وقد ظهر أثر وضع سعر للريخمارك في التبادل التجاري كذلك بين الريخ الألماني، وتلك البلاد التي خضعت لسلطان النازيين، فمن المعروف أن التجارة الدولية تؤثر دائما في سعر العملة؛ بمعنى أنه إذا زادت صادرات دولة عما تستورده نتج عن ذلك «فائض» في ميزانها التجاري، واعتبر ذلك في صالحها، كما أنه ينهض دليلا على أن السعر يرتفع في الدولة المستوردة عما هو عليه في الدولة المصدرة، وفي ظروف التجارة الدولية العادية، تسعى الدول التي زادت وارداتها على صادراتها من أجل إعادة الموازنة وإزالة هذا «الفائض» باتخاذ وسائل شتى معروفة، من أهمها محاولة زيادة الصادرات، وعقد القروض الخارجية، والدفع من أرصدة الذهب وغير ذلك. ولكن التبادل التجاري بين الريخ الثالث والبلدان المفتتحة كان يخضع لقواعد أخرى.
فقد عمد النازيون من أيام الفتح الأولى إلى استنزاف جميع منتجات الدول المغلوبة على أمرها لحاجتهم إلى هذه المنتجات، صناعية كانت أم زراعية، فعظمت صادرات الدول المفتتحة إلى الريخ دون أن تستطيع استيراد شيء يذكر من ألمانيا، ونجم عن ذلك أن صار لهذه الدول كافة «فائض» لمصلحة ميزانها التجاري، أي إن الريخ الألماني أصبح - بمعنى آخر - مدينا لهذه الدول بمبالغ طائلة، حتى لقد بلغ دين الدانمرك على الريخ الثالث حتى يوم 30 نوفمبر 1941، 849 مليون كرونر، وهذا فضلا عن قروض من نوع آخر نشأت من قيام الدنمرك بنفقات الاحتلال الألماني لبلادها، وقد بلغت هذه النفقات حتى 31 ديسمبر 1941 حوالي 907 ملايين؛ أي إن الاحتلال الألماني كلف هذه البلاد مدة عام ونصف ما يزيد على 1700 مليون كرونر. وفي أول يناير 1942 بلغ دين الدانمرك على ألمانيا 2000 مليون كرونر.
ومع هذا، فقد منع الألمان تلك الدول «المصدرة» التي ظلت دائنة للريخ بأموال طائلة من أن تستورد من دولة أدولف هتلر شيئا من تلك السلع والمتاجر اللازمة لها، والتي كان لا غنى عن استيرادها؛ حتى تتعادل كفتا الميزان التجاري بين الريخ وهذه الدول المغلوبة على أمرها من جهة ؛ وحتى تستخلص هذه الدول ما كان لها من ديون جسيمة على ألمانيا من جهة أخرى. وقد ابتكر شيطان النازي وسيلة أخرى للإمعان في نهب الأمم المقهورة؛ إذ صار الريخ يمتنع عن دفع أثمان السلع المصدرة إليه بدعوى عدم إخراج العملة الألمانية من الريخ، واعتاض عن ذلك بأن صار يطلب إلى البنوك المركزية في البلدان المفتتحة أن تقوم بسداد المطلوب من الريخ لحساب تلك البلاد على شريطة أن يكون الدفع بالعملة المحلية الوطنية نفسها؛ فلا يكون السداد بالريخمارك الألماني. ولما كانت قيمة الريخمارك تزيد كثيرا على قيمة العملة المحلية حسب السعر الحكومي في البلدان المنهوبة فقد ترتب على ذلك أن أضحت الأثمان التي يدفعها النازيون للسلع والمتاجر المصدرة إليهم بخسة ضئيلة، وعلاوة على ذلك كان معنى تكليف البنوك المركزية بالدفع من الناحية العملية خصم هذه الأثمان من حساب نفقات الاحتلال الألماني التي فرضوها على البلدان المختلفة. وبفضل هذه الأساليب الملتوية صار الألمان يستولون على منتجات البلاد المقهورة، دون أن يدفعوا شيئا من أثمانها. ولا جدال في أن هذا العمل كان ضربا من السرقة يستره قناع قانوني زائف.
