ومن يدري؟! لعل القدماء كانوا أدنى منا إلى الحق وأقرب منا إلى الصواب وأشد منا إيثارا للقصد والاعتدال؛ فهم كانوا لا يكلفون أنفسهم ما لا تطيق ولا يحملونها ما لا تحتمل، وإنما كانوا يتلقون الحياة ويحيونها، ثم يسجلون ما يستطيعون استكشافه من الحقائق والظواهر، فقدماء العرب قد عرفوا ما كان من تطور الأدب العربي بعد وقوعه، كما عرف قدماء اليونان ما كان من تطور الأدب اليوناني بعد وقوعه، وهم قد سجلوا لنا ذلك تسجيلا مقاربا يسيرا لا تكلف فيه ولا إبعاد، وهم قد عصموا أنفسهم من التورط في نبوءات تصدقها الحوادث حينا وتكذبها أحيانا، وهم قد أراحوا أنفسهم من هذا الشك الذي أتاح لذلك الأديب الفرنسي أن يقول: إنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب، والأمر كله يرجع، فيما يظهر، إلى أن الرقي الذي أتيح لنا في حياتنا المادية والعقلية قد دفعنا إلى ألوان من الغرور وخيل إلينا أنا نقدر على شيء كثير مما لم يقدر عليه القدماء، وما دمنا قد استطعنا أن ننهب الأرض بالقطار والسيارة، وننهب البحر بالسفن تجري على ظهره وتسبح في بطنه، وننهب الجو بالطائرات، وننهب الزمان والمكان بهذا كله وبالبرق وبالراديو، ما دمنا قد استطعنا أن نقهر الطبيعة ونخترق حجبها ونكشف أستارها ونلغي ما كانت تستطيل به علينا من آماد الزمان والمكان، فليس ينبغي لغرورنا أن يقف عند حد أو أن ينتهي إلى غاية، وليس ينبغي لنا أن نتردد في التنبؤ بما سيكون ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان، وقد قيل: إن التاريخ فن يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي، ونحن قد صدقنا ذلك واطمأننا إليه، وقليل جدا من بيننا أولئك الذين يشكون في أن التاريخ يعلمنا حقائق الماضي ثم يشكون بعد ذلك في أنه يستطيع أن يكشف لنا عن حقائق المستقبل، وأكبر الظن أن هؤلاء القليلين الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة ساخرة مشفقة، ويلحظونه لحظة باسمة مزدرية، وينتظرون المستقبل كما ينتظرون المجهول - أكبر الظن أن هؤلاء القليلين هم المصيبون، ولكننا لا نحب صوابهم هذا ولا نكلف به، بل لا نطمئن إليه؛ لأنه يضطرنا إلى التواضع ويردنا إلى الاعتدال، ويحول بيننا وبين الغرور أو بيننا وبين الإغراق في الغرور، وما قيمة الإنسان إذا لم يعبث به الغرور فيخيل إليه أنه قادر على كل شيء، وأن من حقه بل من الحق عليه أن يحاول كل شيء!
من أجل هذا كله تساءل المعاصرون عن أشياء كثيرة، من بينها مستقبل الحياة الأدبية وما عسى أن تكون الاتجاهات التي ستدفع إليها بحكم هذه الأحداث الجسام التي خلطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وقاربت بين الأجيال المتباعدة، وألغت هذه الحواجز التي كانت تحجز بين الأمم والشعوب، وغيرت كثيرا من صور الأشياء، ثم غيرت كثيرا من قيم الأشياء، ثم غيرت كثيرا من تأثرنا بهذه الصور وتقديرنا لهذه القيم وحكمنا بعد ذلك على ما هو كائن، وترقبنا بعد ذلك لما سيكون، فأما المقتصدون من الأدباء الأوروبيين فيشكون كما شك ذلك الأديب الذي أشرت إليه آنفا، أو يحتاطون في الحكم ويعتدلون في التقدير ويحسبون حسابا لهذه الأشياء اليسيرة الضئيلة التي لا نعرفها والتي قد يكون لها أبعد الأثر في حياتنا العاملة ثم في حياتنا العاقلة، وليس من شك في أننا قد علمنا أشياء كثيرة، ولكن ليس من شك في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وفي أن ما نجهله أكثر جدا مما نعلمه، وليس من شك كذلك في أننا قد حققنا من الرقي شيئا كثيرا في حياتنا العاملة والعاقلة، ولكن ليس من شك في أن ما حققناه من ذلك ضئيل جدا بالقياس إلى ما ينتظر أن نحققه.
