البواكير
الناشر
دار المنارة للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
مكان النشر
جدة - المملكة العربية السعودية
تصانيف
علي الطنطاوي
البواكير
جمع وترتيب حفيد المؤلف
مجاهد مأمون ديرانية
دار المنارة
للنشر والتوزيع
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر
الطبعة الأولى
٢٠٠٩
دار المنارة
للنشر والتوزيع
ص ب ١٢٥٠ جدة ٢١٤٣١ المملكة العربية السعودية
هاتف ٦٦٠٣٦٥٢ فاكس ٦٦٠٣٢٣٨ المستودع ٦٦٧٥٨٦٤
1 / 4
المقدمة
المقالة الأولى في هذا الكتاب كتبها فتى في العشرين من عمره اسمه علي الطنطاوي، والأخيرة فيه كتبها شاب في السادسة والعشرين يحمل الاسم ذاته، وبين عشرين وست وعشرين كتب علي الطنطاوي ونشر سائرَ مقالات هذا الكتاب. هذه أولى الحقائق التي أرجو أن يذكرها قارئ هذا الكتاب وهو يطوي صفحاته ويتنقّل بين مقالاته، والثانية: أن هذه المقالات قد كُتبت ونُشرت كلها أيامَ الانتداب الفرنسي على الشام، يوم كان الأمر والنهي للفرنسيين وبيد مفوَّضهم السامي الحكم والسلطان.
فمن الأولى جاء ما سترونه في مقالات هذا الكتاب من حدّة وشدّة، وهما صفتان غالبتان في سن الشباب، ومن الثانية تولدت تلك الروح الوطنية الوثّابة التي تملأ مادة الكتاب كله. ومن ثالثة سواهما: الشجاعة التي كانت من صفات علي الطنطاوي الظاهرة، شجاعة كثيرًا ما وصلت إلى درجة التهور، من هذه الثالثة جاء ما تجدونه من صراحة وجَراءة قد يُعَجِّبُ كثيرًا من الناس صدورُهما عن شاب في مثل تلك السن وفي مثل هاتيك الظروف.
ومن علة رابعة، من النشأة الأولى التي وفّقه الله إليها حين أنشأه في بيئة علم ودين، جاء ما تحفل به عامة مقالات الكتاب من عاطفة إسلامية فَيّاضة وحماسة دينية فَوّراة. أما ما تفيض به
1 / 5
كثير من المقالات من اعتزاز بالعربية وغَيرة عليها واستماتة في الدفاع عنها فقد نشأ عن علة خامسة غير كل ما ذُكر، عن حادثة جليلة مما لا يمرّ في أعمار الأمم الطويلة إلا مرات معدودات، فأي شيء هذا؟
* * *
في يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من نيسان (أبريل) سنة ١٩٠٩ (السادس من ربيع الثاني ١٣٢٧)، خلع الاتحاديون السلطان عبد الحميد الثاني، وبذلك انتهت أيام الخلافة العثمانية وبدأ عهد الاتحاديين. وبعد ستة وأربعين يومًا من ذلك اليوم المشؤوم -الذي آذن بنهاية آخر إمبراطورية إسلامية في التاريخ المشهود- وُلد علي الطنطاوي، فقُدِّر له أن يعيش سني طفولته المبكرة تحت سلطة الاتحاديين الذين سعوا إلى «تَتْريك» الممالك الإسلامية غير التركية، من عربية وغيرها، والذين قذفوا الدولة العثمانية المريضة في محرقةِ حربٍ لا ناقة لها فيها ولا بعير، فأجهزوا عليها، وسقطت أراضيها كلها -إلا قليلًا- في أيدي المستعمرين الأوربيين.