وكان من خطط النازيين عند فرض السيطرة الجرمانية الاقتصادية على أوروبا اتخاذ برلين مركزا للتجارة الأجنبية في هذه القارة؛ حتى تحتل برلين ذلك المركز الممتاز الذي استمتعت به لندن في عالم الاقتصاد والمال قبيل الحرب الأخيرة، فأصروا على أن تجري المعاملات التجارية والمالية بين أية دولة وأخرى عن طريق برلين دائما؛ مثال ذلك أنه إذا كان أحد الهولنديين مدينا بمبلغ من المال لشركة بلجيكية، فإنه يستحيل عليه أن يسدد حسابه بالدفع رأسا إلى الشركة البلجيكية، بل صار حتما عليه أن يدفع هذا الدين بالريخمارك إلى مؤسسة معينة أنشأها الألمان في برلين لمباشرة جميع العمليات التجارية والمالية الخاصة ببلجيكا، فتتولى هذه المؤسسة الدفع بالريخمارك إلى الشركة البلجيكية. أما ما كان يحدث فعلا فهو أن تكلف هذه المؤسسة «البنك المركزي» في بلجيكا بأن يقوم هذا البنك بعملية الدفع من حساب نفقات الاحتلال بالطريقة التي سبق بيانها ، أضف إلى ذلك أن الألمان كانوا يحتمون على الدول المحتلة التي تتبادل التجارة فيما بينها أن تودع برلين مبلغا من الريخمارك يرصد لحسابها، ويستخدم في أعمال التصفية التجارية. ويتكون هذا الرصيد بسبب إرغام هذه الدول على تصدير منتجاتها إلى الريخ ومطالبتها بتأدية خدمات مالية معينة وإجبارها على إعطاء ضمانات من الذهب والسندات وما إلى ذلك من وسائل أخرى. بيد أن هذه الدول ما كانت تحصل على شيء من الريخ في مقابل إنشاء هذا الرصيد، ذلك بأن الريخ درج دائما على الدفع عن طريق البنوك المركزية بالأساليب التي سبق ذكرها. على أن الريخ إلى جانب ذلك كله كان يحصل على عمولة كبيرة في نظير قيامه بهذه العمليات المالية والتجارية بين الدول. فكان من نتائج ذلك كله أنه أصبح من المتعذر على أية دولة من الدول التي خضعت لسلطان النازيين أن تنظم شئون حياتها الاقتصادية على النحو الذي كانت تقتضيه مصلحتها أو بما يمكنها على الأقل من مواجهة مطالب الألمان الاقتصادية والمالية المرهقة.
وثمة ترتيب آخر ابتكره النازيون لصرف مرتبات جنودهم في البلدان المحتلة؛ فقد اخترعوا ما أسموه «سندات إذنية عسكرية
Wehrmachtspverflichtung »، وكانت هذه من فئات كبيرة «50000 ريخمارك فما فوق» وتحمل تعهدا بدفع قيمتها، وقصر التعامل بهذه السندات الإذنية العسكرية على البلدان التي تصدر فيها، ومنع التعامل بها في داخل الريخ نفسه، كما أنه تعذر تحويلها إلى الماركات الألمانية بالرغم من أن القيمة المدونة بها كانت بالريخمارك. ثم طبع النازيون أوراق بنكنوت أسموها أوراق مكاتب أو بنوك الأقراض الألمانية
Reichskreditkassenscheine
