وفي الحقيقة فإن المتتبع للتطورات اللاهوتية التي طرأت على العقيدة المسيحية خلال القرون الخمسة أو الستة التي أعقبت وفاة يسوع، ليعجب من تعايش مفهوم القيامة الجسدية ليسوع مع الاتجاه الذي كان يركز أكثر فأكثر على ألوهيته، على الرغم من استحالة التوفيق بين جوهر الجسد وجوهر الألوهة. هذا العجب يبلغ أشده بعد إصرار اللاهوت المسيحي على تبني مفهوم القيامة الجسدية مع تبنيه في الوقت نفسه لعقيدة الثالوث. فكيف يكون يسوع في السماء أحد تجليات الثالوث الأقدس مع احتفاظه بجسده الذي يحمل آثار الثقوب في يديه وأثر الحربة في جانبه؟ وكيف يلتقي جوهر الألوهة بجوهر الجسد في الحقيقة الكلية التي يمثلها الثالوث؟
نظرية المؤامرة
هل نجا يسوع من الصلب؟
في بستان جتسماني بعد العشاء الأخير صلى يسوع للآب قبل القبض عليه قائلا: «يا أبتا، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء .» وهذا يعني في رأي من تبنى نظرية المؤامرة في تفسير واقعة الصلب، أن يسوع كان يتوقع تدخلا إلهيا يصرف عنه كأس الموت المرتقبة، وأنه إلى جانب ذلك قد تدخل بشكل مباشر في تحقيق الفعل الإلهي المرتقب، من خلال مؤامرة مدبرة قادت إلى إنزاله حيا عن الصليب. وفي رأي هؤلاء فإن يسوع قد وعى مضامين النبوءات التوراتية المتعلقة بمصير عبد يهوه البار، والتي تتوقع نجاته من أيدي مضطهديه بعد معاناته للآلام. ومنها على سبيل المثال: «كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب» (المزمور، 34: 3). «الصديق ينجو من الضيق ويأتي الشرير مكانه» (أمثال، 11: 8). «من يقف لي ضد فعلة الإثم؟ لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعا أرض السكون. إذا قلت قد زلت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني ... يحكمون على نفس الصديق ويحكمون على دم زكي، فكان الرب لي صرحا وإلهي صخرة ملجئي، ويرد عليهم إثمهم وبشرهم يفنيهم» (المزمور، 94: 16-23). «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع قدوسك يرى فسادا. تريني طريق الحياة» (المزمور، 16: 10-11). «إذا سرت في ظل وادي الموت لا أخاف شرا لأنك أنت معي» (المزمور، 23: 4).
ولنتابع الآن نظرية المؤامرة كما بسطها عدد من الباحثين المعاصرين، وجلهم من اليهود.
فقد أعد يسوع خطته بحيث لا يأتي اعتقاله مبكرا أو متأخرا عن مساء يوم الخميس بعد تناوله عشاء الفصح مع تلاميذه. وحسب توقعه فإن ساعات قليلة سوف تكون كافية من أجل إجراءات المحاكمة التي لن تستغرق طويلا لأن التهمة هي التحريض ضد روما، وهذا يعني أنه لن يبقى على الصليب أكثر من بضع ساعات وسيتم إنزاله قبل مساء يوم الجمعة، أي مع حلول ليلة السبت التي لا يجوز أن يبقى فيها محكوم على الصليب. وفي هذه الحالة فإن فرصته في النجاة ستكون كبيرة وسيكون من الميسور إنعاشه ومداواة جروحه؛ لأن الموت على الصليب لا يأتي عادة قبل مرور يومين أو ثلاثة على أقل تقدير. وإذا كان يسوع مقتنعا من تفسيره للنبوءات التوراتية بأن المسيح سوف يتألم على الصليب ولكنه لن يموت عليه، فمن الطبيعي أن يكون قد اتخذ مسبقا الإجراءات الكفيلة بإنقاذ حياته.