لقد كانت تلك سنوات عجافًا، عانى فيها الناس في الشام من عسف الاتحاديين ودفعوا من أرواحهم وأقواتهم ثمنًا لسياستهم الخرقاء. وحين أرادوا تتريك الولايات العربية التي كانوا يحكمونها أعلنوا الحرب على اللغة العربية، فَثَمَّ نشأ في نفس علي الطنطاوي هذا الحرص الغريب عليها والحميّة الشديدة لها. قال في مقالة له اسمها «عام ١٩٦٠» (وهي منشورة في كتاب «هتاف المجد»): "كنّا ونحن صغار نرى الحكّام كلهم من الترك، لهم السيادة ولهم التكرمة ولهم النعيم، ولغتهم التركية هي اللغة الرسمية،
1 / 6
فمَن كلّمهم بالعربية ازدرَوه واحتقروه، ودروس المدرسة تُلقَى بالتركية، فمن لم يعرفها ويفهم بها عاقبوه وأسقطوه! وكنا نسمع بآذاننا احتقار «ابن العرب» وسبّه وتقديم التركي وتعظيمه! كنا من حكم الاتحاديين المارقين في ظلام، فأصبحنا يومًا فإذا الظلام قد انقشع، وإذا العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناية السُّوَيْقات، حيث كان الشباب يُساقون إلى الموت في سبيل الألمان وكان الأموات من الجوع مرميين في الطرقات، إذا هذا العَلَم قد اختفى وعُلِّق مكانه علمٌ جديد له أربعة ألوان، وإذا الهتاف الذي كنا نُلزَم به كل صباح قد خفت وانقطع وارتفع مكانه هتافٌ جديد ما سمعنا بمثله من قبل: الهتاف بحياة الاستقلال العربي". (١)
* * *
_________
(١) الذين يذمّهم علي الطنطاوي هنا هم الاتحاديون الذين تنكروا للعربية وعادَوا الإسلام، لا الأتراك العثمانيون الذين عاشت الشام في سلطانهم من قبل لعدة قرون؛ قال: "ما يسمّيه السفهاء منا «الاستعمار العثماني» لم يكُن استعمارًا، لأن حكم المسلم (ولو كان تركيًا) لبلد مسلم (ولو كان عربيًا) لا يسمّى في شرعنا حكمًا أجنبيًا، والمسلم لا يكون أبدًا أجنبيًا في ديار الإسلام. ونحن ما كرهنا الاتحاديين لأنهم أتراك، بل لأنهم حادوا عن جادة الإسلام فأساؤوا للمسلمين جميعًا، من عرب وأتراك" (انظر الحلقة الحادية عشرة في الجزء الأول من «الذكريات»). وقال: "ما كان الترك العثمانيون الأوَّلون أمةَ سوء، ولقد تسلموا الحكم والأرضُ الإسلامية مِزَق مرقَّعة ورُقَع ممزَّقة، في كل مدينة مَلِكٌ وعلى كل رابية عَلَم، مماليكها ملوكها وعبيدها سادتها، فأقاموا للإسلام دولة كانت ثالثة الدولتين الكبيرتين: الأموية والعباسية في صدر تاريخها، وكان منها أولَ الأمر ملوكٌ صالحون كبار، ثم =
1 / 7
وبعد، فهذه هي المرة الأولى التي أُخرج فيها كتابًا لعلي الطنطاوي ﵀ لا جامعة تجمع مقالاته إلا الزمن، ولا رابطة تربط بينها إلا سِنُّه يومَ نشرَها أولَ مرة. ولكنها ليست المرة الأولى التي يقرأ فيها القرّاء مقالات قديمة له؛ فقد نشر في أول حياته كتبًا ثلاثة أودع فيها بواكير مقالاته، فأصدر «الهيثميات» سنة ١٩٣٠، ثم أصدر «في بلاد العرب» سنة ١٩٣٩ و«من التاريخ الإسلامي» في السنة التي بعدها. هذه الكتب ضمت عشرات من المقالات التي نشرها في تلك السنوات المبكرة من حياته، ورغم أنها قد نفدت نسخُها واختفت من الأسواق من عهد بعيد ولم يُعِدْ طباعتها قط، إلا أن مادتها لم تَضِعْ، فأكثر ما فيها من مقالات انتقل إلى الكتب التي أخرجها لاحقًا والتي ما زالت تُنشَر ويتداولها الناس؛ ولو أنكم فتحتم كتاب «من حديث النفس» مثلًا وراجعتم مقالاته لوجدتم أن نصفها قد كُتب بين سنتَي ١٩٣١ و١٩٣٩، وقريبٌ من ذلك كتاب «فِكَر ومباحث»، أما كتاب «قصص من التاريخ» فتكاد تكون مادته كلها مما نُشر في تلك الأيام. بل إني قد أحصيت في الكتب المنشورة أكثرَ من مئة وعشرٍ
_________
= خالف آخرُها سيرةَ أولها، ودبّ الفساد إليها من يوم تركت قوانين الإسلام الذي كان به وحدَه عزُّها وأخذت قوانين أعدائها، حتى كان عهد الاتحاديين، فكانوا قومًا كفَرَة فجَرَة لا يرضى بحكمهم مسلمٌ تركي، بَلْهَ المسلم العربي الذي حرصوا على تجريده من عربيّته كما حرصوا على إخراجه من إسلامه" (انظر مقالة «مكتب عنبر» في كتاب «دمشق»). وانظر أيضًا مقالة «رقم مكسور» في كتاب «صور وخواطر»، وفي آخرها يقول: "الاتحاديون الذين شوّهوا اسم السلطان عبد الحميد هم الذين أساؤوا إلينا وإلى الترك على السواء".
