ينطلق فكر فيلون من تصوره لمفهوم الله. فالله هو اللا متناهي؛ ولذلك فإن عقل المتناهي غير قادر على إدراكه، وكل ما نستطيع القول بشأنه يتخذ طابع السلب لا طابع الإيجاب. فهو ليس كذا وكذا، بل هو ليس بكذا وليس بكذا. ونحن في النهاية لا نستطيع أن نثبت له من صفات إيجابية إلا صفة الوجود. إننا نعرف أن الله موجود ولكننا لا نعرف مطلقا كيفية هذا الوجود. فهو وجود بلا كيف. ولذلك فإن فيلون لا يثبت من أسماء الرب إلا اسما واحدا وهو الاسم الدال على الوجود: يهوه
3 (راجع سفر الخروج، 3: 13-15). ولما كان المتناهي لا يتصل بالمتناهي فإن فعل الله في العالم لا يتم إلا من خلال وسيط هو اللوغوس الذي يعبر الهوة الفاصلة بين الله وخلقه . فاللوغوس هو باطن في الكون وهو علة الموجودات والقوة الحالة فيها والتي بها يتم كل تغير وحركة في الوجود، وهو يجمع إلى نفسه كل القوى الإلهية.
وبما أن غاية الفلسفة عند فيلون هي تحقيق الخلاص للإنسان وذلك بتجاوزه لحالة المتناهي إلى حالة اللا متناهي، فإن الطريق الذي يرسمه لتحقيق الخلاص هو التصوف الذي به تعرف نفسك، وتعرف أن العالم زائل وفان ومتناه، ولا قيمة إطلاقا لأي شيء موجود فيه. عند ذلك تتجه إلى معرفة الله حدسا وإلهاما والفناء عن نفسك فيه.
4
مشكلة إنجيل يوحنا
وعودة إلى التلميذ المحبوب
يعتبر إنجيل يوحنا ظاهرة متفردة بين الأناجيل الأربعة. فهو يمتلك رؤية خاصة، وبنية عامة، وتحقيبا زمنيا، وأسلوبا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيء في الأناجيل الأخرى. كما ويقدم لنا لاهوتا مختلفا عن لاهوت الأناجيل الإزائية. فرسالة يسوع في الأناجيل الإزائية هي رسالة أخروية، تركز على قرب حلول ملكوت الله والمطالب الأخلاقية اللازمة لدخوله، عندما ينتهي الزمن والتاريخ وينتزع الله العالم من سلطة الشيطان، ويرسل ابنه في قدومه الثاني ديانا ينهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالما جديدا يرثه المؤمنون. وقد ورد تعبير ملكوت الله في الأناجيل الإزائية نحو ثمانين مرة، أما إنجيل يوحنا الذي لم يرد فيه هذا التعبير إلا مرة واحدة، فإن طريقة تعامله معه توضح لنا مراميه اللاهوتية المختلفة: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل. فقال له نيقوديموس: كيف يسع الإنسان أن يولد وهو شيخ؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسدا ومولود الروح يكون روحا» (يوحنا، 3: 3-6). أي إن دخول الملكوت لا يكون في زمان مقبل، بل هو متيسر هنا والآن إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله. فرسالة يسوع ليست رسالة أخروية وإنما هي رسالة عرفان روحي يتحقق من خلال معرفة الابن الذي حمل الخلاص للعالم بموته على الصليب.
يتميز إنجيل يوحنا بأسلوب أدبي يوناني رفيع المستوى، وتتخلله أفكار فلسفية تنتمي إلى الأفلاطونية الوسيطة التي كان فيلون الإسكندري واحدا من أبرز ممثليها، إضافة إلى أفكار غنوصية تشكل الأساس اللاهوتي الذي يقوم عليه هذا الإنجيل. وهذا ما دعا الباحثين في السابق إلى اعتباره مصدرا للبحث عن يسوع اللاهوتي أكثر منه مصدرا للبحث عن يسوع التاريخي. ولكن كثيرا من الباحثين في العهد الجديد اليوم يرون أن مؤلف إنجيل يوحنا قد زودنا بتفاصيل صحيحة عن جغرافية وطبوغرافية فلسطين في أيام يسوع (لا سيما أورشليم) وعن العادات اليهودية وطقوس الهيكل. الأمر الذي يرجح في رأيهم أن مؤلفه كان شاهد عيان على حياة يسوع، وأن الأحداث التي يرويها تتمتع بقدر كبير من المصداقية.
إن أقدم الشذرات التي وصلتنا من إنجيل يوحنا ترجع إلى زمن ما بين عام 125 وعام 150م، كما أن أقدم الإشارات إلى هذا الإنجيل قد جاءتنا من أواسط القرن الثاني الميلادي. وهذا يعني أن الإنجيل قد دون قبل عام 125م. والرأي الغالب لدى الباحثين اليوم أنه قد دون بين عام 100 وعام 110م.
1
صفحة غير معروفة