ولقد بقي يسوع على الصليب ست ساعات وفق رواية مرقس وما يمكن أن نستنتجه من رواية متى ولوقا، وثلاث ساعات وفق رواية يوحنا. ولكن هذا في حد ذاته لم يكن كافيا، لأن إنزال المصلوبين كان يسبقه في مثل هذه الحالة كسر سيقانهم من أجل التعجيل بموتهم، وكان على يسوع أن يبدو في حالة موت حقيقي كيلا تكسر ساقاه، وأن يسلم جسده إلى أياد أمينة وصديقة لتعمل على إنعاشه، وإلا رمي في قبر عشوائي على ما جرت عليه العادة في التعامل مع جثث المحكومين من اللصوص والمشاغبين السياسيين. وهذا ما خطط له يسوع بالتعاون مع يوسف الرامي، الذي يصفه متى بأنه رجل غني كان قد تتلمذ ليسوع، ويصفه مرقس بأنه عضو بارز في المجلس اليهودي وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، ويصفه لوقا بأنه عضو في المجلس ورجل بار لم يوافقهم على خطتهم وأعمالهم. وفي إنجيل يوحنا نجد أن يسوع يشرك في خطته عضوا آخر في المجلس اليهودي كان أيضا تلميذا سريا له يدعى نيقوديمس.
ولقد قامت خطة يسوع ومساعديه على ترتيبين أساسيين، الأول إعطاء يسوع شرابا من شأنه أن يسبغ عليه كل مظاهر الموت، والثاني استلام يوسف الرامي لجسده بأسرع وقت ممكن بعد ذلك. ولغاية الحفاظ على سرية الخطة وضمان نجاحها، كان عليها أن تشتمل على أقل عدد ممكن من المشاركين بها، ولم يكن بين هؤلاء أحد من الرسل الاثني عشر على ما بينت لنا الأحداث اللاحقة. وقد جرى تنفيذ الترتيب الأول بالتعاون مع أحد المشاركين في عملية الصلب، عندما غمس إسفنجة في إناء خل مجهزة مسبقا ورفعها على قصبة وأدناها من فم يسوع بعد أن قال: أنا عطشان. فلما ذاق يسوع الخل حنى رأسه وأسلم الروح. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن هذه العملية لم تكن إجراء ساديا يهدف إلى السخرية من المصلوب، وإنما إجراء اعتياديا في مثل هذه الأحوال من شأنه إنعاش وتقوية المصلوب لما للخل من تأثر منبه. ولذلك من الغريب أن تكون ردة فعل يسوع هي العكس من ذلك تماما. والحقيقة هي أن ما قرب إلى يسوع ليشربه لم يكن خلا وإنما مركب يحتوي على الأفيون أو نوع آخر من المخدر ربما كان حشيشة البلادونا، من شأنه أن يجعل متناوله في حالة تشبه الموت. ويجب أن نلاحظ هنا أن الإسفنجة المغمسة بالخل لم تقدم إلا إلى يسوع من دون الآخرين المصلوبين معه.
عندما تلقى الجنود الأمر بكسر سيقان المصلوبين، عمدوا إلى كسر سيقان اللص الأول الذي صلب معه ثم اللص الآخر، وعندما وصلوا إلى يسوع رأوه قد مات فلم يجدوا حاجة إلى كسر ساقيه. ولكن شيئا غير متوقع حدث عندما قام أحدهم بطعن يسوع بحربة في جنبه، فخرج على إثرها دم وماء. وخروج الدم من الجسد يعني أن يسوع لم يكن بعد ميتا، ولكن حظوظه في النجاة لم تعد الآن قوية مثلما كانت. وهنا أسرع الشخص الذي سقى يسوع المخدر إلى يوسف الرامي وأبلغه بما حدث، فتوجه يوسف الرامي لساعته إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع، فمنحه إياه بعد أن تأكد من الضابط الروماني المشرف على العملية من موت يسوع. فقام يوسف ونيقوديمس وشخص ثالث معهما بدفن جسد يسوع في قبر جديد يقع في بستان قريب ربما كان ملكا ليوسف الرامي نفسه. أما الشخص الثالث فربما كان من سقى يسوع الشراب، أو البستاني الذي يعنى بأرض يوسف الرامي.
بعد إجراء بعض الإسعافات الأولية على جسد يسوع، جرى لفه بالكتان النقي ودهنه بخليط من المر والعود، الأمر الذي أوقف مؤقتا تدهور حالته، ثم ترك في القبر إلى مساء يوم السبت عندما تم نقله إلى مكان آخر من أجل إتمام عملية الإنعاش والإسعاف. ويبدو أن يسوع قد استعاد وعيه لفترة من الزمن وظن أنه سوف ينجو، فأوصى منقذيه أن يوصلوا رسالة منه إلى التلاميذ يطلب فيها منهم أن يسبقوه إلى الجليل حيث سيجتمع بهم هناك.
صفحة غير معروفة