الحذر من السحر

الناشر

مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان

مكان النشر

الرياض

تصانيف

الحذر من السحر تأليف د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي

صفحة غير معروفة

مقدمة الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ خُبْرًا، وَنَشَرَ رَحْمَتَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ نَشْرًا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ؛ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْعَدَ الْكَافِرِينَ، وَأَضَلَّ الظَّالِمِينَ، وَأَسْبَلَ عَلَى الْعَاصِينَ سِتْرًا، ﷾ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، أَحْمَدُهُ جَلَّ وَعَلاَ أَبْلَغَ حَمْدٍ وَأَزْكَاهُ سِرًّا وَجَهَرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَدَّخِرُهَا لِيَومِ الْفَصْلِ ذُخْرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَزْكَى الْوَرَى طُرًّا، اصْطَفَاهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بِشَارَةً وَنُذْرًا، وَامْتَنَّ عَلَيْهِ فَشَرَحَ لَهُ صَدْرًا، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرًا، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرًا. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» (١)، فَصَلاَةُ رَبِّي وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ تَتْرًا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَتَابِعِيهِمْ، وَعَظِّمِ اللَّهُمَّ لَهُمْ أَجْرًا. أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ مِمَّا يَسْتَهْوِي النَّفْسَ، وَتَعْظُمُ الرَّغْبَةُ إِلَيْهِ، تَشُوُّفَهَا لِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَالَمُ مِنْ أَسْرَارٍ مَخْزُونَةٍ وَعُلُومٍ مَكْنُونَةٍ، وَهِيَ تَسْعَى جَاهِدَةً إِلَى تَلَمُّسِ مَعَالِمِ ذَلِكَ الْمَسْتُورِ، مَا اسْتَطَاعَتْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَتَتَشَعَّبُ بِهَا الْمَسَالِكُ، تَارَةً بِالْحَدْسِ وَأُخْرَى بِالْكَهَانَةِ، وَطَوْرًا بِالْعِرَافَةِ وَالتَّنْجِيمِ، وَآخَرُ بِالسِّحْرِ وَالتَّسْخِيرِ، حَتَّى إِنَّكَ لَتَجِدُ أَنْفُسًا انْحَدَرَتْ فَاسْتَخَفَّتْ بِعُقُولِ أَهْلِهَا، فَسَوَّلَتْ لَهُمْ تَلَمُّسَ الْغَيْبِ بِقَرَاءَةِ كَفٍّ،

(١) جزء من حديث أخرجه مسلم؛ كتاب الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم (٣٨٤)، عن عبد الله بن عمرو ﵄.

1 / 5

أَوْ تَبْصِيرٍ بِفُنْجَانٍ، أَوْ بَلَغَتْ فِي شَطَطِهَا أَنِ ادَّعَتْ تَحَكُّمًا بِالْقَدَرِ، بِمَا وَسِعَ عِلْمُهَا مِنْ أَسْرَارٍ لِحُرُوفٍ، أَوْ خَوَاصٍّ لأَِرْقَامٍ، أَوْ أَشْكَالٍ لأَِوْفَاقٍ، أَوْ رُسُومٍ طِلَّسْمِيَّةٍ، وَخُطُوطٍ رَمْلِيَّةٍ!! فَلَمْ يَدَعْ أُوْلَئِكَ الدَّجَاجِلَةُ مَسْلَكًا فِي تِلْكَ الْغِيَاهِبِ إِلاَّ سَلَكُوهُ، ضَارِبينَ عُرْضَ الْحَائِطِ بِمُسَلَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَمُغْمِضِينَ طَرْفًا عَنْ مَغَبَّةِ مَا اشْتَرَوْهُ في دُنْيَاهُمْ قَبْلَ خِزْيِهِمْ في عُقْبَاهُمْ. هَذَا، وَإِنَّ مِمَّا يَبْلُغُ بِهِ العَجَبُ كُلَّ مَبْلَغٍ أَنَّكَ إِذَا وَلَجْتَ بَعْضًا مِنْ دُوْرِ الكُتُبِ، أَوْ سَارَتْ بِكَ قَدَمَاكَ مُعْتَلِيَةً أَرْصِفَةَ الطُّرُقِ، لَوَجَدتَّ كَمًّا هَائِلًا مَطْبُوعًا أَوْ مَخْطُوطًا، مِمَّا سَطَّرَتْهُ أَنَامِلُ آثِمَةٌ ثُمَّ سَمَّتْهُ زُورًا وَبُهْتَانًا - عُلُومًا رُوحَانِيَّةً، وَأَسْرَارًا نُورَانِيَةً، وَدُرَرًا حِكْمِيَّةً، وَعُهُودًا سُلَيْمَانِيَّةً، إِلى آخِرِ تِلْكَ المَنْظُومَةِ الَّتِي لاَ تَكَادُ تَنْقَضِي، اسْتَبْدَلَ أَهْلُهَا الَّذِي هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ فَأَعْرَضُوا عَمَّا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَْمِينُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَهُرِعُوا إِلَى زُخْرُفِ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَمَا تُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، فَخَطَّتْ يَرَاعُهُمُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ، حَتَّى كَادَ الْمِدَادُ أَنْ يَنْفَدَ، وَالأَْنَامِلُ أَنْ تَكِلَّ. نَعَمْ، إِنَّ حَدِيثَ السِّحْرِ قَدْ مَلَأَ عَلَى النَّاسِ دُنْيَاهُمْ، وَطَبَّقَ ذِكْرُهُ الآفَاقَ، إِنَّهُ عَالمٌ يَتَتَبَّعُ أَسْرَارَهُ، وَيَهْرِفُ فِيهِ بِمَا لاَ يَعْرِفُ: كُلُّ مَنْ دَبَّ، وَلَوْ كَانَ أَكْذَبَ مَنْ دَبَّ وَدَرَجَ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَرَضَ مَكْتُوبَهُ عَلَى عَقْلِهِ فِي بُرْهَةِ إِنْصَافٍ لَهَبَّ عَقْلُهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ جُلَّ مَا كَتَبَ! لِذَلِكَ كُلِّهِ وَجَدتُّ لِزَامًا عَلَيَّ - وَقَدْ تَحَصَّلَ لِي بَعْضُ اطِّلاَعٍ عَلَى زَيْفِ مَذْهَبِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ - أَنْ أُبَيِّنَ لأَِهْلِ الإِسْلاَمِ المَسْلَكَ الأَقْوَمَ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ السِّحْرِ، وَغَايَةِ أَثَرِهِ، مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِنْ مُقَارَبَتِهِ أَوْ فَعْلِهِ، وَتَبْيِينِ جَسِيمِ خَطَرِهِ عَلَى المُجْتَمَعِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ أَتْبَعْتُ ذَلِكَ بِذِكْرِ

