السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية
الناشر
دار القلم
رقم الإصدار
١٤٠٨ هـ
سنة النشر
١٩٨٨م
تصانيف
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين وصلى على سيد المرسلين، سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه وسلم:
في شهر جمادى الأولى سنة ١٣٤٢ للهجرة "ديسمبر سنة ١٩٢٣ للميلاد" ابتدأت الدراسة في قسم التخصص بالقضاء الشرعي للعلماء المختارين من خريجي مدرسة القضاء والأزهر المعمور.
وكان من حسن حظي عهد إلي بدراسة مادة من المواد التي قررت دراستها في هذا القسم وهي السياسة الشرعية.
بدأنا في دراسة هذا العلم الناشئ الذي لم يدرس من قبل فيما نعلم وليس بين أيدينا سوى منهج دروسه الذي ينتظم عدة بحوث في مختلف الشئون لا تظهر بينها وحدة جامعة ولا صلات ترتبها ترتيب مسائل العلم الواحد.
لهذا عنينا أول دراستنا بنظرة عامة نستكشف بها الوحدة التي ألفت بين هذه البحوث والصلة التي نظمتها بعنوان واحد لنتعرف الرسم الذي يحد علم السياسة الشرعية ونميز موضوع البحث فيه ونقف على الغاية التي يوصل إليها.
وقد استبان لنا أن كلمة "السياسة الشرعية" اختلف المراد بها في عبارات علماء المسلمين:
1 / 5
فالفقهاء أرادوا بها التوسعة على ولاة الأمر في أن يعلموا ما تقتضي به المصلحة مما لا يخالف أصول الدين وإن لم يقم عليه دليل خاص.
قال صاحب البحر في باب حد الزنا:
"وظاهر كلامهم ههنا أن السياسة: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لن يرد بذلك الفعل دليل جزئي".
فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها.
وغير الفقهاء أرادوا بها معنى أعم من هذا يتبادر من اللفظ ويتصل باستعماله اللغوي وهو تدبير مصالح العباد على وفق الشرع.
قال المقريزي في خططه: "ويقال ساس الأمر سياسة بمعنى قام به وهو سائس من قوم ساسة وسوس. وسوسه القوم جعلوه يسوسهم ...
"فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال. والسياسة نوعان سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الأحكام الشرعية علمها من عملها وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبًا متعددة. والنوع الآخر سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها".
ولما كان هذان المعنيان غير متباينين وبينهما صلة وثيقة من ناحية أن تدبير المصالح على الوجه الأكمل لا يتم إلا إذا كان ولاة الأمر في سعة من العمل بالمصالح المرسلة، وكذلك البحوث المقررة هي شعب من
1 / 6
المعنيين فليس ما منع أن يراد بالسياسة الشرعية معنى يعم المعنيين وينتظم جميع البحوث المقررة. وعلى هذا فعلم السياسة الشرعية علم يبحث فيما عما تدبر به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص.
وموضوعه:
النظم والقوانين التي تتطلبها شئون الدولة من حيث مطابقتها لأصول الدين وتحقيقها مصالح الناس وحاجاتهم.
وغايته:
الوصول إلى تدبير شئون الدولة الإسلامية بنظم من دينها. والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة وتقبله رعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان.
على ضوء هذه الغاية أخذنا في دراسة تلك البحوث بعد أن قسمنا شئون الدولة إلى عدة أقسام: من دستورية، وخارجية، ومالية وغيرها، وجمعنا بين مباحث كل شأن من هذه الشئون. وراعينا في بحث أكثر الشئون المقارنة والمقابلة بين ما شرعه الإسلام وما وضع من النظم الحديثة تدبيرًا لها. وقد تم لنا البحث في ثلاثة من تلك الشئون وهي الشئون الدستورية والخارجية والمالية. وها هي نقدمها للباحثين لا ندعي أننا بلغنا في بحثها حد الكمال أو قاربناه ولكنا والحمد لله على توفيقه مهدنا السبيل وخطونا أولى الخطوات.
