حكومة هتلر
تقدم القول عند بحث رغبة النازيين في بسط سيطرتهم العالمية، بأنه كان من الضروري لتحقيق هذه السيطرة العالمية، أن يجعلوا من ألمانيا ذاتها كتلة متماسكة، يستحيل أن يتطرق الضعف إليها؛ حتى يتخذها النازيون مركزا «للدوائر» التي يطمعون في «جرمنتها» في القارة الأوروبية. ومعنى هذا أن يجمع الحزب النازي في داخل ألمانيا كل أسباب السلطة، ويتغلغل أعضاء الحزب في نواحي الحياة الألمانية جميعها، حتى يتمكنوا من إرغام الدولة على الاندماج في الحزب في النهاية، فيصبح الحزب هو الدولة. ولم يكن غريبا أن يطمع النازيون في ذلك؛ لأنه من عادة الدول التي يقبض على زمام الأمور فيها حزب واحد - وهي الدول التي تسيطر عليها الدكتاتورية سيطرة تامة - أن يجد هذا الحزب في القضاء على جميع التقاليد والنظم القديمة ويعمل في الوقت ذاته على إنشاء أنظمة جديدة، قد يحدث إنشاؤها عقب ثورة جامحة تكتسح معالم الحياة القديمة اكتساحا، على غرار ما حدث في الروسيا، أو تظهر إلى عالم الوجود شيئا فشيئا دون التجاء إلى الثورة كما فعل النازيون في ألمانيا، فإن هؤلاء - وهم الذين اشتدت حملتهم على الشيوعيين منذ قيام حركتهم - ما كانوا يريدون أن يعرف عنهم سواد الشعب أنهم من أنصار الانقلاب والثورة؛ ولذلك اتبعوا في مبدأ الأمر أساليب مغايرة لأساليب جيرانهم الشرقيين، وبدءوا يقوضون أركان المقاومة في داخل الريخ بالتغلب على الأحزاب المنافسة لهم.
وكان من عوامل نجاح النازيين أنهم استغلوا الفوضى التي تغلغلت في جميع نواحي الحياة الألمانية عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وتذمر طبقات الشعب المختلفة من هذه الفوضى، فطفقوا يبذلون كل جهد حتى يستميلوا إليهم هؤلاء المتذمرين الراغبين في إزالة الآثار التي اعتقدوا أنها من نتائج هزيمة الدولة القيصرية. ولذلك كان أول ما عنى به «حزب العمال الألمان الوطني الاشتراكي»، وضع برنامج شامل صدر في ميونخ في 24 فبراير 1920، وكان يتألف من خمس وعشرين مادة، وأهم ما يلاحظ عليه أنه كان - كما جاء في مقدمته - برنامجا أملته ظروف الحال
Zeitprogramm ، وقد يعني هذا الوصف أنه كان برنامجا مؤقتا، أو نهائيا، والغرض من اختيار هذا الوصف بالذات عدم التقيد في الحقيقة بمحتويات البرنامج تقيدا حرفيا إذا أثبتت الظروف في المستقبل أن من المصلحة عدم التمسك بحرفيته. ومع أن النازيين في الاجتماع الكبير الذي عقده أعضاء الحزب في 22 مايو 1926، اتخذوا بعد بحث وتمحيص، قرارا بأن هذا البرنامج لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال. فقد درجوا على تفسير مواده وفق رغباتهم، ثم سلكوا في تطبيق هذه المواد من الوجهة العملية، المسلك الذي أملته عليهم مصالحهم، أي ما يمكنهم من القبض على أزمة السلطة في ألمانيا بأسرها، وإزالة جميع العناصر المعارضة لهم، وزيادة على هذا، تضمن البرنامج مجموعة من الآراء والمبادئ المتضاربة، التي نجمت في الواقع عن السخط المنتشر بين جميع الطبقات المختلفة من جراء ما خلفته الحرب العالمية الأولى من آثار سيئة، وبسبب ما حدث من مشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة، في الفترة التي تلت انتهاء الحرب مباشرة. أضف إلى ذلك أن البرنامج كان يتضمن مبادئ اقتصادية حرص النازيون عند إثباتها على أن تكون من النوع الذي يقتضي تحقيقه كفايات غير تلك التي يتمتع بها أعضاء الحزب - من زعماء وموظفين - ممن يشرفون على تطبيق هذه المبادئ من أجل تحويل ألمانيا إلى دولة وطنية اشتراكية خالصة.
