ثم إن قراءتي لهذا الكتاب لم تثر في نفسي شيئا من السخط قليلا أو كثيرا، على الذين خاصموا سيسرون في حياته، أو خانوه بعد موته؛ فالناس دائما هم الناس، فيهم شر كثير وخير قليل، ولم يصلوا بعد ذلك إلى العصر الذهبي الذي يصبحون فيه أخيارا أطهارا لا يجد الشر إليهم سبيلا.
وإنما الذي أرضاني كل الرضا، وأمتعني كل الإمتاع، وعزى نفسي عما تمتلئ به الحياة الواقعة اليومية، هو التفكير في هذا الأستاذ الشيخ الذي لم تصرفه الأحداث الخطيرة التي يمتحن بها العالم منذ سنين، والتي امتحن بها وطنه أعسر الامتحان وأقساه، والتي امتحن بها هو في ذات نفسه امتحانا أليما، لم تصرفه هذه الأحداث عن أن يفرغ لرسائل سيسرون، فيدرسها هذا الدرس، ويخرج لنا هذا الكتاب الذي إن صور شيئا فإنما يصور الشجاعة والصبر والجلد والتجرد للعلم الخالص، والفراغ لاستكشاف الحق من حيث هو حق، مهما تكن الأحداث والخطوب والظروف. فأما دقة البحث وحسن الاستقصاء وجو الاستنباط، فإنما هي خصال العلماء، وصاحب هذا الكتاب عالم ممتاز بين العلماء.
صفحة غير معروفة