وأسأل الله أن يهيئ لهذا العلم من يقدره حتى تسنح الفرصة لإعادة دراسته في معهد من معاهد التعليم العالي وتأخذ بحوثه حظها من السعة
1 / 7
والتمحيص ويتجلى للمسلمين أن دينهم القويم لا يقصر عن مصلحة ولا يضيق بحاجة وأنه كفيل بالسياسة العادلة جامع لخيري الأولى والآخرة.
عبد الوهاب خلاف.
1 / 8
محتويات الكتاب:
٥ المقدمة
١١ تمهيد
١٣ التشريع الإسلامي والاجتهاد
٢٤ الإسلام كفيل بالسياسة العادلة
٢٩ السياسة الشرعية الدستورية
٣١ شكل الحكومة الإسلامية والدعائم التي تقوم عليها
٣٧ حقوق الأفراد
٤٩ السلطات ومصدرها ومن يتولاها
٥٩ الخلافة، وجوبها وشروطها
٦٩ السياسة الشرعية الخارجية
٧٣ العلاقة بالدول غير الإسلامية
٩١ أحكام الإسلام الحربية مقارنة بالقانون الدولي
٩٧ أحكام الإسلام السلمية
١٠٧ السياسة الشرعية المالية
١١٩ شروط عدلها
١١١ أسس الموارد الإسلامية
١٢١ الموارد المالية الإسلامية
١٣٤ المصارف المالية الإسلامية
١٤٤ جباية الإيراد وصرفه في مصارفه
١٤٨ نبذة من تاريخ بيت مال المسلمين
1 / 9
تمهيد
التشريع الإسلامى والاجتهاد
...
التشريع الإسلامي والاجتهاد:
كان رسول الله ﷺ في حياته مرجع المسلمين في تدبير شئونهم العامة: من تشريع، وقضاء، وتنفيذ. وكان قانونه في هذا التدبير ما ينزل عليه من ربه، وما يهديه إليه اجتهاده ونظره في المصالح، وما يشير به أولو الرأي من صحابته فيما ليس فيه تنزيل. وكان التدبير بهذه المصادر يتسع لحاجات الأمة ويكفل تحقيق مصالحها.
وقد ترك الرسول ﷺ في أمته هاديين لا يضل من اهتدى بما في تدبير شئونهما وهما: كتاب الله، وسنته. وأقام منارًا ثالثًا يستضاء به -فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة- وهو: الاجتهاد الذي مهد طريقه، ودعا إليه بقوله، وعمله، وإقراره. ذلك لأنه ﷺ كثيرًا ما كان يبلغ الأحكام مقرونة بعللها والمصالح التي تقتضيها، وفي هذا إيذان بارتباط الأحكام بالمصالح، ولفت إلى أن الغاية إنما هي: جلب المنافع، ودرء المفاسد. فمن أمثلة هذا قوله في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها: "إنكم إن فعلتك ذلك قطعتم أرحامكم". وقوله في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحتها: "إنما نهيتكم من أجل الدافة". وقوله في الهرة وطهارة سؤرها: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات". فهذا ونظائره في الكتاب والسنة مما فيه نص على علة الحكم أو إشارة إليها كان تمهيدًا للسبيل إلى الاجتهاد لأنه بهذه العلل يتوصل إلى إلحاق الأشباه بالأشباه، وتعرف الحكم في كل موضع لا نص فيه. وقد أقر
1 / 13
الرسول ﷺ اجتهاد من اجتهد في حضرته من صحابته. ويقال للمجتهد: إن أصبت أجران، وإن اخطأت فلك أجر. وكان ينهى عن الشيء لمصلحة تقضي بتحريمه ثم يبيحه إذا تبدلت الحال وصارت المصلحة في إباحته، كما في حديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها". ولما خرج صحابيان في سفر وحضرتهما الصلاة وليس معهما ماء وصليا ثم وجدا الماء في الوقت وأعاد أحدهما ولم يعد الآخر صوبهما النبي ﷺ وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للآخر "لك الأجر مرتين".