ثم عمل النازيون على أن يشتمل برنامجهم على مطالب اقتصادية تجلب رضاء أصحاب رءوس الأموال، مثل كبار الصناع والمنتجين وكبار الزراع ومن إليهم كما تجلب رضاء الطبقة العمالية. وقد ترتب على المحاولة التي قام بها النازيون للتوفيق بين هذه المصالح المتعارضة، وخصوصا عندما هيمنوا على شئون الدولة وطفقوا ينفذون برنامجهم الاقتصادي، أن صار يختلف الناس في تفسير الوطنية الاشتراكية. فهناك من وصفها بأنها من ضروب الاحتيال المالي لمساعدة الزعماء النازيين على جمع الثروة الطائلة. وهناك من وصفها بأنها بلشفية صحيحة وإن اتخذت لها لونا مغايرا للون البلشفية الأحمر، أو أنها من النظم التي وضعت خصيصا لحماية الرأسمالية، وهكذا. ولو أن التفسير الحقيقي للوطنية الاشتراكية، على ضوء ما أسفر عنه تطبيق مبادئها في السنوات التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية وفي السنوات القليلة التالية، هو أنها الخطة والنظام الذي يؤدي إلى تحقيق أطماع جماعة من الناس يسيطرون فعلا على مصير ألمانيا. أما هذه الأطماع ذاتها فإنها تلخص في رغبة النازيين في الاستئثار بكل سيطرة سياسية مطلقة فحسب.
على أن برنامج النازيين «في عام 1920» كان يتضمن فكرة إفناء الفرد في الدولة، على غرار ما يحدث في كل نظام اشتراكي؛ ولذلك فإنه لما كانت الدولة ذات شخصية يجب أن تتلاشى بسببها ومن أجل دعم كيانها حرية الفرد وجميع حقوقه، فقد أصبح من حق الدولة وحدها الهيمنة على حياة الفرد وتدبير شئونه على النحو الذي تراه مؤيدا لمصلحتها العليا وحدها، وترتب على إفناء الفرد في الدولة أن صارت هذه تجمع في خصائصها ومميزاتها السيطرة على شئون التربية والتعليم والصحة العامة والجيش والصحافة، وتقرير مصير مواطنيها، وهكذا. ولذلك فإنه لم يغب عن النازيين النص على هذه الحقوق جميعها في برنامج حزبهم. وكان من المنتظر - بوصف أنهم الأداة التي تتولى عن الدولة إدارة هذه الشئون عند استلام أزمة الحكم في ألمانيا - أن يجمع النازيون في أيديهم السلطة المطلقة. ثم كان من المنتظر أيضا - بفضل ما نص عليه برنامج حزبهم من أن من شروط المواطن أن يكون آريا، وأن يكون جرمانيا ينحدر من سلالة عاشت في ألمانيا أو في البلدان الجرمانية الصحيحة منذ أمد طويل - أن تتعقب دولة الريخ الثالث غير الآريين كاليهود وغيرهم من اللاجئين من البلدان المجاورة، والذين دخلوا ألمانيا ابتداء من 2 أغسطس 1914، بالتشريد والإفناء في غير رحمة أو شفقة.