1 / 6

مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مَنْ ضَرُورَةِ تَحَصُّنِ المُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الضُّرِّ، الَّذِي قَدْ يَتَهَدَّدُه عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُ، فَإِنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ - نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ - دَلَلْتُهُ عَلَى عِلاَجِ ذَلِكَ بِرُقًى مَشْرُوعةٍ، تَقْصِمُ ظَهْرَ السَّحَرَةِ الفَجَرَةِ، وَتُبْطِلُ كَيْدَهُمْ، وَتَقْطَعُ دَابِرَهُمْ، بَحَمْدِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ. هَذَا، وَقَدْ سَمَّيْتُ كِتَابِي - بِعَوْنِ اللهِ -[الْحِذْرُ مِنْ السِّحْرِ]، وَجَعَلْتُهُ عَلَى فُصُولٍ سَبْعَةٍ بَعْدَ المُقَدَّمَةِ، رَتَّبْتُهَا كَالآتِي: * الفصل الأول: ... «آيَةُ السِّحْرِ» وَ«حَدِيثُ السِّحْرِ»، وَمَبَاحِثُ فِي فِقْهِ العُلَمَاء لَهُمَا. * الفصل الثاني: ... بَيَانُ مَعْنى السِّحْرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مُصْطَلَحَاتٍ. * الفصل الثالث: ... بَيَانُ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَتَعَلُّقِهَا بِمَا يُسَمَّى عُلُومًا رُوحَانِيَّةً. * الفصل الرابع: ... السِّحْرُ؛ بِاعْتِبَارِهِ ظَاهِرَةً اجْتِمَاعِيَّةٍ. * الفصل الخامس: ... عَلاَمَاتٌ يُعْرَفُ بِهَا كُلٌّ مِنَ السَّاحِرِ وَالْمَسْحُورِ. * الفصل السادس: ... بَيَانُ أَحْكَامِ السِّحْرِ وَالسَّحْرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. * الفصل السابع: ... فِي التَّوَقِّي مِنَ السِّحْرِ، وَعِلاَجُه. * خاتمة: ... وَفِيهَا خُلاَصَةٌ لِمُهِمَّاتِ نَتَائِجِ الْبَحْثِ، وَذِكْرٌ لِبَعْضِ التَّوْصِيَاتِ. وَإِنِّي لَأَرْجُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ عَمَلِي هَذَا خَالِصًا مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ يُثِيبَنِي عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ فَضْلِهِ، إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَلِيُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، وَالآخِذُ بِيَدِ مَنْ عَوَّلَ عَلَيْهِ، وَحَسَبُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي

1 / 7

الفصل الأول «آية السحر»، و«حديث السحر»، ومباحث في فقه العلماء لهما

1 / 9

الفصل الأول «آية السحر»، و«حديث السحر»، ومباحث في فقه العلماء لهما تمهيد: إن الشريعة الإسلامية الغرَّاء - وهي خاتمة الشرائع - لم تكن لِتدعَ الناسَ يخبِطون خَبْط عشواءَ في شأنٍ بالغ الخطر كالسحر، ذلك الخَطْب الجلل الذي بقي مرافقًا لمسيرة كثير من الأمم السابقة، ومزاحمًا - بغير حق - لدعوات الأنبياء _ت ورسالاتهم، بل قد بلغت الصفاقة بقوم مبلغًا ادّعَوا معه أن السحر حقيقة رسالة نبيٍ قد امتن الله عليه بمُلك لا ينبغي لأحد من بعده، ذلك نبي الله سليمان ﵇، الذي ادعى يهودُ - ظلمًا وعدوانًا - أنه كان ساحرًا وحسب، استمد عونًا من سحره ليوطد بذلك ملكه، ويبسط نفوذه على الجن والطير والحديد والرياح، فاستساغوا عندها تعلُّمَ السحر، بل وتعليمَه، والعملَ به، وليس ذلك بمستغرب من قوم لم يَدَعوا نقيصة إلا وألصقوها - زورًا وبهتانًا - بأنبياء الله، ليستبيحوا بعدها كل معصية يشيعونها، وكل معصية يقارفونها. لذلك كله نزلت الآيات القرآنية كالصواعق على قلوبهم؛ تحرق أباطيلهم، وتعيد الأمر إلى نصابه، وتدعوهم ليثوبوا إلى رشدهم، وليدركوا مغبَّة افترائهم، فيتداركوا ما فاتهم، فلا يُؤثِرون السحر على الحق، ولا حطامَ الدنيا على ثواب الآخرة. نعم، لقد حَفَلت نصوص الكتاب والسنة، بالآيات والأحاديث، التي بينت منشأ علم السحر، والحِقْبة التي اشتهر فيها، والقوم الذين تولَّوا كِبْر تعلُّمِه وتعليمه والعملِ به، وكثرة افتتان الخلق إنسهم وجنهم به، كما بيَّنَتْ هذه النصوص - بحمد الله - حقيقة السحر وغاية تأثيره، وإمكان إبطاله، وأنه لا يعدو في حقيقته أن يكون: كيدًا زيفًا باطلًا وهمًا مموِّهًا، مغايرًا تمام المغايرة للحق الواقع البيِّن.

