الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
تصانيف
وتأتي بعد ذلك حكاية «علي كوجيا» (وأحيانا يطلق عليه علي خواجة) التي تصور طرق الاستدلال العقلي في التوصل إلى حل جريمة ارتكبت في حق أحد التجار. وتقع أحداث القصة في بغداد في زمن الخليفة هارون الرشيد، حيث كان يعيش تاجر ميسور الحال يدعى «علي كوجيا». ويرى في منامه ثلاث مرات متتالية أحد الشيوخ يحثه على أداء فريضة الحج، فيرى في ذلك إلهاما سماويا ويعتزم الذهاب إلى مكة المكرمة للحج. وقبل سفره، يضع ألف دينار من الذهب فاضت لديه في جرة فخارية، ويغطيها بشيء من حبات الزيتون للتمويه، ويذهب بالجرة إلى صديق له من التجار واسمه «حسن» طالبا منه أن يحتفظ بها لديه كأمانة إلى حين عودته.
وبعد أن يتم كوجيا مراسم الحج، يطوف بعدد من البلاد الإسلامية للتجارة، فيذهب إلى القاهرة ودمشق وبيت المقدس، مما يستغرق منه سبع سنوات طويلة. وفي تلك الأثناء، يظن صديقه حسن أنه لن يعود، ويغريه ذلك بفتح الجرة الأمانة كي يحضر منها بعض الزيتون لزوجته، رغم تحذير الزوجة لزوجها بعدم خيانة الأمانه وأن الزيتون لا بد وأن يكون قد فسد بطول الزمن. ولكن الصديق التاجر يفتح الجرة رغم ذلك ويعثر في النهاية على الدنانير الذهبية فيستولي عليها لنفسه، ويعيد ملء الجرة كلها بالزيتون ويغلقها بحيث تبدو على نفس الهيئة التي تركها عليها علي كوجيا ووضعها في نفس المكان الذي اختاره علي كوجيا لها في مخزن التاجر حسن.
ويعود علي كوجيا آخر الأمر بعد كل هذه السنوات ويذهب إلى صديقه حسن ليسترد الأمانه. ويرحب به حسن، ويقوده إلى مخزنه حيث يريه الجرة في نفس المكان الذي تركها علي كوجيا فيه، مؤكدا له أن أحدا لم يمسها منذ رحيله للحج ولم تتحرك من المكان الذي تركها فيه. وحين يفتح علي كوجيا الجرة، يجدها كلها زيتونا ولا أثر هناك للذهب الذي كان قد أودعه فيها. ويعود إلى صديقه ليشرح له الأمر، ولكن الصديق ينكر أنه قد مس الجرة، ويلج في الإنكار، مركزا على أن علي كوجيا قد استرد الجرة كما كان قد تركها بالضبط. ويضطر علي كوجيا إلى رفع شكايته إلى القاضي. ويستجوب القاضي التاجرين، ويطلب من علي كوجيا أدلة تؤيد زعمه بوجود الذهب في الجرة، فلا يجد ما يمكن أن يقدمه له كدليل. ولما يحلف التاجر حسن على صحة ما يقوله بعدم استيلائه على أي مال كان بالجرة، يضطر القاضي إلى الحكم ببراءة حسن.
وتنتشر قصة التاجرين الصديقين في كل بغداد، وتتناقلها الألسن والأسماع، وأصبحت حديث السمار. وكان علي كوجيا قد صمم على رفع مظلمته إلى الخليفة هارون الرشيد كي يقضي فيها بنفسه، فانتظره في طريق عودته من صلاة الجمعة، وأعطاه ملتمسه بالتحقيق في قضية صديقه الذي خان الأمانه وسرق أمواله. وكان من عادة الخليفة النظر في المظالم - كنوع يقوم مقام قضايا الاستئناف الحديث حين لا يرضى طرف من أطراف الخصومة بالحكم «الابتدائي» الذي يصدره قاضي البلدة. وعشية اليوم الذي حدده الخليفة للنظر في قضية علي كوجيا والتاجر حسن، يخرج هارون الرشيد كعادته في بعض الليالي متنكرا مع وزيره جعفر وخادمه مسرور، ليستطلع أحوال الرعية. وإذا به يرى جماعة من الصبية يلعبون، فوقف يراقبهم من حيث لا يرونه. وكان الصبية قد أقاموا تمثيلية يقومون فيها بتقليد قصة علي كوجيا مع صديقه التاجر. وقام أحد الصبية بتمثيل دور القاضي الذي يفصل بين المتنازعين؛ وأشار في تحقيقاته إلى ضرورة فحص الزيتون الذي بالجرة ومعرفة تاريخه وزمنه، فإذا كان الزيتون قديما قد مرت عليه سنوات، فقد كذب خواجة وصدق حسن، أما إذا كان الزيتون حديثا، فقد كذب حسن وصدق علي كوجيا. وقام صبيان آخران بتمثيل الخبراء في تجارة الزيتون، وفحصا الزيتون الذي بالجرة، وحكما بأنه حديث لم يمر عليه شهور، فحكم القاضي - الصبي الممثل - لصالح علي كوجيا وبعقاب التاجر حسن لخيانته الأمانة. وانتهت التمثيلية بالضحكات طبعا، فقد كان الأمر كله تمثيلا في تمثيل. بيد أن الخليفة الذي رأى كل شيء، ينتابه الإعجاب بذكاء الصبي الذي مثل دور القاضي، ويشير إلى وزيره جعفر بضرورة إحضار ذلك الصبي في الغد لحضور جلسة القضية التي سيحقق فيها الخليفة للفصل بين التاجرين.