1 / 8
من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في الجرائد والمجلات قبل نهاية عام ١٩٣٩.
لقد وجدَتْ كثيرٌ من بواكير علي الطنطاوي طريقَها إلى الكتب التي نُشرت وقرأها الناس، وبقيت في يدي بقية مما لم يُنشَر في كتاب قط، فلما عزمت على جمعها وإخراجها في هذا الكتاب أردت أن أضمّ إليها ما أستطيع الوصول إليه مما نُشر من قديم ثم ضاع فلم يبق له أصل، فانتدبت مَنْ تكرّم مشكورًا بمراجعة قسم الدوريات القديمة في مكتبة الأسد بدمشق، وأمضى فيها أسابيع طويلة غارقًا في سجلاتها المحفوظة حتى استخرج منها طائفة من المقالات لم تكن في يدي، فاشتغلت فيها وفيما كان معي من قبل، ومن هذه وتلك جاء هذا الكتاب.
على أني لم أنشر كل ما وصلت إليه من «البواكير»، بل إن الذي طويته يزيد على ما أنشره منها اليومَ في هذا الكتاب؛ فقد وجدت أن مقالاتٍ كثيرةً منها كانت مرتبطة بحوادث عابرة أو بقضايا يوميّة، وأمثالُ هذه المقالات قصيرة العمر وأكثرها من النوع السياسي الذي يعالج مشكلات وقتيّة، ثم تنقضي الحادثة وتنتهي القضية فلا تبقى للمقالة قيمة، ولا يبقى بعد هذه السنين الطويلة من يذكر الحادثة أو يهتم بها أو يفهم الإشارة إليها.
وأخيرًا واجهت مشكلة ترتيب مقالات الكتاب، فهممت حينًا بأن أرتبها حسب موضوعاتها، ثم وجدت أن الموضوع لم يكن هو الأساس الذي بُني عليه الكتاب فأعرضت عن هذا الخاطر، وفكرت حينًا آخر بترتيبها اعتمادًا على الجريدة التي نُشرت فيها، فأضم مقالات «القبس» بعضها إلى بعض وأجمع
1 / 9
مقالات «فتى العرب» معًا، وهكذا، لكني أعرضت عن هذا الخاطر أيضًا. ثم انتهيت إلى ترتيبها في الكتاب كترتيب نشرها، فما دام الجامع الذي جمع هذه المقالات معًا وأنشأ منها هذا الكتاب هو الزمان الذي نُشرت فيه فليكن أساس ترتيب المقالات هو الزمان، وكذلك كان.
وقد بدأت الكتاب بأقدم «البواكير» نشرًا، وكلما مضى القارئ في الكتاب قُدُمًا سيتقدم في السنوات. ثم اجتهدت فعملت في هذا الكتاب ما لم أعمله في سواه مما نشرته من قبل، وهو أنني حرصت على أن أثبت في أول كل مقالة موضعَ نشرها وتاريخَه، فذكرت اسم الجريدة التي نُشرت فيها وتاريخ نشرها باليوم والشهر والسنة، وإنما حملني على ذلك أنني ما زلت أحس -وأنا أشتغل بهذا الكتاب- أنني أقدم فيه تاريخ علي الطنطاوي نفسه، وليس فقط سجلًا لكتاباته في تلك السنوات المبكرة من حياته!