1 / 11

وإليك - أخي القارئ - ما يُعَدّ بحقٍّ أُمَّات النصوص في شأن السحر، والتي حُقَّ لمؤمنٍ أن يُمعِن النظر بها، ويستنبط منها كل ما يبصِّره بحقيقة السحر، وما يدعوه - في آنٍ - إلى الحذر منه، ومعاداة أهله. وقد عنيتُ بذلك نصَّيْن كريمين؛ الأول آية كريمة، والآخر حديث شريف، ولنصطلح على تسمية الآية: (آية السحر)، والحديث: (حديث السحر) . وسأذكر كلًاّ، ثم أُتبِع ذلك ببعض ما استنبطه جهابذة أهل العلم في فقه ما يتعلق به. أ- النص الأول: آية السحر: قال الله تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *﴾ . أولًا: تناسب مطلع الآية مع سِباقها: إن سِباق الآية هو قوله تعالى: [البَقَرَة: ١٠١] ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *﴾، فما مناسبة ذلك مع آية السحر؟ إن سنة الله ﷿ جارية بأنه: ما أمات أحدٌ سُنَّةً إلا زاد في خذلانه، وذلك بأن يحيي الله على يد ذلك المُعرِض عن الحق بدعةَ ضلالةٍ، لذا فقد أعقب الله يهودَ حين نبذوا كلام الله - وهو سبحانه أَوْلى الأولياء -، أعقبهم إقبالًا على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء، فقال تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ ...﴾ .

1 / 12

ثانيًا: تناسب مقطع الآية - أي: ختامها - مع لَحاقها: إن لحاق الآية هو قوله تعالى: [البَقَرَة: ١٠٣] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *﴾ . فما مناسبة هذا اللحاق مع آية السحر؟ إن الله تعالى لما أخبر باجتماع المذامِّ والقبائح بيهود، حيث باعوا أنفسهم ونصيبهم في الجنة بعَرَضٍ من الدنيا قليل، فآثروا السحر على ما ينفعهم من الإيمان، وأَعْلَمَ سبحانه بأن هذا الفعل الشنيع لا يُقدِم عليه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أو كان له أدنى أثارةٍ من علم نافع، فكان علم يهود الذي بقي حبيس كتبهم، وصار سبيلًا لاستكبارهم وتفاخرهم، هذا العلم هو الذي أورثهم هذه الجرأة على اتباع الشياطين، فكان عدم العلم خير لهم من هذا العلم الذي أوردهم المهالك. فلمّا بيّن سبحانه ما تسبب لهم ذلك العلم بالسحر من مضارّ لا يرضاها عاقل على نفسه أتبع ذلك ببيان ما في الإعراض عن تعلم السحر من منافع جمة، من علو منزلة الثواب ودوامه، نزلًا من عند الرحمن، مما تقصر عنه الأذهان ويعجز عن وصفه إنس أو جان، فقال تعالى: [البَقَرَة: ١٠٣] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *﴾ . فالله تعالى يرشد العلماء بأن لا خير في علم لا يمنع صاحبه عن مقارفة شر ولا يحدوه إلى نيل الخير (١) . ثالثًا: سبب نزول آية السحر: عن ابن عباس ﵄ قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حقٍّ كَذَب معها ألف كِذبة، فأُشْرِبَتْها قلوب

(١) انظر: نَظْم الدرر في تناسب الآيات والسور، للإمام برهان الدين البقاعي (١/٢٠٥-٢١٠) .

1 / 13

الناس، واتخذوها دواوين، فأَطْلع الله على ذلك سليمانَ بن داود، فأخذها فدفنها تحت كرسيّه، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق، فقال: ألا أدلّكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه؟ قالوا: نعم، فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم، وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر، فقال: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ...﴾ (١) . رابعًا: من تفسير آية السحر: ١- ... يقول تعالى: ﴿واتبعوا﴾، فمن هم المتَّبِعون؟ الصواب من القول في تأويل ذلك عموم يهود، الذين لم يزل أمر السحر فيهم، من عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيَّه بالحق، وأن في ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله ﷺ، فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله نبيٌّ مرسَل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العملَ به، وهو - أي: التوراة - في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله (٢) . فاليهود - المتَّبِعون للسحر - من لدن عهد سليمان إلى زمن نبوة سيدنا محمد ﷺ داخلون في توبيخ الله لهم على استبدالهم السحر بآيات الله في التوراة وفي الإنجيل وفي القرآن. ٢- ... يقول تعالى: ﴿مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ﴾ فما معنى ﴿تتلوا﴾؟ وما هو المتلوّ؟ ولِم عُبِّر عنه بالتلاوة؟

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك (٢/٢٦٥)، وصحّحه - كمافي «الدر المنثور» للسيوطي (١/٢٣٣) - وسكت عنه الذهبي. وأخرجه سعيد بن منصور (٢/٥٩٤ برقم ٢٠٧)، والطبري في تفسيره (٢/٤١٥/١٦٦٢)، وذكره الواحدي في أسباب النزول ص٣١. (٢) اختار هذا التأويل الإمام الطبري، ثم أتبعه بقوله: وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. فكل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية. اهـ. أي ليس مقصورًا على أسلافهم وحسب. انظر: تفسير الطبري (١/٤٩١) .

