الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
تصانيف
التي كانت ذائعة وقتها. وكل هذه الأنماط الأدبية قد تولدت من الأدب - بكل أنواعه - الذي كان موجودا في إسبانيا العربية الإسلامية. ويرجع الباحث الإنجليزي «توماس وورتون» جميع الرومانسات الأوروبية إلى إسبانيا العربية. فهو يوسع من افتراض أن إسبانيا القروسطية قد نشرت المعارف الأدبية إلى جانب المعارف العلمية والفلسفية المعترف بها. ومن بين عشرات الرومانسات المتبقية من العصور الوسطى، تبرز الأمثلة التالية:
رومانسة الإسكندر
وهي من أشهر الرومانسات الأوروبية ذات الأصول العربية والتي استمدت مضمونها من كل من الكتاب اليوناني المصري المنسوب لكالستينس، ومن القصص القرآني عن ذي القرنين، الذي أسهب بعض مفسري القرآن الكريم في وصفه وإسناد الوقائع إليه بما يؤكد أن المقصود به هو الإسكندر الأكبر. والرومانسات الأوروبية القروسطية عن الإسكندر تنسب إلى «ألبيريك دي بريانسون» و«ألكساندر دي برنيه» الفرنسيين. وتدخل عناصر عربية وشرقية إلى نسخ قصص الإسكندر حين تحكي عن ترحاله في مناطق آسيا بحثا عن نبع الحياة الذي يهب من يستحم فيه الحياة الأبدية؛ وفي جهة ما تهرب سمكة من تابع الإسكندر وتتسرب إلى ينبوع قريب، فيقفز التابع وراء السمكة فينال الخلود، فقد كان ذلك هو نبع الحياة الأبدية الذي يبحث عنه القائد العظيم وإن لم يستفد منه، فالأسطورة تقول إن واحدا فقط - هو أول من تغمره مياه النبع - هو المستفيد بالحياة الأبدية. وتمضي القصة لتقول إن ذلك التابع أصبح يسمى «الخضر»، الذي ينبت الزرع الأخضر من تحت قدميه، والذي مقدر له أن يعيش حتى يوم القيامة. وواضح أن عنصر هذه القصة مأخوذ من أحداث موسى عليه السلام وصاحبه، المذكورة في سورة الكهف، ومن تعليقات مفسري القرآن الكريم القدامى على تلك السورة التي يذكر فيها ذو القرنين أيضا، وهو الذي قال عنه المفسرون إنه هو الإسكندر الأكبر. وقد تخللت التفاسير القرآنية - التي دخلتها الكثير من الإسرائيليات من تفاصيل الأحداث التاريخية والقصص - قصص ووقائع عديدة عن حياة الإسكندر المقدوني كتبها معلقون فارسيون وشعراء ملاحم كالفردوسي ومؤرخون كالطبري، وكلها تردد قصة نبع الحياة وكيف ناله الخضر وعجز الإسكندر عنه.
وقد تلاقت في إسبانيا الأندلسية جميع العناصر المتعددة لأسطورة الإسكندر الأكبر، اليونانية والسريانية والفارسية، واتخذت صبغة عربية أصيلة، أخذ عنها من أخذ من واضعي القصص والرومانسات الأوروبية، بعد أن خلعوا عليها ما يناسب قوميتهم ودينهم، واطرحوا عنها الجوانب الإسلامية والقرآنية التي وردت في كثير من المخطوطات العربية التي تناولت القصة. وقد بقي من القصة العربية شخصية الخضر، التي ظهرت بعد ذلك في رومانسات أوروبية أخرى ملتبسة بفارس في أساطير الكأس المقدسة يدعى الفارس الأخضر.
ومن بين مخطوطات القصة العربية الأصلية، نشر المستشرق الإسباني الكبير إميليو غرسية جومز مخطوطا كاملا عن الإسكندر وغزواته في فارس، في كتاب ثمين قدم له بدراسة قيمة عن الموضوع، وألحق به النص العربي الكامل للمخطوط.