* * *
لقد ظن جدي ﵀ أن إنجاز هذا العمل من المستحيلات، لكن الله ذلل الصعب وجعل -بفضله- المستحيلَ ممكنًا. قال في أول الحلقة السادسة والثلاثين من «الذكريات»: "في الأشهر الخمسة التي لازمت فيها «فتى العرب» كنت أكتب كل يوم مقالة، منها سلسلة كان عنوانها «أحاديث ومشاهدات» ... هذه المقالات ضاعت مني، ما بقي لديّ منها إلاّ أربع. ولو كان يتحقق في الدنيا المستحيل وخطر على بال أحد يومًا (بعد موتي) أن يطبع كل ما كُتب، واستطاع أن يجد مجموعة أعداد «فتى العرب» لوجدها فيها".
1 / 10
على أنه لم يَتَمَنَّ فقط صدور هذا الكتاب، بل اختار له العنوان أيضًا؛ قال في أول الحلقة الثانية والستين من «الذكريات»: "المقالات التي كتبتها في هذه المدة كثيرة جدًا، لكنْ لا تسألوني عن عددها لأني لم أجمعها كلها، فهل يأتي -يومًا- من يكون أحرصَ على جمعها مني أنا صاحبها، فيبحث في مجموعات الصحف الشامية: فتى العرب، والمقتبس، والقبس، وألف باء، والجزيرة، والناقد، فيأخذ ما كتبته فيها فيجعل منه المجموعة الكاملة «لبواكير» كتاباتي؟ ".
ثم شاء الله أن يكتب لمقدمة هذا الكتاب كلمةَ الختام! فقد وجدت بخطه كلمات كتبها على حاشية دفتر مخطوط ضم بعض المقالات القديمة، فكأنه ما كتبها إلا لأضعها في هذا الموضع! قال فيها: "هذا شيء قليل جدًا من كثير جدًا كتبته في تلك الأيام، ولو جمعت كل الذي كتبته لكان لي إلى الآن أكثر من ستين كتابًا. على أني إذا ربحت منه قليلًا من ثواب أو سبّبَ لي دعوة صالحة تنفعني في آخرتي فذاك، وإلا فهو سراب، وكل الذي فوق التراب تراب إذا لم ينفع صاحبَه يومَ الحساب. اللهُمَّ حُسْنَ الخاتمة والمغفرة. علي الطنطاوي: مكة المكرمة، آخر سنة ١٣٨٩".
وبعد كتابة هذه الكلمات بأربعين سنة وشهور جئت أنا لأثنّي فأقول: اللهُمَّ آمين، اللهُمَّ اغفر له وارحمه، وارحم معه اللهُمَّ حفيدَه الذي جمع مادة هذا الكتاب، وصهرَه الذي ينشره اليوم على الناس.
مجاهد مأمون ديرانية
جدة: جمادى الآخرة ١٤٣٠
1 / 11
كلمات (١)
(١) الحياة المادية أمر تافه يشاركنا فيه أدنى الحيوان، ولكن الحياة المعنوية والتطلع إلى الخلود هما ما امتاز به الإنسان.
(٢) الأمة ليست بما عندها من مال ولا بما في أرضها من جمال، ولكن بما فيها من رجال.
(٣) إذا أرادت الأمة شيئًا فلا قوة في العالم تضطرها إلى تركه، لأنها إنْ أعجَزَها النضال فلن يعجزها الموت.
(٤) لا حياة للأمم الضعيفة بغير القوة، لأن الحياة حق للأقوى بحكم الواقع.
(٥) المُحِق الضعيف مجرم، لأنه يضيع حقه بضعفه!
(٦) من فرَّ من الموت فرَّت منه الحياة.
_________
(١) اخترت هذه الكلمات من مجموعة خواطر دَوَّنها علي الطنطاوي في شبابه في دفتر صغير، قال في أوله: "هذه كلمات كانت تخطر على بالي فلا ألقي لها بالًا، حتى رأيت أن في تدوينها بعض نفع، فبدأت به في غرة جُمادى الأولى من عام ١٣٤٨ هجرية، وأسأل الله التوفيق. علي الطنطاوي (القاهرة) " (مجاهد).
