ألبير كامو: مقدمة قصيرة جدا

أوليفر جلوج ت. 1450 هجري
34

ألبير كامو: مقدمة قصيرة جدا

تصانيف

لكن المشهد الذي يتجاهل كليمنس فيه امرأة تلقي بنفسها في النهر يمكن أن يفسر أيضا كهجوم على سارتر، الذي كان في منظور كامو يتحدث عن مساعدة الآخرين لكن لم يساعدهم على نحو محسوس. في الواقع، وطبقا لبعض النقاد، قد يتطابق الاقتباس الآتي مع مفهوم كامو عن الشيوعية باعتبارها عقيدة عالمية في كتابه «الإنسان المتمرد»: «عندما أستطيع، ألقي بالمواعظ في كنيستي في حانة مكسيكو سيتي، فأدعو الصالحين من الناس إلى الإذعان للسلطة والتماس راحة العبودية في خضوع، حتى ولو تعين علي أن أقدمها إليهم باعتبارها الحرية الحقيقية.» ويستطرد كليمنس: «لقد علمت على الأقل أنني كنت أقف في جانب المذنبين والمتهمين، فقط إلى الحد الذي لن تتسبب فيه آثامهم لي بأي أذى. كانت ذنوبهم تجعلني بليغا؛ لأنني لم أكن ضحيتهم .»

وينهي كليمنس خطابه الطويل بالأسباب التي لأجلها قرر أن ينهي عمله كقاض تائب: «وحين كنت أتلقى تهديدا بدوري، فإنني لم أكن لأصبح قاضيا وحسب، وإنما الأسوأ من ذلك، كنت أصبح سيدا غضوبا يريد - بما هو خارج نطاق القانون - أن يصرع المسيء أرضا ويجعله راكعا على ركبتيه. وبعد ذلك، يا ابن بلدي العزيز، من الصعب الاستمرار في الإيمان جديا بتكريس المرء نفسه للعدالة، وبأنه المحامي الذي قدر له أن يدافع عن الأرملة واليتيم.» تلك العبارة الأخيرة كانت رمزا لنقد كامو للشيوعية؛ إذ حولت البواعث الإنسانية إلى أيديولوجيا تعتزم تغيير العالم.

رغم هذا، سيكون من الخطأ قراءة «السقطة» باعتبارها مقصورة على الهجوم على سارتر؛ لأن كثيرا من جوانب كليمنس أقرب إلى كامو نفسه. فهي تمثل صورة ذاتية بأكثر من طريقة. وقد أفضى كامو بعد أن أنهى مسودة الرواية إلى صديقه والناقد روجيه كيوه بأنه قلق من رد فعل زوجته الثانية فرانسين عند قراءتها المسودة.

مشهد السقطة قريب الشبه من محاولة انتحار فرانسين؛ فطبقا لكيوه، حاولت فرانسين ذات مرة أن تقتل نفسها بالقفز من النافذة. وقد قص كامو تلك الحادثة في رسالة لعشيقته الممثلة الفرنسية الشهيرة ماريا كاساريس. والعديد من تجارب كامو مع النساء وأفكاره عنهن التي عبر عنها في يومياته لها صدى عند كليمنس في رواية «السقطة». حيث يرى كليمنس نفسه أسير الرغبة - ذلك أنه يمل النساء في غير ممارسة الجنس.

تعكس الفقرات الغفيرة الخاصة بالنساء في رواية «السقطة» إجلال كامو لدون خوان في «أسطورة سيزيف» باعتباره النموذج الأمثل للرجل العبثي الذي يعايش «الغبطة» الحقيقية بانتقاله من انتصار إلى آخر. في «السقطة»، يتفاخر كليمنس بأنه يستخدم مختلف الحيل ليحصل على مبتغاه من النساء، ويقر ب «ألا تحصل على رغبتك لهو «أصعب شيء في العالم»». في يومياته يعتبر كامو أن انجذابه إلى النساء علة به، «عبودية». وبالنسبة إلى كليمنس، ثمة رغبة في التحكم في النساء، حتى وإن توقف عن مواعدتهن. يتحدث كليمنس عن أنه يطلب من النساء اللاتي لم يعد يريدهن أن يقسمن بالإخلاص له. ويكتب كامو إلى كاساريس يخبرها أنه عندما يكون كل منهما بعيدا عن الآخر، فإنه يريدها أن تلزم غرفتها ولا تبرحها. من الواضح أن هناك علاقة بين آراء كامو وكليمنس حول النساء.