1 / 14

[أما معنى ﴿تتلوا﴾، فهو: تقرأ، أي من التلاوة، أو: تَتْبع، كما تقول: جاء القوم يَتْلو بعضُهم بعضًا، أو أن معناها: تفضِّل، لأن كل من اتبع شيئًا وجعله إمامه فقد فضّله على غيره. والتعبير بـ ﴿تتلوا﴾، يعني: تَلَتْهُ، فهو بمعنى المُضِيّ] (١) . فيصير المعنى - على ما سبق -: قد فضّلت سحرة يهود، ومن تشبّه بهم، واتبعوا - وهم من شياطين الإنس - ما قرأته شياطين الجن، مما افترته كذبًا، وتقوَّلَتْه زورًا، على عهد ملك سليمان، بأن سبب ملكه إنما كان السحر وما أنزل على الملكين، والله أعلم. [أما المتلو هنا فهو: السحر. وقد عُبر عن ذلك بالتلاوة، لأن التلاوة إنما تكون - في كلام العرب - بمعنيين؛ أحدهما: الاتباع، فيكون المعنى واتبعوا ما تتّبعه الشياطين مما دفنوه تحت كرسي سليمان ﵇ من السحر والكفر. والمعنى الآخر: القراءة والدراسة، فيكون المعنى: واتبع اليهود ما تلته الشياطين عليهم دراسة ورواية، فسارت على منهاجها في ذلك، وعملت به وروته. فيتحصل بذلك: أن اليهود اتبعوا ما تبعته الشياطين بالعمل به، وتدارسوه بالرواية عنهم] (٢) . ٣- ... يقول تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾، فما وجه التعبير بـ ﴿على﴾، مع أن التلاوة - كما سبق - تكون بمعنى الاتباع أو الدراسة؟ وما هو ملك سليمان؟ وهل يُحجر ذلك المُلك العظيم عن غيره من الخلق عامة؟ إن الدراسة - كما لا يخفى - تتضمن معنى التحديث والإخبار، وهذا

(١) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي (٢/٤٢) . (٢) المرجع السابق (١/٤٩٢) .

1 / 15

الإخبار من الشياطين بأن سبب ملك سليمان هو علمه بالسحر، قد تضمن معنى الكذب على سليمان، لذلك فقد عدّي فعل ﴿تتلو﴾، بـ ﴿على﴾، فيكون المعنى: واتبع اليهود - الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله ﷺ ما تتلوه الشياطين وتخبر به وتحدّثه كذبًا على ملك سليمان، وقد صدّقوا ذلك التقول، وعملوا بمقتضاه!! (١)، وثَمَّ وجه آخر للتعبير بـ ﴿على﴾، وهو [أن العرب تضع «في» موضع «على»، و«على» موضع «في»، ومن ذلك قول الله جلّ ثناؤه: [طه: ٧١] ﴿وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، يعني به: على جذوع النخل. وكما قالوا: «فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا» بمعنى واحد] (٢) . فيكون المعنى واتبعوا ما تلته الشياطين كذبًا في عهد سليمان ﵇. [أما ملك سليمان ﵇، فهو مما لا يبلغه بيان البشر، وقد ذكره الله تعالى بقوله: [سَبَإ: ١٢-١٣] ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ *﴾ . وبقوله سبحانه: [ص: ٣٤-٤٠] ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ *قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ *وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ *هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ *﴾ .

(١) انظر: تفسير ابن كثير (١/١٤١)، وانظر كذلك: نور الإيمان في تفسير القرآن، للشيخ محمد مصطفى أبي العِلا ﵀ ص١٤٦. (٢) انظر: تفسير الطبري (١/٤٩٣) .

1 / 16

نعم، إن الملك الذي وهبه الله ﷿ لعبده سليمان ﵇ قد فاق - بفضل الله - ما قد يطلبه طالب أو يطمح إليه طامح، ذلك أنه من عطاء الله الذي لا ينفد، وقد ذكرَتِ الآياتُ الكريمات التي أوردتها صنوفًا من هذا العطاء، وهي: (أ) ... تسخير الريح له، وذلك أنه ﵇ لما عقر الخيل غضبًا لله ﷿، عوّضه الله ما هو خير منها وأسرع: الريح اللينة تحمل بساطه يغدو عليه حيث أراد من مكان كدمشق مثلًا، إلى آخرَ يتغدّى به، كإصطخر (١) مثلًا - وهي تبعد عن دمشق شهرًا كاملًا للمسرع على دابته، كل ذلك في الغداة صباحًا، أما في الرواح مساءً فقد يروح ﵇ ببساطه من إصطخر مثلًا إلى كابُل - المعروفة اليوم - وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع، كلُّ ذلك في المساء. (ب) ... تملُّك عينٍ تسيل بالنحاس، وهي باليمن، وقد أجراها الله لسليمان ﵇ ثلاثة أيام، فكل ما يصنع الناس، من النحاس - إلى يومنا هذا - هو مما أخرج الله تعالى لعبده سليمان ﵇ (٢) . (ج) ... تسخير الجن له - مقهورين منقادين إليه - يعملون بين يديه بقَدَر الله، فيأمرهم سليمان بما شاء من عمل أبنيةٍ حسنة، كالمساجد والقصور والمساكن، وكذلك الصُّوَر من نحاس أو من طين أو زجاج، ويصنعون له أحواضًا عظيمة الاتساع كالجَوْبة من