1 / 13
(٧) التربية الشرقية لا تنجب رجالًا أكفاء!
(٨) الرجال كثيرون، ولكن الرجل هو الذي يعيش لدينه وأمته.
(٩) الشاب الذي لا يعرف في الحياة إلا الغزل ليس إلا جرثومة سل في جسم الأمة، أما الشاب المتعلم القوي الإيمان الحديدي الإرادة الثابت على المبدأ فهو الذي يبني أمة.
(١٠) الحرية أحلى ما في الكون، فهل نحن أحرار؟ هل نستطيع أن نأكل ما نشاء ونلبس ما نشاء ونقول ما نشاء؟ مسكين الإنسان، يعلل نفسه بأنه حر ويغالطها فيزعم أن القيد لا ينافي الحرية، فهو يقول: قيدوني وكبلوني بالأغلال ثم قولوا إنّي حر!
* * *
1 / 14
خواطر غريب
كُتبت في مصر سنة ١٩٢٩
[بعثت بهذا الفصل من القاهرة إلى «القبس» الغراء، فنشرته بعد أن أرسلتُ لها فصلًا قبله مزقه أحد محرريها لأنه رآه -حفظه الله- لا يشبه إنشاء الصحفيين، وإذن لا يصلح! فبقي هذا، وليس فيه من الخيال أو المبالغة ذرة واحدة، ولم أغير فيه حرفًا واحدًا. (١)]
كانت لي آمال وكنت أسعد بها، فأصبحت وليس لي إلا أمل واحد: وقفة على قاسيون أو رشفة من بردى!
آه، لقد ضاقت بي مصر على رحبها وسعتها، وصغرت في عينيّ حتى لقد رأيت غرفتي الصغيرة في دمشق أوسع منها وأكبر، واسودَّت في بصري حتى ما أرى فيها إلا الظلام، ولو كان في نور الشمس الذي يملؤها نورًا، بل لقد انصرفت نفسي عن العلم
_________
(١) لم أعرف تاريخ «القبس» الذي نُشرت فيه هذه المقالة، ولم أعثر على أصل المقالة، إنما أخذتها من كتاب «الهيثميات» الذي ضم مجموعة من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في صحف الشام في تلك السنة والتي بعدها (مجاهد).
1 / 15
ورغبت عن ورود مناهله، ولم أعد أؤمل إلا أن أرى مرة ثانية هذه الصخورَ الخالدة من رَبْوَة دمشق.
ما لي ولآثار أيدي البشر؟ ما لي وللحضارة والعمران؟ إنني أبيع هذا كله بشَعَفة من تلك الشُّعوف (١)، أجلس عليها فأرى الجمال الذي خطته يد الله على صحائف الكون، وإنها لسعادة لا تُشترى بملء الأرض ذهبًا ولا بملء الصحف علمًا.
أما الآن فقد تغير عليّ كل شيء. لقد انتقلت إلى عالم آخر أقيم فيه وحيدًا، بعيدًا عن ذلك البلد الذي نشأت به فعشقت أرضه وسماءه، وهِمْتُ بجباله ورُباه، بعيدًا عن تلك الغرفة الصغيرة الخالية من كل شيء إلا من رفوف الكتب ومقاعد الدرس، والتي كنت أغلق بابها عليّ وعلى إخوان لي يفهمون الحياة كما أفهمها، نقطع فيها هذه المراحل من عمرنا على مطيّة الكتب تارة والحديث أخرى، نحيا في عالم أسمى من عالم الناس، ذلك هو عالم الخيال ... في تلك البقاع خلّفت نفسي وسعادتي، وحييت هنا شقيًا مسلوبَ الفؤاد.
