الصوم جنة

تصانيف

سلسلة زاد المؤمن (٨) الصوم جُنَّة تأليف د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي تقديم العلاّمة الشيخ د/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

صفحة غير معروفة

تقديم الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأرسل إلينا نبيَّه محمدًا أفضلَ الأنام، فبيَّن برسالته الحلال والحرام، وفصَّل أحكام الصلاة والصيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ العلاَّم، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولُه أفضل من صلَّى لربِّه وصام، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البَرَرةِ الكرام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما دامت الليالي والأيام. أما بعد، فقد قرأت هذه الرسالة القيمةَ والتي بعنوان (الصَّوْمُ جُنَّةٌ) والتي صنَّفها الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي وفَّقه الله تعالى وسدَّده، ورأيتُه قد أجاد في الانتقاء والاختيار، واستوفى كلَّ ما يتعلق بالصيام وتأريخ فَرْضِه والحكمة منه وواجباته وشروطه وما يُبطِله ومن يُعذَر فيه وصيام النَّفْل وقيام رمضان وليلة القدر وزكاة الفطر، مع الأدلة واختيار الأحاديث الثابتة الصحيحة

1 / 5

وتخريجها، ومصادر النقل ونحو ذلك، فهو كتاب نافع - بإذن الله - مفيد في موضوعه، فجزى الله المؤلف خير الجزاء، وأثابه أجزل الثواب، ونفع بجهوده، والله أعلم، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين ٢٥/١٠/١٤٢٥هـ.

1 / 6

مقدّمة الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ الصَّائِمِينَ فَأَعْظَمَ عَلَيْهِمُ الْمِنَّةَ، وَجَعَلَ الصَّوْمَ لَهُمْ وِجَاءً وجُنَّةً، وَاخْتَصَّهُمْ بجَنَّةٍ عُظْمَى لَيْستْ كَسَائِرِ الْجَنَّةِ، بَابُهَا الرَّيَّانُ حَيْثُ أَسْرَارُ النَّعِيمِ مُسْتَكِنَّةٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ رَبُّ النَّاسِ وَالْجِنَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، خَيْرُ مَنْ صَامَ مُفْتَرِضًا أَوْ تَنَفَّلَ سُنَّةً، اتَّبَعَتْهُ نُفُوسٌ مُؤْمِنَةٌ فَصَارَتْ بِاتِّبَاعِهِ زَكِيَّةً مُطْمَئِنَّةً، ﷺ مَا صَامَ صَائِمٌ وَاسْتَنَّ مُؤْمِنٌ بِسُنَّةٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَبَعْدُ، فَهَذَا مَا يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى جَمْعَهُ وَتَرْتِيبَهُ مِمَّا يَتَعلَّقُ بِرُكْنِ الصِّيَامِ، قَصَدْتُ فِيهِ تَتَبُّعَ فَضَائِلِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَأُمَّاتِ مَسَائِلِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدِ اسْتَخَرْتُ فِي ذَلِكَ الْمَلِكَ الْعَلاَّمَ، حَتَّى إِذَا صَارَ الصَّدْرُ بِانْشِرَاحٍ لِمَا يُرَامُ، عَزَمْتُ

1 / 7

- مُتَوَكِّلًا عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ - وُلُوجَ هَذا البَابِ، مَحَبَّةً لِإِخْوَانِي أَهْلِ الصِّيَامِ، وَقَدْ جَمَعْتُ ذَلِكَ وَرَتَّبْتُهُ، ثُمَّ سَمَّيْتُهُ بِعَوْنِ اللهِ تَعَالى: (الصَّوْمُ جُنَّةٌ) تَيَمُّنًا بِحَدِيثِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ﷺ، فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ: «يَقُولُ اللهُ ﷿: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» (١) . هَذَا، وَقَدْ جَعَلْتُ كِتَابِي هَذَا مُرَتَّبًا عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ، بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ: الأَوَّلُ ...: النُّصُوصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّيَاِم (مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ) . الثَّانِي ...: تَعْرِيفُ الصِّيَامِ، وَتَأرِيخُ تَشْرِيعِهِ. الثَّالِثُ ...: فَضَائِلُ الصِّيَامِ وَأَسْرَارُهُ، وَخَصَائِصُ رَمْضَانَ.

(١) متفق عليه، من حديث أبي هريرة ﵁: أخرجه البخاري، بلفظه، في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ﴾ [الفَتْح: ١٥]، برقم (٧٤٩٢) . وبلفظ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، في مواضع منها في كتاب الصوم، باب: فضل الصوم، برقم (١٨٩٤)، ومسلم بلفظ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»،؛ كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، برقم (١١٥١) .

