غالبا ما يحدثنا الإنجيليون عن الجموع التي كانت تتقاطر إلى يسوع لتسمع كلامه أو لتحصل على الشفاء منه: «وابتدأ يعلم عند البحر، فاجتمع إليه جمع كثير حتى إنه صعد إلى سفينة في البحر وجلس فيها، والجمع كله كان عند البحر على الأرض» (مرقس، 4: 1). «فمضوا في السفينة إلى موضع خلاء منفردين، فرآهم الجموع منطلقين وعرفه كثيرون فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة وسبقوهم واجتمعوا إليه» (مرقس، 6: 32-33). «ولما رجع الرسل أخبروه بكل ما عملوا، فاقتادهم واعتزل بهم عند مدينة تدعى بيت صيدا، فعلم الجموع بما جرى وتبعوه» (لوقا، 9: 10-11). «فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هناك ولا تلاميذه ركبوا السفن وساروا إلى كفر ناحوم يطلبون يسوع» (يوحنا، 6: 24). فإلى أي حد ساعد هذا الهوس العام بيسوع على انتشار تعاليمه بين الناس، وخلق حركة دينية جمعت حولها الآلاف من المؤمنين، أو حتى من المتعاطفين؟
إن قراءة ما وراء السطور في الأناجيل الأربعة تفيدنا بأن يسوع قد فشل على كل صعيد خلال حياته التبشيرية القصيرة. فالجموع التي كانت تتقاطر إليه من كل حدب وصوب كانت ساعية وراء الشفاء من أمراض مختلفة، أو مدفوعة بما في داخل النفس من افتتان بكل ما هو معجز وخارق للطبيعة. ومثل هذه الجموع من الممكن أن تتجمع حول أي مشعوذ أو ساحر مثلما تجمعت حول يسوع، وهي بالتأكيد لم تكن تستمع إلى كلماته بالتوق الذي كان يشدها لرؤية أعماله، والقلة التي أصغت له لم تستجب ووقعت كلماته في آذان صماء.
كان أول الرافضين ليسوع هم أهل الناصرة، البلدة التي نشأ فيها وعاش وعمل حتى بلغ الثلاثين من العمر. فبعد جولة في أنحاء الجليل أجرى يسوع خلالها الكثير من المعجزات وشفى مرضى كثيرين، يقول لنا مرقس: «وانصرف من هناك وجاء إلى وطنه يصحبه تلاميذه. ولما أتى السبت أخذ يعلم في المجمع، فدهش أكثر الناس حين سمعوه، وقالوا: من أين له هذه؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها وهذه المعجزات التي تجري على يديه؟ أما هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته عندنا ها هنا؟ وأخذتهم الحيرة فيه. فقال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يمكنه أن يصنع هناك شيئا من المعجزات وتعجب من قلة إيمانهم، ثم سار في القرى المجاورة يعلم » (مرقس، 6: 1-6). ويضيف لوقا إلى هذه القصة جوابا ليسوع يفهم منه أنه يفضل التبشير بين الوثنيين على التبشير بين أهل جلدته وهذه حالهم: «الحق أقول لكم لا يقبل نبي في وطنه. وبحق أقول لكم كان أرامل كثيرات في إسرائيل زمن النبي إيليا حين احتبست السماء ثلاث سنوات وستة أشهر فأصابت الأرض كلها مجاعة شديدة، ولم يرسل إيليا إلى واحدة منهن وإنما أرسل إلى أرملة في صرفة صيدا. وكان برص كثيرون في إسرائيل على عهد النبي أليشع، فلم يبرأ (على يديه) واحد منهم وإنما برئ نعمان السوري (وردت هاتان القصتان في سفري الملوك الأول والثاني من العهد القديم). فلما سمع أهل المجمع هذا الكلام ثار ثائرهم جميعا، فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة وساقوه على حرف الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل، ولكنه جاز في وسطهم ومضى. وانحدر إلى كفر ناحوم وهي مدينة في الجليل وكان يعلمهم في السبوت» (لوقا، 4: 24-31).
