هل يستقيم المعنى إذا استعملنا كلمة تقديس بدلا من كلمة عبادة؟ (ج):
العشيرة الطوطمية لم تكن تقدس الحيوان الطوطمي، وإنما شارة القداسة المستمدة من صورته. وهم عندما يقومون بطقوسهم لا يفعلون ذلك في البرية أمام الحيوان الطوطمي، بل في المكان الذي يحتفظون فيه بصورة الطوطم. ولكن لنقل إن الحيوان الطوطمي يتمتع بنوع من الاحترام لدى العشيرة؛ فصيده محرم على أفرادها إلا في حال التعرض للمجاعة أو حال الدفاع عن النفس إذا كان من الحيوانات المفترسة، ولكن بقية العشائر تستطيع صيده وأكله بحرية. إن الاعتقاد الساذج بأن الطوطمية هي نوع من عبادة الحيوانات هو اعتقاد لا أساس له، وقد ترسخ نتيجة للكتابات المبكرة المتعجلة التي قدمت للجمهور من أجل تعريفه بالطوطمية. (س):
حسنا، إذا كانت هذه النتائج المستمدة من دراسة سكان أستراليا الأصليين صحيحة، فينبغي لها أن تنطبق على الشعوب البدائية الأخرى. أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فبعد قراءتي لكتاب دوركهايم اتجهت لدراسة معتقدات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وسكان جزر المحيط الهادي (ميلانيزيا وبولونيزيا)، وأفريقيا السوداء. ووجدت فيها ما كنت أتوقعه؛ فلدى الميلانيزيين على سبيل المثال اعتقاد بوجود قوة تتخلل المظاهر المادية أطلقوا عليها اسم «مانا»، وهذه القوة غير مادية وفوق طبيعانية، إلا أنها تتبدى بشكل مادي وتحدث آثارا مادية. وتقوم ديانة ميلانيزيا على طريقة التعامل مع تلك القوة التي تتبدى في وجهين؛ الأول إيجابي يتمثل بفعاليتها في مظاهر الطبيعة الحية والجامدة، والثاني سلبي ويتمثل في احتمالات الأذى الكامنة فيها وضرورة مراقبتها بحذر. (س):
وكيف طبقت هذه النتائج على مجتمعات العصور الحجرية المنقطعة عنا زمنيا؟ (ج):
إن دراسة عقائد إنسان ما قبل التاريخ ليست بالمهمة السهلة؛ لأن الباحث هنا لا يستطيع القيام بزيارات ميدانية لتلك الجماعات ليتفقد أحوالها ويراقب طقوسها الدينية، كما يفعل علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في دراستهم لأحوال الشعوب البدائية المعاصرة، ولكن لحسن الحظ فقد تركت لنا جماعات العصور الحجرية بقايا مادية تساعدنا على الولوج إلى وسطها الفكري؛ مثل الرسوم والمنحوتات الصغيرة، وتشكيلات يدوية لا تنبئ عن قيمة استعمالية ما، وبقايا دفن تدل على طقوس جنائزية معينة، وهذه الشواهد تبدأ بالتوضح في عصر النياندرتال الذي ترك لنا بقايا دفن تدل على إيمانه بأن روح المتوفى سوف تتابع حياتها في عالم آخر، وبقايا أخرى تدل على إيمانه بوجود قوة قدسية منبثة في هذا العالم. وقد عبر عن حضور تلك القوة من خلال شارة القداسة المستمدة من وسطه الطبيعي، وهي جمجمة الدب الذي كان أقوى الحيوانات في ذلك الوسط الجليدي الذي عاش فيه النياندرتال، قبل أن ينحسر الجليد عن نصف الكرة الشمالي. وقد وجدت جمجمة الدب هذه معروضة بشكل مقصود في عدد من كهوف ذلك العصر، وبشكل يدل على أنها كانت مركزا لطقوس دينية معينة.
فإذا جئنا إلى عصر الإنسان العاقل، نجد أنه قد عبر عن حضور القوة السارية من خلال عدد لا يحصى من الرسوم التي نفذها على جدران كهوف مظلمة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر دهاليز ضيقة وطويلة. وقد تم حتى الآن الكشف عن مائة من هذه الكهوف في المنطقة الأوروبية، وجميعها لم تكن مخصصة للسكن، وإنما لأداء طقوس دينية أمام شارة القداسة التي تعبر عنها صور الثور البري والثور الأمريكي (البيسون) والحصان والوعل. ولقد نفذ الإنسان العاقل هذه الرسوم لا باعتبارها حيوانات تنتمي إلى فصائل معينة، وإنما باعتبارها مفردات في لغة رمزية، ورداء لقوة ماورائية وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان على المستوى الطبيعاني. وهذا يعني أن ديانة العصر الحجري القديم سواء عند النياندرتال أو الإنسان العاقل كانت نوعا من الطوطمية المبكرة كما شرحتها آنفا. (س):
ولكن نظريتك هذه في ديانة العصر الحجري، والتي بسطتها بشكل رئيسي في كتابك «دين الإنسان» على ما أذكر لا تتفق مع ما أوردته في كتابك السابق «لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة»؛ ففي لغز عشتار لا نجد أثرا لفكرة القوة السارية وأسبقيتها على الآلهة، ولا لشارة القداسة الحيوانية. وفي المقابل فقد ركزت على المنحوتات الصغيرة التي تمثل هيئة أنثوية عارية دعوتها بالأم الكبرى للعصر الحجري، واعتبرتها أول معبودات الإنسان. (ج):
هذا صحيح إلى حد ما؛ فقد كنت حينها واقعا تحت تأثير الأفكار السائدة التي لا ترى دينا إلا عندما ترى آلهة، ولكن الفارق بين ما أوردته في الكتابين ليس على درجة واسعة من الاختلاف؛ ذلك أن إنسان العصر الحجري القديم الذي عبر عن حضور القوة من خلال شارة القداسة الحيوانية، قد رأى أن هذه القوة ذات طبيعة أنثوية، وعبر عن ذلك من خلال المنحوتات الصغيرة التي يدعوها الباحثون الغربيون ب «فينوسات العصر الحجري»، وأدعوها أنا ب «الدمى العشتارية»؛ فإلى جانب رسوم الكهوف فقد عبر الإنسان العاقل عن أفكاره الدينية من خلال دمى مصنوعة من مواد طبيعية متنوعة تمثل هيئة أنثوية عارية، لا يزيد طول أكبرها عن 20 سم. وقد ساد هذا الفن في أوروبا على طول محور أفقي يمتد من جنوب روسيا إلى أطراف جبال البيرينيه، وأنتج لنا دمى متماثلة إلى حد بعيد؛ فالرأس يتخذ شكل كتلة غير متمايزة مع غياب تام لملامح الوجه، والجسد يتخذ شكلا مغزليا مستدق الطرفين مع مبالغة في تضخيم مناطق الخصوبة (الثديين والبطن والوركين)، والقدمان غائبتان تماما، والذراعان نحيلتان جدا في وضعية الاستناد إلى الثديين. هذه السمات تدل على أن الفنان لم يكن يمثل جسدا أنثويا واقعيا، وإنما كان يعبر عن فكرة، وأن الدمية لم تكن سوى رسالة بصرية تشبه من حيث المضمون رسالة فن الكهوف. إنها شارة مقدسة تستحضر قوة ماورائية فاعلة في الطبيعة وذات خصائص أنثوية، وليست صورة لإلهة بعينها. (س):
إلى متى استمر دين الإنسان يقوم على مبدأ القوة السارية؟ (ج):
صفحة غير معروفة