* * *
هبطت مصر لأدرس وأعمل، والأفق واسع والمكان رحب،
_________
(١) تتكرر هذه المفردة كثيرًا في كتابات علي الطنطاوي المبكرة، وهي اليوم قليلة الدوران على الألسنة والأقلام. والشَّعَفَة أعلى الجبل أو رأسه (وهي أيضًا الخصلة في أعلى الرأس وأعلى القلب، فكأنها من كل شيء أعلاه)، وجمع الشعفة شِعاف وشَعَفات وشُعوف، وسوف نمر بهذه الجموع كلها في مقالات الكتاب (مجاهد).
1 / 16
ولكني أضعت قلبي فأضعت كل شيء. كنت أجد في دمشق صدرًا أودِعه كل آلامي (١)، فأصبحت وآلامي تنوء بفؤادي الملتاع لا يجد من يبثّه إياه.
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يُسليك أو يتوجّعُ
منظر واحد لا يفارقني في جيئتي وذُهوبي وقَومتي وقَعدتي، ذلك هو منظر وطني، يتمثل لي في كل طريق ويتراءى لي في كل مذهب، أقضي نهاري مُطْرقًا مفكرًا، حتى إذا جَنَّ الليل وأويت إلى فراشي انصبَّتْ عليّ الذكريات المؤلمة صبًّا، فما أزال بها أدفعها فتزداد إقدامًا وأطردها فتزداد ثباتًا، حتى أُغلب على أمري، فألقي الوسادة وأثور من الفراش أفزع إلى النور، وأنتصب
_________
(١) كانت أمه يومئذ في قيد الحياة، وتلك المرة الثانية التي فارقها فيها، الأولى كانت في سفرته الأولى إلى مصر، وانظر الوصف المؤثر لذلك الفراق الأول في مقالة «ذكريات» في كتاب «من حديث النفس»، قال: "وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقانًا واضطرابًا ... هناك تلفّتُّ فرأيتني وحيدًا، ورأيت القطار يَجِدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار، أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يومًا واحدًا بعيدًا عن أمي". ثم توفاها الله بعد عودته من مصر بسنة وشهور، في الثامن من تموز ١٩٣١ (٢٢ صفر ١٣٥٠). وقصة وفاتها المفجعة تمتد في «الذكريات» بطول ثلاث حلقات، من أواخر الحلقة السادسة والأربعين إلى أواسط التاسعة الأربعين، فمن شاء قرأها هناك، أما أنا فلقد قرأتها عشرين مرة أو ثلاثين أو أكثر، وما قرأتها مرة إلا واستعبرت، ولو قرأتها اليوم لفاضت عيناي من جديد! (مجاهد).
1 / 17
قائمًا مدة لا أدري مداها، ولكني أرى النوم لا يغلب عليّ حتى يغلب الموت على الليل ويقوم الفجر لِيَنْعيَه، هنالك أنام بضع ساعات نومًا مضطربًا ممزوجًا بأفظع الأحلام.
أنا لا أشكو إلا هذه الذكرى، فلقد أقضَّت مضجعي ونغَّصَت عليّ حياتي، وإنني وإياها كصاحب الحمّى تعاوده حُمّاه، فإذا جاءتني خفق لها قلبي ووَنَتْ أعصابي، ودارت بي الأرض حتى أجهل مكاني منها، وأستغرق في سبات عميق من التأمل المُمِضّ والتفكير المؤلم.
رباه، أخلقتني رزمة من عواطف لسعادتي أم لشقائي؟ وهل بنيتني من شعور وإحساس لأعيش متألمًا أو لأعيش جاهلًا؟ ماذا أصنع؟ إن عاطفتي استأثرت بنفسي حتى ما يملك عقلي من أمرها شيئًا، وكأني أسمعها تتفلسف قائلة: أيها الرجل، لماذا تعيش؟ إن كنت تعيش لنفسك فاطلب لها السعادة، وإن كنت تعيش للناس فهيهات أن تفيدهم ولك من شواغل نفسك وآلامها ما يصرفك عنهم، ومهما يكن فدعك من هذه الغربة وعد إلى بلدك!
أما أنا فلا أفهم مما تقول شيئًا، وكأن هذه الآلام التي تنتابني تستقطر ماء حياتي قطرة قطرة، وستأتي ساعةٌ يجف فيها فأغمض عيني إلى الأبد شاخصًا إلى السماء، أرى صورة وطني في مرآتها الخالدة فأودعه الوداع الأخير، ثم أرقد!