1 / 8

الرَّابِعُ ...: أَنْوَاعُ الصِّيَامِ. الخَامِسُ: أَحْكَامٌ وَمَسَائِلُ مُهِمَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصِّيَامِ. هَذَا وَإِنِّي سَائِلٌ اللهَ تَعَالى - فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً - الصَّلاَةَ وَالسَّلاَمَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ إِمَامِ الثَّقَلَيْنِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنَّةٍ، وَالنَّفْعَ بِعَمَلِي هَذَا عُمُومَ الأُْمَّةِ. د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي

1 / 9

الفصل الأول النُّصوص المتعلَّقة بالصيام (من القرآن العظيم) قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ

1 / 11

أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *﴾ . [البَقَرَة: ١٨٣-١٨٧] وقال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمْوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *﴾ . [البَقَرَة: ١٩٦] وقال تبارك اسمه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ

1 / 12

لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *﴾ . وقال عزَّ مِن قائل: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *﴾ . [المَائدة: ٨٩] وقال ﵎: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *﴾ .

1 / 13

وقال جلَّ ذِكره: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ *﴾ . [المجَادلة: ٣-٤] أخي القارئ - وفَّقك اللَّه- لا شك بأن هذه النصوص القرآنية قد حوت مجملَ ما يحتاجه المسلم لفقه أحكام الصيام، وقد جاءت السُّنَّة النبويَّة مبيِّنة لهذه الأحكام، إلا أني اقتصرت على ذكر الآيات الكريمة؛ وذلك لكثرة ما أفاضت به الأحاديث الصحيحة والحسنة في شأن الصيام، والتي سأعمد - إن شاء الله - إلى إيراد بعضٍ منها عند الاستدلال بها في ثنايا هذا الكتاب، ولا يخفى أن استقصاء تلك النصوص الحديثية قد يُعجِز طالِبَه، ولو بذل في ذلك وسعَه، ومقصودي هنا التيسير ما أمكن، مع إيراد ما يكون سببًا لفقه المسلم بفريضة الصيام.

1 / 14

الفصل الثاني تعريف الصيام، وتأريخ تشريعه تعريف الصيام: الصيام لغةً: يُطلق الصيام ويقصد به مطلقُ الإمساك، أي التوقُّف عن كل فعل أو قول، فالصائم إنما سمِّي كذلك لإمساكه عن شهوتَي البطن والفرج، والمسافر إذا توقَّف عن سيره سُمِّي صائمًا، والصامت عن الكلام صائم، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ . [مَريَم: ٢٦] وكذا الفَرَس إذا أمسكَتْ عن العَلَف فهي صائم، وإذا قامت في موقفها، فهي في مَصامها، وصوم الماء ركودُه، وصوم الريح توقُّفُها، وصومُ الشمس استواؤها في كَبِد السماء قُبيل الزوال، عند انتصاف النهار (٢) . الصيام شرعًا: إن المتتبع لعبارات الفقهاء - جزاهم الله خيرًا - في تعريف الصوم، يجدها جميعًا مفيدة لمعنى واحد، حتى إن لفظها يكاد يكون متطابقًا،

(٢) انظر لسان العرب لابن منظور، (٤/٢٥٢٩)، مادة: (صوم) . والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص: ١٤٦٠، (باب الميم، فصل الصاد)، مادة (صام) .

1 / 15

ومحصل ذلك إجمالًا، أن الصيام هو: الإمساك عن المفطِّر على وجه مخصوص (٣) . ومعنى هذا التعريف - تفصيلًا - أن الصيام هو: إمساك المكلَّف، الذي اشتغلت ذمَّتُه بواجب الصيام، وهو المسلم البالغ العاقل، العالم بوجوب الصيام، الناوي له، والمُطِيق له، غير المباح له الفطر لسفر أو مرض ونحوهما، إمساكُ هذا المكلَّف عن تعمُّد ما يُفسِد صومَه من المُفطِّرات كأكلٍ أو شُربٍ أو جِماع، أو تعمُّد قيءٍ ونحوه، ويكون ذلك الإمساك من طلوع الفجر الثاني الصادق من يوم الصيام إلى غروب شمس ذلك اليوم. فائدة في معنى (شهر رمضان): هو عَلَمُ جنسٍ مركب تركيبًا إضافيًا، وكذا باقي أسماء الشهور هي من حيِّز عَلَم الجنس، وهو ممنوع من الصرف للعَلَمية والزيادة، وهو من الرَّمَض، أي: الاحتراق؛ سُمِّي بذلك لاحتراق الذنوب فيه، أو هو

(٣) انظر الموسوعة الفقهية، الصادرة عن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت (٢٨/ ٧) .

