والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أيسر الموازنة بين أدبنا هذا الحديث الذي لا نكاد نرضي عنه أو نقنع به وبين أدبنا ذلك القديم الذي فتنا به فتونا، يدل على أننا قد وثبنا بالأدب العربي وثبة لم يكن القدماء يحلمون بها ولم تكن تخطر لهم على بال، وقد كان العصر العباسي عصرا ممتازا في التاريخ الأدبي من غير شك، ولكن عصرنا نحن أشد منه امتيازا وأكثر منه خصبا وأعظم منه استعدادا للبقاء.
على أن هناك تطورا آخر لأدبنا الحديث أعظم خطرا وأبعد أثرا من كل ما قدمت، وهو الذي سيوجه الأدب في المستقبل القريب إلى غاياته التي لا يستطيع عنها تحولا أو انصرافا فيما أعتقد، ولهذا التطور الخطير وجهان: أحدهما يتصل بأشخاص الأدباء، والآخر يتصل بالموضوعات التي يطرقها الأدباء، فأما الوجه الأول فنستطيع أن نتبينه في سهولة ويسر إذا نظرنا إلى حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة، وإلى العقاد والمازني وهيكل من جهة أخرى، فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون لا يعيشون لأدبهم وإنما يعيشون بأدبهم. أريد أنهم كانوا يتخذون الأدب وسيلة إلى الحياة وإلى حياة لا تمتاز بالاستقلال، كان كل واحد منهم في حاجة إلى حماية تكفل له ما يحب من العيش والمكانة، ولا بد له من «مسين» كما يقول الأوروبيون، يحميه ويعطيه ويحوطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب، أما الثلاثة الآخرون فثائرون على هذا النوع من الحياة، مبغضون لهذا النوع من الأدب، يكبرون أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك ويكبرون أدبهم أن يرعاه هذا القوي أو ذاك. هم يعيشون أولا ويعيشون أحرارا، ثم ينتجون أولا وينتجون أحرارا، وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم الأدبي حسابا لهذا أو ذاك. هم مستقلون في إنتاجهم الأدبي بأدق معاني هذه الكلمة وأكرمها.
وقد تقول إنهم ينتجون للجمهور، فهم مدينون للجمهور بحياتهم الأدبية، ولكن الجمهور هذا شيء شائع مجهول لا يستطيع أن يعبث بحرية الأديب ولا أن يعرض كرامته لما لا يحب، وكل إنسان في بيئة متحضرة إنما يعيش للجمهور وبالجمهور، كما أن الجمهور نفسه يعيش لكل إنسان وبكل إنسان، فالظاهرة الخطيرة في أدبنا الحديث هي هذه الكرامة التي كسبها الأدباء لأنفسهم ولأدبهم والتي مكنتهم من أن يكونوا أحرارا فيما يأتون وفيما يدعون.
أما الوجه الثاني لهذا التطور فهو أن هذه الحرية نفسها قد فتحت للأدباء أبوابا لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعا للسادة والعظماء، وقد أثرت ظروف التطور الإنساني في توجيه هذه الحرية، فقد كان الأدباء القدماء يؤثرون السادة والعظماء بما ينتجون، فأصبح الأدباء المحدثون يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف الأدباء على أنفسهم فحللوها وعرضوها، واستخرجوا من هذا التحليل علما كثيرا ومتاعا عظيما، وكذلك فرغ الأدباء لفنهم فجودوه كما يريدون وكما يستطيعون وكما يريد الفن، لا كما يريد هذا السيد أو ذاك.
وكذلك عكف الأدباء على الشعب، فجعلوا يدرسونه ويتعمقون درسه، ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار، وهذا كله قد رفع الأدب إلى الصدق والدقة، وجعله إنسانيا لا فرديا، ووضعه حيث وضعت الآداب الحية الكبرى نفسها بحكم التطور الذي دفعتها إليه ظروف الحياة الحديثة.
