وقد تعامل الصحابة ﵃ مع هذا الطاعون بأمثل طريق وأفضله؛ فقد كان من عادة الصحابة ﵃ أنهم إذا نزلت بهم النازلة يجتمعون مع إمامهم ويتشاورون لها، ويتباحثون ويتناقشون فيها، ثم يخرجون عن رأي يوافقون فيه إمامهم ولا يعترضون عليه.
فعندما خرج عمر ﵁ إلى الشام، لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ﷺ، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف - وكان متغيبا في بعض حاجته - فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» قال: فحمد الله عمر ثم انصرف (^١).
وقد توفي في هذا الطاعون الكثير من الصحابة ﵃ منهم: أبو عبيده بن الجراح، ومعاذ ابن جبل، ويزيد بن أبى سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل ﵁ (^٢)، وقدَّر بعض المؤرخين أن الذي مات من المسلمين بهذا الوباء ما يقرب من خمسة وعشرين ألفًا (^٣).
_________
(^١) رواه البخاري، في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون ح (٥٧٢٩)، (٧/ ١٣٠)، ومسلم، في كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، ح (٢٢١٩)، (٤/ ١٧٤٠).
(^٢) ينظر: تاريخ الطبري، (٤/ ٦٠).
(^٣) ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير، (٧/ ١٠٧).
1 / 5