120

ألوان

تصانيف

فهو لا يقص عليك الأحداث، وإنما يعرضها عليك عرضا، قد استعار للكتابة فن السينما في العرض، فأتقن الكتابة والعرض جميعا، بحيث يمكن أن يعرض هذان الجزءان اللذان ظهرا من كتابه عرضا سينمائيا في غير مشقة ولا عناء.

فلا غرابة إذن في أن يستقبل الكتابة الأدبية الفلسفية للسينما، ولا غرابة كذلك في أن يجد الفنيون مشقة في الإخراج، ويجد النظارة عسرا في الفهم والاستمتاع.

والقصة التي نحن بإزائها، تعتمد على شخصين اثنين، هما البطلان، ومن حولهما أشخاص كثيرون، لكل منهم مكانه وأثره، وهذان الشخصان رجل وامرأة، فأما الرجل فهو بيير دومين وهو عامل ممتاز بين زملائه، قد أسس مع جماعة من رفاقه جماعة الحرية التي تنظم مقاومة الطاغية منذ أعوام، وهي تستعد للثورة من غد، وأما المرأة فهي إيف شارلييه، وهي بالطبع جميلة رائعة الجمال، غنية واسعة الغنى، تشغل مع زوجها في الطبقة الممتازة مكانا رفيعا.

فإذا بدأت القصة، فإيف هذه مريضة تراها في سريرها مكدودة، وقد أقبل زوجها مترفقا، فدنا منها وتبين أنها لم تحس مقدمه لأنها مغرقة في النوم، ثم يعرض عليك منظر غرفة حقيرة في بيت متواضع، وقد اجتمع رؤساء العمال حول رئيسهم بيير، وقرروا بعد مناقشة أن تبدأ الثورة من غد.

ثم نترك هذه الغرفة، ونرى بيير في الشارع يركب دراجته، ويدنو منه غلام يعتذر من بعض الخطأ، ونفهم أنه قد وشى بالجماعة إلى الشرطة بعد أن عذبته الشرطة عذابا شديدا، ونفهم كذلك أن بيير لا يريد أن يعفو عنه، وإنما يزدريه أشد الازدراء، فيمتلئ قلب الفتى حفيظة وموجدة وخزيا.

ثم نرى بيير قد وصل إلى مكان خارج المدينة حيث تعمل طوائف من العمال والفتى يتبعه، حتى إذا بلغ قريبا من أصحابه أطلق الفتى عليه مسدسه فخر صريعا، وأقبل العمال من كل صوب حين سمعوا انطلاق المسدس.

ثم نعود إلى الغرفة التي تمرض فيها إيف، فنرى زوجها قد انحنى ينظر في وجهها، حتى إذا استيقن أنها نائمة استخرج من جيبه زجاجة صغيرة وصب منها قطرات في قدح من الماء وضع إلى جانب السرير، ثم انسل إلى الصالون حيث كانت تنتظره لوست أخت امرأته، وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، مشفقة أشد الإشفاق على أختها، فلا تكاد تسأله عن حالها حتى يهيئها للنبأ الخطير، والفتاة جزعة أشد الجزع، ولكن الرجل يهدئ من روعها في رفق، ونفهم أنه يتملقها ويريد أن يخيل إليها شيئا يشبه الحب.

ثم نعود إلى خارج المدينة فنرى بيير صريعا قد أحاط به العمال، وقد أقبلت فرقة من الجند فالعمال يتحرشون بها، ويريدون أن يرجموها بالحجارة، والجند يتهيأون لإطلاق النار، ثم نعود إلى الغرفة التي تمرض فيها إيف فنراها قد أفاقت من نومها وأخذت الكأس وشربت ما فيها، ثم نهضت متثاقلة فسعت إلى الصالون ودعت زوجها، ثم عادت إلى سريرها وجعلت تحذر زوجها في صوت خافت متهالك من أن يعرض لأختها بشر، وتنبئه بأنها ستبرأ وستحمي أختها منه، وبأنه لم يتزوجها إلا رغبة في ثروتها، وبأنه الآن يطمع في ثروة أختها، وزوجها يسمع لها غير حافل ولا مكترث، ثم لا تلبث أن تموت.

ونعود إلى خارج المدينة فنرى العمال مزدحمين حول الصريع يتأهبون لرشق الجند بما في أيديهم من حجارة وحديد، ويأبون أن يفسحوا لهم الطريق، والجند يريدون إطلاق النار، ولكن بيير ينهض من مصرعه ويتخطى جثته التي لا تزال في مكانها، وينصح للعمال بأن يتفرقوا ملحا عليهم أشد الإلحاح، ولكن أحدا من العمال لا يسمع صوته ولا يرى شخصه، فإذا استيأس منهم رفع كتفيه ومضى لوجهه.

ونعود إلى غرفة المريضة التي صرعها الموت، فنراها قد نهضت وجعلت تسعى من الغرفة حتى تبلغ الصالون، فترى أختها الفتاة منتحبة قد وضعت رأسها على كتف الزوج الذي جعل يهدئها ويواسيها متلطفا مترفقا متحببا أيضا، وهي تقف أمامهما فلا يريانها وتتحدث إليهما فلا يسمعانها، حتى إذا استيأست منهما تركتهما ومضت نحو الباب، فتلقى الخادم في طريقها فتتحدث إليها، ولكن الخادم لا تراها ولا تسمعها، وهي تمر أمام المرآة فتنظر إليها، ولكن المرآة لا ترد إليها صورتها، وهي تنظر فترى المرآة ترد صورة الخادم ولا ترد صورتها هي، فتنطلق.

صفحة غير معروفة