وفي اليوم التالي، يحضر الجميع. ويعرض كل من علي كوجيا والتاجر حسن قضيتهما. ويطلب الخليفة من الصبي أن يكرر ما فعله في الليلة الماضية. فيطلب الصبي تذوق الزيتون، فيتذوقه الخليفة ويرى أنه زيتون حديث. بيد أنه لا يكتفي بنفسه، بل سار على نهج ما فعله الصبي بالأمس، فطلب من بعض الثقات في تجارة الزيتون وأصنافه الحكم على تاريخ الزيتون الذي بالجرة، فيحكمون جميعا أنه من حصاد العام الذي هم فيه. ومن هنا يتبين صدق علي كوجيا وكذب صديقه الذي خان الأمانة. وينزل الخليفة عقابا صارما بالتاجر حسن بعد أن يعيد الذهب الذي سرقه إلى علي كوجيا. ويهب الخليفة مائة دينار مكافأة للصبي الذكي، ويطلب من القاضي الذي سبق له الحكم في القضية دون تحقيق بأن يأخذ العبرة من الوسائل التي استخدمها الصبي الصغير للتوصل إلى الحقيقة في القضايا التي يتنازع الأطراف فيها دون أن تكون هناك أدلة للحكم فيها.
أما حكاية أمير اليمن وأبنائه الثلاثة، فهي مثال طيب لقوة الاستدلال والخروج بأدلة من أشياء معينة تحيط بحدث من الأحداث، وهو ما يميز المحقق البوليسي الماهر. فهذه القصة تحكي عن ثلاثة من الأمراء، قسم أبوهم الملك إرثه عليهم قبل موته، فأوصى لأكبرهم بالملك من بعده، ولأوسطهم بالأموال والمجوهرات، وللأصغر الثروة الحيوانية من كل نوع. ولكنهم يتنازعون بعد وفاة الأب، فالكل ينشد السلطان والحكم، فيتفقون مع وزراء المملكة على الذهاب لأحد السلاطين الذين كانوا تابعين لأبيهم، كي يحكم بينهم فيما فيه يختلفون. وفي الطريق يمرون بمرج أخضر يستريحون فيه، ويدلون بالملاحظات الموجودة في الفقرة المقتبسة ص295 عن أوصاف أحد الجمال. ولكن، ما إن يسمع صاحب الجمل المذكور ما قالوه عن جمله حتى يمسك بخناقهم متهما إياهم أنهم هم الذين سرقوا جمله، فقد تبين أن الجمل قد ضل عن صاحبه، ولما وجد الجمال هؤلاء الثلاثة يدلون بأوصاف واقعية يتميز بها جمله، تأكد أنهم هم سارقوه. وينفي الأمراء بالطبع أي شأن لهم بسرقة الجمل، ولكن صاحب الجمل يلاحقهم ويذهب معهم إلى السلطان كي يقتص له منهم أيضا.
وحين يصل الجميع إلى السلطان، ويسألهم عن شكاية صاحب الجمل، وكيف عرفوا أوصاف الجمل بهذه الدقة إن لم يكونوا قد رأوه، يجيبون كالآتي: أما الأمير الأول فقد قال إنه قد لاحظ الذباب وقد تجمع في جانب واحد من المكان الذي برك فيه الجمل بينما كان يتجنب الاقتراب من الجانب الآخر، فاستنتج أن الجمل كان يحمل سكرا على ذلك الجانب ويحمل حامضيات على جانبه الآخر. وقال الأمير الثاني إنه قد لاحظ أن العشب في المرج مأكول من ناحية واحدة فقط بينما قد ترك ناميا في الجانب الآخر، فاستدل على أن الجمل أعور لم ير العشب إلا بعين واحدة في الجانب الذي أكله. وقال الأمير الثالث إنه لاحظ أن روث الجمل قد تكوم كله مكببا فوق بعضه، فاستنتج أن الجمل لم يكن لديه ذيل، فالجمال عادة تهز الروث بذيلها وتنثره هنا وهناك.
وعند ذلك أبدى سلطان السلاطين إعجابه بدقة ملاحظة هؤلاء الأمراء، وفراستهم البارعة، وصرف الجمال، وأبدى دهشته أنهم - وهم على ذلك القدر من الذكاء - يلجئون إليه طلبا للمشورة دون أن يكون بوسعهم حل مشاكلهم بنفسهم. وعندها يشعر الأمراء بالخجل، ويعودون إلى مملكتهم بعد أن يتفقوا على اتباع وصية أبيهم.
وثمة صورة من الدهاء في حكاية علي بابا والأربعين لصا، حين تطلب زوجة علي بابا من زوجة قاسم مكيالا كي تكيل به الذهب الذي أحضره زوجها من الكهف السحري، فتطلي زوجة قاسم قاع المكيال بشيء لاصق كيما تعرف ماذا يكيلون، وتنجح في ذلك إذ تلتصق قطعة ذهبية في المكيال حين تعيده زوجة علي بابا إلى صاحبته. وقد رأينا مثل هذا الدهاء الفطري يظهر بعد ذلك في قصص بوليسية حديثة بنفس الطريقة التي استخدمتها زوجة قاسم منذ مئات السنين!
وهذه القصص، رغم بساطتها، تمثل نماذج توازي تركيبة أنواع القصص البوليسية التي ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر، ثم انتشرت ونمت نموا كبيرا حتى يومنا هذا، كما سنرى في السطور التالية. (1) الرواية البوليسية الحديثة
صفحة غير معروفة