ويسوع عندما شمل الأقارب وأهل البيت مع مواطنيه غير المؤمنين عندما قال: «ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته.» إنما كان يلمح إلى أفراد أسرته عندما جاءوا في إحدى المرات يطلبونه بقصد وضعه تحت الحجر لأنهم اعتبروه مختلا، على ما يخبرنا مرقس: «فاجتمع أيضا جمع حتى إنهم لم يقدروا ولا على أكل الخبز. ولما سمع ذووه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل» (مرقس، 3: 20-21). ولم يكن يسوع أفضل حالا في كفر ناحوم التي استقر فيها بعد الناصرة (لوقا، 4: 31؛ ويوحنا، 2: 13). فعلى الرغم من المعجزات الكثيرة التي أجراها في هذه المدينة فإن أهلها لم يقبلوا تعاليمه، وكذلك الأمر في مدن الجليل الأخرى. فراح يتوعد هذه المدن بأسوأ مصير: «الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. فلو جرى في صور وصيدا ما جرى فيكما من المعجزات لأظهرتا التوبة بالمسح والرماد من زمن بعيد. على أني أقول لكم إن صور وصيدا سيكون مصيرهما يوم الدين أخف وطأة من مصيركما. وأنت يا كفر ناحوم، أتحسبين أنك ترتفعين إلى السماء ؟ ستهبطين إلى الجحيم. فلو جرى في سدوم ما جرى فيك من المعجزات لبقيت إلى اليوم. على أني أقول لكم: إن أرض سدوم سيكون مصيرها يوم الدين أخف وطأة من مصيرك» (متى، 11: 20-24. قارن مع لوقا، 10: 12-15). وفي موضع آخر يتحدث عن هذا الجيل الفاسق قائلا: «بمن أشبه هذا الجبل؟ يشبه أولادا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تلطموا» (متى، 11: 16-17). وقال في موضع آخر: «جيل فاسق يطلب آية ولا تعطى له سوى آية النبي يونان. فكما بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فكذلك يبقى ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. أهل نينوى سيقومون يوم الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار يونان، وها هنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب (= سبأ) ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متى، 12: 39-42).
وحتى التلاميذ الذين لصقوا بيسوع وساروا معه انفض منهم كثيرون عنه في إحدى المراحل عندما صاروا لا يفهمون أقواله: «قال هذا في كفر ناحوم. فقال كثير من تلاميذه لما سمعوه: هذا كلام عسير من يطيق سماعه؟ فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون، فقال لهم: أهذا يبعث الشك فيكم؟ فكيف لو رأيتم ابن الإنسان يصعد على حيث كان قبلا. ألا إن الروح هو الذي يحيا وأما الجسد فلا يجدي نفعا، والكلام الذي كلمتكم به روح وحياة، ولكن فيكم من لا يؤمنون ... فتولى عنه عندئذ كثير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته. فقال يسوع للاثني عشر: أفتريدون أنتم أن تذهبوا مثلهم؟ فأجابه سمعان بطرس: رب، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك» (يوحنا، 6: 59-68).
وقد عبر يسوع عن مرارته وخيبة أمله من خلال عدد من الأمثال. فقد قال في مثل المدعوين إلى المأدبة: «صنع رجل عشاء فاخرا ودعا إليه كثيرا من الناس، ثم أرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أعد لكم. فأجمعوا كلهم على الاعتذار. قال له الأول: قد اشتريت حقلا وأنا مضطر أن أخرج فأنظره، أسألك أن تعفيني. وقال آخر: اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ذاهب لأمتحنها، أسألك أن تعفيني. وقال آخر: قد اتخذت امرأة فلا أقدر أن أجيء. فرجع ذلك العبد وأخبر سيده بذلك، حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج عاجلا إلى شوارع المدينة وأزقتها وأدخل إلى هنا المساكين والزمنى والكسحان والعرج ... إني أقول لكم: لن يذوق عشائي واحد من أولئك المدعوين» (لوقا، 14: 16-24). وقال في موضع آخر قولا يؤدي معنى هذا المثل: «إن المدعوين كثير، وأما المختارون فقليل» (متى، 22: 14).