وهذا الذي ينتظر أن نحققه قد يفاجئنا بعضه مفاجأة وعلى غير انتظار، وقد يتهيأ لنا بعضه عن أناة وريث وبعد سعي وجد واستعداد، فإذا كانت طبيعتنا تدفعنا إلى الغرور والمغامرة فإن عقلنا ينبغي أن يضبط هذا الغرور ويحد هذه المغامرة، ويأخذنا بشيء من التوسط في القول والعمل جميعا، فليس من المستحيل أن نحاول التنبؤ بما سيكون من مستقبل الحياة الأدبية، ولكن ليس من الصواب أن نندفع في ذلك جامحين في غير تحفظ ولا احتياط.
وربما كان من اصطناع الدقة والحذر أن أسجل منذ الآن أني لن أتنبأ بشيء لأني لا أملك الوسائل التي تبيح لي هذا التنبؤ، وإنما أحاول أن أنظر إلى أدبنا العربي المعاصر نظرة عامة أتتبع فيها بعض حقائق تطوره في العصور الماضية وأتوسم فيها بعض الممكنات لتطوره في الأيام المستقبلة، فأنا أنظر إلى أدبنا العربي بين أمسه القريب والبعيد، وبين غده القريب دون البعيد، وما أزعم لهذه المحاولة إحاطة ولا شمولا، وإنما هي محاولة مقاربة تتجنب الإمعان والتعمق؛ لأن الإمعان والتعمق يحتاجان إلى كتاب لا إلى فصل مهما يكن هذا الفصل طويلا.
وفي تاريخ أدبنا العربي ظاهرة لعله أن يشارك فيها غيره من الآداب الكبرى قديمها وحديثها، ولكنها تستبين فيه على نحو أوضح وأجلى مما تستبين في غيره من الآداب، فقد عمر الأدب اليوناني القديم قرونا طوالا ثم ألقى بينه وبين الناس ستارا، فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة أنشأت لنفسها أدبا مهما تكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس جزءا منه ولا استمرارا له، فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه، أريد أنه لا يستمد حياته من أمة حية، تنميه وتقويه وتضيف إليه، وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء، فنحن حين نقرأ آثار هوميروس أو بندار أو أفلاطون لا نفكر في الأمة اليونانية المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة الخالدة بما تنتجه من الشعر والنثر، وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها، ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال، وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالا بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها، فلست أعرف مثلا أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلى العالم الحديث شاعرا كراسين أو كاتبا كجيرودو أو شاعرا كاتبا كبول فاليري، وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء الغرب الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها، ويحيون هذا الأدب والفن وهذه الفلسفة على نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد، ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى الأدب اللاتيني، فهذان الأدبان العظيمان يستمدان حياتهما الخالدة من قوتهما الذاتية، إن صح هذا التعبير، وهذه الخصلة هي التي تميزهما بين الآداب التي استطاعت أن تقهر الدهر وتكفل لنفسها الخلود.
أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرنا إلى الآن، واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألوانا من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور، ولكنه ما زال حيا قويا يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة، ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لا تزال حية محتفظة بفضل من قوة، والتي لا تزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيدا فهي تمنحه وتأخذ منه، وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به، شأنها معه كشأنها مع ما يقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار، فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع، ويظهر أنها لن تنقطع، والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد - هذه الصلة ما زالت قائمة متينة خصبة، كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء، ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية متينة شديدة الوضوح، تمكننا من أن نلاحظه ملاحظة مباشرة، ونستقصي أطواره استقصاء حسنا، فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي، وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعا مرة مستأنيا مرة أخرى متثاقلا مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلا بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف.
ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا، سالكين معه نفس هذه الطرق، متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف أجزاؤه وتتباين عناصره، حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية، ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم ، أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث.
فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره، هي أنه قديم جدا وحديث جدا قد اتصل قديمه بحديثه اتصالا مستقيما لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض.
أدبنا العربي كائن حي، أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض، والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواز السماء، والتي مضت عليها القرون والقرون وما زال ماء الحياة فيها غزيرا يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء.
فلنتتبع هذا الأدب تتبعا يسيرا مقاربا، لنرى كيف تطور في أول عهده، ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام.
صفحة غير معروفة