ولويت عنه نحري وانطلقت وهو يذرع الفناء ساخطا صائحا متنمرا يقول: إذا خرجت اليوم من البيت وذهبت إلى المدينة، قتلتك كما يقتل الكلب العقور المسعور.
ومضى إلى حصانه فاعتلاه وترك للريح ساقيه. •••
ولما بلغنا المدينة تركت الأولاد يلعبون ومضيت إلى المصرف فسألتهم بيانا عن حساب زوجي ووقفت خافقة الفؤاد أنتظر، ولما تناولت الحساب وألقيت عليه نظري لم أكد أصدق ما أرى ... ألفان وخمسمئة!
وكنت بالأمس أستنديه نصف جنيه للطبيب أجرا ...!
فتولاني الغضب وأخذ الغيظ بنحري ووددت لو أضع يدي على ذلك القدر كله، ولكني عدت إلى نفسي فكتبت صكا بألف فقط، وذلك خمس ما كان لي يوم المقترن به.
ونظر الصيرف إلى الصك نظرة المستريب المتردد ثم قال: إن هذا المبلغ كبير، والأفضل أن تقابلي المدير، فمشيت في إثره.
ولما علم المدير الخبر تطلع إلي قائلا: أمتاكدة يا سيدتي أن زوجك يريد سحب هذا المبلغ كله اليوم؟ معذرة عن سؤالنا هذا وتدقيقنا.
قلت في أتم سكينة: نعم، يريده لسداد دين استحق الوفاء.
قال: إذن لا بأس، اصرفه لها، شكرا يا سيدتي، وعذرا ...
وتناولت الأوراق حيرى لا أدري أين أخفيها ... ولكن ما لبث خاطري أن عاد بي إلى رجل كبير محام مدره حاذق كان صديقا لأبي، فذهبت إليه ونفضت له جملة الخبر. فأقرني على ما فعلت، وشدد عزمتي وألهم روحي الإقدام، فأودعت لديه نصف المال لكل ولد منه مائة، ووضعت أربعمئة في غلاف وكتبت اسمي عليه، ودسست المائة الباقية في حقيبتي، وانطلقت إلى الأولاد مسرعة، فأخذتهم إلى مطعم فخم أنيق حيث أكلوا واستمرأوا الصحاف المختلفة الألوان، ولما خرجنا من المطعم قلت: هلموا بنا نطوف الحوانيت مستقضين، فهللت «سوسنة» وفرحت «سميحة» وطرب وانثنى «سعد » يقول: بل خير لنا لو أننا ذهبنا إلى الصور المتحركة، فاحتجت الصبيتان على هذا المقترح وصاحتا: بل الحوانيت لنبتاع ما يروقنا، قلت: ليذهب الصبيان إلى السينما ولنذهب نحن إلى الحوانيت، فهل تعدنا يا «فؤاد» أنك راع أخاك الصغير «سعدا» إذا تركناكم هناك، فطفر الغلام من الفرح وبرعاية أخيه وعد، فذهبنا بهم إلى دار الصور فأجلسناهم في أماكنهم ورجعنا إلى المدينة نلتمس المتاجر، فاخترت منها أفخم متجر للثياب فدخلناه وجعلنا نقلب الثياب حتى راق الصبيتين آخر البحث والتقليب ثوبان بديعان نفيسان فابتعتهما لهما، واقتنيت كذلك ثيابا لردئة المدرسة وهما ذاهلتان فرحتان بما ابتاعتا من نفيس وحسن. وعدنا إلى الصبيين فأخذناهما بدورهما إلى الحوانيت لفرجة وشراء، وفيما نحن خارجون من باب المتجر لقينا زوجي وجها لوجه، فجمد الأولاد في أماكنهم، ورأيت وجهه تعلوه فترة وفيه لون الغضب. قال: اركبوا العجلة إلى البيت فإني سائطكم وملهبكم بالعصا أجمعين. ووثب إلى صهوة حصانه ومضى، فأنشأت «سوسنة» تقول خائفة: ماذا ترينه سيفعل بنا يا أماه؟ وقال «فؤاد» وما العمل يا أمنا؟ قلت: لا عليكم يا بني ولا خوف ولا رهق، ألست أمكم، أليس لي من الخطر والشأن ما لأبيكم؟ قالوا جميعا: ولكن كيف نستطيع الذهاب إلى البيت وعلينا هذه الثياب الحسنة والمطارف ونحن نخشى عليها أن تفسد في العجلة؟ ففكرت في الأمر مليا، وما عتمت أن رحت أسائل نفسي: علام الرجوع في تلك العجلة القديمة القذرة بعد اليوم؟ ألم يكف أن ركبناها ستة عشر عاما كاملا؟ إن إنسانا لم يعد له في الحياة إلا أربعة أسابيع - بل ثلاثة ونصف - فإن النصف الآخر انقضى - لأولى به أن يكون أحسن ركبة من هذا وأفضل مستقلا، وفيم حرصي على البقية من المال التي أودعتها لدى ذلك الشيخ الصديق إن لم أنفقها في نعمة ومتاع طيب؟
صفحة غير معروفة