169

ألغاز الإنجيل

تصانيف

ويركز بولس هجومه على الختان اليهودي باعتباره سمة الخاضعين لأحكام الشريعة، متوجها بخطابه إلى اليهود المتنصرين الذين لم يقطعوا روابطهم القديمة، ولم يستوعبوا بعد الحرية التي منحهم إياها يسوع المسيح: «إن المسيح قد حررنا لنكون أحرارا. فاثبتوا إذن ولا تعودوا إلى نير العبودية. ها أنا بولس أقول لكم: إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئا . وأشهد مرة أخرى لكل مختتن بأنه ملزم أن يعمل بكل ما في الشريعة. لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة وسقطتم عن النعمة» (غلاطية، 5: 1-4). ذلك أن بر الله يناله الأقلف مثلما يناله المختون، ولا حاجة للوثني المتنصر إلى الختان: «فأين السبيل إلى الفخر؟ وبماذا؟ أبالأعمال (أي التزام الشريعة)؟ لا بل بالإيمان. ونحن نرى أن الإنسان ينال البر بالإيمان المنفصل عن أحكام الشريعة. هل الله إله اليهود وحدهم؟ أما هو إله الوثنيين أيضا؟ بل هو إله الوثنيين أيضا لأن الله واحد وهو الذي يبر بالإيمان المختون ويبر بالإيمان الأقلف» (روما، 3: 27-30).

فإذا كان الختان طهارة فإن الطهارة الحقة هي طهارة القلب والروح قبل أن تكون طهارة الجسد، والختان الحق هو ختان القلب والروح: «والختان ختان القلب العائد إلى الروح لا إلى حروف الشريعة» (روما، 2: 29). «فيه (= المسيح) ختنتم ختانا لم يكن من فعل الأيدي وإنما هو خلع الجسد البشري، إنه ختان المسيح. ذلك أنكم دفنتم معه في المعمودية وأقمتم معه أيضا» (كولوسي، 2: 11-12). «فلم يبق هناك يوناني أو يهودي ولا ختان أو قلف ... بل المسيح الذي هو كل شيء» (كولوسي، 3: 11).

وعلى الرغم من التأثير الكبير الذي مارسه فكر بولس على اللاهوت المسيحي الذي أخذ بالتشكل منذ القرن الثاني الميلادي، والذي رفع يسوع المسيح إلى مرتبة الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس، إلا أن بولس لم يصل بفكره إلى هذا الحد، ولم يرفع يسوع إلى مرتبة تعادل مرتبة الآب، وإنما أبقاه خاضعا للآب عاملا بمشيئته. وهو عندما يستخدم كلمة «رب» في الإشارة إلى يسوع إنما يعني بها السيد صاحب السلطان، وهو معنى الكلمة في الأصل اليوناني للعهد الجديد، حيث جرى استخدام كلمة «كيريوس =

Kurios » كلقب ليسوع سواء في الأناجيل أم في رسائل بولس، وترجمت إلى العربية بكلمة «رب» أو «سيد» وإلى الإنكليزية بكلمة «لورد =

Lord » أي سيد. وعلى الرغم من أن الإله هو «رب» بالضرورة من حيث صلته بالعالم، إلا أن «الرب» ليس بالضرورة إلها. وبولس يضع خطا فاصلا لا لبس فيه بين الربوبية التي ليسوع والألوهية التي لله، عندما يقول: «أما عندنا نحن فليس إلا إله واحد هو الآب، منه كل شيء وإليه نحن راجعون. ورب واحد هو يسوع المسيح به كان كل شيء ونحن به قائمون» (1كورنثة، 8: 6). وقد جعل الله يسوع ربا ومسيحا بقيامته من بين الأموات: «لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يسود على الأحياء والأموات» (روما، 14: 9). وقول بولس هنا يعكس ما ورد في سفر أعمال الرسل: «فليعلم يقينا جميع بني إسرائيل أن الله جعل يسوع، هذا الذي أنتم صلبتموه، ربا ومسيحا» (أعمال، 1: 36). وأيضا: «لذلك رفعه الله وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب» (فيليبي، 3: 9-11). وهذا يعني أن ربوبية يسوع تأتي من إعلان الله له سيدا على العالم بعد أن رفعه إليه. وإذا كان المسيح ربا للعالم بتخويل من الله، فإن الله هو رب ليسوع: «ولكني أريد أن تعلموا أن المسيح رأس كل رجل، والرجل رأس كل امرأة، والله رأس المسيح» (1 كورنثة، 11: 2-3). وفي النهاية عندما يخضع يسوع في مجيئه الثاني كل شيء لله، فإنه بدوره يخضع لمالك الكل: «ثم يكون المنتهى حين يسلم (المسيح) الملك إلى الله الآب بعد أن يبيد كل رئاسة وسلطان وقوة ... ومتى أخضع له (أي للآب) كل شيء، فحينئذ يخضع الابن نفسه لذاك الذي أخضع له كل شيء، فيكون الله كل شيء في كل شيء» (1 كورنثة، 15: 24-28).