(١) إِصْطَخْر: بلدة من أقدم مدن فارس وأشهرها، بها مسجد يعرف بمسجد سليمان ﵇، وبين إصطخر وشيراز - المعروفة اليوم - اثنا عشر فرسخًا، أي ما يقارب ٦٦.٥ كلم، وكان فتح إصطخر الأخير سنة ثمان وعشرين وسط خلافة عثمان ﵁. انظر: معجم البلدان لياقوت الحَمَوي (١/٢٥٠) . والروض المعطار للحِمْيري ص ٤٤. (٢) هذا مروي عن ابن عباس وقتادة والسُّدِّي وغيرهم. انظر: تفسير الطبري (٢٠/٣٦٣-٣٦٤)، و«الدر المنثور» للسيوطي (١/٦٧٨) .

1 / 17

الأرض (١)، تُجمع فيها المياه، كما يعملون له آنية يُطبخ فيها، وهي - من عظم اتساعها - ثابتات في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك، حيث إن ركائز هذه القدور هي جزء منها، فلا حاجة لنقلها وتثبيتها!! هذا الملك العظيم، الذي وهبه الله لنبيِّه سليمان ﵇ كان سببه شرع سليمان ﵇ الحق، ونبوته العظيمة، لا السحر كما تقولته الشياطين واتبعته اليهود، فقد امتن الله عليه بتلك الهبة الربانية، التي يتصرف بها سليمان ﵇ كيف يشاء، [ص: ٣٩] ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *﴾ . وهنا مسألة: هل كان هذا العطاء الإلهي حِجْرًا على سليمان ﵇، فلا يوهب لأحد من بعده، أو لا يوهب ما يوازيه أو يزيد عليه؟ قال بعضهم: معنى قوله تعالى: [ص: ٣٥] ﴿لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ . أي: لا يصلح لأحد أن يسلبنيه، كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيّه، لا أنه يُحجر على مَن بعدَه من الناس. والصحيح أنه سأل من الله مُلْكًا لا يكون لأحد من البشر مثلُه من بعده، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبه وردت الأحاديث من طُرُقٍ عن رسول الله ﷺ (٢) .

(١) الجَوْبة من الأرض: ما يستنقع فيها الماء، فهي كالحياض التي تردها الإبل من عِظَمها. انظر: تفسير الطبري (١٢/٨٩) . (٢) انظر: تفسير القرآن العظيم، للإمام ابن كثير ﵀. ص١٤٦٩ ط - بيت الأفكار. وانظر: كذلك: الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي ﵀ (١/٤٣) . أما الأحاديث التي وردت من طرق عن رسول الله ﷺ وهي تثبت أن سليمان ﵇ قد سأل الله مُلكًا لا يكون لأحد من البشر مثله من بعده - فعديدة، منها: حديث أبي هريرة ﵁: «إن عفريتًا من الجنّ تفلّت عليَّ البارحةَ، ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني اللهُ منه، وأردتُ أن أربطَه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلُّكم، فذكرت قول أخي سليمان: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ فردّه خاسئًا. متفق عليه، البخاري (٤٨٠٨)، ... ومسلم (٥٤١) . وعند أحمد في مسنده (٣/٨٢) من حديث أبي سعيد ﵁: «أن رسول الله ﷺ قام يصلّي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمّا فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليسَ، فأهويتُ بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْد لُعابه بين إصبعيّ هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحدٌ فليفعل» . والحديث صحّحه - بشواهده - الألبانيُّ. انظر: الصحيحة برقم (٣٢٥١) . ومن ذلك أيضًا ما أخرجه أحمد في مسنده (٢/١٧٦)، من حديث عبد الله بن عمرو ﵄: «إن سليمان بن داود ﵉، سأل الله ثلاثًا أعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون له الثالثة، فسأله حُكمًا يُصادِف حكمَه، فأعطاه الله إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - أي بيت المقدس - خرج من خطيئته مثلَ يوم ولدته أمّه، فنحن نرجو أن يكون الله ﷿ قد أعطاه إياه» . والحديث أخرجه أيضًا من حديث ابن عمرو: النسائي (٢/٣٤)، وابنُ ماجه (١٤٠٨)، وصحّحه ابن خزيمة، وابن حِبّان، والحاكم ووافقه الذهبي. رحم الله الجميع.

1 / 18

ويتفرع عما سبق مسألتان؛ الأولى: ما هو الجسد الذي ألقي على كرسيّ سليمان ﵇؟ كما في قوله تعالى: [ص: ٣٤] ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ *﴾ . [الجسد الذي ألقي على كرسيّ سليمان؛ هو شيطان اسمه آصِف، أو آصِر، أو صخر، أو حقيق، قال له سليمان: كيف تفتن الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه، فنبذه آصف في البحر، فذهب مُلك سليمان، وقعد آصف على كرسيه، ومنع الله آصفَ نساءَ سليمانَ فلم يقربهن، وأنكرته أمُّ سليمان، وكان سليمان يستطعم ويُعرِّفهم بنفسه فيكذبونه، حتى أعطته امرأة حوتًا - أي سمكة كبيرة - فطيَّب بطنَه فوجد خاتمه في بطنه، فردّ الله إليه ملكه، وفرّ آصف فدخل البحر. وقد حكى النقّاش في تفسيره (١) أن الجسد الذي ألقي على كرسيّ سليمان هو ولده، الذي حملت به إحدى نسائه وقد وُلد ساقطًا أحد شِقَّيْه - أي كان نصف إنسان -، وذلك حين «قال

(١) تفسير النقاش - وهو: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد - لا يعتمد عليه، كما سيأتي من كلام ابن حجر ﵀ بقوله: والنقاش صاحب مناكير.