هذا كله وكثير من مثله بث في نفوس المسلمين أن غاية الشرع إنما هي المصلحة، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. وأنار لهم أن السبيل إلى تحقيق المصالح حيث لا نص إنما هو اجتهاد الرأي.
وقد ظهرت هذه الروح فيما سلكه الراشدون بعد وفاة الرسول ﷺ في تدبير العامة للدولة فكانوا يهتدون في نظمهم وسائر تصرفاتهم بما شرع الله في كتابه، وعلى لسان رسوله. وإن حدث لهم ما ليس له حكم في كتاب ولا سنة اجتهدوا رأيهم واتبعوا ما أدى إليه اجتهادهم مما رأوا فيه مصلحة الأمة ولا يخالف روح الدين. وكثيرًا ما كان اجتهاد أحدهم يخالف اجتهاد صاحبه بل قد يخالف ما يفهم من ظاهر النص.
وما أتهم مجتهد منهم أنه على غير الحق أو تنكب طريقه، ما دامت الغاية: المصلحة وعدل الله، والوسيلة: اجتهاد الرأي وإنعام النظر.
1 / 14
اجتهد أبو بكر فاستخلف على المسلمين عمر. واجتهد عمر فلم يستخلف واحدًا، وترك الأمر شورى بين ستة. فاجتهاد أحدهما غير اجتهاد صاحبه، واجتهادهما معًا غير ما فعل الرسول ﷺ لأنه لم يستخلف واحدًا كما فعل أبو بكر ولم يترك الشورى لستة كما فعل عمر وما رمي واحدًا منهما بأنه خالف شرع الله لأنه توخى المصلحة، واجتهد ما استطاع.
اجتهد عمر وأمضى الطلاق الثالث على من طلق زوجه ثلاثًا بكلمة واحدة، ولم يكن ليخفى عليه قول الله في كتابه: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وإن الثلاث في زمن الرسول ﷺ وأبى بكر وصدر من خلافته نفسه كانت تعتبر واحدة، وإن رجلًا على عهد الرسول ﷺ طلق امرأته ثلاثًا فبلغ الرسول ﷺ ذلك فقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" لم يكن ليخفى عليه من ذلك شيء ولكنه رأى الناس أكثروا من هذا اللعب فألزمهم بنتائجه، ردعًا لهم أو تقليلًا لألاعيبهم. وهذا هو الذي عناه بقوله ﵁: "إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أنا أمضيناه عليهم" فأمضاه عليهم. ولهذا قال ابن تيمية: "إن سياسة عمر قضت بأن ألزم المطلق ثلاثًا بكلمة واحدة بالثلاث، وسد عليهم باب التحليل ليزدجروا ويرتدعوا، ولو علم أن الناس يتتابعون في التحليل لرأي أن إقرارهم على ما كان عليه الأمر زمن الرسول ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافته أولى".
1 / 15
اجتهد عثمان وجدد أذانًا ثانيًا لفريضة الجمعة لم يكن على عهد الرسول لأنه قضت به المصلحة في إعلام الناس بالصلاة بعدما تزايد عددهم وتباعدت دورهم: وجمع الناس على قراءة القرآن بحرف واحد هو ما دون في المصحف الإمام ولم يكن ليخفى عليه أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. وأن الرسول قال لقارئين بحرفين متغايرين: "هكذا أنزل، وهكذا أنزل". ولكنه خشي فتنة الخلف بعد تباعد أطراف الدولة وتفرق الحفاظ في الأمصار واستشهادهم في الجهاد فمنع ما كان مباحًا.
اجتهد علي وحرق الرافضة وما كان خفيًّا عليه حكم الله في قتل الكافر ولكنه رأى المصلحة في الزجر عن الجرم الشنيع بالعقاب الشنيع وهو التحريق.
