كل ذلك وعبد الله بن محمد صاحب الزنج يقاوم كأحسن ما تكون المقاومة، ويدافع كأعنف ما يكون الدفاع، لا تفل عزمه خيانة الصديق ولا يثبط همه قتل الأنصار، وإنما هو يقاوم في مدينته ما وسعته المقاومة، ثم يقاوم في داره حتى تقتحم عليه، ثم يقاوم في كل شبر من الأرض حتى يتفرق عنه أنصاره، منهم من قتل ومنهم من أخذ ومنهم من لاذ بالفرار، وهو قائم يدافع لا يتزحزح عن مكان إلا ليثبت في مكان آخر، حتى إذا أحيط به لم يستسلم ولم يلق السلاح، وإنما قاتل حتى قتل، وحتى احتز رأسه وحمل إلى الموفق، وقد ثبت معه جماعة من قواده دافعوا كما دافع، وأبلوا كما أبلى، قتل بعضهم في الميدان، وأخذ بعضهم إلى بغداد، فقتلوا وصلبوا على شاطئ النهر.
وظن الناس أن ثورة الزنج قد انتهت، ولكنها أعوام تمضي، وإذا ثورة أخرى تظهر في العراق فتملأ الأرض هولا، لا في العراق وحده ولكن في جزيرة العرب وفي الشام، وقد تصل أطراف منها إلى مصر؛ كانت البصرة ضحية ثورة الزنج، ثم صارت الكوفة ضحية ثورة القرامطة. ألم يكن هناك سبب بين هاتين الثورتين؟ بلى قد كان هناك سبب أي سبب؛ طابعهما واحد، هو الخروج على النظام السياسي والاجتماعي والانتساب إلى آل علي، وغايتهما واحدة هي تحقيق العدل في الأرض بعد أن أفسدها الظلم والجور، ونتيجتهما واحدة هي هذا الروع الذي ملأ القلوب وهذا الهول الذي سفك الدماء، وأزهق النفوس ودمر الأمصار، وهذا الجهد الضائع الذي لم يزل ظلما إلا ليقيم مكانه ظلما آخر، والذي يحاول أن ينصف الناس فلا يبلغ من الإنصاف شيئا. أكتب على الإنسانية إذن أن تكون الجهود التي تبذلها في سبيل الإصلاح مضيعة، وأن يصبح الذين يحاولون إزالة الظلم وإقرار العدل أنصارا للظلم وأعداء للعدل؟ كانوا يريدون أن ينقذوا أنفسهم وينقذوا الناس من ظلم الظالمين، فلم يكتفوا بالإنقاذ، وإنما جزوا السادة ظلما بظلم، فكان هذا أول الشر، ثم تجاوزوا ظلم الظالمين من الأعداء إلى ظلم الأنصار والأتباع، فأصبحت الحرية استبدادا، وأصبحت المساواة استئثارا، وأصبح الإنصاف بغيا وعدوانا، ومضت كلمة القضاء في الناس: سعي متصل إلى المثل العليا، وعجز متصل عن تحقيق هذه المثل أو الوصول إليها، وظلم متصل في أثناء ذلك للظالمين وغير الظالمين.
وقد أظهرت ثورة سبارتاكوس رجلين اثنين هما قائد الثورة وقامعها، أما ثورة الزنج فقد أظهرت رجالا كثيرين لا أستطيع بالطبع أن أتحدث عنهم، وإنما ألاحظ مسرعا أنها أظهرت رجلين اثنين من رجال الدولة المحافظين على النظام ، وأظهرت طائفة من الناس كلهم ممتاز خليق أن يحفظ التاريخ اسمه من ناحية الثورة، فلم ينهض بالثورة عبد الله بن محمد وحده، ولم يعتمد فيها على الزنج وحدهم، وإنما نهض معه قوم من أصحابه كانوا في مثل سنه، منهم من خرج من غمار الناس لم تكن له سابقة ولا لأسرته ذكر، كهذا البحراني الذي كان كيالا في وطنه قبل أن تتصل أسبابه بصاحب الزنج، فأصبح بعد ذلك قائدا مجربا، وسياسيا لبقا، ومدبرا داهية، ومنهم من كان من أهل البيوتات، ومن الأسر الأرستقراطية العريقة، كعلي بن أبان المهلبي، هذا الذي ينتسب إلى قامع ثورة الخوارج أيام بني أمية والذي أصبح خارجيا مع صاحب الزنج، والذي أظهر براعة في الحرب ودهاء في السياسة وصبرا على المكروه لا يشبهه فيها إلا أبو العباس ابن الموفق، ومنهم آخرون جاء بعضهم من عرض الطريق فكشفت الأحداث منهم عن رجال أفذاذ حقا ليسوا أقل استعدادا للنهوض بجلائل الأعمال وعظائم الأمور من هذه الأرستقراطية التي احتكرت شئون الحكم احتكارا، فإذا دل هذا كله على شيء فإنما يدل أولا على أن روح المغامرة قد كان شائعا منتشرا في جميع الطبقات، وعلى أن انتشار الثقافة قد فتح للناس وللمغامرين منهم خاصة أبوابا لم تكن تفتح لهم من قبل، وأشعرهم بأن ما يفرض عليهم من نظم الحكم تلك التي اشتملها الفساد، وما يفرض عليهم من نظم الاجتماع تلك التي قامت على الظلم والجور، كل هذا خليق أن يغير، فحاولوا تغييره ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. نجحوا أول الأمر هنا وهناك، ثم أدركهم الإخفاق في كل مكان؛ لأن تقدم العقل لم يكن قد بلغ طوره الذي يمكنه من أن يسيطر على الإرادة والغريزة، وأظنك توافقني على أن تقدم العقل لم يبلغ هذا الطور إلى الآن، فما أكثر الثورات التي قامت في العصر الحديث لتغير النظم السياسية والاجتماعية وترد الناس إلى العدل والمساواة، فلم تبلغ من ذلك إلا أقله، وما زال أكثره أملا يرقب ولا يتاح الوصول إليه!