1 / 19

سليمان: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأةً تَحمِل كلُّ امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شقّيه، فقال النبي ﷺ: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله» (١) . لكن عامّة المفسّرين على أن المراد بالجسد المذكور: شيطان، وهو المعتمد، والنقّاش صاحب مناكير] (٢) . والمسألة الثانية: وقع في رواية مسلم أن عدد النساء اللائي حلف سليمان ليطوفنّ بهنّ في ليلة: ستون امرأة، وعند البخاري سبعون، فما وجه الجمع بين الروايات في ذلك؟ [إن محصّل الروايات في ذلك أنهن: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، ومائة، والجمع بينها أن الستين كنّ حرائر، وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكنّ دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون ألغى الكسر - أي الزائد عن التسعين -، ومن قال: مائة جبر الكسر، ومن ثَمَّ وقع التردد في ذلك. وسليمان ﵇ كان له ألف امرأة؛ ثلاثمائة منهن صريحة - أي حرائر - وسبعمائة سريّة، أي من الجواري] (٣) . ٤- ... يقول تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾، فما وجه نفي الكفر عن سليمان ﵇، ولم يأت ذكر اتهامه بالكفر فيما سبق؟ [وجه ذلك: أن اليهود الذين اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان ﵇، من سحر وكفر، قد نسبوا ذلك إلى سليمان ﵇، وزعموا أن

(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة ﵁: أخرجه البخاري؛ كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: [ص: ٣٠] ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *﴾، برقم (٣٤٢٤)، ومسلم؛ كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء، برقم (١٦٥٤) . (٢) انظر: فتح الباري، لابن حجر (٦/٥٢٩ وما بعدها) . (٣) المرجع السابق (٦/٥٣١) .

1 / 20

ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر الخلق بالسحر، وهم إنما يريدون بذلك أن يحسِّنوا لأنفسهم العمل بالسحر، ذلك أن نبيًا قد علمه وعمل به - بزعمهم -، فلِمَ لا يفعلون هم ذلك؟! وأرادوا أيضًا أن يحسّنوا أنفسهم وفعلتهم الشنيعة عند من كان جاهلًا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، فبرَّأ الله نبيَّه سليمان ﵇ مما نسبوه زورًا وبهتانًا إليه، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ماتلته الشياطين في عهد سليمان، وأن سليمان إنما كان يأمرهم بطاعة الله، واتباع أمر الله الذي أنزله في التوراة على موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام (١) . والحاصل: [أن اليهود لما نسبت سليمانَ إلى السحر، صاروا بمنزلة مَن نَسَبه إلى الكفر، لأن السحر يوجب ذلك، فبرَّأ الله نبيَّه من السحر، وأثبته للشياطين، وأَعْلم بأنهم كفروا بتعليمهم الناس السحر] (٢) . ٥- ... يقول تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، [ولعل قائلًا أن يقول: أوَ ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ فيُقال له: بلى، قد كان السحر قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر سبحانه عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر، وإنما خص الله ذكر تعليم الشياطين السحر للناس في هذا الموضع، لأن الشياطين وأتباعهم اليهود أضافوا ذلك العلم إلى سليمان ﵇، فأراد الله تعالى تبرئته مما نَحَلوه وأضافوه إليه، وإن كانت الشياطين تاليةً للسحر والكفرِ قبل ذلك] (٣)، أي: قبل عهد سليمان ﵇. [أما السحر الذي تعلّمه الشياطين الناسَ، فهو - بالإجمال - علم بأمرٍ

(١) انظر: تفسير الطبري، (١/٤٩٣) . (٢) انظر: تفسير الشوكاني (١/١١٩) . (٣) انظر: تفسير الطبري (١/٤٩٧)، وتفسير ابن كثير ص ١٢٣، ط - بيت الأفكار.

1 / 21

مؤثِّرٍ حقيقةً، ضارٍّ غير نافع، تقوم به نفوس قوية مؤثرة باستعانة بمخلوق من شيطان أو كوكب، أو دُخَن وعُقد. وقد يطلق السحر على ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده] (١) . ٦- ... يقول تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ . وهذا النص من الآية الكريمة قد حوى مسألتين من مهمات المسائل: الأولى: هَل (ما) نافيةٌ بمعنى: لم؟ أم هي موصولة بمعنى (الذي)، أم أنها تحتمل المعنيين؟ [اختلف أهل التأويل في هذا المقام - اختلافًا بيّنًا - فذهب الإمام القرطبيٌّ ﵀ إلى أن «ما» نافية (٢)، وأن ﴿هاروت وماروت﴾ بدل من ﴿الشياطين﴾، فيكون المعنِيُّ بِـ ﴿الملكين﴾، جبريل وميكائيل ﵉. ذلك أن اليهود قد نسبوا السحر إليهما، فنفى الله ذلك عنهما. وعلى ذلك يكون في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل السحر على

