فنعلفها خيول المسلمينا
وقد سمع الرفاق هذا البيت فتضاحكوا، وسعى بعضهم بالبيت إلى عباد فوقعت الموجدة في قلبه، وهم أن يبطش بالشاعر، ولكنه آثر الأناة وأسر الحقد في نفسه، فلما بلغ سجستان شغل بحربه وخراجه وأبطأ على شاعره، وانتظر الشاعر ثم انتظر، فلما طال عليه انصراف الأمير عنه أطلق لسانه فيه يلومه في أحاديثه ويظهر الندم على أنه قد آثر صحبة عباد على صحبة سعيد، وتبلغ الأحاديث عبادا فيضيف غيظا إلى غيظ وموجدة إلى موجدة، ولكنه على ذلك لا يبطش بالشاعر فجأة ولا يظهر له بغضا، وإنما يدبر أمره تدبيرا ويحكم الكيد لهذا الشاعر النزق الذي أمكن من نفسه، ومتى استطاع الشعراء والأدباء عامة ألا يمكنوا من أنفسهم؟! فلم يكن صاحبنا يزيد نزقا عجلا فحسب ، ولكنه كان صاحب لهو ولذة وإسراف في اللهو واللذة، وكان صاحب كرم وجود وإمعان في الكرم والجود، وكان يداعب آمالا عراضا وأماني كبارا، وينتظر من أميره عطاء جزيلا، فما الذي يمنعه أن ينفق ويتسع في النفقة، وأن يستدين حتى يغرق في الدين إلى أذنيه أليس عطاء الأمير سيملأ يديه بالمال، وسيمكنه من إرضاء الدائنين بل من إرضاء الطامعين فيه؟! وكان عباد ينتظره عند هذا المنعطف من سيرته الملتوية المتعرجة، فما هي إلا أن يدس إلى دائنيه من يغريهم بمخاصمة هذا المدين الذي لا يقدر على شيء، فإذا ارتفعت إليه الخصومة أمر أعوانه أن يكسبوا بيت يزيد ويبيعوا أثاثه ومتاعه وسلاحه وفرسه، وقد فعلوا، وبدأ الشر بين الشاعر والأمير، ونظر الأمير فإذا كل ما بيع من متاع الشاعر أقل من أن يؤدي عنه دينه، فيأمر بحبسه فيما بقي عليه للغرماء.
وكذلك انتهت المحنة إلى غايتها، أو قل: انتهت المحنة إلى أولها، وكان يزيد يملك غلاما يحبه أشد الحب وجارية يؤثرها أعظم الإيثار، وهم عباد أن يمضي في الكيد له والتنكيل به، فأرسل إليه من يعرض عليه أن يبيعه الجارية والغلام. قال يزيد: وهل يبيع الرجل نفسه التي بين جنبيه؟ قال عباد: فبيعوا عليه جاريته وغلامه لمن شاء أن يشتريهما من الناس، وعرض برد وأراكة للبيع، فاشتراهما رجل من الناس وأقبل يقبضهما، فلما رآه برد قال له: بئس ما اشتريت لنفسك من السوء والفضيحة! قال الرجل: وكيف ذاك؟ قال برد: فإنك تعلم أن مولاي إنما يهجو عبادا وآل زياد وهم الأمراء وأصحاب السيادة والحظوة عند أمير المؤمنين لأنهم أبطئوا عليه بالعطاء، فكيف إذا علم أنك تشتري أحب الناس إليه وأنك تسوءه بهذا الكيد؟! إنها والله الفضيحة لك ولقومك إلى آخر الدهر. قال الرجل: فإني أشهد على نفسي أنكما له، وإن شئتما كنتما عندي حتى يخلص من سجنه فأردكما إليه. قال برد: فاكتب إلى مولاي بذلك، فكتب الرجل ورد عليه يزيد شاكرا له مثنيا عليه، راغبا إليه في أن يحفظ الغلام والجارية عنده حتى يجعل الله له بعد عسر يسرا، وفي هذه القصة يقول يزيد:
شريت بردا ولو ملكت صفقته
لما تطلبت في بيع له رشدا
لولا الدعي ولولا ما تعرض لي
من الحوادث ما فارقته أبدا
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا ولا بعنا له ولدا
أما الأراك فكانت من محارمنا
صفحة غير معروفة