حسنا، بعد ظهور الآلهة كيف قام هؤلاء بترتيب أمورهم وتوزيع الصلاحيات فيما بينهم؟ لا شك في أن مجمع الآلهة الذي يرأسه كبيرهم كان الخطوة الأولى في هذه العملية؟ (ج):
مجمع الآلهة هو ناتج سياسي متأخر قليلا؛ ففي مطلع عصر الآلهة كان الأصل في الحياة الدينية هو معتقد بسيط خاص ببلدة ما أو مدينة وما يتصل به من طقوس وأساطير، ومثل هذا الشكل ندعوه عبادة
Cult ، وغالبا ما تتركز الحياة الدينية في مؤسسة العبادة حول إله واحد أو حول ثنائي إلهي يتألف من ذكر وأنثى، فإذا حصل تقارب وتفاعل وتمازج بين مجموعة من البلدات والمدن والقرى التي تدور في فلكها، والتي تتشارك العيش في منطقة جغرافية معينة، وشكلت فيما بينها إثنية متميزة، تداخلت عباداتها وتمازجت، نجم عن ذلك ما ندعوه بدين الشعب، وصار أهل العبادة الواحدة يوقرون آلهة العبادات الأخرى مع تركيزهم على عبادة إلههم الخاص، ثم إن دين الشعب أخذ شكله الأخير الثابت عندما نشأ كيان سياسي وحد بين هذه الجماعات وجمع آلهتها في هيئة عليا تدعى مجمع الآلهة الذي يرأسه كبير الآلهة، والذي غالبا ما كان إله السماء. ولغرض التوضيح أسوق فيما يأتي مثالا مستمدا من الثقافة السومرية.
ففي وادي الرافدين الجنوبي خلال العصر السومري الذي ابتدأ في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، نشأت اثنتا عشرة بلدة تحولت تدريجيا إلى مدن، وكان لكل مدينة إلهها الخاص؛ فقد عبد الإله شمش في مدينة سيبار، وعبد الإله سن في مدينة أور، وعبدت إنانا في مدينة أوروك، وعبد إنليل في مدينة نيبور ... إلخ، ثم إن هذه العبادات أخذت بالتقارب والتداخل إلى أن قامت في مدينة أور أسرة ملكية عملت على توحيد المدن السومرية في كيان سياسي واحد، وهي الوحدة التي رسخت الملامح الثابتة لمجمع الآلهة السومري الذي يرأسه إله السماء «آن»، ويبرز فيه الثالوث الأقدس «آن وإنليل وإنكي». (س):
لماذا نجد لإله السماء هذه المكانة العالية التي تخوله رئاسة مجمع الآلهة؟ وهل نجد ذلك في بقية ميثولوجيات الشرق القديم؟ (ج):
إن قبة السماء الزرقاء باتساعها وعمقها وعلوها أثارت منذ القديم عواطف دينية غامضة. ونظرا لأنها تغطي الأرض من جميع جهاتها وترتفع فوق كل ما يجري في الأسفل، فقد شعر الإنسان بأنها تمارس سلطة وقوة على كل ما يقع تحتها، وكان إلهها هو الإله الأعلى شأنا ومرتبة. هكذا كان الحال في الميثولوجيا السومرية والبابلية من بعدها، وكذلك في الميثولوجيا الكنعانية حيث نجد «إيل» إله السماء هو رئيس مجمع الآلهة. وفي جزيرة العرب حيث لم ينتج الفكر الديني مجمعا للآلهة، كان الله إله السماء الأعلى شأنا بين جميع الآلهة، ولكن الأمور لا تدوم على هذه الحال بالنسبة إلى إله السماء، ففي الميثولوجيا السومرية نجد الإله إنليل يقوم بالاستيلاء على معظم صلاحيات إله السماء آن، وهو الذي يقوم بفعل الخلق عندما فصل السماء عن الأرض وأظهر معالم الكون، ولم يبق للإله آن سوى الرئاسة الاسمية. وفي بابل لم يكن إله السماء آنو هو رئيس المجمع خلال العصر الإمبراطوري، وإنما مردوخ الذي أوكلت إليه مهمة خلق العالم. فإذا انتقلنا لغرض المقارنة إلى الثقافة اليونانية، نجد أنه في البدء لم يكن سوى العماء أو الشواش البدئي، ظلمة وامتداد بلا نهاية، وكان أول الآلهة ظهورا من هذا العماء هي الأرض/الأم المدعوة جايا، وبعدها إيروس الحب الجنسي، ثم إن جايا أنجبت دون زوج بكرها السماء أورانوس وتزوجته، وأنجبت منه الجيل الأول من الآلهة وهم التيتان، ومنهم كرونوس الذي انقلب على أبيه وخصاه وحل محله، ولكنه ما لبث حتى وقع في شر أفعاله عندما ثار عليه ابنه زيوس وحل محله. (س):
هذه النقلة من مبدأ القوة إلى قوة الآلهة المشخصة، هل حصلت في جميع الثقافات؟ ألم يبق من مبدأ القوة أي أثر في عصر الآلهة؟ (ج):
هذا السؤال يعيدنا إلى الثقافة الصينية التي بقي فيها مبدأ القوة متعايشا مع الآلهة المشخصة؛ فالآلهة الصينية في المعتقدات التقليدية لم تقطع صلتها تماما بماضيها كأسلاف مقدسة، ولم تكتسب تماما خصائص الآلهة المتعالية على البشر وعلى الطبيعة. وتظهر السير الأسطورية لهؤلاء الأسلاف كيف ابتدأ أمرهم كرجال صالحين على الأرض، ثم جرى تأليههم وعبادتهم فيما بعد؛ ولهذا فإن الآلهة الصينية على كثرتها لا تبدو لنا كشخصيات ذات ملامح واضحة ووظائف دائمة، وإنما ككيانات شبحية لا تتمتع بخصائص ذاتية، وتكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله؛ ذلك أن المنصب الإلهي هو الثابت، أما شاغلوه فمتغيرون. ولغرض إيضاح هذه النقطة أقول بأن الإله «سن» أو «نانا» بقي إلها للقمر في الثقافة الرافدينية طيلة تاريخ الشرق القديم (ثلاثة آلاف عام)، وشمش بقي إلها للشمس، وإنليل بقي إلها للهواء، وقس على ذلك بخصوص بقية الآلهة في ثقافات الشرق القديم، وفي الثقافة اليونانية-الرومانية. أما في الثقافة الصينية فنجد أنه في كل إقليم من الأقاليم الصينية العديدة يجري توزيع الوظائف والاختصاصات بين الآلهة؛ مثل تصريف الرياح وقدح البرق وإنزال المطر بشكل مختلف عن الإقليم الآخر، وقد يتم في إقليم ما ترقية أحد الآلهة إلى مقام أعلى، أو تخفيض مرتبته أو حتى صرفه من الخدمة نهائيا. أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية فهو مفهوم مجرد عن الألوهة يتمثل في قوة السماء التي عبدت منذ مطلع العصور التاريخية الصينية تحت اسم شانغ-تي/
Shang Ti
خلال عصر أسرة شانغ، ثم تحت اسم تي يين/
صفحة غير معروفة