فإذا أردنا أن نتبين الاتجاهات التي سيدفع إليها الأدب العربي غدا، بعد أن عرفنا اتجاهات الأدب العربي في ماضيه القريب والبعيد، وبعد أن رأيناه يحيا بين أيدينا في حاضره الذي نشهده الآن، فقد يخيل إلي أننا نستطيع أن نستنبط هذه الاتجاهات من بعض الحقائق الواقعة، وأول هذه الحقائق الواقعة هو هذا الاستقلال الذي كسبه الأدباء لأنفسهم ولأدبهم، فهم قد أخذوا بحظ من الحرية وهم لن يكتفوا بما أخذوا، ولكنهم سيمعنون في استقلالهم وحريتهم حتى يرتفعوا عن كل رقابة مهما يكن مصدرها، وحتى يتعرضوا - وقد تعرضوا بالفعل - لبعض الأذى في سبيل هذه الحرية.
ومن هذه الحقائق الواقعة أن التعليم ينتشر انتشارا هائلا، ينشأ عنه كثرة القراء من جهة، واختلاف هؤلاء القراء في حظوظهم من الثقافة من جهة أخرى، وسيكون لهذه الحقيقة تأثير خطير في الأدب، فسيحرص بعضهم على كثرة القراء وانتشار آثاره، وسيضطر إلى ملاحظة هذه الكثرة كما كان الأدباء القدماء يلاحظون سادتهم ومواليهم، وسيضعف أدب هؤلاء حتى يصل إلى الابتذال أحيانا، ولعلنا نشهد بعض ذلك منذ الآن، وسيحرص قوم آخرون من الأدباء على كرامة الفن وجودته أكثر مما يحرصون على انتشاره وشيوعه، فيجودون أدبهم ويحفلون بهذا التجويد، ثم يرسلون أدبهم إلى القراء غير حافلين بالرضا أو السخط، ولا بما ينتجه الرضا أو السخط من الفقر والثراء.
وهؤلاء هم قوام الحياة الأدبية، وهم هداة الناس وقادتهم إلى الحق والخير والجمال.
وهناك حقيقة واقعة رابعة، وهي أننا نعيش في عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء - وقد أخذ يعرضهم بالفعل - لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء، وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الأناة التي تمكنهم من التجويد، وسيجدون أنفسهم بين اثنتين: إما أن يستجيبوا للراديو والصحف والمجلات فيضعف فنهم ويبتذل بعض الشيء، وإما أن يمتنعوا عليها فيشقوا على أنفسهم ويخلوا بين الجمهور وبين أصحاب الأدب الرخيص، وأكبر الظن أنهم سيلائمون بين هذا كله، فيؤثرون الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفلون به ويفرغون لتجويده ويذيعونه في الناس متى أرادوا هم لا متى أراد الناس، ويقدمون إلى الجمهور من طريق الراديو والصحف والمجلات أدبا يسيرا ، مهما يكن من يسره فلن يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطرا على الجمهور.
وهناك واقعة حقيقة خامسة، وهي أن هذه الثقافات الكثيرة التي تصل إلى أدبنا الآن من كل وجه ستوجه كتابنا اتجاهات مختلفة، فمنهم من يساير الثقافة الإنجليزية، ومنهم من يساير الثقافة اللاتينية، ومنهم من يذهب مذهب الروسيين في الأدب، ومنهم من يذهب فيه مذهب الأمريكيين، ويوشك هذا الاختلاف أن يفسد الأمر على أدبنا العربي، لولا أن أدبنا ليس بدعا في ذلك من الآداب الكبرى، فكل أدب خليق بهذا الاسم يأخذ ويعطي ويتلقى الثروة من كل وجه، والمهم أن يحتفظ الأدب بشخصيته ويحرص على مقوماته، ويحسن الموازنة بين عناصر الثبات والاستقرار وعناصر التحول والتطور، وسيوجد بين أدبائنا من يتطرف في هذه الناحية أو في تلك، ولكن ستوجد بين أدبائنا هذه الصفوة التي تعرف كيف تلائم بين مصادر الثروة الأدبية على اختلافها، وكيف تستخلص منها هذا الرحيق الذي تقدمه غذاء للعقول وشفاء للقلوب والنفوس.
صفحة غير معروفة