ويزعمونه قابلا للتفاهم والاتصال بالعرافين والحكماء، ونوع مفرد لا جمع له وليس من الأطياف ولا من الأرواح المتعددة ويسمونه «مولنجو»
Mulungu . لا يمثلونه في وثن ولا تعويذة ولا تفلح فيه رقية الساحر ولا حيلة العراف، وفي يديه الحياة والسطوة ووسائل النجاح في الأعمال، ويصفونه بأعلى ما في وسعهم من صفات التجريد والتفرد والكمال.
وكفار العرب كانوا قبيل البعثة المحمدية يدين أناس منهم بالمسيحية وأناس باليهودية ويذكرون «الله» على ألسنتهم ويسمون أبناءهم بعبد الله وتيم الله، ويعبدون مع ذلك أسلافهم فيقولون إن أصنام الكعبة تماثيل قوم صالحين، كانوا يطعمون الطعام ويصلحون بين الخصوم، فماتوا، فحزن أبناؤهم وإخوانهم عليهم، وصنعوا تلك الأصنام على مثالهم، وعبدوهم من فرط الحب والذكرى، ولكنهم لم يعبدوهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
ووصل المصريون إلى التوحيد، وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة على حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله، فكان أوزيريس هو إله الشمس باسم رع، وهو الإله الخالق باسم خنوم وهو الإله المعلم الحكيم باسم توت وهو في الوقت نفسه إله العالم الآخر وإله الخلق أيضا حيث ينبت منه الزرع ويصورونه في كتاب الموتى جسدا راقدا في صورة الأرض تخرج منه السنابل والحبوب، وكانوا بعد كل هذه الأطوار يرسمون أوزيريس على مثال مومياء محنطة ويردون أصله إلى العرابة المدفونة، كأنهم لم ينسوا بعد عبادة الإله الواحد الخالق للكون كله - عبادة الموتى أو عبادة الأسلاف.
واليهود عبدوا العجل بعد عبادة الله الواحد، وسموا الإله الواحد باسم الجمع وهو في العبرية «الوهيم» أو الآلهة، ثم أصبح الجمع علامة التعظيم. •••
فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه، ولكنه لم يكن على سلم واحد متعاقب الدرجات، بل كان على سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من أخرى، وقد أوجب هذا الاختلاف أن الشعب على حدته لا يطرد في التقدم عقيدة بعد عقيدة، ولا تزال له عقائد شتى قلما يسري عليها حكم واحد في عوامل التطور والارتقاء، وأن الديانات نشأت في شعوب كثيرة لا في شعب واحد، فما تقدم هنا لم يلزم أن يتقدم هناك، وما استعاره شعب من شعب غريب عنه قد يكون أرفع من طبقته التي ارتقى إليها من طبقات الحضارة، فيتفق له في الوقت الواحد ضربان من العبادة أحدهما سابق والآخر متخلف، ويتقهقر السابق أحيانا قبل أن يتقدم المتخلف إليه، وربما سمت قبيلة متخلفة ربا من أربابهم باسم خالق الأشياء جميعا ولم يكن ذلك دليلا على ارتفاع في فهم الربوبية، على ضيق في حصر نطاق المخلوقات وقصرها على الحيز المحدود الذي تعيش فيه القبيلة. •••
إلا أن المشاهدات التي أحصاها علماء المقابلة قد تتوافى كلها إلى نتيجة يجمعون عليها، وهي: أن الإيمان بالأرواح شائع في جميع الأمم البدائية، وأن الأمم التي جاوزت هذا الطور إلى أطوار الحضارة وإقامة الدول لا تخلو من مظاهر العبادة الطبيعية، أو عبادة الكواكب على الخصوص وفي طليعتها الشمس والقمر والسيارات المعروفة، وأن عبادة الأسلاف تتخلل هذه الأطوار المتتابعة على أنماط تناسب كل طور منها حسب نصيبه من العلم والمدنية.
أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبرى، فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو على الآلهة قدرا وقدرة وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتى تزول أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله الأعلى.
لكن الأديان الكتابية - بعد كل هذا - هي التي بلغت بالتوحيد غاية مرتقاه وعلمت الناس شيئا فشيئا عبادة الإله «الأحد» الذي خلق الوجود من العدم ووسعت قدرته على كل موجود في السماوات والأرضين، ولم يكن له شريك في الخلق ولا في القضاء. •••
وذاك التوحيد الإلهي الذي نشأ من توحيد الدولة لم يعرض لخلق الكون كله، ولم يذهب بفكرة التكوين إلى أبعد من خلق الإنسان من مادة موجودة لا حاجة بها إلى موجد، ولما بحثوا في خلق الأرض والسماء كانت فكرة الخلق عندهم بمثابة فكرة التنظيم والتجميل؛ لأنهم نظروا إلى مادة الأرضين والسماوات كأنها حقيقة راهنة ماثلة للحس والنظر في غنى عن المبدع ولا حاجة بها إلى شيء غير التركيب والتنسيق، وفرضوا لتركيبها أسلوبا من الصناعة كأسلوب الإنسان في تركيب مصنوعاته من موادها الحاضرة بين يديه، وظل العقل البشري محصورا في هذا الأفق إلى عهد الديانة الإغريقية قبيل الدعوة المسيحية بل بعد الدعوة المسيحية في بعض الجهات بزمن غير قليل، فلم يكن «زوس» كبير الآلهة خالقها ولا خالق الكون بما رحب من أرض وسماء، ولكنه كان بينها كرب الأسرة بين الأبناء والأحفاد؛ أو كالسيد المطاع بين الأعوان والأتباع، وبلغ من سريان هذه «الحالة العقلية» في الأذهان أن الفلاسفة أنفسهم لم يجهدوا عقولهم في البحث عن أصل للمادة الأولى أو الهيولى، كأن وجودها حقيقة مفروغ منها لا تتوقف على مشيئة خارجة عنها. فلما ترقى الإنسان في فهم الوحدانية الإلهية أصغر من الكون بمقدار ما أكبر من الله، فجاء تفكيره في خلق الكون من طريق تعظيمه لقدرة الله وإفراده بالوجود الصحيح والقدرة السرمدية على الإيجاد فاقتحم بالإيمان بابا لم يقتحمه بالتأمل والتفكير.
صفحة غير معروفة