ومع ذلك، يبقى لدينا في رسائل بولس نصان إشكاليان لا بد من إلقاء الضوء عليهما آخذين بعين الاعتبار ما قدمناه أعلاه. النص الأول ورد في الرسالة إلى أهالي روما حيث يقول: «لقد وددت لو كنت أنا نفسي ملعونا ومنفصلا عن المسيح في سبيل إخوتي بني قومي من النسب، أولئك الذين هم بنو إسرائيل، ولهم التبني والمجد والعهود والشريعة والعبادة والمواعد والآباء، ومنهم المسيح من حيث إنه بشر وهو الكائن على كل شيء إله مبارك أبد الدهور. آمين » (روما، 9: 3-5). إن معنى الجملة الأخيرة في النص اليوناني الذي لم يكن يحتوي على علامات الترقيم (مثل النقطة والفاصلة وما إليها) يختلف تماما إذا وضعنا نقطة بعد عبارة «كل شيء»، لأن التبريك والحالة هذه سوف يرجع إلى الله لا إلى المسيح، وتغدو الجملة على الشكل التالي: «ومنهم المسيح من حيث إنه بشر، وهو الكائن فوق كل شيء. الله مبارك أبد الدهور آمين.» وهذا ما يميل إليه معظم الباحثين في العهد الجديد اليوم، وما تبنته الترجمات الإنكليزية الحديثة ومنها الترجمة المعيارية المنقحة (Revised Standard Version) ، والكتاب المقدس الجديد (New English Bible) .

أما النص الثاني فهو عبارة عن ترتيلة متأخرة مرفوعة ليسوع المسيح تم إقحامها على نص بولس، على ما يرجحه كثير من الباحثين. وهي لا تتفق مع نظرة بولس إلى المسيح مما بيناه أعلاه. نقرأ في الرسالة إلى أهالي فيليبي: «فمع أنه في صورة الله، لم يعتبر مساواته لله غنيمة له، بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد، وصار على مثال البشر وظهر بمظهر الإنسان، وتواضع وأطاع حتى الموت، الموت على الصليب. لذلك رفعه الله ووهب له اسما فوق كل الأسماء، لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كل لسان أنه يسوع المسيح هو الرب تمجيدا لله. آمين» (فيليبي، 2: 6-11). إن التعابير المستخدمة هنا مثل «في صورة الله» و«مساواته لله» و«تجرد من ذاته» و«صار على مثال البشر» لتذكرنا بلاهوت إنجيل يوحنا الذي كتب بين عام 100 وعام 115م. فهي تنتمي إلى أفكار القرن الثاني الميلادي لا إلى عصر بولس. ولعل من يقرأ هذا النص في سياقه ضمن الرسالة، سوف يكتشف أن إزاحته لن تؤثر بشيء على السياق العام بقدر ما تجعله أكثر اطرادا.

وعلى ما نلاحظ في رسائل بولس، فإن الأدعية التي يرفعها هي موجهة للآب من خلال يسوع المسيح. فهو الشفيع والوسيط الذي ينقل تضرعات المسيحيين للآب وحمدهم وشكرهم له. وبولس إنما يضع هنا حدا واضحا وفاصلا بين الآب والابن ولا يماهي أحدهما بالآخر. نقرأ في مواضع متفرقة من نصوص بولس المقاطع التالية:

لم تتلقوا روحا يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل روحا يجعلكم أبناء، وبه ننادي يا أبتاه (روما، 8: 15-16).

فأناشدكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح أن تجاهدوا معي بصلواتكم التي ترفعونها لله (روما، 15: 30-31).

صفحة غير معروفة