الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
تصانيف
COURTLY LOVE ، والذي يعني به الحب الذي ساد أوروبا في القرن الثاني عشر وظهر في أدب الملاحم والقصص وفي أشعار التروبادور أو الشعر البروفنسالي بوجه عام. ذلك أن التعبير العربي الحب العذري، أو الحب الرومانسي لا يؤديان المعنى المطلوب تماما، كما أن اقتراحات تسميته بالحب الرفيع لا تفي بالغرض. فإذا لجأنا إلى الترجمة الحرفية وقلنا «حب البلاط» أثار ذلك سخرية القراء العرب! وعلى هذا، وحتى نتفق على تسمية عربية جامعة للمصطلح، لا مفر من تسميته هنا مؤقتا «الحب الغزلي»، ولذلك فليعتبر القراء أننا نذكر فيما يلي هذا الاصطلاح العربي معنيا به المصطلح الإفرنجي سالف الذكر.
وقد عرف «باري» وغيره مفهوم الحب الغزلي بأنه الحب الذي يخاف الحبيب فيه دوما أن يقوم بأي شيء يغضب حبيبته أو يجعله غير جدير بحبها؛ ومركز الحبيب هو مركز أدنى من حبيبته، فحتى أعتى الفرسان والمحاربين يرتجف حبا في حضور حبيبته. أما من ناحيتها، فهي تعمل دائما على جعل حبيبها غير واثق أو مطمئن تماما من عاطفتها نحوه، عن طريق سلوك نزق متعال. والحب هنا مصدر شجاعة وسمو، وإن لا يكون عفيفا بالضرورة، فكثيرا ما تكون الحبيبة متزوجة. وتعمل قسوة الحبيبة الظاهرية على اختبار شجاعة الحبيب وصبره وقوة احتماله. والحب الغزلي، مثله مثل الفروسية، هو فن له قواعده الخاصة به. والحب الغزلي في معظمه حب نزوي، يائس، ويكون طرفه حبيبة قصية المنال، محجوبة، أو متزوجة. وقد ظهرت تعريفات هذا الحب وغيره عند ابن حزم (994-1064م) في كتابه المشهور «طوق الحمامة» الذي ترك أثرا بالغا في صور الحب ومفاهيمه في الأندلس وأوروبا منذ تأليفه.
ورغم أن مصطلح الحب الغزلي في أواخر القرن التاسع عشر فحسب، فإن الجدل الأكاديمي حول أصول ذلك النوع من الحب، وأصول الشعر البروفنسالي قد بدأت منذ عصر النهضة الأوروبية، حيث ساد الاعتقاد بين الباحثين بأن الشعر الأوروبي «الجديد» قد بدأ في بروفانس في القرن الثاني عشر، وأن مفهوم الحب كما تبدى في أشعار التروبادور مغاير تماما للمفهوم الذي عبر عنه الشعراء اليونانيون والرومانيون قديما. وقد عدد «روجيه بواز» في كتابه الهام «مصادر الحب الغزلي ومعناه» (1977م) أصول شعر التروبادور والحب الغزلي التي أشار إليها الباحثون والنقاد على مر القرون، وحصرها في سبعة مصادر محتملة هي: (1) العربي الأندلسي (2) تقاليد الفروسية (3) ديانة «الكاثار» المسيحية (4) الأفلاطونية الجديدة (5) تبجيل السيدة مريم العذراء (6) طقوس الربيع الفولكلورية (7) التقاليد الإقطاعية.
وهو يذكر أن أكثر الفرضيات احتمالا وقبولا، هي نظرية الأصل العربي للحب الغزلي ولشعر التروبادور وموسيقاهم وأغانيهم، بيد أنها لقيت - وما تزال تلقى - معارضة من عدد من الباحثين الغربيين. ويرجع المؤلف ذلك إلى النعرات القومية، والاعتقاد بأن الحضارة الغربية قد ورثت مقوماتها من الثقافة الهيلينية والرومانية القديمة. وبرغم التسليم العام بفضل العرب والمسلمين في الحفاظ على الفلسفة اليونانية والإضافة إليها، والإبداع في علوم الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والفلك وغيرها، فإن فكرة الأثر الذي تركه الأدب العربي الإسلامي في الآداب الأوروبية، تلقى صدا لا معنى له.
وكان الباحث الإيطالي «جياماريا باربيري» (1519-1575م) هو أول من دافع عن النظرية القائلة بأن العلاقات مع إسبانيا العربية قد ساهمت في نشأة شعر التروبادور البروفنسالي في القرن الثاني عشر. وهو يقول إن العرب قد ابتكروا في القرنين السادس والسابع الشعر المقفى، وأن البروفانس قد تعلمت ذلك الفن من إسبانيا أيام الحكم العربي فيها. ويضيف - بتحديد غريب - أن هذه النقلة الأدبية قد حدثت عام 1112م، حين تولى «رامون برنجر» كونت برشلونة، كونتية إقليم بروفانس، مما أدى إلى توحد المقاطعتين ثقافيا وحضاريا. ورغم أن بحث بربيري ذاك لم ينشر إلا عام 1790م، فهو كان معروفا ومتداولا بين الباحثين ومؤرخي الأدب في إيطاليا منذ وضعه في القرن السادس عشر.