ولما كان الحزب الوطني الاشتراكي في بدء تكوينه يريد كعادته جمع أصحاب المذاهب والمشارب المنوعة حوله، فقد ذكر في المادة الرابعة والعشرين من برنامجه، أن الدولة مكلفة بالدفاع عن «المسيحية الواقعية»؛ ولإدخالها الطمأنينة على النفوس، جاء في هذه المادة نفسها ما معناه أن الحزب يطلب التسامح مع الآراء الحديثة المختلفة في الدولة، ما دامت لا تعرض كيان الدولة للخطر، وما دامت لا تتنافى مع عادات الجنس الجرماني وتقاليده، وقد استثنيت اليهودية من هذا التسامح . ومع هذا فإن النص على ضرورة قيام الدولة بمهمة الدفاع عن «المسيحية الواقعية» كان معناه - كما شهد الكاثوليك والبروتستنت على السواء بعد ذلك - أن النازيين عند وصولهم إلى الحكم سوف يتدخلون في شئون العبادة، من أجل إخضاع الكنيسة لسيطرتهم، وأن المسيحية الواقعية سوف تتخذ لذلك معنى غير المعنى الذي عرفه بها سواد الشعب فيما مضى. فقد ظن الأهلون أن انحياز الوطنيين الاشتراكيين إلى معاضدة المسيحية الواقعية، يعني أن الريخ الثالث سوف يضمن للدين المسيحي الحرية الكاملة وزيادة الانتشار، هذا إلى جانب السهر على صيانتها والذود عنها. ولم يشأ النازيون أن يزعزعوا هذا الاعتقاد في بادئ الأمر، ولكنهم عندما ثبتت أقدامهم في الريخ الجديد طفقوا يفسرون «المسيحية الواقعية» بما يتفق مع أهوائهم ويتمشى مع مصلحتهم. ويلخص هذا التفسير في أن المسيحية الواقعية تعني مجرد «الفعال الإنسانية». •••
وإنه لمن الحقائق المعروفة أن النازيين ما استطاعوا الوصول إلى الحكم إلا بفضل الانقسامات الكثيرة في الطبقات الرأسمالية والعمالية. فقد وجد من بين الرأسماليين عدد من زعماء الصناعة المحافظين الذين كانت بغيتهم حل المشكلة الاقتصادية في ألمانيا دون الالتجاء إلى مغامرات أجنبية. وكان هناك فريق آخر من زعماء الصناعة الذين يئسوا من إمكان اجتياز أزمة الاقتصاد الألماني بالطرق والأساليب العادية، فصاروا يدعون إلى الحرب كعلاج حاسم لهذه الأزمة المستحكمة. ومما يذكر أن الفريقين سرعان ما صارا يجدان في دعاوى الوطنيين الاشتراكيين ووعود زعمائهم، وعلى الخصوص الهر هتلر نفسه، ما حملهما على تأييد النازية وهي ما تزال في دور النشوء، ومدها بالأموال اللازمة لتنظيم الحزب، وخوض غمار الانتخابات. وكذلك وجد من بين كبار أصحاب الأرض والملاك، فريق اعتقد أن الوطنية الاشتراكية عنوان الفوضى الاقتصادية، ومن المنتظر أن يؤدي انتصارها إلى الخراب والدمار. وفريق آخر يخشى البلشفية شأنه في ذلك شأن الطبقات الرأسمالية الأخرى، والطبقات المتوسطة «أو البرجوازي»، وقد أقبل هذا الفريق على الهر هتلر يؤازره على أمل أن يصون نجاحه مصالح كبار الزراع وأصحاب الأراضي؛ لأن النازيين كانوا في نظرهم من لا يجسرون على القيام بتجارب جريئة، بل يتصفون قبل كل شيء بالولاء الكامل للطبقة التي ينتمون إليها، وهي الطبقة المتوسطة التي تستمد قوتها من الأرض، وتدين لها بوجودها. وقد اقتضى هذا التفكير أن يطمئن كبار الرأسماليين المحافظين من جهة، ثم أصحاب الأراضي الواسعة من جهة أخرى، إلى أن مصلحة النازيين ألا يدفعوا بالأمة الألمانية إلى حروب جديدة. ومع هذا، فإن هذه الطبقة المتوسطة نفسها، وهي الطبقة التي يستمد منها النازيون أنصارهم ومؤيديهم، كانت أيضا الطبقة التي ينتمي إليها المحاربون القدماء في ألمانيا، وأصحاب الخوذ الفولاذية برئاسة «سلدت
Seldte » وهم من العسكريين الرجعيين، وكانوا تحت زعامة «ألفرد هوجنبرج
Hugenberg »، وكان من كبار أصحاب رءوس الأموال، ويملك نحو الأربعين صحيفة وعددا من الشركات، منها شركة «أوفا
صفحة غير معروفة