188

أن الأبدية أو «اللانهائية» ليست مجموعة الحلقات المحدودة؛ لأن مجموع المحدود محدود، وليس امتداد فترة من الفترات بجاعلها في النهاية أو البداية شيئا بلا انتهاء ولا ابتداء ، وإنما الأبد فوق «المحدودات» وليس بمجموعة المحدودة بالغة ما بلغت من التعدد والاستطالة والاتساع، وما كان الأبد شيئا يسبق هذه المسافة من الزمان أو يلحق بتلك المسافة من الزمان، ولكنه شيء يحتوي الزمان والزمان لا يحتويه، أو شيء لا يعد الزمان قطعة منه؛ لأننا إذا أخرجنا هذه القطعة من حسابه لم يخرج منه شيء ولم يكن في موضعها فراغ.

وثالثا:

أن عنصر الأسطورة غير عنصر العقيدة، وعنصر العقيدة غير عنصر الفلسفة أو المعرفة العقلية على العموم، فإن الأسطورة - إذا انعزلت عن العقيدة - لم تكن إلا تشبيها فنيا يعوزه الرخام أو ريشة التصوير، أما الفلسفة فهي معرفة بالكون، وليست كالعقيدة إحساسا بالكون، فقصارى الفلسفة أن يعلم الإنسان أن الله موجود، وليس هذا قصارى التدين أو الاعتقاد، ولو كان هذا قصارى الإنسان من الاعتقاد لأغناه وجود الكون الأعظم وهو موجود لا شك فيه، ولكنه يعتقد بالله ليشعر بالصلة بين نفسه وبين الله وبين الله وبين نفسه، أو ليشعر بأن الله يعطيه الحياة لا بأن الله يأخذ حياته الأبدية منه ومن سائر الكائنات.

فالأسطورة والديانة والفلسفة ليست حلقات متوالية في سلسلة واحدة؛ لأن الأسطورة لا تزال باقية في تعبيرات الشعر والفنون وفي كل تشبيه يراه الخيال في اليقظة أو في المنام، ولأن الفلسفة قد تقول كل ما عندها ولا تستأصل بذلك عنصر العقيدة من الوجدان، وقد تمحو العقيدة أو تفسدها ولا يلزم من ذلك أن تكون بديلا منها أو خطوة تالية لخطوتها، فليست قدرة الفلسفة على تفنيد بعض العقائد دليلا على أنها عقيدة من عنصرها، بل هي دليل على أنها تفسح المكان لعقيدة أخرى لا تبطلها الفلسفة ولا يكون بينها وبين الفلسفة علاقة النقيض بالنقيض.

وفحوى ذلك كله بكلمة موجزة أن الفلسفة والديانة ليستا بالنقيضين، ولكنهما ليستا بشيء واحد، فقد يوجد الشيئان المنفصلان ولا يتناقضان.

على أننا نحاول أن نستخلص من هذه المذاهب جميعا زبدتها التي تستمد من كل واحد منها، فيبدو لنا أنها تفضي بنا إلى نتيجتين واضحتين: فالنتيجة الأولى أنها «تدين » كلها بالتطور أو بالتغير من بساطة إلى تركيب ومن وضيع إلى رفيع.

ولكن لا سبيل إلى التطور ولا التغير إذا كان الكون كله مادة سرمدية لا مصدر لها ولا غاية؛ إذ كل ما فيه اليوم قد كان فيه كل يوم، فإذا لم يكن وراءه عقل يصرفه ويملك مقاديره فلا معنى للتطور فيه، أما تصريف العقل له فلا ينقضه أن تغيب عنا علل التصريف والتقدير؛ إذ اللازم منطقيا أن المادة الأبدية لا تزيد ولا يجد عليها جديد، ولكن ليس من اللازم منطقيا أن نحيط بكل ما يحيط به العقل المدبر لجميع الوجود.

والنتيجة الثانية أن العلوم التجريبية كانت ثورة على العرفان من طريق الفلسفة القديمة وعلى العرفان من طريق المنطق والقياس بغير تجريب، وإن هذه الفلسفات الحديثة جاءت ثورة على العلوم التجريبية وعلى دعوى هذه العلوم أنها دون غيرها مصدر المعرفة الصحيحة بالكون والحياة.

والثورة على الثورة أقرب إلى الإقرار منها إلى الإنكار.

فإذا لاح للوهلة الأولى أن هذه المذاهب الفلسفية إمعان في إنكار العقيدة والإيمان فالنظرة التالية قد ترينا فيها مغزى غير ذلك المغزى واتجاها غير ذلك الاتجاه.

صفحة غير معروفة