فكفكفت عبراتي وغنيته ما شاء ...
وفي الغداة قبل أوان الفراق دس رزمة صغيرة في يدي وهمس قائلا: لئلا تنسيني.
ولما انصرف أخذتها إلى مخدعي ففتحتها فإذا هي علبة بديعة دقيقة من الذهب مرصعة بالجواهر ولها زنبرك تضغطه بأنملتك فينفتح الغطاء، فضغطته فإذا بوجهه الضاحك البسام يطالعني من جوفها في صورة دقيقة مركبة في أيقونة حلوة غالية، فوضعتها لصق قلبي حيث هي إلى اليوم ثلاثين عاما كاملة ...
وبدا شهر الغياب الذي غابه عني حلقة طويلة في عيني طول الأبد، وعاد أخيرا يحمل البشرى بأنه قد عين مديرا عاما للمصنع، وأنه لن يضطر بعد ذلك إلى السفر وإنما سيقتضيه المنصب الجديد الطواف بالفروع وإنشاء مركز للإدارة، ولكني قلت فرحة ضاحكة: على كل حال لن يفرقنا بعد اليوم سفر ولن نضرب بيننا نوى.
ولكن الأعوام الثلاثة التي تلت ذلك مضت وزوجي أكثر وقته في غياب، وأنا منه في فراق أليم، ولولا أن أمي كانت في مرض شديد لما ترددت في إغلاق البيت واللحاق بزوجي لأعيش في أكنافه وأتفيأ ظلاله الوارفة، ولم يلبث أن أقيم معرض عام لمتاجر المصنع فاحتجزه هذا المعرض عني الصيف كله، وقد تعب من العمل فآثر أن يقضي شهرا في مسارح الصيد، وقد ضرب هو وجماعة من الرفاق الخيام على مسيرة أميال عديدة من الحضر فلم يستطع أن يكتب، وغابت عني رسائله، ولكم بت ساهرة العين أرعى النجم وأفكر فيه وأخاف عليه أن ينتابه في تلك القفار سوء، ولكن تلك الفترة التي قضاها في الفلاة أجدت على صحته، فعاد ملفوح الوجه نشيطا أجمل من قبل.
وفي اليوم التالي اشتدت العلة بوالدتي، فألزمتها الفراش، وما كاد أسبوع ينقضي على رجوع زوجي إلى عمله حتى وافتها المنون فمضت في الذاهبين.
وكان رحيلها في سكون، فلم أشأ أن أزعج زوجي بنعيها وآثرت له الراحة وهدوء البال.
ولما قضيت للراحلة حقوقها، سرحت الخدم وأغلقت البيت لأنني أردت أن ألتمس منه الفرار، جازعة من ألم الوحشة، أحوج ما أكون إلى تبديل الهواء وطيب النقلة لكي يجيء في مختم الشهر كما كنت أرتقب وأنتظر، فيجدني رغم الحداد على أمي متهللة للقائه، موفورة العافية لمقدمه، فنعود إلى سالف عيشنا لا ننفصل آخر الدهر ولا نفترق.
ولكني كنت حيرى لا أدري أين المكان الصالح والموضع الطيب الذي يحسن الذهاب إليه، وتصفو عنده الحياة، ويستقر حوله السكون، فأستجم عنده من النشاط، وأسترد أعصابي المحطمة الواهية.
ولكني ما لبثت أن تذكرت فجأة موضعا حسنا أجد فيه كل ذلك، على ضفاف بحيرة حسناء، كنت في عهد الطفولة قد قضيت صيفا من العمر كان أهنأ أيام العيش وأرغدها وأجمل ما في الحداثة من ذكريات.
صفحة غير معروفة