ولنقف وقفة قصيرة جدا عند قائد ثورة الزنج عبد الله بن محمد، وقامع هذه الثورة أبي أحمد الموفق بن المتوكل، فأما أولهما فقد كان رجلا من غمار الناس حقا، زعم المؤرخون أنه انتسب إلى آل علي ولم يكن منهم في شيء، وأنه تردد في سلسلة نسبه إلى زيد بن علي بن الحسين، وزعم المؤرخون أيضا أن نسبه في عبد القيس، وجائز أن يكون نسبه في عبد القيس، وجائز أيضا ألا يكون له نسب في قبيلة من قبائل العرب، وأكبر الظن أنه لم يكن يحفل بشيء من ذلك فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين أصحابه، وإنما كان يتكلف بعض ذلك ليستهوي قلوب العامة ويجمعهم حوله، فقد كانت العامة في العراق وبلاد العرب وأجزاء من بلاد الفرس مؤمنة بأن تغيير النظم السياسية إن قدر له أن يكون فلن يقع إلا على يد علوية تتصل بأهل البيت.
والشيء المحقق هو أن عبد الله بن محمد قد كان رجل حزم وجلد كما كان رجل طمع وطموح. كل شيء في سيرته يدل على صلابة الرأي ومضاء العزم والثبات على المبدأ، والشجاعة التي لا تعرف ضعفا ولا فتورا، والمرونة التي لا تعرف ترددا ولا حيرة أمام المشكلات، وقد يضيف المؤرخون إليه سيئات كثيرة منكرة، وأكبر الظن أنه قد اقترف كثيرا من هذه السيئات، فأسرف في القتل والتدمير، وأنهب أصحابه الأموال، ورد الأحرار إلى الرق كما رد الرقيق إلى الحرية، ولكن كثيرا من سيئاته هذه لا ينبغي أن يحمل عليه وحده، وإنما ينبغي أن يحمل على عصره وعلى الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، سواء منهم من حافظ على النظام القديم ومن أراد تغييره، وكل ثورة خطيرة على النظم السياسية والاجتماعية تستتبع ألوانا من الهول لا يسيغها الخلق ولا يقرها العقل ولا يرضاها الدين، ولكنها تقع مع ذلك لأن الغريزة هي التي تدفع إليها، ولأن الغريزة هي التي تثور، وإذا ثارت، فقل أن تعرف لنفسها حدا تنتهي إليه. والناس يعرفون أهوال الثورة الفرنسية كما يعرفون أهوال الثورة الشيوعية، والناس لا يكرهون الثورة عبثا، وإنما يكرهونها لما تدفع إليه من هول وما تورط فيه من إثم، وما يقترف الناس فيها من المنكرات، ومع ذلك فقد يخطئ المؤرخون، وينسون أنهم يكتبون عن عدو الله الخبيث اللعين صاحب الزنج، قد يخطئ المؤرخون وقد ينسون هذا كله، فيذكرون أمورا تدل على الصدق والرفق، ولا تصدر عن خائن خبيث يتعمد الشر ويتخذ الشيطان له إماما، فهو يأبى مثلا أن يأذن بالإغارة على قرية لأن رجلا من أهلها قتل رجلا من أصحابه، يريد قبل الإيقاع بهذه القرية أن يتبين ويتثبت لعل أهل القرية أبرياء لم يعينوا صاحبهم ولم يشاركوا في إثمه، وهو يلقى بعض أهل القرى وقد أقبلوا يعرضون عليه أموالهم لينصرف عنهم، فيجزيهم خيرا ويترك لهم أموالهم ولا يلقاهم بكيد، وهو يحس أن الزنج يشفقون من أن يتركهم أو يسلمهم لكثرة ما كان يوجه إليه من إغراء، فيجمعهم ويؤمنهم ويطلب إليهم أن يحيطوه بجماعة منهم ترقب سيرته، فإن رأت منه انحرافا عن العهد أو ميلا إلى الإغراء، فتكت به، وهو يوفي عهده، ويثبت على مبدئه، فلا يستأمن حين يعرض عليه الأمان، ولا يستسلم حين يستيئس من الفوز، ولا يحاول أن ينجو بنفسه بعد أن فقد الأمل، وإنما يقاتل حتى يقتل.
