في جميع قوائم الأسماء التي يقدمها لنا هؤلاء الإنجيليون الأربعة، نجد بينها على اختلافها قاسما مشتركا هو مريم المجدلية. وهذا إن دل على شيء فعلى أهميتها البالغة ومكانتها الخاصة لدى يسوع. فمن هي هذه المرأة الغامضة؟ قبل الدخول في هذا الموضوع سوف نتوقف لإلقاء الضوء على شخصيتين نسائيتين برزتا في آخر مسيرة يسوع التبشيرية، وهما الأختان مريم ومرثا من قرية بيت عنيا في منطقة جبل الزيتون على مسافة ثلاثة كيلومترات من أورشليم.
نتعرف على مرثا وأختها مريم للمرة الأولى في إنجيل لوقا؛ فبعد أن شرع يسوع في رحلته إلى أورشليم دخل قرية لا يذكر لنا المؤلف اسمها: «فيما هم سائرون دخل قرية فأضافته في بيتها امرأة اسمها مرثا، وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه. وأما مرثا فكانت مشغولة بأمور كثيرة من الضيافة، فأقبلت وقالت: يا رب. أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ فقل لها أن تساعدني. فأجاب يسوع وقال لها: مرثا، مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد. فقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينتزع منها» (لوقا، 10: 38-42).
بعد ذلك نقابل مرثا ومريم مرتين في إنجيل يوحنا؛ حيث نعرف أنهما تسكنان مع أخيهما لعازر في بيت كبير في قرية تدعى بيت عنيا، وكان البيت من السعة والثراء بحيث يتسع لإقامة وضيافة يسوع وتلاميذه. ومن المؤكد أن يسوع قد قصد هذا البيت واستراح فيه مرارا؛ لأن مؤلف إنجيل يوحنا يقول لنا في سياق خبره الأول عن زيارة يسوع لمريم ومرثا، عندما أحيا أخاهما لعازر بعد موته بأربعة أيام، أن يسوع كان يحب مرثا وأختها ولعازر. وقد عرضنا هذه القصة بالتفصيل في مقالتنا السابقة، فلتراجع في موضعها في إنجيل يوحنا: 11.
الخبر الثاني الذي يورده يوحنا عند زيارة يسوع لبيت عنيا هو الذي يهمنا هنا: «ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاء، وكانت مرثا تخدم وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منا (أو حقا. وهو يتسع لثلاثمائة غرام) من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه: لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء؟ قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه. فقال يسوع: اتركوها فإنها حفظت هذا الطيب ليوم «دفني و» تكفيني. لأن الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين» (يوحنا، 12: 1-8).
تتكرر هذه الرواية بتنويعين في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فعند متى ومرقس تجري القصة في بيت شخص يدعى سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا؛ حيث دخلت امرأة مجهولة وسكبت زجاجة العطر على رأس يسوع لا على قدميه. وبما أن متى يستخدم لغة مرقس نفسها وكلماته مع تعديلات طفيفة لا يعتد بها فسنكتفي هنا بإيراد رواية مرقس: «وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب. وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص، وهو متكئ، جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه. وكان قوم مغتاظين في أنفسهم فقالوا: لماذا تلف الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء، وكانوا يؤنبونها. أما يسوع فقال: اتركوها، لماذا تزعجونها؟ قد عملت بي عملا حسنا. لأن الفقراء معكم في كل حين ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرا، وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملت ما عندها؛ قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين. الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته تذكارا لها.» (مرقس، 14: 1-9)
أما التنويع الثاني على هذه الرواية فيرد عند لوقا. وهنا نجد أن زمان الحادثة ومكانها مختلفان تماما، فهي تجري في مطلع حياة يسوع التبشيرية وفي مدينة جليلية تدعى نايين (لوقا، 7: 11) لا في بيت عنيا قرب أورشليم: «وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت الفريسي واتكأ. وكان في المدينة امرأة خاطئة، فعلمت أن يسوع يأكل في بيت الفريسي، فجاءت ومعها قارورة طيب ووقفت من خلف قدميه وهي تبكي وأخذت تبل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها وتقبلهما وتدهنهما بالطيب. فلما رأى الفريسي صاحب الدعوة ما جرى، قال في نفسه: لو كان هذا الرجل نبيا لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه وما حالها، فهي خاطئة. فقال له يسوع: يا سمعان عندي ما أقوله لك. فقال سمعان: قل يا معلم. فقال يسوع: كان لمداين دين على رجلين، خمسمائة دينار على أحدهما وخمسون على الآخر. وعجز الرجلان عن إيفاء دينه فأعفاهما منه. فأيهما يكون أكثر حبا له؟ فأجابه سمعان: أظن الذي أعفاه من الأكثر. فقال يسوع: أصبت. والتفت إلى المرأة وقال لسمعان: أترى هذه المرأة؟ أنا دخلت بيتك فما سكبت على قدمي ماء، وأما هي فغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعرها. أنت ما قبلتني قبلة وأما هي فما توقفت منذ دخولي عن تقبيل قدمي. أنت ما دهنت رأسي بزيت وأما هي فبالطيب دهنت قدمي. لذلك أقول لك: غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرا، وأما الذي يغفر له القليل فهو يحب قليلا. ثم قال للمرأة مغفورة لك خطاياك» (لوقا، 8: 36-48).