1 / 16

من الرَّمَض كذلك، ومعناه: شدة العطش، لأن الإبل يشتد عطشها فيه. أما معنى الشهر؛ فلأهل اللغة فيه قولان: أشهرهما: أنه اسم لمدة الزمان التي يكون مبدؤها الهلال ظاهرًا إلى أن يستتر، وسُمِّي الشهرُ بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات، والمعنى الثاني: أن الشهر اسم للهلال نفسِه (٤) . مراحل تشريع الصيام: إن الصيام عبادة مشروعة، وتشريع ربّاني عرفته الأمم السابقة من أهل الكتاب، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *﴾ . [البَقَرَة: ١٨٣] ثم جاء الإسلام ليستقرَّ فيه تشريع الصيام على الوجه الأكمل، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يتدرج هذا التشريع في مراحل، كما هو الحال في كثير من التشريعات في الإسلام، رحمة من الله بعباده وتلطُّفًا بهم وتيسيرًا عليهم.

(٤) استفدت ذلك مما دوّنه الشيخ محمد مصطفى أبو العلا ﵀ في تفسيره نور الإيمان. (١/٢٦١) .

1 / 17

هذا، ويمكن لمن تتبَّع مراحل هذا التشريع العظيم أن يرتِّبها كالآتي: المرحلة الأولى: الأمر بصيام ثلاثة أيام البِيض من كلِّ شهر قمري، وصيام يوم عاشوراء (العاشر من المُحرَّم)، والحثُّ المؤكَّد على ذلك. - ... عن جابر بن سَمُرة ﵁، قال: «كان رسول الله ﷺ يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثُّنا عليه، ويتعاهدُنا عنده، فلما فُرض رمضانُ لم يأمرْنا، ولم يَنْهَنا، ولم يتعاهدْنا عنده» (٥) . - ... وعن معاذِ بن جبلٍ ﵁ أن رسولَ الله ﷺ كان يصوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البَقَرَة: ١٨٣]، فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يُفطِر ويُطعِم كلَّ يوم مسكينًا أجزأه ذلك (٦) .

(٥) أخرجه مسلم؛ كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (١١٢٨) . (٦) جزء من حديث أخرجه أبو داود - مُطوَّلًا - في كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، برقم (٥٠٧)، وأحمد في مسنده (٥/٢٤٦)، كلاهما من حديث معاذٍ ﵁.

1 / 18

مسألة: في تعيين ثلاثة أيام البِيض، هل هي ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة من كل شهر قمري؟ اتفق الفقهاء على أنه يُسَنُّ صومُ ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة)، إلى استحباب كونها الأيام البِيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر (٧) . وسُمِّيت هذه الأيام بذلك لتكامل ضوء الهلال في لياليها وشدة بياضه؛ فهي الأيام التي تكون لياليها بِيضٌ مستنيرة، وفي الحديث أن النبيَّ ﷺ قال: «يا أبا ذرٍّ، إذا صمتَ من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاثَ عَشْرَةَ، وأربعَ عَشْرَةَ، وخمسَ عَشْرَةَ» (٨) . وقد عَنْون الإمام البخاريُّ ﵀ في صحيحه بقوله: باب صيام أيام البِيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. ولعل من المناسب في هذه المسألة: ألاَّ يعتقدَ المسلم بأن الثواب بصيام ثلاثة أيام من الشهر لا

(٧) انظر: الموسوعة الفقهية (٢٨/٩٣) . (٨) أخرجه الترمذي وحسَّنه؛ كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، برقم (٧٦١)، عن أبي ذرٍّ ﵁.

1 / 19

يحصل إلا بصيام هذه الأيام بعينها، بل هو حاصل - إن شاء الله - بصيام ثلاثة أيام من الشهر مطلقًا، لكنه يصوم ثلاثةَ البِيض باعتبارها ثلاثة أيام من الشهر، فعن أبي هريرة ﵁، قال: «أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد» (٩) . المرحلة الثانية من مراحل تشريع الصيام: وهي: التخيير في صيام عاشوراء، وكان ذلك بعد الأمر بصيام أيام معدودات، التي هي عِدَّة أيام شهر رمضان، وذلك في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *﴾ . - ... وقد «صام النبيُّ ﷺ عاشوراءَ، وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضانُ تُرِك» (١٠) . - ... وقال رسول الله ﷺ: «إن عاشوراءَ يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه» (١١) .

(٩) متفق عليه من حديث أبي هريرة ﵁: أخرجه البخاري؛ كتاب أبواب التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر، برقم (١١٧٨) . ومسلم؛ كتاب صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: استحباب صلاة الضحى، برقم: (٧٢١)، واللفظ لمسلم. (١٠) أخرجه البخاري؛ كتاب الصوم، باب: وجوب صوم رمضان، برقم: (١٨٩٢)، عن ابن عمر ﵄. (١١) متفق عليه من حديث ابن عمر ﵄: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم؛ باب: وجوب صوم رمضان، برقم (١٨٩٢) . ومسلم - بلفظه -؛ كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (١١٢٦) .