أما خصمه أبو أحمد فلم يكن كما رأيت من عامة الناس، وإنما هو من سلالة الخلفاء، أبوه المتوكل بن الرشيد، وقد كانت سلالة الخلفاء من حوله قد أدركها الضعف، وانتشر فيها الخمول، وأترفت حتى تحكمت فيها اللذة، ثم تحكم فيها الرقيق من الخدم في القصور والجند خارج القصور، فظهور أبي أحمد في هذه البيئة المترفة التي أفسدها الترف حتى غلبت على أمرها، وتفوقه هذا الرائع في إدارة السياسة والاقتصاد والحرب، كل ذلك آية على أنه قد كان رجلا نابغة كأكمل ما يكون الرجل النابغة، وقد نظلمه أقبح الظلم إذا وازنا بينه وبين كراسوس قامع الثورة الإيطالية. قد كان أبو أحمد مناقضا لهذا الروماني المترف العاجز الذي أفسده الثراء، فلم يبق له شجاعة ولا خلقا ولا دينا كل المناقضة؛ كان أبو أحمد أشجع بني العباس في عصره، وأشجع من كان يعمل لبني العباس من قادة الترك والموالي عامة، وكان يملك الشجاعة بأروع معانيها وأرفعها، فهو قوي على نفسه، ثم هو قوي على أهله وذوي قرابته قبل أن يكون قويا على غيره من الناس، يخاطر بنفسه في المواقع، ويحمد من ابنه مخاطرته بنفسه في المواقع، فإذا أحس من أخيه أمير المؤمنين ترددا أو ضعفا أو اضطرابا، أخذه بالحزم ورده إلى القصد، وأكرهه على الاعتدال، وإذا رأى من ابنه نفسه بعد الفوز إسرافا في الجموح أو الطموح، قسا عليه أشد القسوة، وألقاه في غيابات السجن، لم يحفل بحبه له وعطفه عليه، والناس يثورون غضبا للأمير الشاب، ولكن أبا أحمد يلقى الثائرين ويردهم إلى الهدوء ويسألهم: أترون أنكم أحب له وأحدب عليه من أبيه؟ وأبو أحمد لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار. كانت شئون الدولة مضطربة أشد الاضطراب، فكان مضطربا مثلها، يدافع الشر حيث ينجم الشر، يحاول أن يقهر ابن طولون في الغرب، ويقمع الثورة في العراق كما يقمعها في شرق الدولة، وحين يعجز عن الحركة، ويضطر إلى لزوم الفراش، فهو يدبر الأمر من سريره، ثم يعاد إلى بغداد، وقد عجز عن الركوب، فيحمل في سرير، يتناوب نقله أربعون رجلا، وهو يحس أن حامليه يشفقون بحمله فيقول لهم في بعض الطريق: وددت لو أني كنت واحدا منكم، أسعى كما تسعون، وأشقى كما تشقون، ولا ألقى من الألم والعجز ما ألقى، ولكنه على ألمه وعجزه، يدبر أمور الدولة إلى آخر لحظة من لحظات حياته، ويفرضها دكتاتورية حازمة لا يعفي من سلطانها ابنه ولا أخاه.
أليس يرى كتابنا وشعراؤنا أن في أحداث التاريخ العربي القديم ما يستطيع أن يلهمهم حين يكتبون النثر أو ينظمون الشعر؟ أليس يرى كتابنا وشعراؤنا أن من حق هذه الأحداث عليهم أن ينظروا فيها بين حين وحين، كما ينظرون إلى أحداث أخرى وإلى ألوان أخرى من التاريخ؟
الأدب بين الاتصال والانفصال
أي المذهبين أهدى سبيلا؟ مذهب الأديب الذي يؤثر العزلة لعقله وقلبه وفنه، وينظر إلى الحياة الإنسانية الواقعة من برجه العاجي، لا يحفل بها ولا يقف عندها، ولا يلتفت إليها إلا أن تكون مصدرا لأثر من آثاره الفنية؛ فهو حينئذ يستوحيها ويستقصيها، ويصدر عنها فيما يرسم من الصور، وما يحدث من الآثار، يقف منها موقفه من الطبيعة غير الواعية، يتخذها مادة لفنه دون أن يشاركها بعقله وقلبه وشعوره فيما يختلف عليها من الأحداث، وما يلم بها من الخطوب.
أم مذهب الأديب الذي يأخذ بحظه من هذه الحياة الواقعة، فيسعد حين تشيع فيها السعادة، ويشقى حين يستأثر بها الشقاء، ويجاهد مع المجاهدين ليكسب لنفسه وللناس، أو قل: ليكسب للناس ولنفسه حظا جديدا من سعادة، وليدفع عن الناس وعن نفسه طائفا عارضا من شقاء؟
صفحة غير معروفة