ليس لي هنا من عمل إلا الدأب على المطالعة، أطالع كتبًا وروايات أروي صفحاتها بدمعي وأغذيها بسواد قلبي وثمرة فؤادي، حتى تجنح الشمس للمغيب، فأخرج فأقف على «كوبري الزمالك»،
1 / 18
أنظر إلى النيل تارة وإلى ذلك الأفق البعيد أخرى، فأبصر فيه خيال وطني يلقي النور والحياة على تلك الخمائل الخضراء التي لا حدَّ لها، فأقف أمامه كأنني أمام محرابي، ولا أنتبه حتى تتوارى هذه الصورة في طيّات الظلمات فأعود إلى الدار أسيًّا حزينًا. ولا إخال الأمد يطول بي على هذه الحال، وما هي إلا واحدة من اثنتين: إما الشام وإما الحِمام!
اذكرونا مثلَ ذِكْرانا لكم ... رُبَّ ذِكْرى قَرَّبَتْ مَن نَزَحا
واذكروا صَبًَّا (١) إذا غنّى بكم ... شَرِبَ الدّمعَ وعافَ القَدَحا
* * *
_________
(١) الصَبّ هو المشتاق، من قولنا: صَبّ إليه صَبَابَة. وقد كتب علي الطنطاوي مقالته هذه وهو في مصر في زيارته الثانية لها سنة ١٩٢٩، حين ذهب إليها عازمًا على الإقامة والدراسة فيها، فقدم أوراقه إلى الجامعة المصرية أولًا، ثم عدل عنها وانتسب إلى «دار العلوم»، ثم لم يلبث أن ترك ذلك كله وعاد إلى دمشق. انظر تفصيل ذلك كله في الحلقة الرابعة والثلاثين من «الذكريات»، وفيها يقول: "أصبحت يومًا فإذا خاطر قويّ لم أملك له دفعًا يدفعني لترك دار العلوم والعودة إلى دمشق، وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حوّلَت زورقي إلى ما هو خير لي، فاللهُمّ لك الحمد" (الذكريات ١/ ٣٥٩). والمقالات الثماني الآتية جميعًا كتبها ونشرها في «الفتح» وهو مقيم في مصر في تلك السنة أيضًا (مجاهد).
1 / 19
طلاب دمشق
نشرت سنة ١٩٢٩ (١)
انقضى العام المدرسي، وطُويت صفحته في الواقع لتُفتَح صفحته في التاريخ. انقضى العام وغربت شمسه، ولكنها غربت في دمشق على طلاب قد قاموا بالواجب وعملوا في سبيل الله والوطن والأمة.
نظر الطلاب في دمشق، فإذا يدٌ غريبة تلعب بمعارف بلادهم (٢)، وإذا هي أشبه بالسفينة العظيمة يراها الرائي فيحسب أن لها عقلًا يسوقها وإرادة تسيّرها، ولكنه يقترب منها فيرى شيئًا صغيرًا ليس منها في شيء يسوقها ويصرّفها كما يشاء، وهو ربانها!
نظر الطلاب، فإذا جهود عظيمة ومَساعٍ كبيرة تُبذَل لتفرّق
_________
(١) في مجلة «الفتح»، العدد ١٥٨ من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ ١/ ٨/١٩٢٩ (٢٥ صفر ١٣٤٨).
(٢) وزارة المعارف، وكان مستشارها هو المسيو راجه، الذي وصفه علي الطنطاوي في «الذكريات» بأنه كان في الشام مثل دنلوب المشهور في مصر (مجاهد).
1 / 20
جمعهم وتلقي الشقاق بينهم، فعاجلوها بيقظة سريعة وحَّدَت صفوفهم، فإذا هي كالبنيان المرصوص. علّمتهم العمل لنهضة الأمة، فاتفقوا على مساعدتها أدبيًا بتحذيرها من الخطر الداهم، وتعليمها الاتحاد والتعاون بذلك المثل الذي ضربوه لها من أنفسهم، وعلى مساعدتها اقتصاديًا بعهد قطعوه على أنفسهم أن لا يشتروا إلاّ بضائعها ولا يُقبلوا على غير مصنوعاتها.