وكذلك كان الشأن في القضاء وطرق الحكم، فكانوا يعتمدون على كل دليل يطمئن إليه القلب ويهدي إلى العدل والحق لا يقفون عند أدلة خاصة ظاهرة من بينة أو إقرار أن نكول. فقد قضى عمر برجم الجارية التي ظهرت حاملًا ولا زوج لها ولا سيدًا اكتفاء بهذه الأمارة. وحكموا بحد السرقة على من وجد المسروق في يده اعتمادًا على هذه القرينة. وقد وفى ابن القيم هذا المقام بما لا مزيد عليه في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية".
وكانوا كذلك بنظرون في التنفيذ إلى ما تقتضي به المصلحة وحال الناس، فقد عطل عمر تنفيذ حد السارق في عام المجاعة وأسقط سهم المؤلفة قلوبهم لما أعز الله الإسلام. وهذه السبيل التي سلكها المسلمون
1 / 16
أول أمرهم في التشريع والقضاء والتنفيذ كانت السبيل القويم في تدبير شئون الدولة. وكانت لا تضيق بحادث أو حاجة. ولا تقصر عن تحقيق أية مصلحة. ولا عن مسايرة الزمن في تطوراته، ومراعاة ما تقتضيه تغيرات الأزمان والأحوال. ويسلكونها ما شعر واحد بقصور الشريعة الإسلامية عن مصالح الناس ولا رميت بحاجتها إلى غيرها، وما عرف إذ ذاك حكم شرعي وآخر سياسي وإنما كانت الأحكام كلها شرعية مصدرها ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله وما اهتدى إليه أولو الرأي باجتهادهم الذي تحروا به المصلحة، وبذلوا أقصى الجهد لتحقيقها، والله ما شرع الشرائع إلا لمصلحة عباده.
جاء بعد هذا عصر التزم فيه مجتهدو الفقهاء طرقًا خاصة في الاجتهاد ووضعوا شروطًا ورسومًا للمصالح الواجب اعتبارها. وسواء أكان الباعث لهم على هذا زيادة حرصهم على أن لا يتعدوا شرع الله أم اتهامهم عقولهم بالقصور على السابقين أم غير ذلك فإن هذا الالتزام قيد من حرية المجتهد وضيق دائرة الاجتهاد، وقضى بإغفال مراعاة كثير من المصالح المرسلة: وهي التي لم يرد في الشرع دليل بشأنها ولم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها وبعد أن كان مجتهدو الصحابة يعملون لمطلق المصلحة لا لقيام شاهد بالاعتبار، وهاديهم في هذا فطرة سليمة ونظر صحح، صار الاعتبار لمصالح خاصة والمرجع إلى قواعد موضوعة. وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع وتلتزم في القضاء طرق خاصة للوصول إلى الحق وتغل اليد عن تنفيذ ما قد يكون فيه بعض الإصلاح.
1 / 17
وكان هؤلاء المجتهدون في بعض الأحوال بحرج هذه القيود وضيق قواعدهم بمصالح العباد فكانوا يخرجون من هذا الضيق بما يدعونه الاستحسان. ومن أمثلة هذا عقد المزارعة فهو على قواعد اجتهادهم باطل لكنهم لما رأوه ضروريًا لمصالح الناس أجازوه بطريق الاستحسان، وما هذا الاستحسان إلا بقية من روح الاجتهاد الفطري الذي كان سبيل السلف الأول.
وبإغفال المصالح المرسلة في التشريع وإلغاء اعتبار القرائن والأمارات في القضاء والتزام طرائق خاصة للوصول إلى الحق وتنفيذه ظهر الفقه الإسلامي بمظهر القاصر عن تدبير شئون الدولة الذي لا يتسع لمصالح الناس ولا يساير الزمن وتطوراته وأخذ الولاة السياسيون ورجال السلطة التنفيذية في الدولة ينظرون إلى مصالح الناس المطلقة ويدبرونها بما يكفلها من النظم والقوانين غير ملتزمين ما التزمه أولئك المجتهدون. وأكثر ما عنوا بسعته الطرق الحكمية وقوانين العقوبات لأن أكبر همهم توطيد الأمن والضرب على أيدي المجرمين. ولا بد لهذا من الأخذ بالقرائن والاكتفاء بالأمارات والخروج عن قيود الفقهاء. ومن ذلك الحين بدأ المسلمون يرون بينهم نوعين من النظم والأحكام:
أحدهما:
ما استنبطه الفقهاء المجتهدون على وفق أصولهم وقيودهم.