وقال في مثل وليمة الملك: «مثل ملكوت السماوات كمثل ملك أولم في عرس ابنه، فأرسل عبيده ليدعو المدعوين إلى العرس فأبوا أن يأتوا ... فمنهم من ذهب إلى حقله، ومنهم من ذهب إلى تجارته، والآخرون أمسكوا عبيده فشتموهم وقتلوهم. فغضب الملك وأرسل جنوده فأهلك هؤلاء القتلة وأحرق مدينتهم، ثم قال لعبيده: الوليمة معدة ولكن المدعوين غير مستحقين» (متى، 22: 1-8).
وقال في مثل الكرامين القتلة: «غرس رجل كرما وسيجه وحفر فيه معصرة وبنى برجا، وسلمه إلى كرامين وسافر. ولما حان وقت الثمر أرسل عبدا إلى الكرامين ليأخذ منهم نصيبه من ثمر الكرم، فأمسكوه وضربوه وأرجعوه فارغ اليدين، فأرسل عبدا آخر فرجموه وشجوا رأسه وشتموه. فأرسل آخر وهذا قتلوه، ثم أرسل كثيرين غيرهم فضربوا فريقا وفريقا قتلوا. فبقي عنده واحد وهو ابنه الحبيب، فأرسله إليهم آخر الأمر، وقال: سيهابون ابني. فقال أولئك الكرامون بعضهم لبعض: هو ذا الوارث، هلم نقتله فيعود الميراث إلينا. فأمسكوه وقتلوه وألقوه خارج الكرم. فماذا يفعل صاحب الكرم؟ يأتي ويهلك الكرامين ويعطي الكرم إلى آخرين. أما قرأتم هذا المكتوب: الحجر الذي رفضه البناءون هو الذي صار رأس الزاوية» (مرقس، 12: 1-10).
ولم يكن حظ يسوع في أورشليم بأفضل من حظه في الجليل: «ومع أنه قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به، ليتم قول إشعيا النبي الذي قاله: يا رب من الذي آمن بكلامنا ولمن ظهرت ذراع الرب؟ لهذا لم يستطيعوا أن يؤمنوا، لأن إشعيا قال أيضا: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم» (يوحنا، 12: 37-40). وقال يسوع لتلامذته في المعنى نفسه: «إن أبغضكم العالم فاعلموا أنه أبغضني قبل أن يبغضكم، لو كنتم من العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن أبغضكم العالم لأنكم لستم منه ... فإذا اضطهدوني يضطهدونكم أيضا، وإذا حفظوا كلامي يحفظون كلامكم. سينزلون بكم ذلك كله لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني. لو لم آت وأكلمهم لما كتبت عليهم خطيئة، ولكن لا عذر لهم اليوم من خطيئتهم. فلو لم أعمل بينهم أعمالا لم يأت بمثلها أحد لما كتبت عليهم خطيئة، ولكن اليوم رأوا وهم مع ذلك يبغضوني ويبغضون أبي» (يوحنا، 15: 18-24).
وفي إحدى المرات عندما كان يتكلم في الهيكل حمل أهل أورشليم الحجارة ليرجموه. فقال لهم: «أريتكم عدة أعمال صالحة من لدن الآب، فلأي عمل منها ترجموني؟ قال اليهود: لا نرجمك للعمل الصالح ولكن للكفر» (يوحنا، 10: 31-33). وفي مرة ثانية عندما أنهى يسوع جداله معهم بقوله: «الحق، الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم.» أخذوا حجارة ليرجموه فتوارى يسوع وخرج من الهيكل (يوحنا، 8: 58-59). «فعزموا منذ اليوم على قتله، فصار يسوع لا يظهر بين اليهود واعتزل في الناحية المتاخمة للبرية في مدينة تدعى أفرام، فأقام فيها مع تلاميذه» (يوحنا، 11: 53-54).
صفحة غير معروفة