يقوم جوهر العقيدة المندائية على الإيمان بأن نفس الإنسان أو نسمته (= نشمتا بالمندائية) هي نفحة من الذات العليا، ولا بد لها وأن تعود يوما إلى باريها وتتحد به في حياة باقية خالدة. وقد حلت هذه النسمة الإلهية أول ما حلت في جسد آدم الأرضي ومعها شيء من جلال موطنها الأصلي وجماله، وفي الوقت نفسه حلت في ذلك الجسد الأرضي روح الشر (روها) ومعها كل ما في دنيا الظلام من خبث وشر. ولكن من خلال العرفان، أو الماندا، يستطيع الإنسان اكتشاف أصله السماوي ويصارع في داخله روح الشر، وبذلك يتحقق الانعتاق بعد الموت.
6
اعتمادا على وجود هذه الطوائف الغنوصية المعمدانية التي تنتمي إلى يوحنا المعمدان وتنسب إليه تعاليمها، واستمرارها غير المنقطع منذ القرن الذي عاش فيه يوحنا، نستطيع الاستنتاج بدرجة عالية من الثقة أن هذه التعاليم هي التي سمعها تلامذة يوحنا الأولون ونقلوها إلى الأجيال اللاحقة، وأن يوحنا كان بحق واحدا من مؤسسي المدرسة الغنوصية السورية التي كان سمعان ماجوس السامري أشهر ممثليها. وكلمة ماجوس، أي المجوسي، كانت تعني في العصر الهيلنستي والروماني الشخص الحكيم المتضلع بأمور الفلك والتنجيم والسحر، ومنهم المجوس الوارد ذكرهم في قصة الميلاد عند لوقا، والذين كانوا يرصدون النجوم عندما رأوا نجم المخلص ساطعا في السماء فتبعوه إلى بيت لحم.
يلف الغموض شخصية سمعان ماجوس؛ لأن مؤلفاته قد ضاعت ولم يبق منها سوى شذرات أورها نقاده المسيحيون، لا سيما هيبوليتوس في كتابه «تفنيد كل الهرطقات» الذي وضعه في مطلع القرن الثالث الميلادي. نشط سمعان خلال أواسط القرن الأول الميلادي، وهذا يعني أنه عاصر كلا من يسوع ويوحنا المعمدان. وقد ورد ذكره في سفر أعمال الرسل وهو السفر الرابع في الكتاب المقدس المسيحي (العهد الجديد)، وفي سفر أعمال بطرس المنحول. يقول سمعان وفق ما ينقله عنه ناقده هبوليتوس، بأن الله قوة أزلية وغير متمايزة منغلقة على نفسها في صمت وسكون تام. ثم إن هذه القوة انقسمت على نفسها، فظهر العقل
Nous-
وهو مذكر، والفكرة
Enoia-
وهي مؤنث. وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي هو عالم الروح وقسم سفلي هو عالم المادة. ولقد امتصت الفكرة إينويا القوى الخلاقة للأب وأنتجت ملائكة وقوى عملت من خلالهم على خلق العالم المادي. ولكن إينويا فقدت السلطة على القوى التي نتجت عنها وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحرر إينويا من قيودها، ويقدم الخلاص من العالم المادي لكل من يتعرف عليه من البشر بصفته هذه.
7
لقد اعتبر بعض الباحثين أن سمعان ماجوس هو المعبر الأقدم عن الفكر الغنوصي، ولكن الاتجاهات الأحدث في البحث لم تعد تؤيد هذا الطرح مع اعترافها بأن أعماله هي أبكر ما وصلنا من نتاجات هذا الفكر. وهنالك أخبار متداولة تقول بأن سمعان قد تلقى علومه في الإسكندرية ثم عاد إلى فلسطين حيث تتلمذ على يد يوحنا المعمدان الذي اعتبره أنجب تلاميذه، وكان عازما على تعيينه خلفا له. ولكن سمعان كان في رحلة إلى مصر عندما جرى القبض على يوحنا وإعدامه، فاستلم المنصب سامري آخر من أتباع يوحنا اسمه دوتيسيوس. وعندما عاد سمعان إلى فلسطين جمع حوله ثلاثين تلميذا وراح يطوف معهم إلى أن لقي حتفه في ظروف غامضة في روما. وقد خلفه في زعامة الطائفة اثنان من تلاميذه، الأول ميناندر وهو سامري أيضا ولكنه أمضى النصف الثاني من حياته في أنطاكية حيث توفي نحو عام 80م. أما الثاني وهو ساتورنيلوس فكان من مواطني مدينة دافنة إلى الشمال من السامرة حيث منابع نهر الأردن، وقد عاش حتى أواسط القرن الثاني الميلادي.
صفحة غير معروفة