وقد وجد عند بني إسرائيل كفاية وفوق الكفاية من كلامهم عن إله الشرائع وإله الخلق وإله هذا الشعب من الشعوب دون سائر بني الإنسان، فذكرهم بالله الذي يرعاهم فوق رعاية الأب الرحيم، وعليهم أن يثقوا به فوق الثقة بسعيهم في طلب المال والحيلة في تحصيل المعاش: «أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن، وأبوكم السماوي يقوتها ... ألستم أنتم أحرى بالتفضيل عليها؟ من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو وهي لا تتعب ولا تغزل، وسليمان في كل مجده لا يلبس كواحدة فيها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله ذلك اللباس أفليس أحرى أن يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟!»
وعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم قول السيد المسيح حين قال: «ما جئت لأنقض على الناموس بل لأكمله»، وحين جاءوه بالزانية فقال لهم: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر»، فإنه لم يأت بإلغاء الشريعة ولا بإسقاط الجزاء، ولكنه نقل الإيمان بالله من الحرف إلى المعنى، ومن القشور إلى اللباب، ومن ظواهر الرياء إلى حقائق الخير الذي لا رقابة عليه لغير الضمير، ورأى عند اليهود ما هو حسبهم من شرائع الأنبياء وشرائع الرومان فقال لهم: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وذكرهم بجانب الرحمة والإحسان وقد نسوه، ولم يذكروا غير جانب الغضب والقصاص.
وقد أشار السيد المسيح إلى نفسه بتعريفات كثيرة رواها عنه كتاب الأناجيل، فكان إذا تكلم عن نفسه قال: «أنا ابن الإنسان» أو: «أنا نور العالم» أو: «أنا خبز الحياة» أو: «أنا الطريق والحق والحياة» أو: «أنا القيامة والحياة» أو: «أنا الراعي الصالح، وأنا المعلم والسيد» أو: «أنا الكرمة الحقيقية.» ولم يذكر نفسه باسم المسيح ولكنه بارك الحواري بطرس حين سماه به، وقال له إنه اهتدى إلى حقيقته بنفحة من نفحات الروح.
ولم تكتب هذه الأناجيل في عصر السيد المسيح بل بعد عصره بجيلين، ولكن مواضع الاتفاق فيها تدل على رسالة واحدة صدرت من وحي واحد، ويؤكد لنا وحدة هذه الرسالة أن فكرة الله فيها لا تشبهها فكرة أخرى في ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية، فقد كانت هناك ديانات طافحة بالشعائر الخفية والمراسم التقليدية، وكانت هناك ديانات تفهم العلاقة بين الله والإنسان كأنها ضرب من علاقة الحاكم بالمحكوم أو الصانع بالمصنوع أو العلة بالمعلول، ولكن الفكرة المسيحية التي قررتها الأقوال المتفقة في الأناجيل تتميز كل التميز عن مجمل الأفكار الإسرائيلية أو الأفكار الهندية والمجوسية أو أفكار المؤمنين بعقائد الفلسفة أو العقائد السرية، فالعلاقة بين الإنسان وخالقه في بشارة السيد المسيح هي العلاقة بين الروح ومصدرها وبين الحياة وينبوعها، بين المكفول وكافله، وبين الرعية وراعيها، ولم تتفق هذه الصفة في ديانة واحدة من ديانات ذلك العصر كما اتفقت في الديانة المسيحية، وهي في رأينا علامة جوهرية لا تقل في قوتها عن أسانيد التاريخ التي تبطل شكوك المترددين في وجود السيد المسيح.
وإنما طرأت الشبهة على أذهان أولئك المترددين من تماثل بعض الشعائر على النحو الذي أجملناه في نقدنا لكتاب إميل لدفج عن السيد المسيح حيث نقول: إن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها، حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة المثرية؛ إذ كان الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم مبدأ الانقلاب الشمسي بدلا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث، وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي «تعمد» فيه السيد المسيح، على أن هذا اليوم أيضا كان عيد الإله ديونيسيس عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد أوزيريس عند المصريين، ولا يزال متخلفا في العادات المصرية إلى اليوم، ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة - وكان يوافق السادس من شهر يناير في التاريخ القديم - كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم، ولا يزالون يحتفلون به في عصرنا هذا باسم عيد الغطاس، وقد اتخذت المسيحية اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارا لآلام السيد المسيح قبل الصلب، وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله أتيس إله الرعاة المولود من نانا العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي جب نفسه في هذا الموعد ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة.
وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسما مختارا لأمهات كثير من الآلهة والقديسين مثل أدونيس ابن ميرة وهرمز ابن مايا وفيروش ابن مريانا وموسى ابن مريم وبوذا ابن مايا وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذات معينة.
ومما يجري في هذا المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حوريس كانت رمزا في الكنائس الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر وكان اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ماريس
Stella Maris
فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه في الأسماء، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان بعض الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس والمصريون يعتقدون في رع والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس وأوزيريس إن الحمل يحصل في هذه الأحوال من الأذن وهو ما يفسر صورة العذراء في القرون الوسطى؛ إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى إحدى أذنيها. وقال ترتوليان إن شعاعا سماويا هبط على العذراء فحملت بالسيد المسيح. أما التفكير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، وأقربه إلى مواطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته وبعثه في أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات فكن يندبنه على باب الهيكل وأنبهن على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن رجلا يسمى يسوع قتل وعلق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة.
والعشاء الرباني كان معروفا في عبادة مترا على الطريقة التي عرف بها في المسيحية ، بل الخبز الذي يتناوله عباد مترا في ذلك العشاء يصنع على شكل الصليب، وقد أسف جوستن مارتر في سنة 140م لهذه المشابهة وعدها مكيدة شيطانية لتضليل المؤمنين.
صفحة غير معروفة