(١) ما بين معقوفتين كلام للإمام ابن حجر ﵀. الفتح [١٠/٢٣٢] . وسيأتي بعون الله تعالى - بيان معنى السحر تفصيلًا وأنواعه، في الفصلين: الثاني والثالث. (٢) وقال - بعد أن رجّح كون (ما) نافية، ﴿هاروت وماروت﴾ بدل من ﴿الشيطان﴾ - ما لفظه: (هذا أَوْلى ما حُمِلت عليه الآية من التأويل، وأصحُّ ما قيل فيها، ولا يُلتفت إلى سواه) . ثم علل مذهبه بقوله: (فالسحر من استخراج الشياطين، لِلَطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم)، ثم شرع ﵀ في الرد على ما يَرِد عند استبعاد كون الاثنين [هاروت وماروت] بدلًا من الجمع [الشياطين] بخاصة أنه قد تقرر في اللغة وجوب أن يكون البدل على حد المبدل منه، فذكر ثلاثة وجوه؛ الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، والثاني: أن هاروت وماروت لما كانا الرأس في التعليم نُصَّ عليهما دون أتباعهما. والثالث: أنهما إنما خُصّا بالذّكر من بين الشياطين لتمردهما، ثم استشهد لما قال، وذكر أن هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب] . انظر: تفسيره (٢/٥٠) . وممن ذهب إلى كون «ما» نافية، الأستاذ سيد قطب ﵀، مع إقراره بأن هاروت وماروت مَلَكان كانا يعلّمان من أصرّ على تعلّم السحر، ما يفرق به بين المرء وزوجه! انظر: الظلال (١/٩٥-٩٦) .

1 / 22

الملَكين جبريل وميكائيل، ولكنّ الشياطين - هاروت وماروت - كفروا يعلمون الناس السحر ببابل. أما الإمام الطبري ﵀، فقال: - بعد أن ذكر احتمال كون (ما) نافية أو موصولة، وجواز كونها محتملة للأمرين، واستدل لكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة - قال: [والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من وجَّه (ما) التي في قوله تعالى: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ إلى أنها موصولة بمعنى «الذي»، دون معنى (ما) التي هي بمعنى الجَحْد] (١) . فيكون المعنى على ذلك: واتبع اليهود ما تقولته الشياطين في عهد سليمان، من سحر زعموا افتراءً أنه سبب مُلكه، وكذلك اتبعوا الذي تعلموه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. وأما الإمام ابن كثير ﵀، فبعد أن نسب القولين السابقين كلًا إلى قائله، وساق الأحاديث التي أوردها، كل منهما، وكذلك الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين ﵃ أجمعين، لم يصرّح ﵀ بعد ذلك بترجيح كون (ما) نافية فينتفي بذلك إنزال السحر عليهما، أو موصولة، فيثبت ذلك لهما (٢) !! إلا أنه ﵀ ذكر بعدها ما يُشعر باختياره كون (ما) نافية، حيث قال: [وادّعى - أي الإمام الطبري - أن هاروت وماروت مَلَكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأَذِن لهما في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بيّن لعباده أن ذلك مما يَنهى عنه على ألسنة الرسل _ت، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعلّم ذلك، لأنهما امتثلا ما أُمِرا به. وهذا الذي سلكه - أي الإمام الطبري - غريب جدًا ...] (٣)، ثم إن ابن كثير ﵀، قد أشار إلى هذا الترجيح بتصريحه أن ما ذكر من تعليم هاروت وماروت الناس ما يفرقون به بين الأزواج، إنما هو من صنيع الشياطين،

(١) وقد علل الإمام ﵀ مطوَّلًا - لاختياره، انظر: تفسير الطبري (١/٤٩٩) . (٢) انظر: تفسير ابن كثير (١/١٣٩-١٤٨) . (٣) المرجع السابق (١/١٤٢) .

1 / 23

حيث قال ﵀: [وقوله تعالى: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾، أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر، ما يتصرّفون به فيما يتصرّفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرّقون به بين الزوجين، مع ما بينهما من الخُلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في «صحيحه» (١)؛ أن النبيَّ ﷺ قال: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» (٢) . القول المختار في ذلك (٣): لعل ما ذهب إليه الطبري ﵀، من كون (ما) موصولة هو الصواب، فيكون التقدير - كما سبق -: وأقبل بعض أحبار يهود على تعلم السحر من الشياطين الذين ادَّعَوا كذبًا أنه كان سبب ملك سليمان،

(١) الحديث أخرجه مسلم؛ كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، برقم (٢٨١٣)، عن جابر بن عبد الله ﵄. (٢) انظر: تفسير ابن كثير، (١/١٤٨)، وقد روى حديث مسلم السابق باختلافٍ فيه يسير. (٣) اختار هذا القولَ الإمامُ الطبري ﵀، وقد فصّل في الردِّ على من رجَّح عدم إنزال السحر على الملكين، انظر: تفسيره (١/٤٩٧)، كما الشوكانيُّ في تفسيره (١/١٣٠)، وقد التمس عذرًا لجزم الإمام القرطبي بأن (ما) نافية، فقال: ولعل وجه الجزم بهذا التأويل - مع بُعدِه وظهورِ تكلُّفِه - تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنةً لعباده على ألسن ملائكته. ثم عقب ﵀ على هذا الوجه من التفسير بقوله: وعندي أنه لا مُوجِب لهذا الوجه من التعسُّف لما هو الظاهر، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنَهَرِ طالوتَ، ولهذا يقول الملَكان: [البَقَرَة: ١٠٢] ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ . اهـ. وقد اختار هذا الترجيح أيضًا الإمام ابن حجر ﵀ في الفتح (١٠/٢٣٤)، حيث قال: [وقوله: ﴿وما أنزل﴾، «ما» موصولة، ومحلها النصب عطفًا على السحر، والتقدير: يعلِّمون الناس السحر، والمُنْزَلَ على الملكين]، ثم ذكر ﵀ وجه النفي، وقال بعده: [والجمهور على خلافه وأنها موصولة] .

