وبعيدا عن السمات البيولوجية للضوء، ماذا عن الاستجابات البصرية للبشر تجاه الضوء الملون؟ منذ سنوات أشار إم لاكيش إلى أن اللون الأصفر هو أكثر منطقة تحظى بالانتقائية، وهو الجزء الأكثر سطوعا في الطيف اللوني؛ فهذا اللون ليس له زيغ لوني (وهذا يعني أن العين تراه عادة بوضوح كامل)، كما أنه مريح نفسيا. وأوضح لاكيش أيضا من خلال التجربة أنه من خلال ترشيح الإشعاع الأزرق والإشعاع البنفسجي في مصباح الزئبق (وأيضا في مصباح التنجستن) ظلت حدة البصر ثابتة من الناحية العملية، على الرغم من تقليل كمية الضوء التي امتصها المرشح. وهذا يعني أن اللون الأصفر يتمتع بمزايا قاطعة بالنسبة لحدة البصر؛ فعلى سبيل المثال، يتميز مصباح الصوديوم بالكفاءة العالية على الرغم من أن تسببه في الزيغ اللوني يجعل من المستحيل استخدامه في كثير من الظروف.
ويضع سي إي فيري وجيرترود راند الإضاءة الصفراء على رأس قائمة الإضاءة المفضلة، يليه الأصفر البرتقالي والأخضر المصفر والأخضر. وكانت الألوان القاتمة المتمثلة في الأحمر والأزرق والبنفسجي هي الأقل حظا في قائمة الإضاءة المفضلة. وفي واقع الأمر، من الصعب للغاية على العين الإبصار بوضوح في ظل إضاءة زرقاء، كما أن اللون الأزرق سيجعل الأشياء تبدو ضبابية ومحاطة بهالة. ورغم ذلك، فعند تكيف العين مع الظلام الشديد يبدو أن العين تتمتع بأفضل حدة إبصار في ظل الإضاءة الحمراء. وقد استخدمت الإضاءة الحمراء على نطاق واسع في لوحات التحكم في الطائرات، وفي غرف التحكم في السفن والغواصات؛ فتأثير الضوء الأحمر قليل على العين المتكيفة مع الظلام، كما أنه لا يرى في واقع الأمر على الحواف الخارجية للشبكية التي لا يوجد بها خلايا مخروطية؛ ولذلك فهو مناسب لاستخدامه كمصباح تعتيم، وسوف يفشل في إثارة الرؤية في العين إلا عند تسليط أشعته بالقرب من النقرة المركزية للشبكية. (7) الإضاءة من أجل المظهر الجيد
من الافتراضات الساذجة التي يفترضها كثير من المهتمين بمصادر الإضاءة الصناعية اعتقاد أن تلك المصابيح لا بد أن تكون شبيهة قدر الإمكان بضوء النهار الطبيعي. فإذا كانت الغرفة أو المنطقة تتطلب التمييز الدقيق بين الألوان، فقد تكون محاكاة ضوء النهار الطبيعي ضرورية، لكن لا بد أن ندرك على نحو تام أن مثل هذا النوع من مصادر الإضاءة لا يجعل بشرة الإنسان تبدو جميلة بأي حال من الأحوال؛ إذ سوف تتحول البشرة للون الشاحب والرمادي تحت تأثير هذه الإضاءة. في واقع الأمر، إن الاستخدام المتعارف عليه لمستحضرات التجميل (قبل قدوم ظل العين الأخضر والأزرق وأحمر الشفاه الأبيض) كان وضع ذرور الوجه الوردي على البشرة، ووضع أحمر الشفاه الأحمر على الخدين والشفتين؛ لإبراز ما اعتبرته معظم النساء مقصد الطبيعة. ووجد الباحثون أيضا أن فكرة ذاكرة البشر عن اللون الحقيقي للبشرة تتمحور حول اللون الوردي إلى حد كبير.