قد استيقظوا، ولكنهم لم يَعْدلوا بالعروبة والإسلام شيئًا، ولم تخدعهم عنهما فرعونية خدعت بعضًا من طلاب مصر، ولا فنيقية خدعت بعضًا من سخفاء لبنان!
* * *
فيا إخواني طلابَ دمشق: سيروا إلى غايتكم قُدُمًا بهمّة عظيمة وإيمان قوي، وثابروا على عملكم، وأفهموا العالم كله أنكم طلاّبٌ بَرَرة بماضيكم وأمتكم، وأنكم لا تنقضون لها عهدًا ولا تبخلون عليها بشيء، والله ناصركم ومؤيدكم.
* * *
1 / 21
في ذكرى مولد فخر الكائنات
نشرت سنة ١٩٢٩ (١)
ما الثورة الفرنسية؟ ما سقوط الدولة الرومانية؟ ما حوادث التاريخ؟ إنه حادث أعظم من التاريخ وأكبر من البشرية؛ إنه ميلاد محمد رسول الله ﷺ.
قف أيها الفلك ساعة من زمان إجلالًا لهذه الذكرى وإعظامًا لهذا اليوم، وتخشّعي أيتها البشرية، فهذا يومك الذي خُلِّصتِ فيه من ظلمات الجهل وأُطلقتِ فيه من قيود الاستبداد، وليهتف أبناؤك بصوت واحد ترتجّ منه جوانب الأبدية ويردده الدهر في فضاء النهاية: صلى الله على محمد، رسول الله ومخلّص العالم، والله أكبر.
ما كان محمد نبي المسلمين وحدهم، وما كانت هدايته
_________
(١) نشرت هذه المقالة في مجلة «الفتح»، العدد ١٦٠ من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ ١٥/ ٨/١٩٢٩ (١٠ ربيع الأول ١٣٤٨). كان علي الطنطاوي في العشرين يومئذ، وقد صدّرَ محب الدين الخطيب بمقالته هذه ذلك العددَ من «الفتح»! وهي منشورة في كتاب «الهيثميات» (مجاهد).
1 / 22
مقصورة عليهم دون غيرهم، بل هو رحمة للعالمين وهادٍ للناس أجمعين. بُعث وفي قلبه نور الله، ففاض على الحياة فكان منه نعيمها وسعادتها، وفاض على الصحابة فكان منه هذا الإيمان الذي ملأ قلوبهم. بهذا الإيمان جاهدوا، بهذا الإيمان انتصروا، بهذا الإيمان دكّوا صرح كسرى وعرش قيصر، وبه ملكوا ما بين قلب فرنسا وقلب الصين وعليه شادوا مدنيّة بغداد وحضارة الأندلس. وإن يومًا تُطوى فيه هذه البشرية طَيّ السجلّ للكتب ولا يبقى إلا نور الله، هنالك وقد خشعت الأصوات للحي القيوم، هنالك وقد عُرضوا على ربك صفًا، هنالك وقد ذهب كل شيء ولم يبقَ إلا سعادة الأبد أو شقاء الأبد ... هنالك يعرف الناس قيمة ما جاء به محمد ﷺ؛ فيحمد المؤمن ربَّه ويشكر، ويندم الكافر ويقول: ﴿يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا﴾، وهنالك ينادي منادي الله: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ؟ للهِ الوَاحِدِ القَهّار﴾.
هنالك الدليل الراجح والحجة البالغة على أن ما جاء به محمد ﷺ لم يقتصر على سعادة الحياة الدنيا، ولو اقتصر لاقتصر مجدُ محمد على أنه رجل عظيم -كما يراه مَن قَصُرَ بصره وضرب الله على قلبه- بل تعداها، وهي شكل من أشكال الفناء، إلى أمر أبعد، إلى غاية أسمى هي سعادة الحياة الأخرى، حياة الخلود، فكان رسولَ الله ورحمةً للعالمين.
* * *
هذا اليوم عيد البشرية الأكبر، لأنه ليس في أبنائها مَنْ لم يَهْتَدِ بنور الإسلام ويستمدَّ مِن معانيه، ولو كان يدين بغير
1 / 23