1 / 24

وما كفر سليمان بعمل السحر ولكن الشياطين هم الذين كفروا بافترائهم ذلك، وتعليمهم السحر للناس، وتعليمهم أيضًا ما أُلهِم الملكين ببابل (١) هاروت وماروت (٢) وعُلِّماه - فتنة واختبارًا للناس - من سحر التفريق.

(١) بابِل المذكورة في الآية، هي بابل العراق، - كما اختاره الإمام ابن كثير في تفسيره، لا بابل دُنْبَاوَنْد - كما ذكره الإمام الطبري عن السُّدِّي ﵀، في تفسيره [١/٥٠٤]، وقد حدّد الإمام ابن كثير بدقة متناهية موضع بابل من العراق! فقال ﵀: [وقال أصحاب الهيئة: وبُعد ما بين بابل - وهي من إقليم العراق - عن البحر المحيط الغربي، ويقال له: أوقيانوس: سبعون درجة، ويسمّون هذا طولًا، وأما عرضها وهو بُعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت - أي: المقابل والموازي - لخط الاستواء: اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم] . اهـ. انظر: تفسير ابن كثير ص١٢٨، ط - بيت الأفكار. وأصحاب الهيئة، هم: المشتغلون بعلم الهيئة - أي علم الفلك -[وهو (علم يُبْحَث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسُّفلية، من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازمة لها وما يلزم منها] انظر: موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون. للعلاّمة محمد التهانوي [١/٦١] . وذكر الحَمَوي في معجم البلدان [١/٣٦٧] أن بابل - بكسر الباء - اسم ناحيةٍ من الكوفة والحِلَّة، ينسب إليها السحر والخمر. وبابل هي غير (بَابِلْيون)، التي هي اسمٌ عام لديار مصرَ بلغة القدماء وأهل الكتاب كما ذكره الحَمَويُّ ايضًا [١/٣٧٠] . أما سبب تسمية بابل، فذكر القرطبي [٢/٥٣] (عن ابن عبد البر أنه قال: أخصر وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه عكرمة عن ابن عباس ﵄: أن نوحًا ﵇ لما هبط إلى أسفل الجُودِيّ ابتنى قرية وسمّاها ثمانين، فاصبح ذات يوم، وقد تَبَلْبَلَتْ ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض) . أما دُنْبَاوَنْد فذكر الحموي في معجم البلدان [٢/٥٤١] أنها لغة في دُبَاوند، وهو جبل - من نواحي الرَّيِّ - عالٍ مشرف شاهق شامخ، لا يفارق أعلاه الثلج شتاءً ولا صيفًا، وزعم العامّة أن سليمان ابن داود ﵉ قد حبس فيه ماردًا من مردة الشياطين، يقال له: صخرٌ المارد. (٢) ذكر القرطبي [٢/٥٣] أنهما اسما عَلَم على المَلَكين، وهما أعجميان لا ينصرفان، والجمع: هَوَاريت ومَوَاريت، مثل طواغيت، ويقال: هَوَارتة وهَوَار، ومَوَارتة ومَوَار، ومِثْلُه جالوت وطالوت. [وقد كان إنزال الملكين هاروت وماروت للتمييز بين السحر وبين المعجزة، التي هي أمر خارق للعادة يظهر على يد النبيِّ، حيث كَثُر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة من الأمور الغريبة ما يُوقِع الشكَّ في النبوَّة، فبعث الله هذين الملكين لتعليم أبواب السحر، ... حتى يزيلا الشُّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق. والظاهر: أنهما نزلا بصورة آدميةٍ، ولا بُعْدَ في ذلك، فقد كان جبريل ﵇ ينزل بصورة دحية الكلبي، وغيره] . انظر: تفسير نور الإيمان للشيخ محمد مصطفى أبي العلا ص ١٤٧. أما ما ورد في شأن قصة هاروت وماروت فقد ذكر ابن كثير في تفسيره [١/١٤٦] بعد أن استوعب جميع المرويّ في ذلك أنه [مع كثرة الروايات عن خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، إلا أن حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيلَ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمالُ القصةِ، من غير بَسْطٍ ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال] . لكنْ مع ذلك فإن الإمام ابن حجر ﵀ ذهب إلى أن لقصة الملكين أصلًا، فقال: [وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر ﵄ في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يُقضى بمجموعها على أن للقصة أصلًا، خلافًا لمن زعم بطلانها كالقاضي عياض ومن تبعه] . انظر: الفتح (١٠/٢٣٥) . ولعل سبيل الجمع بين مذاهب أهل العلم في ذلك: أن ما يرويه المفسرون في قصة هاروت وماروت لا يصح رفعه إلى النبيِّ ﷺ، وذلك لكونه لم يستجمع شروط الصحيح، المُصطلَح عليها عند أهل الحديث، ولكون تفصيلاتها من جملة أخبار بني إسرائيل، التي لا يعوّل عليها، لذا فقد أنكرها جمعٌ من ثقات الأئمة وعلماء الإسلام، كالقاضي عياض، والفخر الرازي، والشهاب العراقي، والإمام ابن كثير، والعلاّمة الآلوسي والأستاذ سيد قطب رحم الله الجميع، إلا أن كثرة المروي في ذلك، واستفاضة طرقه، يشير بوضوح - حسبما يرى الإمام ابن حجر ﵀ إلى أن للقصة أصلًا، لكن غاية ما هنالك أنهم لم يجيزوا تصحيح رفعها عند من أنكرها إلى رسول الله ﷺ، واقتصروا على ما في القرآن مجملًا على ما أراده الله تعالى، والله أعلم.

1 / 25