ثانيهما:
ما لجأ إليه الولاة السياسيون لتحقيق المصالح المطلقة ومسايرة الزمن، وكان هذا النوع الثاني يتبع حال واضعيه؛ فتارة يكون
1 / 18
في حدود الاعتدال مراعى فيه تحقيق المصالح غير متجاوز به حدود الدين وأصوله الكلية، وتارة يكون مراعى فيه الأغراض والمصالح الجزئية.
ثم زاد قصور الفقه الإسلامي عن مصالح الناس بإغلاق باب الاجتهاد واقتصار الفقهاء على حمل الناس أن يتبعوا ما استنبطه أئمتهم في عصورهم السالفة دون نظر إلى ما بين الأزمان والأحوال من تفاوت.
فاتسعت مسافة الخلف بين الفقه ومصالح الناس في كثير من الشئون، واتجه ولاة الأمر في الدولة الإسلامية إلى مسايرة الزمن ومراعاة المصالح بتشريع ما يحققها مما يتفق وأصول الدين وإن لم يوافق أقوال الفقهاء المتبوعين.
وعلى هذا النهج سارت وزارة الحقانية في مصر فيما عدلته من بعض أحكام الأحوال الشخصية: في الطلاق ودعوى النسب ونفقة المعتدة وسن الحضانة وموت المفقود. وأبانت في المذكرة الإيضاحية لهذا التعديل أن الوجهة هي جلب المصلحة أو رفع الضرر العام. وجاء في تلك المذكرة ما نصه:
"من الواجب حماية الشريعة المطهرة وحماية الناس من الخروج عليها وقد تكلفت بسعادة الناس دينًا وأخرى وأنها بأصولها تسع الأمم في جميع الأزمنة والأمكنة متى فهمت على حقيقتها وطبقت على بصيرة وهدى.
1 / 19
ومن السياسة أن الشرعية أن يفتح للجمهور باب الرحمة من الشريعة نفسها وأن يرجع إلى آراء لتعالج الأمراض الاجتماعية كلما استعصى مرض منها حتى يشعر الناس بأن في الشريعة مخرجًا من الضيق وفرجًا من الشدة".
وعلى هذا الأساس ومراعة للمصلحة العامة منع من مباشرة عقد الزواج أو المصادقة عليه ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة سنة وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت العقد ومنع من سماع الشهود على بعض الوقائع والتزام لإثباتها أوراق تدل على صحتها.
وهذا التعديل في الأحكام والطرق الحكمية مما قصد به درء المفاسد وجلب المصالح وروعي فيه موافقة أصول الدين وإن لم يتفق وأقوال الأئمة الأربعة المجتهدين. وهذه الخطة في تدبير الشئون هي السياسة الشرعية.
فالسياسة الشرعية:
هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين. وبعبارة أخرى هي متابعة السلف الأول في مراعاة المصالح ومسايرة الحوادث. والمراد بالشئون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت دستورية أم مالية أم تشريعية أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شئونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية. فتدبير هذه الشئون والنظر في أسسها ووضع قواعدها بما يتفق وأصول الشرع هو السياسة الشرعية.
1 / 20
وليس يوجد مانع شرعي من الأخذ بكل ما يدرأ المفاسد ويحقق المصالح في أي شأن من شئون الدولة ما دام لا يتعدى حدود الشريعة ولا يخرج عن قوانينها العامة. وهذه أقوال بعض العلماء التي توضح هذه الوجهة: فقد نقل علاء الدين في كتابه معين الحكام عن الإمام القرافي قال:
"واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفًا للشرع، بل تشهد له القواعد الشرعية من وجوه:
أحدها:
أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية لقوله ﷺ: "لا ضرر ولا ضرار" وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر.. ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج.
