ومن هذه اللوازم الطوطمية يرجح المخالفون لهذه الفكرة أن الطوطمية لم تكن أصل العقيدة الدينية؛ لأنها تنشأ بعد اتساع القبائل واعترافها بأنظمة الزواج وآداب المعاملات، وليست هذه المرحلة أولى المراحل في تطور الاعتقاد.
ولا شك أن الناس قد عرفوا شيئا يسمى «الروح» يحل في جسد الحيوان أو يتلبس به قبل أن يعرفوا الطوطمية، وعرفوا كذلك تقديس الأسلاف قبل أن يعرفوها، وقد وجدت قبائل شتى تتخذ الطواطم وتعبد أربابا غيرها، ووجدت قبائل لا تخلع على الطواطم صفة الأرباب على الإطلاق. •••
والفيلسوف الفرنسي - هنري برجسون - يرجع بالعقيدة الدينية إلى مصدرين: أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله، والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة.
فالحاسة الدينية الاجتماعية هي «حيلة نوعية» يلجأ إليها خيال النوع الإنساني لكبح الأثرة الفردية وإقناع الإنسان بنسيان مصالحه في سبيل المصالح الكبرى التي تتعلق بها حياة النوع في جميع الأحوال، فإن الإنسان لو استوحى عقله وحده خدم نفسه وأطاع لذته، ولم يحمل الألم ولا الخسارة من أجل أبناء نوعه، ولما كانت إرادة الحياة مستكنة في النوع كما هي مستكنة في آحاده على انفراد نشأت من الغريزة النوعية ملكة يسميها برجسون بملكة الخرافة الرمزية أو ملكة الأساطير، وتكفلت للإنسان بخلق العوض الذي يستعيض به عن منافعه ولذاته حين يهجرها لمنفعة نوعه، فاعتقد الجزاء بعد الحياة، وأحس أنه محاسب على الإضرار بغيره، مثاب على الخير الذي يسديه إلى أبناء نوعه، واقترنت فيه أثرة الفرد بأثرة النوع، فاستقامت على التوازن بينهما مصلحته ومصلحة الناس أجمعين.
أما الحاسة الدينية في الفرد الممتاز فهي الإلهام أو الكشف الذي يصل بينه وبين قوة الخلق أو دفعة الحياة
Elan Vital
كما يسميها برجسون، وقد تطورت دفعة الحياة هذه في ذهن الفيلسوف حتى أصبحت في كتبه الأخيرة «ذاتا» إلهية تغير ولا تتغير، ولكنها كونية غير منفصلة عن هذه الموجودات، وهي تتجلى على أكملها وأوضحها في بديهة النخبة المختارين من كبار العباقرة الروحانيين، وهم خالدون كما يرجح الفيلسوف أو أن خلودهم مسألة لا يمنعها العقل ولا يبعد أن تحققها الدراسات النفسية بالأسانيد العلمية، ولو بعد حين.
ويسأل السائل هنا: إذا كانت للخلق قوة كونية تتجلى لبعض الملهمين فلماذا تكون الحاسة الدينية الاجتماعية وهما مختلفا أو خرافة مزخرفة أو اختراعا لا أساس له غير الحيلة النوعية لحفظ البقاء؟ لماذا لا تكون من قبيل «التلمس» البديهي لتلك القوة الكونية؟ لماذا لا تكون في هذا «الوجود» ذات إلهية ثم نسمي البحث عنها حيلة مختلفة أو وهما من الأوهام؟ •••
وممن يسمع لهم رأي راجح في مباحث العقيدة إمام علماء اللغات المحدثين «ماكس موللر» صاحب الرأي المعدود في اشتقاق اللغات ومعاني الأساطير وعلاقتها بالعقائد والعبادات، فهو يؤمن بأن «البصيرة» هبة عريقة في الإنسان، وأننا كما قال - في كلامه على مقارنة الأساطير: «مهما نرجع بخطوات الإنسان إلى الوراء لن يفوتنا أن نتبين أن منحة العقل السليم المستفيق كانت من خصائصه منذ أوائل عهده، وأن القول بإنسانية متسلسلة على التدريج من أعماق البهيمية إنما هو قول لن يقوم عليه دليل.»
ومصداقا لهذا الرأي يرجح موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذي ليس له انتهاء، وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراه في الكون وهو الشمس التي تملأ الفضاء بالضياء، فهي محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقابلة بين اللغات واللهجات.
صفحة غير معروفة