من قراءة هذه الروايات الأربعة نلاحظ أن روايات متى ومرقس ويوحنا تتفق في معظم عناصرها ضد رواية لوقا. فالمكان هو بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا عند متى ومرقس، وهو عند يوحنا بيت مرثا ومريم ولعازر في بيت عنيا أيضا. وبما أنه لا يوجد في بيت عنيا سوى بيت واحد كان يسوع يتردد عليه، فمن المنطقي أن يكون بيت سمعان الأبرص هو نفسه بيت الإخوة الثلاثة. ومن المرجح أن سمعان الأبرص هذا هو والد الإخوة الثلاثة ولكنه كان متوفيا في ذلك الوقت. يدلنا على ذلك أن يسوع قد دخل بيت سمعان الأبرص ولكن سمعان هذا لم يكن موجودا؛ لأن الراوي لم يتحدث عن استقباله ليسوع ولا عن جلوسه معه إلى المائدة، ولا عن حوار جرى بينه وبين يسوع، والقصة تبدأ وتنتهي وكأن سمعان الأبرص غير موجود. كما تتفق الروايات الثلاث في عنصر سكب زجاجة الطيب سواء على رأس يسوع عند متى ومرقس أم على قدميه عند يوحنا، وكذلك في عنصر احتجاج البعض على هذا الإسراف على الرغم من اختلاف هوية هؤلاء المحتجين (قوم مغتاظون في أنفسهم عند مرقس، أو تلاميذ يسوع عند متى، أو تلميذ واحد عند يوحنا)، وكذلك في رد يسوع على أولئك المحتجين وقوله بأنها فعلت ذلك استباقا ليوم الدفن والتكفين.
أما عند لوقا فإن القصة لا تحدث في بيت عنيا كما هو الحال عند بقية الإنجيليين، وإنما في نايين في بيت رجل يدعى سمعان أيضا ولكنه يلقب بالفريسي لا بالأبرص. وعلى الرغم من اشتراك قصة لوقا مع البقية في عنصر سكب قارورة العطر، إلا أنها تفتقد عنصر احتجاج البعض، وتختلف في مضمون خطاب يسوع الأخير بخصوص تصرف المرأة، الذي ينسجم مع وصف لوقا لها بأنها خاطئة. وتعبير خاطئة هنا هو صيغة مهذبة لكلمة مومس.
وفي الحقيقة فإن اتفاق متى ومرقس ويوحنا ضد لوقا فيما يتعلق بمعظم عناصر القصة، يقودنا إلى القول بضعف رواية لوقا لا سيما في وصفه للمرأة بأنها خاطئة، ومن المرجح أن لوقا قد أدخل تعديلاته هذه على القصة لأغراض تعليمية تتعلق بالتوكيد المسيحي على التوبة وعلى المغفرة، شأنه في ذلك شأن القصة التي أوردها يوحنا عن المرأة التي أخذت في زنا وأراد القوم رجمها فقال لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها أولا بحجر.»
وبهذا نكون قد أضفنا إلى قائمة الأسماء المعروفة لتلميذات يسوع اسمين جديدين هما مرثا ومريم من بيت عنيا. ولكن السؤال الذي حير الباحثين بخصوص هاتين المرأتين هو غيابهما عن أحداث محاكمة يسوع وصلبه ودفنه وقيامته. فأين كانتا وهما اللتان أحبهما يسوع مع أخيهما لعازر حبا جما.
صفحة غير معروفة