نفهم من كل ما سبق أن براهمان ليس إلها بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، أليس كذلك؟ (ج):
نعم، إنه ليس إلها وبالتالي فهو بلا صفات؛ أي إننا لا نستطيع التحدث عنه على أنه كذا وكذا، بل على أنه ليس بكذا وليس بكذا، ودائما بصيغة النفي لا بصيغة الإثبات. (س):
فكيف يفعل في العالم إذا كان بلا صفات؟ أعني إذا لم يكن: الخالق، القادر، المنعم، وما إلى ذلك؟ (ج):
لقد حلت عقيدة وحدة الوجود مشكلة كيف يمكن لبراهمان الذي لا ماهية له ولا فعل أن ينتج عالما من الصور المرئية والمتغيرة، من خلال قولها بوجود حالين لبراهمان هما حال الخفاء حيث لا أسماء ولا صفات، وحال التجلي حيث تلحق بالألوهة الأسماء والصفات، الأولى براهمان نرغونا، والثانية براهمان ساغونا، وقد حقق براهمان هذه النقلة بين الحالتين بواسطة قوته الخلاقة مايا التي أنتجت الإله الخالق الذي يعيد خلق العالم بعد فنائه في كل دورة. وهذا الإله الخالق هو قناع براهمان الذي يتوجه الناس إليه بالعبادة، وعنده تقف أفهامهم، إلا من شاء اجتياز بحار الوهم والتعرف على ما وراء القناع . (س):
هذا يشبه قول الغنوصيين بوجود الأب النوراني الأعلى الذي لا علاقة له بالعالم، والديميرج الإله الصانع الذي خلق العالم ، أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فدروب العقل الإنساني تلتقي كلما افترقت، وقد حل التصوف الإسلامي أيضا، في شقه الفلسفي الذي يمثله عبد الكريم الجيلي ومحيي الدين بن عربي، مشكلة صدور العالم عن ذات الله التي لا صفات لها ولا أسماء من خلال تصورات مشابهة لتصورات وحدة الوجود في الهندوسية. يقول الجيلي في كتابه الإنسان الكامل - على ما أوردت في محور الغنوصية - إن الأصل في الألوهة هو الكمون والغنى عما سواها؛ فذات الله عبارة عن نفسه التي هو بها موجود لأنه قائم بنفسه، وهو وجود مطلق لا ظهور فيه لاسم أو نعت أو إضافة؛ ولذلك ارتفع من حيث الاصطلاح معناه في الكلام، وانتفى أن يدرك للأنام. المتكلم في ذات الله صامت والناظر باهت، ولكن الألوهة تخرج من كمونها وغناها في علاقتها بالعالم وتتجلى على مراتب؛ الأولى هي مرتبة الأحدية التي تظهر فيها الممكنات جميعا ولكن بحكم البطون، فكل ما سيظهر للوجود فيما بعد كان في حيز الممكن الثابت في الذات الإلهية لا في حيز الوجود المتحقق؛ فهنا يتجلى المطلق في نفسه ولنفسه، وتتأمل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات والإضافات. والثانية هي مرتبة الألوهة التي تظهر فيها الأسماء والصفات، والله اسم لرب هذه المرتبة، وكل الأسماء والصفات واقع تحت هذا الاسم الذي يبصر به الحق نفسه وبه يتوصل الخلق إلى معرفته. الثالثة هي مرتبة الرحمانية، وهنا تدخل الألوهية مرحلة الخلق وتتجلى كقدرة خالقة لكل مظاهر الكون. إلا أن الخلق هنا ليس خلق صانع ماهر، وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق دون أن تفقد وحدتها، فالله يظهر في الموجودات ولكنه لا يتعدد بتعدد مظاهره بل هو واحد في تلك المظاهر جميعها. المرتبة الأخيرة هي الربوبية، والرب اسم لهذه المرتبة، وهي مختصة بعالم الخلق، فإذا كانت الذات تمثل بطون الألوهة وغناها عما عداها، فإن الربوبية هي ظاهر الألوهة الذي يتجه نحو عالم الخلق.
وكما أن خروج الألوهة من كمونها يتم عبر مراتب متتابعة للتجلي، كذلك يتم تواصل الإنسان مع عالم الألوهة عبر المراتب نفسها وبما يتلاءم واستعداد كل فرد؛ فعامة الناس يبقون عند ظاهر الألوهة يتعبدون لله تعالى من حيث اسمه الرب إله الشرائع، وفوقهم العارفون الذين يعبدونه من حيث اسمه الرحمن، وفوقهم المحققون الذين يعبدونه من حيث اسمه الله. (س):
يشعر المرء في قراءته للجيلي أنه قدم صيغة إسلامية لوحدة الوجود الهندوسية. (ج):
هذا صحيح؛ فالعقول الإنسانية تلتقي في النهاية دونما ضرورة لاتصال مباشر، والمتصوفة ينطلقون من بيئات ثقافية متنوعة ليصلوا في النهاية إلى رؤى مشتركة. (س):
في عقيدة التناسخ تلعب الأخلاق الدور الأهم، أما في عقيدة وحدة الوجود فإن العرفان هو الأهم. كيف وفق البراهمة بين العقيدتين؟ وأيهما الأجدى بالنسبة إلى الساعي إلى الانعتاق، الأخلاق أم العرفان؟ (ج):
صفحة غير معروفة