بل إن هذه الحقيقة نفسها ليست إلا رمزا لحقيقة أخرى أعم منها وأكثر شمولا؛ فمدينة وهران ليست في حقيقة الأمر إلا الأرض كلها، وشعب وهران ليس في حقيقة الأمر إلا الإنسانية كلها، وطاعون وهران ليس في حقيقة الأمر إلا الشر الذي يلم بالناس في جميع المواطن والعصور، وأطباء وهران ومتطوعوها ليسوا إلا المفكرين والمثقفين والمصلحين والفلاسفة، الذين يبذلون ما يملكون من جهد لوقاية الإنسانية وحمايتها مما يلم بها من الشر، ويصعب عليها من المكروه.
فالكتاب - كما ترى - يسير قريب في ظاهره، ولكنه أشد عمقا وأبعد مدى مما يخيل إلينا هذا اليسر؛ لأنه في أيسر صورتيه الرمزيتين، إنما يعرض جزءا غير صغير من العالم الذي اصطلى نار الحرب، وما ألم بهذا الجزء من الخطوب والمشكلات، وما بدا فيه من مظاهر الضعف والقوة وألوان الجبن والبطولة، وهو في أشد صورتيه عمقا وتعقيدا، إنما يضع قصة الإنسانية كلها موضع البحث، ويعرض قضية الخير والشر كلها على العقل، ويحاول أن يجد جوابا لهذا السؤال الذي تلقيه الإنسانية العاقلة على نفسها منذ عقلت، وهو: ما مصير الإنسان؟
وهنا يسأل القارئ نفسه قبل كل شيء: هل وفق الكاتب توفيقا أدبيا حين اختار هذا الرمز الضئيل النحيل لهذه المشكلة الكبيرة الخطيرة، وهي حال العالم الذي اصطلى نار الحرب؟ ثم هل وفق الكاتب توفيقا أدبيا حين اختار هذا الرمز الضئيل النحيل لهذه القضية الكبرى؛ قضية الإنسان بين الخير والشر، وقضية الإنسان بين العقل والدين؟
أما أنا فأعتقد أن التوفيق الأدبي قد أخطأه إلى حد بعيد، لا لأن الرمز ضئيل نحيل، فمن طبيعة الرمز أن يكون ضئيلا نحيلا بالقياس إلى ما يرمز إليه الكاتب من المسائل الكبرى والمشكلات الضخام، ولكن لأن هذا الرمز الضئيل النحيل قد احتاج إلى تفصيل كثير لا يلائم ضآلته ونحولته؛ فمدينة وهران قد فجأها الطاعون كما أن العالم قد فجأته الحرب، ومدينة وهران قد شقيت بالطاعون، وأظهر هذا الشقاء ما في نفوس أهلها من خصال الخير والشر، كما أن جزءا من العالم قد شقي بالحرب التي أذلته، وأظهر هذا الشقاء ما في نفوس أهله من خصال أهله من الذلة والعزة، والضعف والقوة والخور والجلد، والأثرة والإيثار.
كل هذا حق لا شك فيه، ولكن دقائق الرمز قد احتاجت إلى إغراق في التفصيل، أخرجه عن أن يكون رمزا؛ فوصف الطاعون وصفا مفصلا، يصور أعراض العلة ومظاهرها وتطورها، ودقائق علاجها وأعقابها وعقابيلها، وآثارها في نفوس القريبين منها والبعيدين عنها، كل ذلك يبعدنا عن الرمز ليغرقنا في دقائق الحياة الخاصة؛ فنحن في مدينة قد ألم بها الطاعون وألح عليها، ونحن مشغولون بهذه المدينة البائسة المعذبة، وبهذا الوباء الذي تفصل دقائقه تفصيلا، عن التفكير في أوروبا المغلوبة على أمرها، الممتحنة بالبطش والعسف والاحتلال.
بل نحن مصروفون إلى هذه المدينة البائسة المعذبة، وما تلقى من هذه الأهوال اليومية الذي تفصل دقائقها تفصيلا، عن التفكير في الإنسانية حين يلم بها الشر وتدلهم من حولها الخطوب، لولا أن الكاتب يضطرنا إلى هذا التفكير بما يدير حول بعض الأشخاص من حوار يتجاوز المحنة الخاصة إلى الشر العام، وبما يسجل هو من ملاحظات تتجاوز مدينة وهران ومحنتها، إلى طبيعة الحياة الإنسانية وما يختلف عليها من الكوارث والأحداث.
فالقارئ قلق مضطرب متردد لا يدري أهو بإزاء رمز مجمل يشير إلى أحداث خطيرة وقضايا عويصة، أم هو بإزاء قضية بعينها لا يريد الكاتب أن يبعد به عنها، وإنما يريد أن يتعمقها معه تعمقا، وهي امتحان وهران بهذا الوباء.
ذلك أن الكاتب أراد أن يكون موضوعيا - كما يقال - فجعل نفسه قاصا يروي أحداثا سجلها أثناء هذه المحنة، وقد برأ نفسه من الذاتية التي تجعل للعواطف والأهواء والميول والفن أثرا أي أثر فيما يروي من الأحداث.
وهذا النوع من تكلف الإعراض عن الفن والإلحاح في الرواية الموضوعية، قد يكون في نفسه فنا رائعا، ولكن الكاتب لم يحسنه، فقصصه ممل في كثير من المواضع كأنه يتكلف شيئا لا يتقنه، وهو من أجل هذا يثقل على القارئ بعض الشيء، وما أحب أن أظلم الكاتب، فقد ينبغي أن أسجل أنه برع البراعة كلها في القسم الأول من كتابه، فأنشأ البيئة الفنية أحسن إنشاء وأجوده.
وقد تحدث إلي غير قارئ من الفرنسيين في باريس عن هذا الكتاب حين بدأت قراءته؛ فقال لي غير واحد منهم: لن تستطيع أن تفتن بالكتاب قبل أن تفرغ من ثلثه الأول، ولكني فرغت من ثلثه الأول والثاني والثالث، ونظرت فإذا أنا مفتون بثلثه الأول دون ثلثيه الأخيرين؛ ذلك لأن الكاتب أرسل نفسه على سجيتها حين ابتدأ كتابه؛ فهذا طبيب يخرج من منزله في طابق من الدار الكبيرة التي يسكنها، فيرى في الدهليز فأرا ميتا، ويلفت البواب إلى مكانه؛ فيغضب البواب لأن داره نظيفة لا يمكن أن يوجد فيها فأر ميت.
صفحة غير معروفة