وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولى.
وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب وبعضها أنصاف أرباب وبعضها نفوس بشرية، وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر والهيولى العاجزة، فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين.
وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع؛ لأنها تتغير وتتلون وتتراءى للحس على أشكال وأوضاع لا تصمد على حال.
وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره، وفي العقل المجرد تستقر الموجودات «الصحائح» أو المثل كما سميت في الكتب العربية، وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد.
هذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يتلبس بالمادة أو الهيولى، فكل شجرة - مثلا - فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية، فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم، وكل ما تلبس بالمادة من خصائص الشجرية فهو محاكاة لذلك المثل الأعلى.
وبقاء هذه الموجودات هو أيضا محاكاة لبقاء الله.
فبقاء الله بقاء أبدي لا أول له ولا آخر ولا تحول فيه ولا تقلب، ولا تعرض له الزيادة ولا النقصان.
أما بقاء هذه الموجودات فهو بقاء في الزمان، والزمان مخلوق من حركة الأفلاك، فهو مقياس لبقاء المخلوقات وليس بمقياس لبقاء الخالق، وإنما شاء الله بجوده ورحمته أن يعطي الموجودات نصيبها من البقاء فأعطاها الزمان، وهو محاكاة للأبد السرمدي الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، كما أن الموجودات المحسوسة محاكاة للموجودات المثالية التي يعقلها الله وتخرجها أنصاف الأرباب إلى حيز الوجود، فتنقص؛ لأن أنصاف الأرباب لا تعقلها كما يعقلها الله؛ ولأن التلبس بالمادة يحيطها بالحدود وينضح عليها من عوامل الفساد.
والعقل البشري يعلو فيدرك الحقائق المجردة، ويهبط فيدرك المحسوسات بالتجربة والمشاهدة، ومن أمثلة الحقائق التي تدرك بغير تجربة حسية حقائق الرياضة العليا، فإن الله مهندس، وأحكامه هي الهندسة القائمة على نسب الأعداد المجردة، ومعرفتها معرفة عقلية يدركها الإنسان بصفاء القريحة، وربما كانت هذه النسب أو الأعداد مرادفة للمثل العليا أو للصحائح في فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما ذكره عنها في أيامه الأخيرة، ورجع به إلى فيثاغوراس.
وقد رجع أفلاطون إلى فيثاغوراس في القول بتناسخ الأرواح وتجدد الآجال على حسب الحسنات والسيئات.
صفحة غير معروفة