في عصر سقراط وتلاميذه بعيدا عن التشاؤم، ولكن الشيء المحقق هو أن هذا العصر قد انتهى آخر الأمر إلى تشاؤم الرواقيين والأبيقوريين وأصحاب الشك، وعادت القضية الإنسانية سيرتها الأولى، ووقف الإنسان من الآلهة موقفه القديم الذي كان يملؤه اليأس، ويشيع فيه الإذعان الخالص أو الإذعان الذي تشوبه المقاومة أو الذي كان يدفع إلى الثورة الصريحة التي دفع إليها أبيقور وتلاميذه، والتي أورثت الإنسانية في العصر القديم أروع نماذج الأدب الأسود، ذلك الذي يقطع الصلة بين الإنسان وبين آلهته.
والذي يعلم الإنسان ألا يؤمن إلا بنفسه، ولا يعتمد إلا عليها، ولا يأمل إلا فيها، والذي يعلم الإنسان كيف يبرئ نفسه من الوهم، ويخلصها من خوف الآلهة، ويعصمها من رهبة الموت، ويزهدها في لذات الحياة، ويأخذها بأن تنظر إلى حقائق الأشياء كما هي في غير خداع ولا انخداع.
والذين يقرءون «طبيعة الأشياء» للشاعر اللاتيني العظيم لوكريس يتبينون أن سقراط وأصحابه لم يقهروا الأدب الأسود إلا وقتا قصيرا، وأن هذا الأدب الأسود لم يلبث أن استأنف فوزه وانتصاره وتسلطه في أشكال مختلفة متباينة على عقول الخاصة والعامة جميعا، وواضح جدا أني هنا لا أستقصي ولا أتعمق، وإنما أكتفي بالإشارة والإجمال عن التلميح والتفصيل.
وقد يكون من الخير أن أتجاوز اليونانيين والرومانيين وأدبيهما العظيمين، إلى أدب شرقي ما أظن أنه قد كان أقل منهما تصويرا لهذا الموقف الخطير، موقف الإنسان العاقل من هذه المشكلة المعقدة؛ مشكلة الصلة بينه وبين القضاء - وهو الأدب اليهودي، ويكفي أن يستمتع القارئ بالنظر في سفر أيوب ليرى كيف ألقيت المسألة، وكيف عرضت المشكلة، وكيف ثار حولها الشك، وكيف اقترحت لها الحلول، وكيف انتهى أمرها بالإذعان لقضاء الله الذي لا يستطيع الإنسان أن ينفذ إلى أسراره، ولا أن يتعمق حكمته البالغة.
وليس أدبنا العربي بأقل من هذه الآداب القديمة حظا من الوقوف عند هذه المشكلة والتأثر بها فيما أنتج الأدباء من الشعر والنثر، وفيما أنتج الفلاسفة من الكتب والفصول، وكما أن الاضطراب الذي تعرضت له الأمة اليونانية في القرن الخامس قد أنتج فيها الأدب الأسود الأول، وكما أن الاضطراب الذي نشأ عن حروب الإسكندر وخلفائه وعن حروب الرومان قد أنتج الأدب الأسود الثاني عند أولئك وهؤلاء، وكما أن المحن التي صبت على بني إسرائيل قد أنتجت لهم الأدب الأسود في عصرهم القديم، فكذلك الاضطرابات التي تعرضت لها الأمة العربية بعد الفتوح بحكم الفتن والثورات قد أنتجت لها أدبها الأسود منذ القرن الأول للهجرة، وظلت تنتجه لها إلى أن مات أبو العلاء.
صفحة غير معروفة