103

فالإيمان بالله على تلك الصفة فتح جديد لرسالة السيد المسيح لم يسبقه إليها في اجتماع مقوماتها رسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين، ولم تكن أجزاء مقتبسة من هنا وهناك، بل كانت كلا متجانسا من وحي واحد وطبيعة واحدة، وإن وجدت هذه الأجزاء متفرقة هنا وهناك قبل ذاك.

الإسلام

مضى على مولد السيد المسيح نحو ستة قرون قبل ظهور الإسلام، تشعبت في خلالها المذاهب المسيحية بين قائل بطبيعة واحدة للسيد المسيح وقائل بطبيعتين اثنتين: هما الإنسانية والإلهية، وبين مؤله للسيدة مريم ومنكر لهذا التأليه، وبين مفسر لبنوة السيد المسيح بأنه ابن الله ولكنها بنوة على المجاز بمعنى القرب والإيثار على سائر المخلوقات، وقائل بأن السيد المسيح هو ابن الله على الحقيقة التي يفهمها المؤمن على نحو يليق بالذات الإلهية.

وتسربت هذه المذاهب جميعا إلى الجزيرة العربية مقرونة بالبراهين الجدلية التي يستدل بها كل فريق على صحة تفسيره وبطلان تفسير معارضيه، وكان كثير من تلك البراهين مستمدا من المنطق ومذاهب حكماء اليونان، فإن أوريجين ونسطور وآريوس أصحاب الآراء الفلسفية واللاهوتية التي جاءت بها الفرق المختلفة كانوا من المطلعين على الفلسفة الإغريقية والملمين على التخصيص بآراء هيرقليطس وأفلاطون وأرسطو وزينون.

وقد عرف العرب أطرافا من هذه المذاهب بعد هجرة المهاجرين منهم إلى العراق وسورية وفلسطين، كما عرفوها بعد هجرة المهاجرين إلى بلادهم من رهبان تلك الأمم وتجارها وسائحيها، وهم غير قليلين.

وتسربت مذاهب اليهودية قبل ذلك إلى أنحاء الجزيرة العربية، ولم تزل تتسرب إليها بعد ظهور المسيحية واحتكاك اليهود بالنصارى في جوانب الدولة الرومانية، وكانت لليهود مذاهب في الدين تمتزج بالفلسفة حينا وبالتأويلات اللاهوتية حينا آخر، على مثال الامتزاج بين مذاهب المسيحية وأقوال الفلاسفة واللاهوتيين.

وكانت جزيرة العرب على اتصال لا ينقطع بالفرس ومن جاورهم من أمم المشرق ولا سيما في بلاد البحرين وبلاد اليمن على الشواطئ وفي داخل الصحراء العامرة، فنقل الفرس إلى تلك الأصقاع هياكل النار وعبادة الكواكب وغيرها من بقايا الديانة المجوسية.

ولم يتلق العرب النصرانية من مصدر واحد أو من مصدر الشمال دون غيره، فقد كانت للحبشة نصرانية ممزوجة بالوثنية التي تخلفت من عقائدها الأولى، وكان يهود الحبشة على شيء من الوثنية يختلط بعقائد المجوس وعقائد الأحباش والعرب الأقدمين.

ودان قليل من العرب بهذه الديانات على أوضاعها الكثيرة التي يندر فيها الإيمان بالوحدانية الخالصة وعقيدة التنزيه والتجريد. أما الأكثرون منهم فكانوا يعبدون الأسلاف في صور الأصنام أو الحجارة المقدسة، وكانوا يحافظون على هذه العبادة السلفية كدأب القبائل جميعا في المحافظة على كل تراث من الأسلاف ولكنهم كانوا يعرفون «الله» ويقولون أنهم يعبدون الأصنام ليتقربوا بها إلى الله.

فلما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية كان عليه أن يصحح أفكارا كثيرة لا فكرة واحدة عن الذات الإلهية، وكان عليه أن يجرد الفكرة الإلهية من أخلاط شتى من بقايا العبادات الأولى وزيادات المتنازعين على تأويل الديانات الكتابية.

صفحة غير معروفة