ومهمة هذه المكاتب أو البنوك إصدار أوراق البنكنوت من الفئات الصغيرة «50، 20، 5، 2، 1، 0,50 ريخمارك»، علاوة عن سك عملة نقدية صغيرة للمعاملات اليومية، وكان من المتعذر كذلك التعامل بهذه الأوراق والنقود خارج المنطقة المحتلة التي كانت تصدرها ومن باب أولى الريخ نفسه. على أنه مما تجدر ملاحظته أن تلك السندات الإذنية وأوراق البنكنوت ما كانت في الحقيقة إلا وسيلة لإقراض مبالغ معينة للجنود الألمان تمكنهم من شراء منتجات البلدان المحتلة، وذريعة يتخذها الريخ للامتناع عن صرف مرتبات الجنود بالعملة الألمانية حتى لا تنتقل العملة الألمانية إلى البلدان المفتوحة أو تنفق بها. وفضلا عن ذلك أرغمت «البنوك المركزية» في البلدان المحتلة على قبول هذه السندات الإذنية والبنكنوت والنقود وتحويلها إلى عملة محلية، على أن ترصد في مقابل ذلك السندات الإذنية العسكرية وغيرها لحساب الريخ الختامي فتخصم قيمتها من نفقات الاحتلال، ووعد النازيون بتسوية حساباتهم في آخر الأمر مع البلدان المحتلة عند انتهاء الحرب. وبلغت قيمة ما أصدرته البنوك المتنقلة في بولندة في العامين الأولين من الاحتلال 1000 مليون ريخمارك، وفي النرويج والدانمرك 500 مليون. وعندما امتدت الحرب إلى الأراضي المنخفضة صدر قرار في 15 مايو 1940 أجاز لتلك البنوك إصدار أو «إقراض» ما قيمته 3000 مليون ريخمارك لقوات الاحتلال النازية وهيئاتها في الدنمرك والنرويج وهولندة وبلجيكا ولكسمبورج وفرنسا، فبلغت قيمة ما صدر حتى أواخر عام 1941 في جميع البلدان المحتلة - ما عدا تشكوسلفاكيا - 4000 مليون ريخمارك أو حوالي 340 مليون جنيه إنجليزي. ولم يكن إصدار هذه السندات الإذنية وما إليها يستند إلى غطاء كاف من الذهب أو غير ذلك من الضمانات الثابتة. ثم ما لبثت كمية الأوراق والعملة المتداولة أن زادت، ولكن اختفت من الأسواق السلع والمنتجات؛ لأن الألمان كانوا يستولون عليها أولا بأول، مما أدى إلى تضخم في النقد كبير، ارتفعت بسببه أثمان الحاجيات ارتفاعا فاحشا جعل الشعوب المقهورة وقتذاك تعيش في ضنك وبؤس شديدين.
وكانت «نفقات الاحتلال الألماني» من وسائل السلب والنهب التي تفتقت عنها أذهان النازيين؛ فقد استغلت الدعاية النازية في البلدان المحتلة مسألة تعويضات الحرب التي فرضها الحلفاء على ألمانيا المهزومة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وطفق دعاتهم يتحدثون عن تلك الأضرار البليغة التي أصابت بلادهم بسبب هذه التعويضات، ثم أخذوا يطمئنون الدول المقهورة بأنهم بالرغم من انتصارهم لا يريدون أن يفرضوا أية تعويضات من ذلك النوع عليها، بل يكتفون عوضا عن ذلك بتحصيل النفقات التي يسببها احتلال الجنود الألمان لبلادهم حتى إذا وضعت الحرب أوزارها لم يعد للريخ وجه للمطالبة - كما فعل الحلفاء في الحرب السابقة - بأية تعويضات عند عقد الصلح النهائي. ولم يكن ذلك كله إلا وعودا كاذبة؛ لأن الغرض من نفقات الاحتلال كما فرضها الألمان على البلدان المحتلة إنما كان مجرد السلب والنهب، ذلك بأن النازيين لم يقدروا قيمة نفقات الاحتلال على أساس ما كانت تستطيع أن تدفعه البلدان المفتتحة دون إرهاق لمواردها أو تعطيل لمرافقها وإنتاجها؛ بل إنهم لم يحاولوا اتخاذ ما يتكلفه جند الاحتلال الألماني من نفقات - معتدلة كانت أم فادحة - أساسا لتقديرهم، وإنما قدر النازيون نفقات الاحتلال على أساس ما كانت الدول قبيل انهيارها قد خصصته من أموال في ميزانياتها للدفاع