1 / 20

المرحلة الثالثة: الترخيص بالإفطار في رمضان للقادر على الصيام، مع إيجاب الفدية عليه، فقد كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأدى الفدية؛ حيث إن الصحابة ﵃ كانوا قومًا لم يتعوَّدوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديدًا. قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ . المرحلة الرابعة: نَسْخُ هذا الترخيص عند القدرة على الصيام، وذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ . [البَقَرَة، من الآية: ١٨٥] فعن سلمةَ بن الأكوعِ ﵁، قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، [البَقَرَة: ١٨٤] كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها (١٢) . فصار الأمر بهذه المرحلة أن كلَّ مَن شَهِد استهلال شهر الصوم (دخوله) من المسلمين، فقد وجب صيامه عليه، ولا رخصةَ له بالإفطار حال كونه

(١٢) متفق عليه من حديث سلمة بن الأكوع ﵁: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: ُ ٢ ١ ٤ ٣ ِ، برقم (١٩٤٩)، ومسلم؛ كتاب: الصوم، باب: بيان نَسْخِ قولِه تعالى: ُ ٢ ١ ٤ ٣ ِ، برقم (١١٤٥) .

1 / 21

قادرًا على الصيام، حتى لو أدّى فديةً طعام مسكين. المرحلة الخامسة: تخصيص الترخيص بالإفطار في رمضان في حالين: الأول: المرض في البدن الذي يشق معه الصيام، أو يؤدي إلى تأخُّر بُرْءِ المريض، أو يتسبب بزيادة مرضه، والثاني: حال السفر؛ بأن كان متلبِّسًا بالسفر وقت طلوع الفجر، فله في هذين الحالين أن يُفطِر، ثم يقضي بعد رمضان صيام أيامٍ عددَ ما أفطره حال المرض أو السفر. قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ . [البَقَرَة: ١٨٥] وقد استقر التشريع - ولله الحمد - على ذلك الوجه الأكمل بعد أن تدرَّج بهم، مريدًا بهم اليسر، وإتمام عِدَّة صيام الشهر المبارك، وذلك بصيامه كاملًا عند عدم العذر، وبتدارك ما فات منه بعذرٍ بالقضاء. قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ . [البَقَرَة: ١٨٥]

1 / 22

أما تأريخ تشريع فريضة الصوم فقد كان ذلك في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة الشريفة، على الكيفية التي استقر عليها، وقد صامه النبيُّ ﷺ تسعَ سنين. أما كيفيته التي استقر عليها، فهي: الامتناع عن المُفطِّرات من طلوع الفجر الصادق من يوم الصيام إلى غروب شمس ذلك اليوم. ومما يجدر ذكره هنا أن الصيام لم تكن كيفيته كذلك في بداية تشريعه!! فقد كان الأكل والشرب والجماع مباحًا ليلة الصيام، بشرط ألاّ ينام المبيِّت لنية الصيام - في تلك الليلة - قبل أن يُفطِر، كذلك ألاّ يصلِّيَ العِشاء الآخرة، فإن نام ثم قام من نومه، أو صلّى العشاء لم يُبَح له أكل أو شرب أو جماع، بقية ليله، حتى يُفطِر عند غروب شمس اليوم التالي!! - ... أما عدم حِلّ الطعام له ليلة الصيام إذا نام قبل أن يُفطِر، فيدلّ عليه قول البراء ابن عازب ﵁:

1 / 23

(كان أصحابُ محمَّدٍ ﷺ، إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطارُ فنام قبل أن يُفطِر، لم يأكلْ ليلته ولا يومَه حتى يُمسِي ...) . (١٣) - ... وكذلك يدل عليه حوادثُ متعددة، كان حدوثُها من بعض الصحابة ﵃ رحمةً للصائمين إلى يوم الدين؛ حيث كانت سببًا لنزول وحي يُتلى، كان فيه ترخيصٌ بالجماع وبالأكل والشرب ليلة الصوم، سواء نام - من بَيَّت نية الصوم - قبل أن يُفطِر، أو صلَّى العشاء الآخرة، أم لم يفعل أيًّا من الأمرين، ومن تلك الحوادث: * ... ما حدّث به عبدُالله بن كعب بن مالك ﵁، عن أبيه: كان الناس في رمضانَ إذا صام الرجل فأمسى فنام حَرُم عليه الطعامُ والشراب والنساء حتى يُفطِر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب ﵁ من عند النبيِّ ﷺ ذات ليلةٍ وقد سَهِر عنده - فوجد امرأتَه قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد

(١٣) أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: قول الله جلّ ذِكره: [البَقَرَة: ١٨٧] ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ...﴾ . برقم (١٩١٥)، عن البراء بن عازب ﵁.

1 / 24