وهم من أجل هذا كله يتحدثون بغير حساب ويطيلون في غير رفق، لا يعنيهم أن يصدوا غيرهم عن التليفون، ولا يعنيهم أن يشقوا عليك بحديثهم الطويل المتصل، حسبهم أن يقولوا وأن يحسوا أنك تسمع لما يقولون، وهم لا يرون وجهك حين يربد، ولا يرون جسمك حين يضطرب، ولا يرون ما تدفع إليه من حركات الغيظ والضيق، فهم يقولون ويقولون، وكل شيء يدعوهم إلى القول، وكل شيء يدعوهم إلى إطالة القول.
وكذلك يصلصل التليفون منذ أن تشرق الشمس إلى أن تشرق الشمس، ولولا أن النوم فرض محتوم على الناس جميعا لكان التليفون وإلحاح المصريين في اصطناعه مصدرا خطيرا من مصادر الجنون، وهو على كل حال مصدر خطير من مصادر اضطراب الأعصاب.
فإذا ذكرت الراحة التي أطمع فيها أو أطمح إليها، فقد يكون أول شيء أفكر فيه هو صلصلة التليفون، وشيء آخر أفكر فيه إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها، وهو هذه الزيارات المفاجئة التي تصب عليك صبا بغير حساب وفي غير تقدير وعلى غير إيذان بها وانتظار لها؛ فأنت متى عنيت من قريب أو بعيد بالحياة العامة فلست ملكا لنفسك ولست ملكا لأهلك ولست ملكا لعملك، وإنما أنت ملك الشعب كله، يدبر أمرك كما يريد لا كما تريد، وعلى ما يشتهي لا على ما تحب.
وليس بالشيء المهم ولا بالشيء ذي الخطر أن تكون رجلا مثقلا بالأعباء التي تتصل بمصلحتك ومصلحة الناس، أو أن تكون رجلا محبا لهذا اللون أو ذاك من ألوان النشاط تريد أن تفرغ له وتعكف عليه، وإنما المهم كل المهم والخطير كل الخطير هو أن تكون رجلا سمحا سهلا مفتوح الباب مؤدب الخدام، لا ترد ملما إن ألم ولا تمتنع على زائر إن زار.
وقد يكون أظرف شيء في هذه الخطوب أن يسعى إليك الرجل لم تعرفه قط ولم تتصل أسبابك بأسبابه، وليس بينك وبينه ما يدعو إلى اتصال الأسباب، ولكنه قرأ لك كتابا أو جزءا من كتاب أو فصلا في مجلة أو مقالا في صحيفة أو استمع لبعض أحاديثك في الراديو أو سمع الناس يتحدثون عنك، فأحب أن يراك وأن يجلس إليك ساعة من نهار أو من ليل، لم يؤامرك في ذلك ولم يشاورك، وليس يعنيه أن تكون الساعة ملائمة أو غير ملائمة، وإنما يعنيه أن يراك ويقول لك ويسمع منك، ولا عليه بعد ذلك أن يضيع وقتك أو يفسد عملك، فذلك آخر ما يفكر فيه.
والغريب أن الناس الذين يشقون عليك ويكلفونك هذه الألوان من الجهد ولا يحسبون لوقتك ولا لعملك حسابا هم الذين يلحون عليك في أن تكتب في كل يوم مقالا، وفي كل أسبوع فصلا وفي كل شهر كتابا، فإن لم تفعل فأنت مسرف في الكسل بخيل بالأدب غارق في البخل إلى أذنيك، وإياك أن تجمع لهم فصولا متفرقة وتنشرها في سفر مستقل، فإنهم لا ينتظرون منك ذلك ولا يرضونه لك ولا يرضونه لأنفسهم، وإنما هم ينتظرون منك أن تقدم إليهم في كل يوم شيئا جديدا مبتكرا، وألا تقرئهم أثرا من آثارك مرتين مرة في الصحف والمجلات ومرة أخرى في الكتب والأسفار.
هم إذن يضيعون وقتك ويحاسبونك على هذا الوقت الذي أضاعوه، وهم على ذلك لا يقدرون أن للجهد الإنساني غاية يقف عندها، وأن الوقت الضائع لا سبيل إلى استئنافه، وأن الكاتب محتاج إلى أن يقرأ فيكثر القراءة، وإلى أن يبحث ويحسن البحث، وإلى أن يفكر ويطيل التفكير، لينتج فيجيد الإنتاج.
هم لا يقدرون ذلك ولا يفترضونه، وإنما ينظرون إليك كما ينظر الطفل الساذج إلى أبيه يحسبه قادرا على كل شيء؛ فلا يتردد في أن يطلب إليه كل شيء.
فأي غرابة في أن أذكر هؤلاء الزائرين المفاجئين إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها؟
وشيء ثالث أذكره مغتبطا به وأفكر فيه مبتهجا له حين أمنح نفسي إجازة وألتمس شيئا من راحة، وهو أني سأفلت وقتا طويلا أو قصيرا من الكتابة فيما لا أحب أن أكتب فيه، ومن العناية بما لا يجب أن أعنى به.
صفحة غير معروفة