فلوار إي بلانشفلير
وهي رومانسة فرنسية أولى تدور حول موضوع شرقي، عن الحب الذي يدور بين فلوار وبلانشفلير منذ الطفولة، وحبكة القصة عربية بحتة في ثوب غربي مسيحي، تحكي عن قتال بين جماعة من المسلمين والمسيحيين، يأسر فيه المسلمون سيدة تلتحق بخدمة زوجة ملك إسبانيا الأندلسية. وفي إسبانيا، تلد ابنة تدعوها بلانشفلير (قارن أسماء الأزهار في ألف ليلة: ورد الأكمام، والملك زهر شاه، وريحانة، وغير ذلك)، في نفس اليوم الذي تلد فيه الملكة المسلمة ولدا يسمى فلوار. وينمو الطفلان معا، ويرضعان من الأم المسيحية، ويقعان في حب أحدهما الآخر. ولكن الملك والملكة لا يرضيان عن ذلك الحب بالطبع، فيبيعان بلانشفلير سرا، ويشيدان قبرا فارغا يوهمان ابنهما أنه قبر حبيبته التي ماتت (والقبر المزيف تيمة متكررة في بعض حكايات ألف ليلة). وحين يعلم فلوار ذلك يمرض ويشارف الموت، فيضطر الأبوان أن يخبراه بالحقيقة، فيرحل الابن بحثا عن بلانشفلير. ويعثر عليها بعد الكثير من التجوال ويجدها جارية في حريم أمير بابل (أي بغداد أيام الخلافة العباسية) ويرشو الخدم كيما يدخلاه إلى القصر مختفيا في سلة ورود ضخمة. وحين يكتشف الأمير العربي الأمر، يحكم على العاشقين بالموت، ولكن الحب الغامر بين فلوار وبلانشفير، الذي يتبدى في طلب كل منهما أن يموت قبل الآخر، يدفع الأمير إلى العفو عنهما والقبول بزواجهما. والقصة تحفل بالجو الشرقي وطرائفه وعجائبه ، كما أن الحبكة نفسها مأخوذة من قصص ألف ليلة وليلة، وإن فات الصائغ البروفسالي للحكاية - وهو يضفي الطابع الغربي المسيحي إليها - كثيرا من الهنات، مثل امتناع الزواج بين فلوار وبلانشفير بحكم أنهما أخوان في الرضاعة. وقد يكون ذلك هو السبب الأصلي لمعارضة الملك والملكة في زواجهما في أول الأمر.
أوكاسان ونيكوليت
وهي مثال واضح آخر للرومانسة الفرنسية في القرون الوسطى التي استمدت موضوعاتها وشكلها من حكايات وأغاني المقامات العربية وقصص ألف ليلة وليلة التي كانت تلقى وتنشد شفاهة على السامعين في حلقات متقطعة. وما من شك في أن مؤلف هذه القصة الشعبية التي تجمع بين الشعر والنثر هو من قبيل مؤلفي التروبادور البروفنساليين الذي ألبس حبكته العربية ثيابا فرنسية مسيحية؛ فمن المعروف اليوم أنه اختار اسم نيكوليت من الاسم نيقوليس المستمد من اسم بلقيس العربية ملكة سبأ، وأن أوكاسان هو الصيغة الفرنسية للاسم العربي أبو القاسم، والقصة ذاتها ترداد لتيمات واردة في حكاية الأمير أنس الوجود في ألف ليلة وليلة.
والرومانسة الفرنسية تدور حول أوكاسان، ابن أحد النبلاء من حكام إقليم بروفانس الفرنسي، الذي يهيم حبا بنيكوليت الأسيرة المسلمة التي جلبها معه أحد أتباع الحاكم في غزوة من غزواته. بيد أن الأب يحظر على ابنه الزواج من حبيبته، ويأمر بإلقاء نيكوليت في السجن. ويمرض الحبيب، ويمتنع عن مشاركة أبيه في الحرب ضد النبلاء الطامعين في أرضه إلى أن يقطع على نفسه عهدا بالسماح له بلقاء حبيبته إذا ساعد في المعارك. بيد أن الأب يحنث بوعده، ويلقي بابنه في السجن، ويتهدد حياة نيكوليت فتهرب إلى الغابات ويشاع أنها هلكت هناك. ويطلق الأب سراح ابنه أوكاسان محاولا تعزيته عن حبه، غير أن العاشق يخرج سعيا للبحث عن نيكوليت ويعثر عليها في خاتمة المطاف. ويأوى العاشقان إلى قلعة أسطورية حيث يعيشان ثلاث سنوات في سعادة غامرة، إلى أن يغزو المسلمون المنطقة ويأسروا نيكوليت وينقلوها معهم إلى قرطاجة حيث يتعرف ملكها عليها باعتبارها ابنته التي كان الفرنسيون قد أخذوها أسيرة من قبل. ويصل أوكاسان إلى بلده بعد ذلك، فيجد أن أباه قد توفي وأنه قد أصبح حاكما للإقليم من بعده. وترحل نيكوليت إلى فرنسا طلبا لحبيبها متنكرة في زي منشد أغان جوال، ويلتقيان في النهاية، حيث يعيشان «في تبات ونبات»، ونكاد نقول «إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات!»
صفحة غير معروفة