ما هو الضوء الطبيعي في نهاية المطاف؟ يتراوح ضوء النهار من الصباح إلى الظهيرة إلى المساء ما بين اللون الوردي والبرتقالي والأصفر والأبيض والأزرق، ثم يعود مرة أخرى إلى ألوان الغروب الدافئة. كل هذه الألوان هي الضوء «الطبيعي». وقد لاحظ الهولندي إيه إيه كراتوف منذ سنوات مضت حقيقة أنه في مستويات الإضاءة «المنخفضة»، يبدو العالم «عاديا» إذا كان لون الضوء دافئا (إن الإضاءة الباردة في المستويات المنخفضة تجعل الأشياء تبدو مخيفة وغير طبيعية). ومع ازدياد شدة الإضاءة، يكون لزاما استخدام ضوء أكثر برودة لضمان المظهر الطبيعي للأشياء.
ومن أجل الحصول على مظهر جيد، لا بد من استخدام الضوء الدافئ في مستويات الإضاءة المنخفضة، واستخدام ضوء أكثر برودة أو أكثر بياضا في المستويات العالية، وبعض مصنعي المصابيح مدركون لهذا الأمر. ومن الملاحظ أن المصابيح المتوهجة والأنابيب الفلورسنت البيضاء الدافئة «مفضلة على نحو أكبر في المستويات المنخفضة»، بينما مصابيح الزئبق الباردة البيضاء وضوء النهار ومصححة الألوان تحظى ب «قدر كبير من التفضيل في المستويات العالية». ويشتهر ضوء الشموع، الحقيقي أو المصطنع، بجو الدفء والألفة والحميمية الذي يشعه. ويوصى باستخدام ضوء النهار البارد في مستويات إضاءة عالية من أجل إنجاز مهام العمل وبيع المنتجات. ستبدو حانة الشراب كما لو كانت تعج بالغيلان والأشباح الموتى إذا كانت الإضاءة فيها زرقاء أو بنفسجية خافتة، بينما الفصل المدرسي أو المكتب في ظل إضاءة حمراء أو وردية فاقعة سيكون مستهجنا بصريا ونفسيا، كما توجد اعتراضات على مصباح بخار الصوديوم (الأصفر اللون) أو مصباح الزئبق (الأخضر اللون) عند استخدام أي منهما في زمان ومكان يلزم فيه الحكم على بشرة ومظهر الأشخاص. (8) لون البيئات
لنتحول الآن من الضوء والإضاءة إلى الألوان والسطوع عند استخدامها في المناطق والأسطح في البيئات التي صنعها الإنسان. كتب إم لاكيش: «المهمة البصرية لا تنفصل عن البيئة الموجودة فيها ... إن الرؤية العالية، وسهولة الرؤية، وظروف الرؤية الجيدة كلها ناتجة إلى حد كبير عن جودة هندسة السطوع.» ويقصد بهندسة السطوع التحكم في اللون كما ستراه العين البشرية على الجدران والأسقف والأرضيات والمفروشات؛ ففي هذا الصدد تتأثر الاستجابات البشرية تأثرا جذريا.