وثانيها:
أن المصلحة المرسلة قال بها جمع من العلماء وهي المصلحة التي لم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها. ويؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة -رضوان الله عليهم- عملوا أمورًا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، وتدوين الدواوين، وعمل السكة، واتخاذ السجن، وغير ذلك من كثير لم يتقدم فيه أمر أو نظير وإنما فعل لمطلق المصلحة.
وثالثها:
أن الشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية واشترط في الشهادة العدد والحرية لتوهم العداوة، ووسع في كثير من العقود كالعارية والمساقاة للضرورة، ولم يقبل في الشهادة بالزنا إلا أربعة وقبل في القتل
1 / 21
اثنين لأن القصد الستر وإن كان الدم أعظم. وهذه المباينات والاختلافات كثيرة في الشرع لاختلاف الأحوال، فلذلك ينبغي أن يراعى اختلاف الأحوال في الأزمان فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين السياسية مما شهدت لها القواعد بالاعتبار".
ونقل ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية عن ابن عقيل قال:
"السياسة ما كان فعلًَا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي. ومن قال: لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد غلط وغلط الصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن وكفى تحريق علي الزنادقة وتحريق عثمان المصاحف ونفي عمر نصر بن الحجاج".
قال ابن القيم في الطرق الحكمية: "وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرءوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه حق مطابق للواقع ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول ﷺ وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًا طويلًا وفسادًا
1 / 22
عريضًا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنفاذها من تلك المهالك. وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه، فإن الله -سبحانه- أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله -سبحانه- أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها بل قد بين ﷾ بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات".
1 / 23
الإسلام كفيل بالسياسة العادلة:
السياسة العادلة لأية أمة هي تدبير شئونها الداخلية والخارجية بالنظم والقوانين التي تكفل الأمن لأفرادها وجماعاتها والعدل بينهم، وتضمن تحقيق مصالحهم وتمهيد السبيل لرقيهم وتنظيم علاقتهم بغيرهم.
والإسلام كفيل بهذه السياسة تصلح أصوله أن تكون أسسًا للنظم العادلة وتتسع لتحقيق مصالح الناس في كل زمان وفي أي مكان.
وبرهان ذلك أمران:
أحدهما:
أن الأصل الأول والمصدر العام للإسلام وهو كتاب الله تعالى لم يتعرض فيه لتفصيل الجزئيات بل نص فيه على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يبنى عليها تنظيم الشئون العامة للدولة. وهذه الأسس والقواعد قلما تختلف فيها أمة من أمة أو زمان من زمان. أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها وأزمانها فقد سكت عنها لتكون كل أمة في سعة من أن تراعى فيها مصالحها الخاصة وما تقتضيه حالها.
ففي نظام الحكم لم يفصل القرآن الكريم نظامًا لشكل الحكومة، ولا لتنظيم سلطانها ولا لاختيار أولى الحل والعقد فيها. وإنما اكتفى بالنص على الدعائم الثابتة التي ينبغي أن تعتمد عليها نظم كل حكومة عادلة ولا تختلف فيها أمة عن أمة فقرر العدل في قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ ١، والشورى في قوله عز شأنه: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ٢، والمساواة في قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ٣. أما ما عدا هذه الأسس من النظم التفصيلية فقد سكت
_________
١ النساء: ٥٨.
٢ آل عمران: ١٥٩.
٣ الحجرات: ١٠.
1 / 24
عنها ليتسع لأولي الأمر أن يضعوا نظمهم ويشكلوا حكومتهم ويكونوا مجالسهم بما يلائم حالهم ويتفق ومصالحهم، غير متجاوزين حدود العدل والشورى.
وفي القانون الجنائي لم يحدد عقوبات مقدرة إلا لخمس فئات من المجرمين، الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا، والذين يقتلون النفس بغير حق. والذين يرمون المحصنات الغافلات. والزانية والزاني. والسارق والسارقة.