ثم شهد القرن الثامن عشر مدافعين آخرين عن الأصل العربي للحب الغزلي والشعر البروفنسالي، منهم الإسباني «خوان أندريس» (1740-1817م) والألماني «فردريك بوترفرك»، وقد اعتمدا في أبحاثهما على المرجع الشامل الذي نشره «ميجيل كاسيري» خلال الأعوام 1760-1770م بعنوان
Biblioteca Arabico-Hispana Escorialensis ، وهو عبارة عن كتالوج بالمخطوطات العربية في مكتبة الإسكوريال الإسبانية الشهيرة. وقد مثل هذا المرجع أساسا هاما اعتمد عليه الباحثون لإثبات الأصول العربية لكثير من الموضوعات والأفكار، من عناوين المخطوطات والكتب التي وردت في الكتالوج. وقد خلص خوان أندريس إلى أن أنواع الشعر البروفنسالي توازي مثيلاتها عند العرب، وأن المدارس الشعرية في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا قد أقيمت على طرز المؤسسات الشعرية العربية. وأشار أندريس إلى التقاليد الشعرية العربية العريقة التي ترجع إلى عهود «سوق عكاظ»، وإلى تفوق العرب في فنون الموسيقى خصوصا في الأندلس، مما يتبدى في الأصل العربي لأسماء كثير من الآلات الموسيقية المستخدمة أيامه. وينتهي إلى القول صراحة بأن العرب قد أورثوا أوروبا شعرهم ومبادئ الموسيقى الحديثة.
وهناك الباحث القطلوني (نسبة إلى إقليم قطالونية في الشمال الشرقي لإسبانيا، وله لغته الخاصة به المتفرعة أيضا عن اللاتينية) «خافيير لامبياس» (1731-1810م) الذي أبرز نظرية اللغوي القطلوني «أنطونيو باستيرو» بأن اللغتين القطلونية والبروفنسالية كانتا في الأصل متطابقتين؛ فالقطلونية التي دخلت جنوب فرنسا منذ القرن التاسع عن طريق كونتات برشلونة، أصبحت هي اللغة الأدبية لإقليم البروفانس.
ومع أن القرن التاسع عشر قد شهد أبحاثا عدة تناهض فكرة الأثر العربي في شعر التروبادور وموسيقاهم، فقد شهد أيضا متحمسين لهذه الفكرة، منهم سيموند دي سيسموندي (1773-1842م)، بأقوال مثل : «إن القصص العربية هي مصدر تلك الرقة والرهافة في المشاعر تجاه المرأة التي سادت عصور الفروسية الأوروبية. والفروسية - التي كانت روح الأدب الجديد أيامها - هي مستورد عربي لم يرتبط في بادئ الأمر بالنظام الإقطاعي. فقد أدخل رايموند برنجر ومن تبعه إلى بروفانس روح الحرية والفروسية مع العلوم العربية التي وفدت إلينا.» أما الباحث «ديبيكليز» فيقول عام 1846م إن النظرة إلى المرأة بوصفها رمزا مقدسا قد انتقلت من الشعر العذري والشعر الصوفي العربي والإسلامي، عبر إسبانيا وعن طريق الصلات التي حدثت إبان الحروب الصليبية، إلى أوروبا. كما تناول المستشرق الألماني المعروف «فون هامر-بيرجستال» (أحد باحثي ومترجمي ألف ليلة وليلة) موضوع الأصل العربي للفروسية الأوروبية ، فلاحظ أن الشعر العربي الذي انتشر في الأندلس في القرن التاسع يتبدى فيه ذلك التقديس الرفيع السامي للمرأة، وهو ما أصبح بعد ذلك من الصفات الأساسية لنظام الفروسية الأوروبي ولشعراء التروبادور.
وفي مسار القرن العشرين، اكتسبت نظرية الأصل العربي لشعر التروبادور والحب الغزلي زخما جديدا بفضل جهود عدد من المستشرقين الذين توفروا على دعمها وإثباتها باستخدام أساليب نقدية جديدة في مجالات علوم الاجتماع والأنثروبولوجي وعلم النفس والأدب المقارن واللغويات والنقد النصي. وقد أكد «خوان ريبيرا» (1858-1934م) ما ذكره خوان أندريس سابقا من خروج شعر التروبادور وموسيقاهم من عباءة الزجل الأندلسي والغناء العربي في الأندلس. ودعم ذلك الموقف المستشرقون «كونراد بورداخ» في ألمانيا، و«جورج ماسينيون» في فرنسا و«كارولينا ميخائيليس» في البرتغال و«منندث بيدال» في إسبانيا. وقد بين بورداخ أن النموذج الأنثوي في نظرية الشعر البروفنسالي والحب الغزلي يتناقض مع النموذج المسيحي الكنسي، وأنه ليست هناك سوابق في الأدب اليوناني أو الروماني يمكن أن تكون أساسا له.
صفحة غير معروفة