كانت فرانسين ذات ميول انتحارية - نظرا لعلاقاته الغرامية على أقل تقدير - ويروي كيوه أنها سألته: «أنت دائما ما تندد بمواطن ضعف الآخرين، ماذا عن مواطن ضعفك أنت؟»

وبخلاف زوجته، فإن آراء كامو عن النساء وعن النسوية (التي كان يحتقرها) قادته إلى صدام مع أقرب شخص إلى سارتر: سيمون دي بوفوار، مؤلفة العديد من الروايات والمقالات. كتبت دي بوفوار واحدة من الأعمال المؤسسة للنسوية: كتاب «الجنس الآخر». لدى صدور الكتاب، عبر كامو عن نفوره منه، وقال إنه يهين الرجل الفرنسي. وكانت دي بوفوار في ردها قاسية كسارتر؛ إذ قالت عن كامو «كان لا يقبل اختلاف الرأي؛ وإن رأى شيئا منه يلوح في الأفق، فإنه يسلم نفسه لنوبات الغضب التي تلوح مثل ملاذ له»، وذلك إلى جانب تحيزه الجنسي ضد المرأة كرد فعل على الكتاب. واستطردت: «لديه صورة عن نفسه لا يزعزعها عمل أو حتى وحي». وصفته أيضا بالكسل: «لأنه يطالع الكتب عوضا عن فهمها». وعلى رأس كل هذا، قدمت دي بوفوار في أنجح رواياتها بعنوان «الماندرين»، شخصية إشكالية ومضطربة هي هنري بيرون، الذي كان يؤول على نطاق واسع أنه تمثيل لكامو. وقد أغضبه أن روايتها حصلت على جائزة جونكور، وهي الجائزة الأدبية الأرفع في فرنسا.

استمر التوتر بين كامو وسارتر - وأيضا دي بوفوار - إلى ما بعد الموت. ففي رواية كامو التي نشرت بعد موته بعنوان «الرجل الأول»، كان ثمة فقرات متكررة تصور المثقفين الباريسيين على أنهم جاهلون بحياة طبقة الأقدام السوداء العاملة التي ينتقدونها. وفي تلك الرواية التي تعد سيرة ذاتية إلى حد كبير، رأى كامو المثقفين منافقين يطعنون في الظهر، بل ربما حتى خونة؛ فمن الواضح أنه كان يحتقرهم. ومن الواضح أيضا أن سارتر كان من المقصودين بين آخرين. وبعد سنين قليلة من موت كامو، أدلى سارتر بحديث عن المثقفين في مؤتمر باليابان. وفي التفريق بين المثقف الأصيل والزائف، كتب سارتر يقول:

يقول أولئك المثقفون المزيفون، بينما هم متوارون خلف قيم كونية غامضة ومتغطرسة: «طرقنا الاستعمارية ليست كما ينبغي لها أن تكون، فهناك أوجه انعدام مساواة هائلة في أراضينا الواقعة فيما وراء البحار. لكني ضد العنف بكل أشكاله، وأيا كان منبعه، فلا أريد أن أكون ضحية ولا جلادا؛ ولذا أعارض تمرد الشعوب المحليين ضد المستعمرين».

أشار سارتر بإيجاز وبلاغة إلى أن هذا «الموقف الكوني الزائف» يعني بالضبط أن: «أؤيد العنف الدائم الذي يوقعه المستعمر على المستعمر (من إساءة الاستغلال والبطالة وسوء التغذية، وهي كلها ثابتة في مواضعها بفعل الإرهاب)». كان هذا هجوما صريحا على كامو، وعلى سلسلة مقالاته «لا ضحايا ولا جلادون».

صفحة غير معروفة