عن سلامتها في أثناء الحرب، مع العلم بأن النفقات المخصصة للدفاع في أوقات الحروب إنما هي نفقات غير عادية، ويستلزم تقديرها تقليل المصروفات في أبواب الميزانية الأخرى. وعلى ذلك كانت نفقات الاحتلال التي طلبها النازيون جسيمة مرهقة بلغت نسبتها في فرنسا مثلا 140٪ من مجموع ميزانية الحرب في عام 1939، وفي بوهيميا ومورافيا حوالي 114٪ من مجموع ميزانية الحرب في تشيكوسلوفاكيا للعام نفسه، وهكذا كان الحال في سائر البلدان المحتلة. ويتبين جسامة ما نهبه الألمان بسبب نفقات الاحتلال هذه إذا وقفنا على حقيقة التعويضات التي أرغمت ألمانيا على دفعها بعد صلح فرساي، فقد بلغ ما دفعته إلى الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى 10 بلايين مارك تقريبا في مدة سبع سنوات بين عام 1924-1931، وذلك عندما كان الاتفاق الخاص بالتعويضات ما يزال ساريا، ولكن الألمان استطاعوا أن يجمعوا من فرنسا وبلجيكا وهولندة والدانمرك والنرويج وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا في سنة واحدة من سنوات سيطرتهم على أوروبا حوالي 7 أو 8 بلايين مارك، أي إنهم جمعوا في عام واحد حوالي 80٪ مما دفعه الألمان من «تعويضات» كانت موزعة على سبع سنوات، بل إن التعويضات التي دفعتها ألمانيا إلى فرنسا في خلال هذه السنوات السبع كانت أقل من 4 بلايين مارك. أما النازيون فقد استمروا حتى نهاية الحرب يحصلون مثل هذا المبلغ من فرنسا كل ستة شهور كنفقات احتلال. ومما يجدر ذكره أن ألمانيا في سنوات التعويضات السابقة (1924-1931) استطاعت أن تعقد قروضا خارجية بلغت 25 بليون مارك، أي ما يزيد على ما دفعته هي من تعويضات مرتين ونصف مرة. من المعروف أن ألمانيا لم تسدد معظم هذا الدين، بل رفضت أن تدفع التعويضات بعد عام 1931، وزيادة على ذلك منع النازيون في ظل نظامهم الجديد الدول المحتلة من أن تعقد أية قروض، وظلت ألمانيا متمسكة بنفقات الاحتلال حتى وقت انهيارها.
غير أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لسد جشع النازيين ونهمهم، فلجئوا إلى حيل أخرى لابتزاز الأموال واغتصاب ثروة البلدان المقهورة. وكان من أساليب النهب والسلب التي درجوا عليها مصادرة أملاك العدو، وقد بلغت قيمة هذه الأملاك في بولندة مثلا 100 مليون جنيه إنجليزي، والاستيلاء على رءوس أموال الأعداء المستثمرة في البلدان التي احتلها النازيون، وقد بلغت قيمة رءوس الأموال البريطانية وحدها حوالي 250 مليونا من الجنيهات الإنجليزية، والاستيلاء كذلك على أملاك اليهود ومصادرة ثراوتهم، وكانت قيمتها في الريخ الثالث وحده تتراوح بين 250-500 مليون جنيه إنجليزي، وفي تشيكوسلوفاكيا حوالي 125 مليون جنيه إنجليزي، هذا إلى مصادرة أموال الجمعيات أو الهيئات التي اعتبرها الريخ معادية له على غرار ما فعلوا في هولندة بمقتضى قرار أصدروه في 6 يولية 1940، وبجانب هذا كله فرض النازيون الغرامات على المجالس البلدية والسلطات المحلية في المدن، مثال ذلك أنهم فرضوا على بلدة «تروندهيم
صفحة غير معروفة