للانطلاق من الفئران إلى الإنسان، في دراسة أجرتها المفوضية الأمريكية للطاقة الذرية في عام 1968، بحث جيه إف سبالدينج واثنان آخران من الباحثين تأثير الألوان المرئية على النشاط الإرادي في فئران بيضاء من سلالة آر إف. وضعت القوارض في حجيرات لفترات بلغت 18 ساعة، بعدها تتلقى الفئران استراحة، ثم توضع لمدة 18 ساعة أخرى في حجيرة أخرى إلى أن اختبرت كل البيئات. استعانوا بالدورات التي تدورها الفئران على عجلات النشاط الشبيهة بتلك العجلات التي نراها في أقفاص السناجب في تحديد مقياس نشاطها. الفئران حيوانات ليلية، ولذلك تكون في أقصى حالات نشاطها في الظلام، كما أظهرت نتائج الاختبار. وثاني أكبر فترات نشاطها كان في ظل الإضاءة الحمراء. إن فئران سلالة آر إف ترى اللون الأحمر على أنه ظلمة. «كان النشاط في الضوء الأصفر أكبر إلى حد كبير من نشاطها في ضوء النهار وفي الضوء الأزرق، وكان أقل إلى حد كبير من نشاطها في الظلام وفي الإضاءة الحمراء.» علاوة على ذلك، أظهرت الفئران العمياء اختلافا قليلا في مستوى نشاطها بغض النظر عن لون الإضاءة؛ مما أكد الزعم القائل بأن النتائج التي كشفت عنها الدراسة كانت «نتيجة للمستقبلات البصرية».
سنتناول الاستجابات البشرية تجاه الألوان في المحيط البيئي بقدر أكبر من التفصيل في الفصل القادم الذي يتحدث عن الاستجابة العاطفية. وفي الغالب، لطالما افترض العباقرة التقنيون في مجال الرؤية أن البشر يرون على نحو أفضل، وبمستوى راحة أكبر، في البيئة التي تكون كل المناطق الواقعة في مجال الرؤية فيها متسمة بالسطوع الثابت. وللأسف، فإن هذا الافتراض ليس أبعد ما يكون عن الحقيقة فحسب، بل يعد أيضا قلبا للحقيقة. وكما سنعيد في جزء آخر من هذا الكتاب، لا سيما في الفصل الثامن الذي يتناول الحرمان الحسي بصريا (وعاطفيا)، فإن الراحة تتطلب التغيير والتنوع المستمر. ووفقا لما قاله إتش إل لوجان، فإن الكائن البشري في حالة تدفق مستمر. كل وظائف الإنسان تتمدد وتنحسر باستمرار. الأفكار البسيطة سوف تؤثر على التنفس ومعدل النبض. إن ميل التجارب الفسيولوجية والنفسية إلى التذبذب واضح جدا لدرجة أنه سوف يحدث حتى إذا ظل العالم الخارجي ثابتا. إن مناطق السطوع الثابت ستبدو أنها تظهر ببطء وتختفي ببطء، وسوف تغلق فتحة بؤبؤ العين في واقع الأمر وتتسع نسبيا، والأصوات الثابتة لن تسمع على نحو ثابت، وسوف يختلف الإحساس بالذوق والحرارة والبرودة والضغط، وسيكون هذا مستقلا على نحو مفاجئ عن المثيرات الثابتة للمراحل الأولى من التعرض. وإذا استمرت هذه الرتابة لفترة طويلة، فسوف تتدهور القدرة على الاستجابة للمثير.
يحتاج البشر إلى مثيرات دورية متغيرة ليظلوا حساسين ومنتبهين لبيئاتهم. إن الراحة والانسجام يرتبطان عادة بالتغيير المعتدل، إن لم يكن التغيير الجذري. وهذا التغير يتعلق بالسطوع، بالإضافة إلى العناصر الأخرى الموجودة في البيئة. وإذا كان التنبيه المفرط قد يسبب الضيق، فقد ينتج الضيق عن الرتابة الشديدة أيضا. (9) مخاطر شدة السطوع
الوهج ليس عدو الرؤية الواضحة فحسب، بل عدو الراحة البدنية والعقلية والعاطفية أيضا. مثال بسيط على ذلك: لا شك أن القارئ قد لاحظ أن الضيق قد يصحب التعرض البصري لملعب مغطى بالجليد «حتى في ظل يوم غائم». يقول تي آر سي سيسون: «لطالما كان معروفا أن إصابة الشبكية تحدث للبشر الذين يعانون من «عمى الجليد»، الذي يعد نتيجة لانعكاس ضوء الشمس.»
صفحة غير معروفة