أما سائر الجرائم -من جنايات وجنح ومخالفات- فلم يحدد لها عقوبات وإنما ترك لأولي الأمر أن يقدروا عقوباتها بما يرونه كفيلًا بصيانة الأمن وردع المجرم واعتبار غيره، لأن هذه التقديرات مما تختلف باختلاف البيئات والأمم والأزمان فمهد السبيل لولاة كل أمة أن يقرروا العقوبات بما يلائم حال الأمة ويوصل إلى الغرض من العقوبة. وأرشد الله -سبحانه- إلى أصل عام لا تختلف فيه الأمم وهو أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فقال عز من قائل: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ ١، وقال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ ٢.
وفي قانون المعاملات اكتفى بالنص على إباحة ما يقتضيه تبادل الحاجات ودفع الضرورات فأحل البيع والإجارة والرهن وغيرها من عقود المعاملات وأشار إلى الأساس الذي ينبغي أن تبنى عليه تلك المبادلات وهو التراضي فقال عز شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
_________
١ النحل: ١٢٦.
٢ البقرة: ١٩٤.
1 / 25
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ ١. أما الأحكام التفصيلية لجزئيات هذه المعاملات فلولاة الأمر في كل أمة أن يفصلوها حسب أحوالها على أساس التراضي.
وكذلك اكتفى بالنص على منع المعاملات التي تفضي إلى النزاع وتوقع في العدواة والبغضاء فحرم الربا والميسر على أساس دفع الضرر وقطع أسباب الشحناء وسكت عن تفصيل الأحكام الجزئية لهذه المعاملات ليتسنى أن يكون تفصيلها في كل أمة على وفق حالها.
وفي النظام المالي فرض في أموال ذوي المال وعلى رءوس بعض الأنفس ضرائب وجهها في مصارف ثمانية مرجعها إلى سد نفقات المنافع العامة ومعونة المعوزين وترك تفصيل الترتيب لهذه الموارد وتصريفها في مصارفها لكل أمة تتبع فيه ما يلائمها.
وفي السياسة الخارجية أجمل علاقة المسلمين بغيرهم في قوله سبحانه: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ٢. فالقرآن الكريم لم ينص في الشئون العامة على تفصيل الجزئيات، وما كان هذا لنقص فيه أو قصور وإنما هو الحكمة بالغة حتى يتسير لكل أمة أن تفصل نظمها على وفق حالها وما تقتضيه مصالحها على ألا تتجاوز في تفصيلها حدود الدعائم التي ثبتها، فهذا الذي يظن أنه نقص هو غاية الكمال في نظام التقنين الذي يتقبل مصالح الناس كافة ولا يحول دون أي إصلاح.
_________
١ النساء: ٢٩.
٢ الممتحنة: ٨.
1 / 26
والثاني أن الإسلام أبان بكثير من أحكامه وحكمه وآياته أن غايته هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، ومقصوده إقامة العدل بينهم ومنع عدوان بعضهم على بعض. يتبين هذا من حكم التشريع التي نص عليها مع الأحكام في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ١، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ٢، وقول الرسول ﷺ في منع بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه". بل إن العبادات نفسها قرن التكليف بها بما يدل على أن المقصود منها إصلاح حال الناس، كما قال تعالى في حكمة الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ ٣، وفي الصيام: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ٤، وفي الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ ٥، وفي الحج: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ ٦.
وينطق بهذا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ٧، وقوله عز شأنه: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وقول الرسول ﷺ: "لا ضرر ولا ضرار"، وقوله ﷺ: "بعثت بالحنيفية السمحة".
وإذا كان الإسلام غايته ومقصده إصلاح حال الناس وإقامة العدل فيهم وخطته وطريقته اليسر بهم ورفع الحرج عنهم فهو بلا ريب كفيل
_________
١ البقرة: ١٧٩.
٢ المائدة: ٩١.
٣ العنكبوت: ٤٥.
٤ البقرة: ١٨٣.
٥ التوبة: ١٠٣.
٦ الحج: ٢٨.
٧ البقرة: ١٨٥.
1 / 27