84

Logos

هي مساك الوجود كله، وإنها هي النظام الذي يحيط به ويتغلغل فيه، وإنها لا تصنع إلا الصالح من الأمور «فعند الله كل شيء جميل وخير، ولكن الناس هم الذين يعتبرون بعض الأمور من الخير وبعضها من الشر.»

وتكاد الكلمة عنده أن تكون مرادفة لمعنى الله، فهي النظام الذي يضع كل شيء في موضعه. وكذلك الله: «هو النهار والليل والشتاء والصيف، والحرب والسلم، والشبع والجوع، ويتخذ الأشكال والمظاهر على اختلاف، كالنار وهي تمتزج بالأبازير فيسمى كل منها باسمه لا باسم النار.»

والاختلاف هو أساس الانسجام والنظام، فلولا النقائص لما كان النغم المنسجم، ولولا التعدد لما كانت الوحدة، «فكل شيء يأتي من الأحد، والأحد يأتي من كل شيء، ولكن الكثرة دون الوحدة في الوجود الحقيقي، وذلك هو الله.»

لكن هيرقليطس لا يقول بالخالق ولا بحاجة الموجودات إلى موجد. «فهذه الدنيا التي هي سواء للجميع لم يخلقها أحد من الآلهة ولا من الناس، ولكنها كانت منذ الأزل وتكون الآن وتظل كائنة في كل زمان، نارا خالدة تتقد بحساب وتنطفئ بحساب.»

فالنار هي أصل العناصر وهي المصدر الأول لجميع الكائنات، وهي حركة دائمة لا انقطاع لها في لحظة من اللحظات، فأنت لا ترى الشيء الواحد غير مرة واحدة، ولا ترى شمسا واحدة كل صباح، أو أنت على تعبيره لا تنزل النهر مرتين؛ لأن أمواجه تطرد ولا تبقى كما لمستها في المرة الأولى، وهذا الجيشان الدائم يستخرج من كل شيء ضده، وتتم الألفة بين الأضداد المتقابلة بميزان العدل الذي لا يغفل ولا يني عن تسوية المقادير وزيادة الناقص ونقص الزائد، ولهذا الرأي في الأضداد وتناسقها شأنه في مذاهب الفلسفة الحديثة؛ لأنه رائد الثنائية التي قال بها «هيجل» واشتق منها كارل ماركس مذهبه المشهور في الثنائية المادية.

وهيرقليطس كما تقدم يقول باستغناء الموجودات عن الموجد، ولكنه يقول بحاجتها إلى العدل الإلهي الذي لا قوام لها بغيره، ويتكلم عن الله كلامه عن «ذات» مدبرة مريدة ومن ذاك قوله «إن الله لا شك مساك العدل في الكون كله»، و«إن أعمال الإنسان خلو من العقل ولكن أعمال الله لا تخلو منه ... وما الإنسان إلا كالطفل بالقياس إلى الله ... وأعقل الناس كالنسناس بالنسبة إلى الإله، وهو إذا قورن بالإله كان دميما شأئها كما يشوه أجمل القردة إذا قرن بالإنسان ...»

وقد ولد فيثاغوراس في جزيرة «ساموس» على مقربة من آسيا الصغرى وكان مذهبه نسخة يونانية من الديانة الهندية، فهو يقول بتناسخ الأرواح وبطلان المادة وتجدد الدورات الكونية، ولا يرى حقيقة غير الحقيقة الإلهية المنبثة في الكون كله، ويفهم من كلامه أنه يقول بوحدة الوجود كما يقول بالحلول أي حلول الروح الإلهية في الإنسان حتى يصبح أكثر من إنسان وأقل من إله، كما قال: «هناك أرباب وأناسي، وكائنات مثل فيثاغورث» وأقدم الكائنات عنده أربعة هي: الأب والصمت والعقل والحق، ومن الأولين صدر الاثنان الآخران.

وهو يوصي بالحيوان ويحرم أكل لحمه، ويعتقد أن جسد الحيوان قد يشتمل على روح إنسان يتطهر بالتناسخ حتى يكفر عن آثامه فيلحق بالرفيق الأعلى، وتعفى روحه من عقوبة الرجعة إلى الأجساد.

وليست النار ولا عنصر من العناصر التي حصرها القدماء في النار والتراب والهواء والماء أصلا للموجودات، ولكن العدد هو أصل كل موجود لأنه يلازم الوجود ولا ينفصل عنه كما قد ينفصل عنه اللون أو الثقل أو الحجم أو الكثافة المحسوسة، فالنسب العددية هي مناط الاختلاف بين جميع الأشياء، وهذا الرأي - على ما يبدو من سخفه - هو أقرب إلى الصواب من آراء الفلاسفة الآخرين؛ لأنه يتعزز بالكشوف العلمية عن المادة وسبب الاختلاف بين عناصرها وردها جميعا إلى حركات تتمايز بالنسب العددية في الخلايا والذرات، وكان ديمقريطس يقول مثل قوله في تركيب الأشياء من العدد، ولكنه يخالفه في المادية ويعني بالعدد عدد الذرات الصغيرة التي تتركب منها جميع الموجودات ومنها الأرباب.

صفحة غير معروفة