ومع أن العراق قد عظم شأنه جدا في العصر العباسي ونبغ فيه جماعة من الشعراء - منهم من أصله فارسي ومنهم من أصله من هذه الأخلاط السامية التي كانت تنتشر في العراق والجزيرة والشام - فقد ظل في البادية شعراء ممتازون كانوا يفدون على الخلفاء والوزراء في بغداد إلى أواخر القرن الثالث للهجرة، ثم انقطعت الصلة الأدبية، أو كادت تنقطع بين جزيرة العرب وبلاد الشرق العربي، وعادت الجزيرة العربية إلى ما كانت فيه قبل الإسلام من عزلة تامة في الأدب، وشديدة في السياسة وغيرها من مظاهر الحياة.
فما سبب هذه العزلة التي نشأ عنها أن أصبحت هذه البلاد - التي كانت مصدر النور للشرق الإسلامي كله - موطن الجهل والظلمة؟ وأصبحت هذه البلاد - التي كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي - أقل البلاد حظا من الامتياز في الأدب واللغة والدين فضلا عن العلوم الأخرى؟
ليس الجواب على هذا السؤال عسيرا، فقد كانت الدولة الأموية عربية خالصة، وكان خلفاء بني أمية ينظرون إلى جزيرة العرب نظرا خاصا؛ لأنها موطن الأرستقراطية الحاكمة من جهة، ولأنها موطن الأمة التي يستمد منها الجند من جهة أخرى، فليس غريبا إذن أن تكون الجزيرة العربية أشد بلاد الإسلام امتيازا في ذلك الوقت. كانت موطن الرءوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة في إقامة الدولة، كانت حاكمة وكان غيرها من البلاد محكوما، فلما قامت الدولة العباسية تغير كل شيء لأن هذه الدولة قامت على أكتاف الفرس وتدبيرهم، فقامت خراسان مقام جزيرة العرب وأصبحت هي التي تمد الدولة بالرءوس المفكرة، بالوزراء ورجال القصر وبالأيدي العاملة بالجيش وعمال الدواوين، وقد أقصي العرب شيئا فشيئا عن الجيش والدواوين.
ولم تكن بلاد العرب تشبه في الخصب والغنى بقية البلاد الإسلامية فأهملتها الدولة ويئست هي من الخلافة، ولم تكن المواصلات بينها وبين عاصمة الخلافة منظمة ولا سهلة، فليس عجيبا أن تضعف العلاقة بينها وبين مركز الحكومة الإسلامية في بغداد شيئا فشيئا حتى انقطعت انقطاعا تاما. أضف إلى ذلك أن تغلب الفرس والترك على بغداد لم يكن من شأنه أن يحتفظ بالعلاقة بين جزيرة العرب نفسها ومواطن الحضارة الإسلامية، وأن جزيرة العرب نفسها لم تكن من الغنى والثروة بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها وتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية، ومن الحضارة التي جلبت إليها جلبا أيام الأمويين؛ لهذا كله انسحبت الجزيرة - إن صح هذا التعبير - من الحياة الإسلامية العامة، فأما باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلا قليلا، وأما حواضرها فاحتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم، ولولا أن البلاد المقدسة في الجزيرة العربية، وأن المسلمين يحجون إلى مكة والمدينة في كل عام، وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطى، لأهملت هذه البلاد إهمالا تاما ولنسيها تاريخ المسلمين.
نشأت عن هذه العزلة آثار سيئة جدا في حياة الآداب واللغة العربية عامة، وفي حياة اللغة والآداب في جزيرة العرب نفسها بنوع خاص؛ فقد كان اتصال العالم الإسلامي بجزيرة العرب في القرون الأولى للتاريخ الإسلامي يبعث في الآداب العربية في العراق والشام ومصر روحا من البداوة وحياة الصحراء يمنحها شيئا من القوة والجزالة في الألفاظ والأساليب والمعاني أحيانا، فلما انقطعت هذه الصلة أمعن هذا الأدب العربي في الحضارة والترف وفقد روحه العربي الخالص شيئا فشيئا حتى استحال آخر الأمر إلى جسم لا تكاد تمشي فيه الحياة؛ فسدت ألفاظه فكثرت فيها العجمة، وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتاب في التدقيق، وفسدت أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض.
وكانت جزيرة العرب في تلك القرون الأولى تستفيد من هذا الاتصال، فكان وفود الأعراب إلى حواضر العراق والشام ووفود أهل الحضر إلى مدن الحجاز ونجد، يثير في نفوس الأعراب معاني ما كانت لتثور في نفوسهم لو ظلوا في عزلتهم الأولى، ويكفي أن يلاحظ أن الغزل الحجازي - وهو أجمل ما قيل في الإسلام من غزل - إنما هو نتيجة لتبادل الصلات بين جزيرة العرب وحواضر العراق والشام ومصر، على أن العلم نفسه قد خسر بهذه العزلة خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية، بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة، ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدون في البادية وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواة والحفاظ وتنتثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثير الرياح.
وعلى هذا أخذت اللغة العربية وآدابها في الجزيرة تتغير وينالها التطور من حين إلى حين دون أن يدون هذا التطور أو يسجل، وأصبح من المستحيل الآن أن نعرف الصلة الحقيقية بين اللهجات العربية في الجزيرة الآن وبين اللهجات التي كانت فيها أثناء القرون الثلاثة الأولى.
على أن العلاقات لم تنقطع بين بلاد العرب وبين البلاد الإسلامية الأخرى من كل وجه، فقد كان المسلمون يحجون في كل سنة كما قدمت، وكان مركز اليمن التجاري يهم بلاد البحر الأبيض المتوسط دائما؛ ولذلك لم تكد تفسد العلاقة بين الجزيرة وبغداد حتى قامت مقامها علاقات أخرى بين الجزيرة والقاهرة وحرصت القاهرة منذ أيام الفاطميين على أن يكون نفوذها عظيما جدا في الحجاز واليمن بنوع خاص، ولكن هذه العلاقات كانت سياسية دينية أكثر مما كانت أدبية علمية، والذين يريدون أن يتتبعوا تاريخ الأدب العربي داخل الجزيرة يستطيعون أن يظفروا بشيء من ذلك في مدن الحجاز واليمن، وذلك بفضل هذه العلاقة بين القطرين وبين مصر، وبفضل المكانة الدينية لمكة والمدينة.
أما نجد فإن حياته الأدبية قد ضاعت ضياعا تاما إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريبا. •••
وعلى كل حال فإن في الجزيرة العربية أدبين مختلفين: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها؛ في الشام ومصر وإفريقيا الشمالية، وهذا الأدب - وإن فسدت لغته - حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب.
صفحة غير معروفة