الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
تصانيف
وقد استمرت قصص الخوارق في الظهور نتيجة إقبال القراء عليها، خاصة النشء والأطفال، وأصبحت نوعا أدبيا موازيا لروايات الخيال العلمي التي تزخر أيضا بالخوارق. ولم يكن من الطبيعي أن تحتوي الروايات الواقعية على أي أحداث تفوق الواقع، وذلك إلى أن ظهرت روايات مثل التي كتبها كافكا، ثم الروايات السيريالية التي جمعت بين الأحداث الخارقة للطبيعة والأحداث الواقعية. وقد مهد ذلك لما أصبح يطلق عليه الواقعية السحرية. (1) الواقعية السحرية
ارتبط مصطلح الواقعية السحرية
MAGICAL REALISM
بروايات أمريكا اللاتينية في الفترة المسماة «الرواج»
BOOM
في الستينيات من القرن العشرين. وكان هذا الأسلوب رد فعل للروايات الواقعية والطبيعية - المتأثرة بروايات إميل زولا الفرنسية - التي تفاعلت مع الواقع الاجتماعي والإنساني في بلاد أمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فقد حاولت الرواية في ذلك الوقت توثيق الواقعية توثيقا حرفيا لكشف العلل الاجتماعية التي تفشت في المجتمع آنذاك، وأهمها قسوة الظروف الطبيعية، وضراوة استغلال الطبقات الثرية للطبقات الضعيفة المهمشة، من الفقراء والمرضى والسكان الهنود الأصليين. وقد أدى ذلك إلى ظهور روايات تبسط الواقع وتقدم شخصيات مسطحة، إما بيضاء ناصعة أو سوداء، فالأثرياء والإقطاعيون قساة فاسدون، والفلاحون الأجراء والفقراء ضحايا أبرياء.
بيد أن تيار الرواية الجديدة التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين جابهت فرضيات الواقعية التقليدية وأسسها الاجتماعية بالشكوك الميتافيزيقية التي ظهرت في ذلك الوقت في أوروبا. فقد أدت أزمة إيمان الإنسان الحديث تجاه القيم التقليدية إلى نبذ النظرية الغربية المتوطدة في الدين والأخلاق والخير العام والتي تنظر إلى الحياة بوصفها وحدة منتظمة تقوم على مبادئ محددة عن الخير والشر، فإذا الروائي الحديث يدرك زيف الواقعية الحرفية، وأن محاولة تصوير الواقع لا يمكن أن تتحقق عن طريق التقسيم الاعتسافي الأخلاقي الذي كان متبعا من قبل، وأن الوجود الإنساني والشخصية البشرية أعقد من أن يجرى تصويرهما بتلك الطرق السطحية. ولهذا، كان على الفن القصصي الحديث أن يهجر نظرية المحاكاة العتيدة والتصوير الحرفي، وأن يتبع تقنيات مركبة كيما يعبر عن واقعية مركبة. ومن هنا ظهرت أساليب المونولوج الداخلي، واختفاء الراوي، وتيار الوعي واللاوعي، ووجهات النظر المتعددة، وتشظي الزمن، والتركيبات المعقدة المتشابكة، والرمزية المتعددة الأوجه .. وغيرها من أساليب الفن الروائي الحديث. وقد ارتبطت هذه التجديدات الروائية والشعرية أولا بالسيريالية الأوروبية التي ظهرت بشكل أوضح في الرسم والتصوير. وقد اتخذت تلك التجديدات زخما مغايرا إلى حد ما في قصص أمريكا اللاتينية بالذات، كيما تساير الواقع المحلي في تلك البلدان. فالواقعية السحرية التي أطلقت على أعمال جابرييل جرسيه ماركيز وماريو فارجاس يوسا وغيرهما، ارتكزت على فكرة أن واقع أمريكا اللاتينية مختلف عن واقع البلدان الأخرى، فهو قد تحدد على نحو غير عادي، مزيج من الفانتازيا والعجائبية، نتيجة للتاريخ المعقد المتشابك الغريب الذي مرت به بلدانها، ونتيجة التنوع الإثني الواسع فيها.
وقد ارتبطت الواقعية السحرية ارتباطا عفويا بالروائي الكولومبي ماركيز منذ صدور روايته «مائة عام من العزلة». وقد احتوت هذه الرواية بالفعل على أحداث خارقة للعادة، ولكنها جاءت في سياق واقعي شعبي في حياة أشخاصها، مثل صعود «ريميديوس» إلى السماء، والفراشات الصفراء التي كانت تحوم على الدوام حول «ماوريسيو بابيلونيا». وقد ذكر ماركيز في مقابلاته الصحفية أن كل الأحداث التي تبدو خارقة في الرواية، لها أصل في الواقع، وأنه يعرف أناسا ريفيين بسطاء قرءوا «مائة سنة من العزلة» بسرور وتفهم عظيمين دون أي استغراب من أحداثها، لأنه لا يقص فيها أي شيء غريب عن الحياة التي يعيشونها بالفعل.
والحقيقة أن ربط الواقعية السحرية بماركيز أمر تعسفي؛ إذ إن ذلك الأسلوب قد ظهر - بصورة أو بأخرى - في أعمال أدباء آخرين في أمريكا اللاتينية، منهم ميجيل أنخل أستورياس في «السيد الرئيس» و«رجال الذرة» وغيرهما، وخوان رولفو في روايته القصيرة البديعة «بدرو بارامو»، وفي معظم قصص خورخي لويس بورخيس.
وهناك من النقاد من يرون في روايات «فرانز كافكا» نوعا مبكرا من الواقع السحري، وهو من الروائيين الذين تأثر بهم ماركيز، وقال إن قراءته لرواية «المسخ» هي التي أقنعته بأن في وسعه أن يصبح كاتبا هو الآخر. بيد أن النقاد يغفلون - في المحصلة الأخيرة - عن حقيقة أن أول الحكايات التي ظهرت فيها الواقعية السحرية، هي قصص ألف ليلة وليلة، وهي من الكتب التي قرأها وتأثر بها كل أدباء أمريكا اللاتينية المذكورين آنفا، وعلى رأسهم بورخيس وماركيز، على نحو ما ذكرناه في فصل آخر من هذا الكتاب. وكان «الأستاذ»، نجيب محفوظ، من الروائيين الذين أشاروا - في أحاديثه مع محمد سلماوي - إلى أسبقية الرواية الأم، أو أم الروايات، إلى معالجة أسلوب الواقعية السحرية، قبل أن يظهر ذلك المصطلح إلى الوجود - بالطبع - بقرون عديدة.
صفحة غير معروفة